بيان
سياق التسع آيات الواقعة في صدر هذا الفصل يصدق ما ورد في أسباب النزول أن رجلا من المسلمين كان ينفق من ماله في سبيل الله فلامه بعض الناس على كثرة الإنفاق و حذره و خوفه بنفاد المال و الفقر و ضمن حمل خطاياه و ذنوبه فأمسك عن الإنفاق فنزلت الآيات.
أشار سبحانه بالتعرض لهذه القصة و نقل ما نقل من صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام) إلى بيان وجه الحق فيها، و إلى ما هو الحق الصريح فيما تعرض له الفصل السابق من أباطيل المشركين من أنهم إنما يعبدون الأصنام لأنها تماثيل الملائكة الذين هم بنات الله يعبدونهم ليشفعوا لهم عند الله سبحانه و قد أبطلتها الآيات السابقة أوضح الإبطال.
و قد أوضحت هذه الآيات ما هو وجه الحق في الربوبية و الألوهية و هو أن الخلق و التدبير لله سبحانه، إليه ينتهي كل ذلك، و أنه خلق ما خلق و دبر ما دبر خلقا و تدبيرا يستعقب نشأة أخرى فيها جزاء الكافر و المؤمن و المجرم و المتقي و من لوازمه تشريع الدين و توجيه التكاليف و قد فعل، و من شواهده إهلاك من أهلك من الأمم الدارجة الطاغية كقوم نوح و عاد و ثمود و المؤتفكة.
ثم عقب سبحانه هذا الذي نقله عن صحف النبيين الكريمين بالتنبيه على أن هذا النذير من النذر الأولى الخالية و أن الساعة قريبة، و خاطبهم بالأمر بالسجود لله و العبادة، و بذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «أ فرأيت الذي تولى و أعطى قليلا و أكدى» التولي هو الإعراض و المراد به بقرينة الآية التالية الإعراض عن الإنفاق في سبيل الله، و الإعطاء الإنفاق و الإكداء قطع العطاء، و التفريع الذي في قوله: «أ فرأيت» مبنى على ما قدمنا من تفرع مضمون هذه الآيات على ما قبلها.
و المعنى: فأخبرني عمن أعرض عن الإنفاق و أعطى قليلا من المال و أمسك بعد ذلك أشد الإمساك.
قوله تعالى: «أ عنده علم الغيب فهو يرى» الضمائر لمن تولى و الاستفهام للإنكار و المعنى: أ يعلم الغيب فيترتب عليه أن يعلم أن صاحبه يتحمل عنه ذنوبه و يعذب مكانه يوم القيامة لو استحق العذاب.
كذا فسروا.
و الظاهر أن المراد نفي علمه بما غاب عنه من مستقبل حاله في الدنيا و المعنى: أ يعلم الغيب فهو يعلم أنه لو أنفق و دام على الإنفاق نفد ماله و ابتلي بالفقر و أما تحمل الذنوب و العذاب فالمتعرض له قوله الآتي: «ألا تزر وازرة وزر أخرى».
قوله تعالى: «أم لم ينبأ بما في صحف موسى و إبراهيم الذي وفى» صحف موسى التوراة، و صحف إبراهيم.
ما نزل عليه من الكتاب و الجمع للإشارة إلى كثرته بكثرة أجزائه.
و التوفية تأدية الحق بتمامه و كماله، و توفيته (عليه السلام) تأديته ما عليه من الحق في العبودية أتم التأدية و أبلغها قال تعالى: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات فأتمهن»: البقرة: 124.
و ما نقله الله سبحانه في الآيات التالية من صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام) و إن لم يذكر في القرآن بعنوان أنه من صحفهما قبل هذه الآيات لكنه مذكور بعنوان الحكم و المواعظ و القصص و العبر فمعنى الآيتين: أم لم ينبأ بهذه الأمور و هي في صحف إبراهيم و موسى.
قوله تعالى: «ألا تزر وازرة وزر أخرى» الوزر الثقل و كثر استعماله في الإثم، و الوازرة النفس التي من شأنها أن تحمل الإثم، و الآية بيان ما في صحف إبراهيم و موسى (عليهما السلام)، و كذا سائر الآيات المصدرة بأن و أن إلى تمام سبع عشرة آية.
