بيان
تصف السورة الذين كفروا بما يخصهم من الأوصاف الخبيثة و الأعمال السيئة و تصف الذين آمنوا بصفاتهم الطيبة و أعمالهم الحسنة ثم تذكر ما يعقب صفات هؤلاء من النعمة و الكرامة و صفات أولئك من النقمة و الهوان و على الجملة فيها المقايسة بين الفريقين في صفاتهم و أعمالهم في الدنيا و ما يترتب عليها في الأخرى، و فيها بعض ما يتعلق بالقتال من الأحكام.
و هي سورة مدنية على ما يشهد به سياق آياتها.
قوله تعالى: «الذين كفروا و صدوا عن سبيل الله أضل أعمالهم» فسر الصد بالإعراض عن سبيل الله و هو الإسلام كما عن بعضهم، و فسر بالمنع و هو منعهم الناس أن يؤمنوا بما كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعوهم إليه من دين التوحيد كما عن بعض آخر.
و ثاني التفسيرين أوفق لسياق الآيات التالية و خاصة ما يأمر المؤمنين بقتلهم و أسرهم و غيرهم.
فالمراد بالذين كفروا كفار مكة و من تبعهم في كفرهم و قد كانوا يمنعون الناس عن الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يفتنونهم، و صدوهم أيضا عن المسجد الحرام.
و قوله: «أضل أعمالهم» أي جعل أعمالهم ضالة لا تهتدي إلى مقاصدها التي قصدت بها و هي بالجملة إبطال الحق و إحياء الباطل فالجملة في معنى ما تكرر منه تعالى من قوله: «و الله لا يهدي القوم الكافرين»: البقرة: 264، و قد وعد سبحانه بإحياء الحق و إبطال الباطل كما في قوله: «ليحق الحق و يبطل الباطل و لو كره المجرمون»: الأنفال: 8.
فالمراد من ضلال أعمالهم بطلانها و فسادها دون الوصول إلى الغاية، و عد ذلك ضلالا من الاستعارة بالكناية.
قوله تعالى: «و الذين آمنوا و عملوا الصالحات و آمنوا بما نزل على محمد و هو الحق من ربهم» إلخ، ظاهر إطلاق صدر الآية أن المراد بالذين آمنوا إلخ، مطلق من آمن و عمل صالحا فيكون قوله: «و آمنوا بما نزل على محمد» تقييدا احترازيا لا تأكيدا و ذكرا لما تعلقت به العناية في الإيمان.
و قوله: «و هو الحق من ربهم» جملة معترضة و الضمير راجع إلى ما نزل.
و قوله: «كفر عنهم سيئاتهم و أصلح بالهم» قال في المجمع: البال الحال و الشأن و البال القلب أيضا يقال: خطر ببالي كذا، و البال لا يجمع لأنه أبهم أخواته من الحال و الشأن انتهى.
و قد قوبل إضلال الأعمال في الآية السابقة بتكفير السيئات و إصلاح البال في هذه الآية فمعنى ذلك هداية إيمانهم و عملهم الصالح إلى غاية السعادة، و إنما يتم ذلك بتكفير السيئات المانعة من الوصول إلى السعادة، و لذلك ضم تكفير السيئات إلى إصلاح البال.
و المعنى: ضرب الله الستر على سيئاتهم بالعفو و المغفرة، و أصلح حالهم في الدنيا و الآخرة أما الدنيا فلأن الدين الحق هو الدين الذي يوافق ما تقتضيه الفطرة الإنسانية التي فطر الله الناس عليها، و الفطرة لا تقتضي إلا ما فيه سعادتها و كمالها ففي الإيمان بما أنزل الله من دين الفطرة و العمل به صلاح حال المؤمنين في مجتمعهم الدنيوي، و أما في الآخرة فلأنها عاقبة الحياة الدنيا و إذ كانت فاتحتها سعيدة كانت خاتمتها كذلك قال تعالى: «و العاقبة للتقوى»: طه: 132.
قوله تعالى: «ذلك بأن الذين كفروا اتبعوا الباطل و أن الذين آمنوا اتبعوا الحق من ربهم» إلخ، تعليل لما في الآيتين السابقتين من إضلال أعمال الكفار و إصلاح حال المؤمنين مع تكفير سيئاتهم.
