بيان
الآيات بمنزلة تلخيص ما تقدم من بيان حال المؤمنين و المشركين و أهل الكتاب في هذه السورة، بيان أن حال أبرار المؤمنين هو ذكر الله سبحانه، و التفكر في آياته و الاستجارة بالله من عذاب النار، و سؤال المغفرة و الجنة، و أن الله استجاب لهم و سيرزقهم ما سألوه - هذه عامة حالهم - و أن الذين كفروا حالهم أنهم يتقلبون في متاع قليل ثم لهم مهاد النار فلا يقاس حال المؤمنين بحالهم، و قد استثنى منهم المتبعين للحق من أهل الكتاب فهم مع المؤمنين.
قوله تعالى: «إن في خلق السموات و الأرض»، كان المراد بالخلق كيفية وجودها و آثارها و أفعالها من حركة و سكون و تغير و تحول فيكون خلق السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار مشتملا على معظم الآيات المحسوسة و قد تقدم بيانها في سورة البقرة.
و تقدم أيضا معنى أولي الألباب.
قوله تعالى: «الذين يذكرون الله قياما و قعودا» «إلخ» أي يذكرون الله في جميع حالاتهم من القيام و القعود و الاضطجاع، و قد مر البحث في معنى الذكر و التفكر، و محصل معنى الآيتين أن النظر في آيات السموات و الأرض و اختلاف الليل و النهار أورثهم ذكرا دائما لله فلا ينسونه في حال، و تفكرا في خلق السموات و الأرض يتذكرون به أن الله سيبعثهم للجزاء فيسألون عندئذ رحمته و يستنجزون وعده.
قوله تعالى: «ربنا ما خلقت هذا باطلا»، إنما قيل «هذا» مع كون المشار إليه جمعا و مؤنثا إذ الغرض لا يتعلق بتمييز أشخاصها و أسمائها، و الجميع في أنها خلق واحد، و هذا نظير ما حكى الله تعالى من قول إبراهيم: فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي هذا أكبر: «الأنعام: 78»، لعدم علمه بعد بحقيقتها و اسمها سوى أنها شيء.
و الباطل ما ليس له غاية يتعلق به الغرض قال تعالى: فأما الزبد فيذهب جفاء و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض: «الرعد: 17» و لذلك لما نفوا البطلان عن الخلق لاح لهم أن الله سيحشر الناس للجزاء، و أنه تعالى سيجزي هناك الظالمين جزاء خزي و هو النار، و لا راد يرد مصلحة العقاب و إلا لبطل الخلقة، و هذا معنى قولهم: فقنا عذاب النار ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته و ما للظالمين من أنصار.
قوله تعالى: «ربنا إننا سمعنا مناديا»، المراد بالمنادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قوله: أن آمنوا.
بيان للنداء و أن تفسيرية، و لما ذكروا إيمانهم بالمنادي و هو الرسول و هو يخبرهم بأمور عن الله تعالى يحذرهم من بعضها كالذنوب و السيئات و الموت على الكفر و الذنب، و يرغبهم في بعضها كالمغفرة و الرحمة و تفاصيل الجنة التي وعد الله عباده المؤمنين الأبرار بها سألوا ربهم أن يغفر لهم و يكفر عن سيئاتهم و يتوفاهم مع الأبرار و سألوه أن ينجزهم ما وعدهم من الجنة و الرحمة على ما ضمنه لهم الرسل بإذن الله فقالوا: فاغفر لنا ذنوبنا «إلخ» فقوله تعالى: على رسلك أي حملته على رسلك و ضمنه عليك الرسل، و قوله: و لا تخزنا، أي بإخلاف الوعد، و لذا عقبه بقوله: إنك لا تخلف الميعاد.
و قد تبين من الآيات أنهم إنما حصلوا الاعتقاد بالله و اليوم الآخر و بأن لله رسلا بالنظر في الآيات و أما تفاصيل ما جاء به النبي فمن طريق الإيمان بالرسول فهم على الفطرة فيما يحكم به الفطرة، و على السمع و الطاعة فيما فيه ذلك.
قوله تعالى: «فاستجاب لهم ربهم» «إلخ» التعبير بالرب و إضافته إليهم يدل على ثوران الرحمة الإلهية و يدل عليه أيضا التعميم الذي في قوله: أني لا أضيع عمل عامل منكم، فلا فرق عنده تعالى بين عمل و عمل، و لا بين عامل و عامل.
و على هذا فقوله تعالى في مقام التفريع: فالذين هاجروا و أخرجوا من ديارهم و أوذوا «إلخ» في مقام تفصيل صالحات الأعمال لتثبيت ثوابها، و الواو للتفصيل دون الجمع حتى يكون لبيان ثواب المستشهدين من المهاجرين فقط.
و الآية مع ذلك لا تفصل إلا الأعمال التي تندب إليها هذه السورة و تبالغ في التحريض و الترغيب فيها، و هو إيثار الدين على الوطن و تحمل الأذى في سبيل الله و الجهاد.
و الظاهر أن المراد بالمهاجرة ما يشمل المهاجرة عن الشرك و العشيرة و الوطن لإطلاق اللفظ، و لمقابلته قوله: و أخرجوا من ديارهم، و هو هجرة خاصة، و لقوله بعده: لأكفرن عنهم سيئاتهم، فإن ظاهر السيئات في القرآن صغائر المعاصي فهم هاجروا الكبائر بالاجتناب و التوبة، فالمهاجرة المذكورة أعم فافهم ذلك.