و المعنى: ما في صحفهما هو أنه لا تحمل نفس إثم نفس أخرى أي لا تتأثم نفس بما لنفس أخرى من الإثم فلا تؤاخذ نفس بإثم نفس أخرى.
قوله تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى» قال الراغب: السعي المشي السريع و هو دون العدو، و يستعمل للجد في الأمر خيرا كان أو شرا قال تعالى: «و سعى في خرابها».
انتهى و استعماله في الجد في الفعل استعمال استعاري.
و معنى اللام في قوله: «للإنسان» الملك الحقيقي الذي يقوم بصاحبه قياما باقيا ببقائه يلازمه و لا يفارقه بالطبع و هو الذي يكتسبه الإنسان بصالح العمل أو طالحه من خير أو شر، و أما ما يراه الإنسان مملوكا لنفسه و هو في ظرف الاجتماع من مال و بنين و جاه و غير ذلك من زخارف الحياة الدنيا و زينتها فكل ذلك من الملك الاعتباري الوهمي الذي يصاحب الإنسان ما دام في دار الغرور و يودعه عند ما أراد الانتقال إلى دار الخلود و عالم الآخرة.
فالمعنى: و أنه لا يملك الإنسان ملكا يعود إليه أثره من خير أو شر أو نفع أو ضر حقيقة إلا ما جد فيه من عمل فله ما قام بفعله بنفسه و أما ما قام به غيره من عمل فلا يلحق بالإنسان أثره خيرا أو شرا.
و أما الانتفاع من شفاعة الشفعاء يوم القيامة لأهل الكبائر فلهم في ذلك سعي جميل حيث دخلوا في حضيرة الإيمان بالله و آياته، و كذا استفادة المؤمن بعد موته من استغفار المؤمنين له، و الأعمال الصالحة التي تهدي إليه مثوباتها هي مرتبطة بسعيه في الدخول في زمرة المؤمنين و تكثير سوادهم و تأييد إيمانهم الذي من آثاره ما يأتون به من الأعمال الصالحة.
و كذا من سن سنة حسنة فله ثوابها و ثواب من عمل بها، و من سن سنة سيئة كان له وزرها و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة فإن له سعيا في عملهم حيث سن السنة و توسل بها إلى أعمالهم كما تقدم في تفسير قوله تعالى: «و نكتب ما قدموا و آثارهم»: يس: 12، و قد تقدم في تفسير قوله: «و ليخش الذين لو تركوا من خلفهم ذرية ضعافا خافوا عليهم»: النساء: 9، و تفسير قوله: «ليميز الله الخبيث من الطيب»: الأنفال: 37، كلام نافع في هذا المقام.
قوله تعالى: «و أن سعيه سوف يرى» المراد بالسعي ما سعى فيه من العمل و بالرؤية المشاهدة، و ظرف المشاهدة يوم القيامة بدليل تعقيبه بالجزاء فالآية قريبة المعنى من قوله تعالى: «يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا و ما عملت من سوء»: آل عمران: 30، و قوله: «يومئذ يصدر الناس أشتاتا ليروا أعمالهم فمن يعمل مثقال ذرة خيرا يره و من يعمل مثقال ذرة شرا يره»: الزلزال: 8.
و إتيان قوله: «سوف يرى» مبنيا للمفعول لا يخلو من إشعار بأن هناك من يشاهد العمل غير عامله.
قوله تعالى: «ثم يجزاه الجزاء الأوفى» الوفاء بمعنى التمام لأن الشيء التام يفي بجميع ما يطلب من صفاته، و الجزاء الأوفى الجزاء الأتم.
و ضمير «يجزاه» للسعي الذي هو العمل و المعنى: ثم يجزي الإنسان عمله أي بعمله أتم الجزاء.