و في تقييد الحق بقوله: «من ربهم» إشارة إلى أن المنتسب إليه تعالى هو الحق و لا نسبة للباطل إليه و لذلك تولى سبحانه إصلاح بال المؤمنين لما ينتسب إليه طريق الحق الذي اتبعوه، و أما الكفار بأعمالهم فلا شأن له تعالى فيهم و أما انتساب ضلالهم إليه في قوله: «أضل أعمالهم» فمعنى إضلال أعمالهم عدم هدايته لها إلى غايات صالحة سعيدة.
و في الآية إشارة إلى أن الملاك كل الملاك في سعادة الإنسان و شقائه اتباع الحق و اتباع الباطل و السبب في ذلك انتساب الحق إليه تعالى دون الباطل.
و قوله: «كذلك يضرب الله للناس أمثالهم» أي يبين لهم أوصافهم على ما هي عليه، و في الإتيان باسم الإشارة الموضوعة للبعيد تفخيم لأمر ما ضربه من المثل.
قوله تعالى: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» إلى آخر الآية، تفريع على ما تقدم في الآيات الثلاث من وصف الفريقين كأنه قيل: إذا كان المؤمنون أهل الحق و الله ينعم عليهم بما ينعم و الكفار أهل الباطل و الله يضل أعمالهم فعلى المؤمنين إذا لقوا الكفار أن يقتلوهم و يأسروهم ليحيا الحق الذي عليه المؤمنون و تطهر الأرض من الباطل الذي عليه الكفار.
فقوله: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» المراد باللقاء اللقاء في القتال و ضرب الرقاب مفعول مطلق قائم مقام فعله العامل فيه، و التقدير: فاضربوا الرقاب - أي رقابهم - ضربا و ضرب الرقبة كناية عن القتل بالسيف، لأن أيسر القتل و أسرعه ضرب الرقبة به.
و قوله: «حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق» في المجمع: الإثخان إكثار القتل و غلبة العدو و قهرهم و منه أثخنه المرض اشتد عليه و أثخنه الجراح.
انتهى.
و في المفردات: وثقت به أثق ثقة سكنت إليه و اعتمدت عليه، و أوثقته شددته، و الوثاق - بفتح الواو - و الوثاق - بكسر الواو - اسمان لما يوثق به الشيء.
انتهى.
و «حتى» غاية لضرب الرقاب، و المعنى: فاقتلوهم حتى إذا أكثرتم القتل فيهم فأسروهم بشد الوثاق و إحكامه فالمراد بشد الوثاق الأسر فالآية في ترتب الأسر فيها على الإثخان في معنى قوله تعالى: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض»: الأنفال: 67.
و قوله: «فإما منا بعد و إما فداء» أي فأسروهم و يتفرع عليه أنكم إما تمنون عليهم منا بعد الأسر فتطلقونهم أو تسترقونهم و إما تفدونهم فداء بالمال أو بمن لكم عندهم من الأسارى.
و قوله: «حتى تضع الحرب أوزارها» أوزار الحرب أثقالها و هي الأسلحة التي يحملها المحاربون و المراد به وضع المقاتلين و أهل الحرب أسلحتهم كناية عن انقضاء القتال.
و قد تبين بما تقدم من المعنى ما في قول بعضهم إن هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: «ما كان لنبي أن يكون له أسرى حتى يثخن في الأرض»: الأنفال: 67، لأن هذه السورة متأخرة نزولا عن سورة الأنفال فتكون ناسخة لها.
و ذلك لعدم التدافع بين الآيتين فآية الأنفال تنهى عن الأسر قبل الإثخان و الآية المبحوث عنها تأمر بالأسر بعد الإثخان.
و كذا ما قيل: إن قوله: «فشدوا الوثاق» إلخ، منسوخ بآية السيف «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم»: التوبة: 5، و كأنه مبني على كون العام الوارد بعد الخاص ناسخا له لا مخصصا به و الحق خلافه و تمام البحث في الأصول، و في الآية أيضا مباحث فقهية محلها علم الفقه.
و قوله: «ذلك» أي الأمر ذلك أي إن حكم الله هو ما ذكر في الآية.
و قوله: «و لو يشاء الله لانتصر منهم» الضمير للكفار أي و لو شاء الله الانتقام منهم لانتقم منهم بإهلاكهم و تعذيبهم من غير أن يأمركم بقتالهم.
و قوله: «و لكن ليبلوا بعضكم ببعض» استدراك من مشية الانتصار أي و لكن لم ينتصر منهم بل أمركم بقتالهم ليمتحن بعضكم ببعض فيمتحن المؤمنين بالكفار يأمرهم بقتالهم ليظهر المطيعون من العاصين و يمتحن الكفار بالمؤمنين فيتميز أهل الشقاء منهم ممن يوفق للتوبة من الباطل و الرجوع إلى الحق.
