بيان
فصل ثالث من الآيات متعرض لحال الأعراب الذين قعدوا عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الحديبية و لم ينفروا إذا استنفرهم و هم على ما قيل أعراب حول المدينة من قبائل جهينة و مزينة و غفار و أشجع و أسلم و دئل فتخلفوا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لم يصاحبوه قائلين: إن محمدا و من معه يذهبون إلى قوم غزوهم بالأمس في عقر دارهم فقتلوهم قتلا ذريعا، و إنهم لن يرجعوا من هذه السفرة و لن ينقلبوا إلى ديارهم و أهليهم أبدا.
فأخبر الله سبحانه لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآيات أنهم سيلقونك و يعتلون في قعودهم باشتغالهم بالأموال و الأهلين و يسألونك أن تستغفر الله لهم، و كذبهم الله فيما قالوا و ذكر أن السبب في قعودهم غير ذلك و هو ظنهم السوء، و أخبر أنهم سيسألونك اللحوق و ليس لهم ذلك غير أنهم سيدعون إلى قتال قوم آخرين فإن أطاعوا كان لهم الأجر الجزيل و إن تولوا فأليم العذاب.
قوله تعالى: «سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا» إلى آخر الآية، قال في المجمع،: المخلف هو المتروك في المكان خلف الخارجين من البلد، و هو مشتق من الخلف و ضده المقدم.
انتهى.
و الأعراب - و على ما قالوا - الجماعة من عرب البادية و لا يطلق على عرب الحاضرة، و هو اسم جمع لا مفرد له من لفظه.
و قوله: «سيقول لك المخلفون من الأعراب» إخبار عما سيأتي من قولهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و في اللفظ دلالة ما على نزول الآيات في رجوعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية إلى المدينة و لما يردها.
و قوله: «شغلتنا أموالنا و أهلونا فاستغفر لنا» أي كان الشاغل المانع لنا عن صحابتك و الخروج معك هو أموالنا و أهلونا حيث لم يكن هنا من يقوم بأمرنا فخفنا ضيعتها فلزمناها فاستغفر لنا الله تعالى يغفر لنا تخلفنا عنك، و في سؤال الاستغفار دليل على أنهم كانوا يرون التخلف ذنبا فتعلقهم بأنه شغلتهم الأموال و الأهلون ليس اعتذارا للتبري عن الذنب بل ذكرا للسبب الموقع في الذنب.
و قوله: «يقولون بألسنتهم ما ليس في قلوبهم» تكذيب لهم في جميع ما أخبروا به و سألوه فلا أن الشاغل لهم هو شغل الأموال و الأهلين، و لا أنهم يهتمون باستغفاره (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما سألوه ليكون ذلك جنة يصرفون بها العتاب و التوبيخ عن أنفسهم.
و قوله: «قل فمن يملك لكم من الله شيئا إن أراد بكم ضرا أو أراد بكم نفعا» جواب حلي عما اعتذروا به من شغل الأموال و الأهلين محصله أن الله سبحانه له الخلق و الأمر و هو المالك المدبر لكل شيء لا رب سواه فلا ضر و لا نفع إلا بإرادته و مشيته فلا يملك أحد منه تعالى شيئا حتى يقهره على ترك الضر أو فعل الخير إن أراد الضر أو على ترك الخير إن أراد ما لا يريده هذا القاهر من الخير، و إذا كان كذلك فانصرافكم عن الخروج مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) نصرة للدين و اشتغالكم بما اعتللتم به من حفظ الأموال و الأهلين لا يغني من الله شيئا لا يدفع الضر إن أراد الله بكم ضرا و لا يعين على جلب الخير و لا يعجله إن أراد بكم خيرا.