قوله تعالى: «و أن إلى ربك المنتهى» المنتهى مصدر ميمي بمعنى الانتهاء و قد أطلق إطلاقا فيفيد مطلق الانتهاء، فما في الوجود من شيء موجود إلا و ينتهي في وجوده و آثار وجوده إلى الله سبحانه بلا واسطة أو مع الواسطة، و لا فيه أمر من التدبير و النظام الجاري جزئيا أو كليا إلا و ينتهي إليه سبحانه إذ ليس التدبير الجاري بين الأشياء إلا الروابط الجارية بينها القائمة بها و موجد الأشياء هو الموجد لروابطها المجري لها بينها فالمنتهى المطلق لكل شيء هو الله سبحانه.
قال تعالى: «الله خالق كل شيء و هو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات و الأرض»: الزمر: 63، و قال: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54.
و الآية تثبت الربوبية المطلقة لله سبحانه بإنهاء كل تدبير و كل التدبير إليه و تشمل انتهاء الأشياء إليه من حيث البدء و هو الفطر، و انتهاءها إليه من حيث العود و الرجوع و هو الحشر.
و مما تقدم يظهر ضعف ما قيل في تفسير الآية أن المراد بذلك رجوع الخلق إليه سبحانه يوم القيامة، و كذا ما قيل: إن المعنى أن إلى ثواب ربك و عقابه آخر الأمر، و كذا ما قيل: المعنى أن إلى حساب ربك منتهاهم، و كذا ما قيل: إليه سبحانه ينتهي الأفكار و تقف دونه، ففي جميع هذه التفاسير تقييد الآية من غير مقيد.
قوله تعالى: «و أنه هو أضحك و أبكى» الآية و ما يتلوها إلى تمام اثنتي عشرة آية بيان لموارد من انتهاء الخلق و التدبير إلى الله سبحانه.
و السياق في جميع هذه الآيات سياق الحصر، و تفيد انحصار الربوبية فيه تعالى و انتفاء الشريك، و لا ينافي ما في هذه الموارد من الحصر توسط أسباب أخر طبيعية أو غير طبيعية فيها كتوسط السرور و الحزن و أعضاء الضحك و البكاء من الإنسان في تحقق الضحك و البكاء، و كذا توسط الأسباب المناسبة الطبيعية و غير الطبيعية في الإحياء و الإماتة و خلق الزوجين و الغنى و القنى و إهلاك الأمم الهالكة و ذلك أنها لما كانت مسخرة لأمر الله غير مستقلة في نفسها و لا منقطعة عما فوقها كانت وجوداتها و آثار وجوداتها و ما يترتب عليها لله وحده لا يشاركه في ذلك أحد.
فمعنى قوله: «و أنه هو أضحك و أبكى» إنه تعالى هو أوجد الضحك في الضاحك و أوجد البكاء في الباكي لا غيره تعالى: و لا منافاة بين انتهاء الضحك و البكاء في وجودهما إلى الله سبحانه و بين انتسابهما إلى الإنسان و تلبسه بهما لأن نسبة الفعل إلى الإنسان بقيامه به و نسبة الفعل إليه تعالى بالإيجاد و كم بينهما من فرق.
و لا أن تعلق الإرادة الإلهية بضحك الإنسان مثلا يوجب بطلان إرادة الإنسان للضحك و سقوطها عن التأثير لأن الإرادة الإلهية لم تتعلق بمطلق الضحك كيفما كان و إنما تعلقت بالضحك الإرادي الاختياري من حيث إنه صادر عن إرادة الإنسان و اختياره فإرادة الإنسان سبب لضحكه في طول إرادة الله سبحانه لا في عرضها حتى تتزاحما و لا تجتمعا معا فنضطر إلى القول بأن أفعال الإنسان الاختيارية مخلوقة لله و لا صنع للإنسان فيها كما يقوله الجبري أو أنها مخلوقة للإنسان و لا صنع لله سبحانه فيها كما يقوله المعتزلي.
و مما تقدم يظهر فساد قول بعضهم: إن معنى الآية أنه خلق قوتي الضحك و البكاء، و قول آخرين: إن المعنى أنه خلق السرور و الحزن، و قول آخرين: إن المعنى أنه أضحك الأرض بالنبات و أبكى السماء بالمطر، و قول آخرين: إن المعنى أنه أضحك أهل الجنة و أبكى أهل النار.
