بيان
مختتم السورة و فيه إرجاع الكلام إلى ما في مفتتحها من إنكارهم للبعث الموعود و مقابلتهم الرسالة بقول مختلف ثم إيعادهم باليوم الموعود.
قوله تعالى: «كذلك ما أتى الذين من قبلهم من رسول إلا قالوا ساحر أو مجنون» أي الأمر كذلك، فقوله: «كذلك» كالتلخيص لما تقدم من إنكارهم و اختلافهم في القول.
و قوله: «ما أتى الذين من قبلهم» إلخ، بيان للمشبه.
قوله تعالى: «أ تواصوا به بل هم قوم طاغون» التواصي إيصاء القوم بعضهم بعضا بأمر، و ضمير «به» للقول، و الاستفهام للتعجيب، و المعنى: هل وصى بعض هذه الأمم بعضا - هل السابق وصي اللاحق؟ - على هذا القول؟ لا بل هم قوم طاغون يدعوهم إلى هذا القول طغيانهم.
قوله تعالى: «فتول عنهم فما أنت بملوم» تفريع على طغيانهم و استكبارهم و إصرارهم على العناد و اللجاج، فالمعنى: فإذا كان كذلك و لم يجيبوك إلا بمثل قولهم ساحر أو مجنون و لم يزدهم دعوتك إلا عنادا فأعرض عنهم و لا تجادلهم على الحق فما أنت بملوم فقد أريت المحجة و أتممت الحجة.
قوله تعالى: «و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين» تفريع على الأمر بالتولي عنهم فهو أمر بالتذكير بعد النهي عن الجدال معهم، و المعنى: و استمر على التذكير و العظة فذكر كما كنت تذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين بخلاف الاحتجاج و الجدال مع أولئك الطاغين فإنه لا ينفعهم شيئا و لا يزيدهم إلا طغيانا و كفرا.
قوله تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» فيه التفات من سياق التكلم بالغير إلى التكلم وحده لأن الأفعال المذكورة سابقا المنسوبة إليه تعالى كالخلق و إرسال الرسل و إنزال العذاب كل ذلك مما يقبل توسيط الوسائط كالملائكة و سائر الأسباب بخلاف الغرض من الخلق و الإيجاد فإنه أمر يختص بالله سبحانه لا يشاركه فيه أحد.
و قوله: «إلا ليعبدون» استثناء من النفي لا ريب في ظهوره في أن للخلقة غرضا و أن الغرض العبادة بمعنى كونهم عابدين لله لا كونه معبودا فقد قال: ليعبدون و لم يقل: لأعبد أو لأكون معبودا لهم.
على أن الغرض كيفما كان أمر يستكمل به صاحب الغرض و يرتفع به حاجته و الله سبحانه لا نقص فيه و لا حاجة له حتى يستكمل به و يرتفع به حاجته، و من جهة أخرى الفعل الذي لا ينتهي إلى غرض لفاعله لغو سفهي و يستنتج منه أن له سبحانه في فعله غرضا هو ذاته لا غرض خارج منه، و أن لفعله غرضا يعود إلى نفس الفعل و هو كمال للفعل لا لفاعله، فالعبادة غرض لخلقة الإنسان و كمال عائد إليه هي و ما يتبعها من الآثار كالرحمة و المغفرة و غير ذلك، و لو كان للعبادة غرض كالمعرفة الحاصلة بها و الخلوص لله كان هو الغرض الأقصى و العبادة غرضا متوسطا.
فإن قلت: ما ذكرته من حمل اللام في «ليعبدون» على الغرض يعارضه قوله تعالى: «لا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم»: هود: 119، و قوله: «و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس»: الأعراف: 179، فإن ظاهر الآية الأولى كون الغرض من الخلقة الاختلاف، و ظاهر الثانية كون الغرض من خلق كثير من الجن و الإنس دخول جهنم فلا محيص عن رفع اليد من حمل اللام على الغرض و حملها على الغاية.
قلت: أما الآية الأولى فالإشارة فيها إلى الرحمة دون الاختلاف، و أما الآية الثانية فاللام فيها للغرض لكنه غرض تبعي و بالقصد الثاني لا غرض أصلي و بالقصد الأول و قد تقدم إشباع الكلام في تفسير الآيتين.
فإن قلت: لو كان اللام في «ليعبدون» للغرض كانت العبادة غرضه تعالى المراد من الخلقة، و من المحال أن يتخلف مراده تعالى عن إرادته لكن من المعلوم المشاهد عيانا أن كثيرا منهم لا يعبدونه تعالى و هذا نعم الدليل على أن اللام في الآية ليست للغرض أو أنها للغرض لكن المراد بالعبادة العبادة التكوينية كما في قوله: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده»: إسراء: 44.
أو أن المراد بخلقهم للعبادة خلقهم على وجه صالح لأن يعبدوا الله بجعلهم ذوي اختيار و عقل و استطاعة، و تنزيل الصلاحية و الاستعداد منزلة الفعلية مجاز شائع كما يقال: خلق البقر للحرث، و الدار للسكنى.