فقوله: «قل فمن يملك لكم» إلخ، جواب عن تعللهم بالشغل على تقدير تسليم صدقهم فيه، ملخصه أن تعلقكم في دفع الضر و جلب الخير بظاهر الأسباب و منها تدبيركم و القعود بذلك عن مشروع ديني لا يغنيكم شيئا في ضر أو نفع بل الأمر تابع لما أراده الله سبحانه فالآية في معنى قوله تعالى: «قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا».
و التمسك بالأسباب و عدم إلغائها و إن كان مشروعا مأمورا به لكنه فيما لا يعارض ما هو أهم منها كالدفاع عن الحق و إن كان فيه بعض المكاره المحتملة اللهم إلا إذا تعقب خطرا قطعيا لا أثر معه للدفاع و السعي.
و قوله: «بل كان الله بما تعملون خبيرا» تعريض لهم فيه إشارة إلى كذبهم في قولهم: «شغلتنا أموالنا و أهلونا».
قوله تعالى: «بل ظننتم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و زين ذلك في قلوبكم» إلخ، بيان لما يشير إليه قوله: «بل كان الله بما تعملون خبيرا» من كذبهم في اعتذارهم، و المعنى: ما تخلفتم عن الخروج بسبب اشتغالكم بالأموال و الأهلين بل ظننتم أن الرسول و المؤمنين لن يرجعوا إلى أهليهم أبدا و أن الخارجين سيقتلون بأيدي قريش بما لهم من الجموع و البأس الشديد و الشوكة و القدرة و لذلك تخلفتم.
و قوله: «و زين ذلك في قلوبكم» أي زين الشيطان ذلك الظن في قلوبكم فأخذتم بما يقتضيه ذلك الظن المزين و هو أن تتخلفوا و لا تخرجوا حذرا من أن تهلكوا و تبيدوا.
و قوله: «و ظننتم ظن السوء و كنتم قوما بورا» البور - على ما قيل - مصدر بمعنى الفساد أو الهلاك أريد به معنى الفاعل أي كنتم قوما فاسدين أو هالكين.
قيل: المراد بظن السوء ظنهم أن لن ينقلب الرسول و المؤمنون إلى أهليهم أبدا و لا يبعد أن يكون المراد به ظنهم أن الله لا ينصر رسوله و لا يظهر دينه كما مر في قوله في الآية السادسة من السورة: «الظانين بالله ظن السوء» بل هو أظهر.
قوله تعالى: «و من لم يؤمن بالله و رسوله فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا» الجمع في هذه الآيات بين الإيمان بالله و رسوله للدلالة على أن الكفر بالرسول بعدم طاعته كفر بالله، و في الآية لحن تهديد.
و قوله: «فإنا أعتدنا للكافرين سعيرا» كان مقتضى الظاهر أن يقال: أعتدنا لهم فوضع الظاهر موضع الضمير للإشارة إلى علة الحكم بتعليقه على المشتق، و المعنى: أعتدنا و هيأنا لهم لكفرهم سعيرا أي نارا مسعرة مشتعلة، و تنكير سعيرا للتهويل.
قوله تعالى: «و لله ملك السماوات و الأرض يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و كان الله غفورا رحيما» معنى الآية ظاهر و فيها تأييد لما تقدم، و في تذييل الملك المطلق بالاسمين: الغفور الرحيم إشارة إلى سبق الرحمة الغضب و حث على الاستغفار و الاسترحام.
قوله تعالى: «سيقول المخلفون إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها ذرونا نتبعكم» إلى آخر الآية إخبار عن أن المؤمنين سيغزون غزوة فيرزقون الفتح و يصيبون مغانم و يسألهم المخلفون أن يتركوهم يتبعونهم طمعا في الغنيمة، و تلك غزوة خيبر اجتاز النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنون إليه ففتحوه و أخذوا الغنائم و خصها الله تعالى بمن كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سفره الحديبية لم يشرك معهم غيرهم.
و المعنى: أنكم ستنطلقون إلى غزوة فيها مغانم تأخذونها فيقول هؤلاء المخلفون: اتركونا نتبعكم.