قوله تعالى: «و أنه هو أمات و أحيا» الكلام في انتساب الموت و الحياة إلى أسباب أخر طبيعية و غير طبيعية كالملائكة كالكلام في انتساب الضحك و البكاء إلى غيره تعالى مع انحصار الإيجاد فيه تعالى، و كذا الكلام في الأمور المذكورة في الآيات التالية.
قوله تعالى: «و أنه خلق الزوجين الذكر و الأنثى من نطفة إذا تمنى» النطفة ماء الرجل و المرأة الذي يخلق منه الولد، و أمنى الرجل أي صب المني، و قيل: معناه التقدير، و قوله: «الذكر و الأنثى» بيان للزوجين.
قيل: لم يذكر الضمير في الآية على طرز ما تقدم - أنه هو - لأنه لا يتصور نسبة خلق الزوجين إلى غيره تعالى.
قوله تعالى: «و أن عليه النشأة الأخرى» النشأة الأخرى الخلقة الأخرى الثانية و هي الدار الآخرة التي فيها جزاء، و كون ذلك عليه تعالى قضاؤه قضاء حتم و قد وعد به و وصف نفسه بأنه لا يخلف الميعاد.
قوله تعالى: «و أنه هو أغنى و أقنى» أي أعطى الغنى و أعطى القنية، و القنية ما يدوم من الأموال و يبقى ببقاء نفسه كالدار و البستان و الحيوان، و على هذا فذكر «أقنى» بعد أغنى من التعرض للخاص بعد العام لنفاسته و شرفه.
و قيل: الإغناء التمويل و الإقناء الإرضاء بذلك، و قال بعضهم: معنى الآية أنه هو أغنى و أفقر.
قوله تعالى: «و أنه هو رب الشعرى» كان المراد بالشعرى الشعرى اليمانية و هي كوكبة مضيئة من الثوابت شرقي صورة الجبار في السماء.
قيل: كانت الخزاعة و حمير تعبد هذه الكوكبة، و ممن كان يعبده أبو كبشة أحد أجداد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من جهة أمه، و كان المشركون يسمونه (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن أبي كبشة لمخالفته إياهم في الدين كما خالف أبو كبشة قومه في عبادة الشعرى.
قوله تعالى: «و أنه أهلك عادا الأولى» و هم قوم هود النبي (عليه السلام) و وصفوا بالأولى لأن هناك عادا ثانية هم بعد عاد الأولى.
قوله تعالى: «و ثمود فما أبقى» و هم قوم صالح النبي (عليه السلام) أهلك الله الكفار منهم عن آخرهم، و هو المراد من قوله: «فما أبقى» و إلا فهو سبحانه نجى المؤمنين منهم من الهلاك كما قال: «و نجينا الذين آمنوا و كانوا يتقون»: فصلت: 18.
قوله تعالى: «و قوم نوح من قبل إنهم كانوا هم أظلم و أطغى» عطف كسابقه على قوله: «عادا» و الإصرار بالتأكيد على كونهم أظلم و أطغى، أي من القومين عاد و ثمود على ما يعطيه السياق لأنهم لم يجيبوا دعوة نوح (عليه السلام) و لم يتعظوا بموعظته فيما يقرب من ألف سنة و لم يؤمن منهم معه إلا أقل قليل.
قوله تعالى: «و المؤتفكة أهوى فغشاها ما غشى» قيل: إن المؤتفكة قرى قوم لوط ائتفكت بأهلها أي انقلبت و الائتفاك الانقلاب، و الأهواء الإسقاط.
و المعنى: و أسقط القرى المؤتفكة إلى الأرض بقلبها و خسفها فشملها و أحاط بها من العذاب ما شملها و أحاط بها.
و احتمل أن يكون المراد بالمؤتفكة ما هو أعم من قرى قوم لوط و هي كل قرية نزل عليها العذاب فباد أهلها فبقيت خربة داثرة معالمها خاوية على عروشها.
قوله تعالى: «فبأي آلاء ربك تتمارى» الآلاء جمع إلى بمعنى النعمة، و التماري التشكك، و الجملة متفرعة على ما تقدم ذكره مما ينسب إليه تعالى من الأفعال.