قلت: الإشكال مبني على كون اللام في الجن و الإنس للاستغراق فيكون تخلف الغرض في بعض الأفراد منافيا له و تخلفا من الغرض، و الظاهر أن اللام فيهما للجنس دون الاستغراق فوجود العبادة في النوع في الجملة تحقق للغرض لا يضره تخلفه في بعض الأفراد نعم لو ارتفعت العبادة عن جميع الأفراد كان ذلك بطلانا للغرض، و لله سبحانه في النوع غرض كما أن له في الفرد غرضا.
و أما حمل العبادة على العبادة التكوينية فيضعفه أنها شأن عامة المخلوقات لا موجب لتخصيصه بالجن و الإنس مضافا إلى أن السياق سياق توبيخ الكفار على ترك عبادة الله التشريعية و تهديدهم على إنكار البعث و الحساب و الجزاء و ذلك متعلق بالعبادة التشريعية دون التكوينية.
و أما حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد بأن يكون الغرض من خلق الجن و الإنس كونهما بحيث يصلحان للعبادة و يستعدان لها أو لتعلق الأمر و النهي العباديين فيضعفه أن من البين أن الصلوح و الاستعداد إنما يتعلق به الطلب لأجل الفعلية التي يتعلق به الصلوح و الاستعداد فلو كان الغرض المطلوب من خلقهما كونهما بحيث يصلحان للعبادة أو لتعلق الأمر و النهي العباديين فقد تعلق الغرض أولا بفعلية عبادتهما ثم بالصلوح و الاستعداد لمكان المقدمية.
ففي حمل العبادة على الصلوح و الاستعداد اعتراف بكون الغرض من الخلق أولا و بالذات نفس العبادة ثم الصلوح و الاستعداد فيعود الإشكال لو كان هناك إشكال.
فالحق أن اللام في «الجن و الإنس» للجنس دون الاستغراق، و المراد بالعبادة نفسها دون الصلوح و الاستعداد، و لو كان المراد هو الصلوح و الاستعداد للعبادة لكان ذلك غرضا أدنى مطلوبا لأجل غرض أعلى هو العبادة كما أن نفس العبادة بمعنى ما يأتي به العبد من الأعمال بالجوارح من قيام و ركوع و سجود و نحوها غرض مطلوب لأجل غرض آخر هو المثول بين يدي رب العالمين بذلة العبودية و فقر المملوكية المحضة قبال العزة المطلقة و الغنى المحض كما ربما استفيد من قوله تعالى: «قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم»: الفرقان: 77، حيث بدل العبادة دعاء.
فحقيقة العبادة نصب العبد نفسه في مقام الذلة و العبودية و توجيه وجهه إلى مقام ربه، و هذا هو مراد من فسر العبادة بالمعرفة يعني المعرفة الحاصلة بالعبادة.
فحقيقة العبادة هي الغرض الأقصى من الخلقة و هي أن ينقطع العبد عن نفسه و عن كل شيء و يذكر ربه.
هذا ما يعطيه التدبر في قوله تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» و لعل تقديم الجن على الإنس لسبق خلقهم على خلق الإنس قال تعالى: «و الجان خلقناه من قبل من نار السموم»: الحجر: 27، و العبادة هي غرض الفعل أي كمال عائد إليه لا إلى الفاعل على ما تقدم.
و يظهر من القصر في الآية بالنفي و الاستثناء أن لا عناية لله بمن لا يعبده كما يفيده أيضا قوله: «قل ما يعبؤ بكم ربي لو لا دعاؤكم».
قوله تعالى: «ما أريد منهم من رزق و ما أريد أن يطعمون» الإطعام إعطاء الطعام ليطعم و يؤكل قال تعالى: «و الذي هو يطعمني و يسقين»: الشعراء: 79، و قال: «الذي أطعمهم من جوع»: الإيلاف: 4، فيكون ذكر الإطعام بعد الرزق من قبيل ذكر الخاص بعد العام لتعلق عناية خاصة به و هي أن التغذي أوسع حوائج الإنسان و غيره و أخسها لكونه مسبوقا بالجوع و ملحوقا بالدفع.
و قيل: المراد بالرزق رزق العباد و المعنى: ما أريد منهم أن يرزقوا عبادي الذين أرزقهم و ما أريد أن يطعموني نفسي.
و قيل: المراد بالإطعام تقديم الطعام إليه كما يقدم العبد الطعام إلى سيده و الخادم إلى مخدومه فيكون المراد بالرزق تحصيل أصل الرزق و بالإطعام تقديم ما حصلوه و المعنى: ما أريد منهم رزقا يحصلونه لي فأرتزق به و ما أريد منهم أن يقدموا إلى ما أرتزق به و أطعمه.
قوله تعالى: «إن الله هو الرزاق ذو القوة المتين» تعليل لقوله: «ما أريد منهم من رزق» إلخ، و الالتفات في الآية من التكلم وحده إلى الغيبة لإنهاء التعليل إلى اسم الجلالة الذي منه يبتدىء كل شيء و إليه يرجع كأنه قال: ما أريد منهم رزقا لأني أنا الرزاق لأني أنا الله تبارك اسمه.