و قد ظهر بذلك أن قوله: «ليبلوا بعضكم ببعض» تعليل للحكم المذكورة في الآية و الخطاب في «بعضكم» لمجموع المؤمنين و الكفار و وجه الخطاب إلى المؤمنين.
و قوله: «و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم» الكلام مسوق سوق الشرط و الحكم عام أي و من قتل في سبيل الله و هو الجهاد و القتال مع أعداء الدين فلن يبطل أعمالهم الصالحة التي أتوا بها في سبيل الله.
و قيل: المراد بقوله: «و الذين قتلوا في سبيل الله» شهداء يوم أحد، و فيه أنه تخصيص من غير مخصص و السياق سياق العموم.
قوله تعالى: «سيهديهم و يصلح بالهم» الضمير للذين قتلوا في سبيل الله فالآية و ما يتلوها لبيان حالهم بعد الشهادة أي سيهديهم الله إلى منازل السعادة و الكرامة و يصلح حالهم بالمغفرة و العفو عن سيئاتهم فيصلحون لدخول الجنة.
و إذا انضمت هذه الآية إلى قوله تعالى: «و لا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم»: آل عمران: 169، ظهر أن المراد بإصلاح بالهم إحياؤهم حياة يصلحون بها للحضور عند ربهم بانكشاف الغطاء.
و قال في المجمع،: و الوجه في تكرير قوله: «بالهم» أن المراد بالأول أنه أصلح بالهم في الدين و الدنيا، و بالثاني أنه يصلح حالهم في نعيم العقبى فالأول سبب النعيم و الثاني نفس النعيم.
انتهى.
و الفرق بين ما ذكره من المعنى و ما قدمناه أن قوله تعالى: «و يصلح بالهم» على ما ذكرنا كالعطف التفسيري لقوله: «سيهديهم» دون ما ذكره، و قوله الآتي: «و يدخلهم الجنة» على ما ذكره كالعطف التفسيري لقوله: «و يصلح بالهم» دون ما ذكرناه.
قوله تعالى: «و يدخلهم الجنة عرفها لهم» غاية هدايته لهم، و قوله: «عرفها لهم» حال من إدخاله إياهم الجنة أي سيدخلهم الجنة و الحال أنه عرفها لهم إما بالبيان الدنيوي من طريق الوحي و النبوة و إما بالبشرى عند القبض أو في القبر أو في القيامة أو في جميع هذه المواقف هذا ما يفيده السياق من المعنى.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن علي قال: سورة محمد آية فينا و آية في بني أمية. أقول: و روى القمي في تفسيره، عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام): مثله.
و في المجمع،: في قوله: «فإذا لقيتم الذين كفروا فضرب الرقاب» إلخ:، المروي عن أئمة الهدى (عليهم السلام): أن الأسارى ضربان: ضرب يؤخذون قبل انقضاء القتال و الحرب قائمة فهؤلاء يكون الإمام مخيرا بين أن يقتلهم أو يقطع أيديهم و أرجلهم من خلاف و يتركهم حتى ينزفوا، و لا يجوز المن و لا الفداء. و الضرب الآخر الذين يؤخذون بعد أن وضعت الحرب أوزارها و انقضى القتال فالإمام مخير فيهم بين المن و الفداء إما بالمال أو بالنفس و بين الاسترقاق و ضرب الرقاب فإذا أسلموا في الحالين سقط جميع ذلك و كان حكمهم حكم المسلمين.
أقول: و روي ما في معناه في الكافي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن ابن جريح: في قوله تعالى: «و الذين قتلوا في سبيل الله فلن يضل أعمالهم» قال: نزل فيمن قتل من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم أحد.
أقول: قد عرفت أن الآية عامة، و سياق الاستقبال في قوله: سيهديهم و يصلح بالهم» إلخ، إنما يلائم العموم و كون الكلام مسوقا لضرب القاعدة.
و قد روي أن قوله تعالى: «حتى إذا أثخنتموهم فشدوا الوثاق» ناسخ لقوله: «و ما كان لنبي أن يكون له أسرى» الآية، و أيضا أن قوله: «فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم» ناسخ لقوله: «فشدوا الوثاق فإما منا بعد و إما فداء» و قد عرفت فيما تقدم عدم استقامة النسخ.
|