و المعنى: إذا كان الله سبحانه هو الذي نظم هذا النظام البديع من صنع و تدبير بالإضحاك و الإبكاء و الإماتة و الإحياء و الخلق و الإهلاك إلى آخر ما قيل فبأي نعم ربك تتشكك و في أيها تريب؟.
و عد مثل الإبكاء و الإماتة و إهلاك الأمم الطاغية نعما لله سبحانه لما فيها من الدخل في تكون النظام الأتم الذي يجري في العالم و تنساق به الأمور في مرحلة استكمال الخلق و رجوع الكل إلى الله سبحانه.
و الخطاب في الآية للذي تولى و أعطى قليلا و أكدى أو للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من باب إياك أعني و اسمعي يا جارة، و الاستفهام للإنكار.
قوله تعالى: «هذا نذير من النذر الأولى» قيل: النذير يأتي مصدرا بمعنى الإنذار و وصفا بمعنى المنذر و يجمع على النذر بضمتين على كلا المعنيين و الإشارة بهذا إلى القرآن أو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «أزفت الآزفة» أي قربت القيامة و الآزفة من أسماء القيامة قال تعالى: «و أنذرهم يوم الآزفة»: المؤمن: 18.
قوله تعالى: «ليس لها من دون الله كاشفة» أي نفس كاشفة و المراد بالكشف إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال، و المعنى: ليس نفس تقدر على إزالة ما فيها من الشدائد و الأهوال إلا أن يكشفها الله سبحانه.
قوله تعالى: «أ فمن هذا الحديث تعجبون و تضحكون و لا تبكون و أنتم سامدون» الإشارة بهذا الحديث إلى ما تقدم من البيان، و السمود اللهو، و الآية متفرعة على ما تقدم من البيان، و الاستفهام للتوبيخ.
و المعنى: إذا كان الله هو ربكم الذي ينتهي إليه كل أمر و عليه النشأة الأخرى و كانت القيامة قريبة و ليس لها من دون الله كاشفة كان عليكم أن تبكوا لما فرطتم في جنب الله، و تعرضتم للشقاء الدائم أ فمن هذا البيان الذي يدعوكم إلى النجاة تعجبون إنكارا و تضحكون استهزاء و لا تبكون؟.
قوله تعالى: «فاسجدوا لله و اعبدوا» تفريع آخر على ما تقدم من البيان و المعنى: إذا كان كذلك فعليكم أن تسجدوا لله و تعبدوه ليكشف عنكم ما ليس له من دونه كاشفة.
بحث روائي
في الكشاف،: في قوله تعالى: «أ فرأيت الذي تولى» إلخ، روي أن عثمان كان يعطي ماله في الخير فقال له عبد الله بن سعد بن أبي سرح و هو أخوه من الرضاعة: يوشك أن لا يبقى لك شيء فقال عثمان: إن لي ذنوبا و خطايا، و إني أطلب بما أصنع رضا الله تعالى و أرجو عفوه فقال عبد الله: أعطني ناقتك برحلها و أنا أتحمل عنك ذنوبك كلها فأعطاه و أشهد عليه و أمسك عن العطاء فنزلت، و معنى: «تولى» ترك المركز يوم أحد فعاد عثمان إلى أحسن من ذلك و أجمل.
أقول: و أورد القصة في مجمع البيان و نسبها إلى ابن عباس و السدي و الكلبي و جماعة من المفسرين، و في انطباق «تولى» على تركه المركز يوم أحد نظر و الآيات مكية.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عن مجاهد: في قوله: «أ فرأيت الذي تولى» قال: الوليد بن المغيرة كان يأتي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبا بكر فسمع ما يقولان و ذلك ما أعطى من نفسه، أعطى الاستماع «و أكدى» قال: انقطع عطاؤه نزل في ذلك «أ عنده علم الغيب» قال: الغيب القرآن أ رأى فيه باطلا أنفذه ببصره إذ كان يختلف إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبي بكر.
أقول: و أنت خبير بأن الآيات بظاهرها لا تنطبق على ما ذكره.
و روي: أنها نزلت في العاص بن وائل، و روي أنها نزلت في رجل لم يذكر اسمه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و إبراهيم الذي وفى» قال: وفى بما أمره الله به من الأمر و النهي و ذبح ابنه.