و التعبير بالرزاق - اسم مبالغة - و كان الظاهر أن يقال: إن الله هو الرزاق للإشارة إلى أنه تعالى إذا كان رازقا وحده كان رزاقا لكثرة من يرزقه فالآية نظير قوله: «و ما أنا بظلام للعبيد».
و ذو القوة من أسمائه تعالى بمعنى القوي لكنه أبلغ من القوي، و المتين أيضا من أسمائه تعالى بمعنى القوي.
و التعبير بالأسماء الثلاثة للدلالة على انحصار الرزق فيه تعالى و أنه لا يأخذه ضعف في إيصال الرزق إلى المرتزقين على كثرتهم.
قوله تعالى: «فإن للذين ظلموا ذنوبا مثل ذنوب أصحابهم فلا يستعجلون» الذنوب النصيب، و الاستعجال طلب العجلة و الحث عليها، و الآية متفرعة على قوله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» بلازم معناه.
و المعنى: فإذا كان هؤلاء الظالمون لا يعبدون الله و لا عناية له بهم و لا سعادة من قبله تشملهم فإن لهم نصيبا من العذاب مثل نصيب أصحابهم من الأمم الماضية الهالكة فلا يطلبوا مني أن أعجل لهم العذاب و لا يقولوا متى هذا الوعد إن كنتم صادقين، و أيان يوم الدين.
و في الآية التفات من الغيبة إلى التكلم وحده و هو في الحقيقة رجوع من سياق الغيبة الذي في قوله: «إن الله هو الرزاق» إلخ، إلى التكلم وحده الذي في قوله: «و ما خلقت» إلخ، لتفرع الكلام عليه.
قوله تعالى: «فويل للذين كفروا من يومهم الذي يوعدون» تفريع على قوله: «فإن للذين ظلموا ذنوبا» إلخ، و تنبيه على أن هذا الذنوب محقق لهم يوم القيامة و إن أمكن أن يجعل لهم بعضه، و هو يوم ليس لهم فيه إلا الويل و الهلاك و هو يومهم الموعود.
و في تبديل قوله في الآية السابقة للذين ظلموا من قوله في هذه الآية: «للذين كفروا» تنبيه على أن المراد بالظلم ظلم الكفر.
بحث روائي
في المجمع، و روي بالإسناد عن مجاهد قال: خرج علي بن أبي طالب معتما مشتملا في قميصة فقال: لما نزلت «فتول عنهم فما أنت بملوم» لم يبق أحد منا إلا أيقن بالهلكة حين قيل للنبي: «فتول عنهم» فلما نزل «و ذكر فإن الذكرى تنفع المؤمنين» طابت نفوسنا، و معناه: عظ بالقرآن من آمن من قومك فإن الذكرى تنفعهم:. عن الكلبي. أقول: و رواه في الدر المنثور، و روي أيضا ما في معناه عن ابن راهويه و ابن مردويه عنه (عليه السلام):.
و في التوحيد، بإسناده عن ابن أبي عمير قال: قلت لأبي الحسن موسى بن جعفر (عليه السلام): ما معنى قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اعملوا فكل ميسر لما خلق له؟ فقال: إن الله عز و جل خلق الجن و الإنس ليعبدوه و لم يخلقهم ليعصوه و ذلك قوله عز و جل: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» فيسر كلا لما خلق له فويل لمن استحب العمى على الهدى.
و في العلل، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال: خرج الحسين بن علي (عليهما السلام) على أصحابه فقال: إن الله عز و جل ما خلق العباد إلا ليعرفوه، فإذا عرفوه عبدوه، فإذا عبدوه استغنوا بعبادته عن عبادة من سواه.
و فيه، بإسناده إلى أبي بصير قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» قال: خلقهم ليأمرهم بالعبادة.
أقول: و روى القمي في تفسيره،: مثله مرسلا و مضمرا، و قد مر في تفسير الآية ما يتضح به معنى هذه الروايات، و أن هناك أغراضا مترتبة: التكليف و العبادة و المعرفة.
و في تفسير العياشي، عن يعقوب بن سعيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون» قال: خلقهم للعبادة. قال: قلت: قوله: «و لا يزالون مختلفين - إلا من رحم ربك و لذلك خلقهم» فقال: نزلت هذه بعد ذلك.
أقول: أي نزلت «و لا يزالون» إلخ، بعد «و ما خلقت» إلخ، يريد النسخ، و في تفسير القمي: و في حديث آخر هي منسوخة بقوله: «و لا يزالون مختلفين» و المراد بالنسخ البيان و رفع الإبهام دون النسخ المصطلح، و كثيرا ما ورد بهذا المعنى في كلامهم (عليهم السلام) كما أشرنا إليه في تفسير قوله تعالى: «ما ننسخ من آية أو ننسها» الآية: البقرة: 106.
و المراد أن الغرض الأعلى هو الرحمة الخاصة المترتبة على العبادة و هي السعادة الخاصة بالمعرفة.
و في التهذيب، بإسناده إلى سدير قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): أي شيء على الرجل في طلب الرزق؟ فقال: إذا فتحت بابك و بسطت بساطك فقد قضيت ما عليك.
تم و الحمد لله.
|