قوله تعالى: «لا يغرنك تقلب» إلخ، هذا بمنزلة دفع الدخل و التقدير: هذا حال أبرار المؤمنين و هذا أجرهم، و أما ما ترى فيه الكفار من رفاه الحال و ترف الحياة و در المعاش فلا يغرنك ذلك الخطاب للنبي و المقصود به الناس لأنه متاع قليل لا دوام له.
قوله تعالى: لكن الذين اتقوا ربهم إلخ، النزل ما يعد للنازل من طعام و شراب و غيرهما، و المراد بهم الأبرار بدليل ما في آخر الآية، و هذا يؤيد ما ذكرناه من أن الآية السابقة دفع دخل.
قوله تعالى: و إن من أهل الكتاب إلخ، المراد أنهم مشاركون للمؤمنين في حسن الثواب، و الغرض منه أن السعادة الأخروية ليست جنسية حتى يمنع منها أهل الكتاب و إن آمنوا بل الأمر دائر مدار الإيمان بالله و برسله فلو آمنوا كانوا هم و المؤمنون سواء.
و قد نفي عن هؤلاء الممدوحين من أهل الكتاب ما ذمهم الله به في سوابق الآيات و هو التفريق بين رسل الله، و كتمان ما أخذ ميثاقهم لبيانه اشتراء بآيات الله ثمنا قليلا.
بحث فلسفي و مقايسة
المشاهدة و التجربة تقضيان أن الرجل و المرأة فردان من نوع جوهري واحد، و هو الإنسان فإن جميع الآثار المشهودة في صنف الرجل مشهودة في صنف المرأة من غير فرق، و بروز آثار النوع يوجب تحقق موضوعه بلا شك، نعم يختلف الصنف بشدة و ضعف في بعض الآثار المشتركة و هو لا يوجب بطلان وجود النوعية في الفرد، و بذلك يظهر أن الاستكمالات النوعية الميسورة لأحد الصنفين ميسورة في الآخر، و منها الاستكمالات المعنوية الحاصلة بالإيمان و الطاعات و القربات، و بذلك يظهر عليك أن أحسن كلمة و أجمعها في إفادة هذا المعنى قوله سبحانه: «أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض».
و إذا قايست ذلك إلى ما ورد في التوراة بان لك الفرق بين موقعي الكتابين ففي سفر الجامعة من التوراة،: «درت أنا و قلبي لأعلم و لأبحث و لأطلب حكمة و عقلا، و لأعرف الشر أنه جهالة، و الحماقة أنها جنون، فوجدت أمر من الموت المرأة التي هي شباك، و قلبها أشراك، و يداها قيود، إلى أن قال: رجلا واحدا بين ألف وجدت إما امرأة فبين كل أولئك لم أجد» و قد كانت أكثر الأمم القديمة لا ترى قبول عملها عند الله سبحانه، و كانت تسمى في اليونان رجسا من عمل الشيطان، و كانت ترى الروم و بعض اليونان أن ليس لها نفس مع كون الرجل ذا نفس مجردة إنسانية، و قرر مجمع فرنسا سنة 586 م بعد البحث الكثير في أمرها أنها إنسان لكنها مخلوقة لخدمة الرجل، و كانت في إنجلترا قبل مائة سنة تقريبا لا تعد جزء المجتمع الإنساني، فارجع في ذلك إلى كتب الآراء و العقائد و آداب الملل تجد فيها عجائب من آرائهم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أبو نعيم في الحلية عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله: أقول: و روي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن عدة من الصحابة كعبد الله بن سلام و ابن عمر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) و الرواية مروية من طرق الشيعة أيضا و المراد بالتفكر في الله أو في ذات الله على اختلاف الروايات التفكر في كنهه و قد قال تعالى: «و لا يحيطون به علما»: طه - 110، و أما صفاته تعالى فالقرآن أعدل شاهد على أنه تعالى يعرف بها، و قد ندب إلى معرفته بها في آيات كثيرة.
و فيه، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): فكرة ساعة خير من عبادة ستين سنة.
أقول: و في بعض الروايات: من عبادة ليلة، و في بعضها: من عبادة سنة، و هو مروي من طرق الشيعة أيضا.
و قد ورد من طرق أهل السنة: أن قوله تعالى: فاستجاب لهم ربهم، الآية نزلت في أم سلمة لما قالت للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة بشيء فأنزل الله: فاستجاب لهم، الآية.
و ورد من طرق الشيعة: أن قوله: فالذين هاجروا و أخرجوا الآية، نزلت في علي (عليه السلام) لما هاجر و معه الفواطم: فاطمة بنت أسد، و فاطمة بنت محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فاطمة بنت الزبير، ثم لحق بهم في ضجنان أم أيمن و نفر من ضعفاء المؤمنين فساروا و هم يذكرون الله في جميع أحوالهم حتى لحقوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد نزلت الآيات.
و ورد من طرق أهل السنة: أنها نزلت في المهاجرين، و ورد أيضا أن قوله: لا يغرنك تقلب الآيات، نزل حين تمنى بعض المؤمنين ما عليه الكفار من حسن الحال و ورد أيضا أن قوله: و إن من أهل الكتاب الآية، نزل في النجاشي و نفر من أصحابه لما مات هو فصلى عليه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في المدينة فطعن فيه بعض المنافقين أنه يصلي على من ليس في دينه فأنزل الله: و إن من أهل الكتاب، الآية.
فهذه جميعا روايات تطبق الآيات على القصص، و ليست بأسباب للنزول حقيقة.
|