و في الكافي، بإسناده عن إسحاق بن عمار عن أبي إبراهيم (عليه السلام) قال: سألته عن الرجل يحج فيجعل حجته و عمرته أو بعض طوافه لبعض أهله و هو عنه غائب في بلد آخر؟ قال: قلت: فينتقص ذلك من أجره؟ قال: هي له و لصاحبه و له أجر سوى ذلك بما وصل. قلت: و هو ميت أ يدخل ذلك عليه؟ قال: نعم حتى يكون مسخوطا عليه فيغفر له أو يكون مضيقا عليه فيوسع له. قلت: فيعلم هو في مكانه أنه عمل ذلك لحقه؟ قال: نعم. قلت: و إن كان ناصبا ينفعه ذلك؟ قال: نعم يخفف عنه.
أقول: مورد الرواية إهداء ثواب العمل دون العمل نيابة عن الميت.
و فيه، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يقول الله عز و جل للملك الموكل بالمؤمن إذا مرض: اكتب له ما كنت تكتب له في صحته فإني أنا الذي صيرته في حبالي.
و في الخصال، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: ليس يتبع الرجل بعد موته من الأجر إلا ثلاث خصال: صدقة أجراها في حياته فهي تجري بعد موته إلى يوم القيامة صدقة موقوفة لا تورث، و سنة هدى سنها و كان يعمل بها و عمل بها من بعده غيره، و ولد صالح يستغفر له.
أقول: و هذه الروايات الثلاث - و في معناها روايات كثيرة جدا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) - توسع معنى السعي في قوله تعالى: «و أن ليس للإنسان إلا ما سعى» و قد تقدمت إشارة إليها.
و في أصول الكافي، بإسناده إلى سليمان بن خالد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله يقول: «و أن إلى ربك المنتهى» فإذا انتهى الكلام إلى الله فأمسكوا.
أقول: و هو من التوسعة في معنى الانتهاء.
و فيه، بإسناده إلى أبي عبيدة الحذاء قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): يا زياد إياك و الخصومات فإنها تورث الشك، و تحبط العمل، و تردي صاحبها، و عسى أن يتكلم بالشيء فلا يغفر له. أنه كان فيما مضى قوم تركوا علم ما وكلوا به، و طلبوا علم ما كفوه حتى انتهى كلامهم إلى الله فتحيروا حتى كان الرجل يدعى من بين يديه فيجيب من خلفه، و يدعى من خلفه فيجيب من بين يديه. قال: و في رواية أخرى: حتى تاهوا في الأرض.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ عن أبي ذر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تفكروا في خلق الله و لا تفكروا في الله فتهلكوا.
أقول: و في النهي عن التفكر في الله سبحانه روايات كثيرة أخر مودعة في جوامع الفريقين، و النهي إرشادي متعلق بمن لا يحسن الورود في المسائل العقلية العميقة فيكون خوضه فيها تعرضا للهلاك الدائم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و أنه هو أضحك و أبكى» قال: أبكى السماء بالمطر، و أضحك الأرض بالنبات.
أقول: هو من التوسعة في معنى الإبكاء و الإضحاك.
و في المعاني، بإسناده إلى السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائهم (عليهم السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): في قول الله عز و جل: «و أنه هو أغنى و أقنى» قال: أغنى كل إنسان بمعيشته، و أرضاه بكسب يده.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و أنه هو رب الشعرى» قال: النجم في السماء يسمى الشعرى كانت قريش و قوم من العرب يعبدونه، و هو نجم يطلع في آخر الليل.
أقول: الظاهر أن قوله: و هو نجم يطلع في آخر الليل تعريف له بحسب زمان صدور الحديث و كان في الصيف و إلا فهو يستوفي في مجموع السنة جميع ساعات الليل و النهار.
و فيه،: في قوله تعالى: «أزفت الآزفة» قال قربت القيامة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «أ فمن هذا الحديث تعجبون» يعني بالحديث ما تقدم من الأخبار.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس قال: لما نزلت هذه الآية على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) «أ فمن هذا الحديث تعجبون و تضحكون و لا تبكون» فما رئي النبي بعدها ضاحكا حتى ذهب من الدنيا.
|