و قوله: «يريدون أن يبدلوا كلام الله» قيل: المراد به وعده تعالى أهل الحديبية أن يخصهم بغنائم خيبر بعد فتحه كما سيجيء من قوله: «وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه الآية، و يشير إليه في هذه الآية بقوله: «إذا انطلقتم إلى مغانم لتأخذوها».
و قوله: «قل لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل» أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمنعهم عن اتباعهم استنادا إلى قوله تعالى من قبل أن يسألوهم الاتباع.
و قوله: «فسيقولون بل تحسدوننا» أي سيقول المخلفون بعد ما منعوا عما سألوه من الاتباع: «بل تحسدوننا» و قوله: «بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا» جواب عن قولهم: «بل تحسدوننا» لم يوجه الخطاب إليهم أنفسهم لأن المدعي أنهم لا يفقهون الحديث و لذلك وجه الخطاب بالجواب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و قال: «بل كانوا لا يفقهون إلا قليلا».
و ذلك أن قولهم: «بل تحسدوننا» إضراب عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لهم بأمر الله: «لن تتبعونا كذلكم قال الله من قبل» فمعنى قولهم: إن منعنا من الاتباع ليس عن أمر من قبل الله بل إنما تمنعنا أنت و من معك من المؤمنين أهل الحديبية أن نشارككم في الغنائم و تريدون أن تختص بكم.
و هذا كلام لا يواجه به مؤمن له عقل و تمييز رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المعصوم الذي لا يرد و لا يصدر في شأن إلا بأمر من الله اللهم إلا أن يكون من بساطة العقل و بلادة الفهم فهذا القول الذي واجهوا به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم مدعون للإيمان و الإسلام أدل دليل على ضعف تعقلهم و قلة فقههم.
و من هنا يظهر أن المراد بعدم فقههم إلا قليلا بساطة عقلهم و ضعف فقههم للقول لا أنهم يفقهون بعض القول و لا يفقهون بعضه و هو الكثير و لا أن بعضهم يفقه القول و جلهم لا يفقهونه كما فسره به بعضهم.
قوله تعالى: «قل للمخلفين من الأعراب ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون» إلخ، اختلفوا في هذا القوم من هم؟ فقيل: المراد به هوازن، و قيل: ثقيف، و قيل: هوازن و ثقيف، و قيل: هم الروم في غزاة مؤتة و تبوك، و قيل: هم أهل الردة قاتلهم أبو بكر بعد الرحلة، و قيل: هم الفارس، و قيل: أعراب الفارس و أكرادهم.
و ظاهر قوله: «ستدعون» أنهم بعض الأقوام الذين قاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد فتح خيبر من هوازن و ثقيف و الروم في مؤتة، و قوله تعالى سابقا: «قل لن تتبعونا» ناظر إلى نفي اتباعهم في غزوة خيبر على ما يفيده السياق.
و قوله: «تقاتلونهم أو يسلمون» استئناف يدل على التنويع أي إما تقاتلون أو يسلمون أي إنهم مشركون لا تقبل منهم جزية كما تقبل من أهل الكتاب بل إما أن يقاتلوا أو يسلموا.
و لا يصح أخذ «تقاتلونهم» صفة لقوم لأنهم يدعون إلى قتال القوم لا إلى قتال قوم يقاتلونهم، و كذا لا يصح أخذ حالا من نائب فاعل «ستدعون» لأنهم يدعون إلى قتال القوم لا أنهم يدعون إليهم حال قتالهم، كذا قيل.
ثم تمم سبحانه الكلام بالوعد و الوعيد على الطاعة و المعصية فقال: «فإن تطيعوا» أي بالخروج إليهم «يؤتكم الله أجرا حسنا و إن تتولوا» أي بالمعصية و عدم الخروج «كما توليتم من قبل» و لم تخرجوا في سفره الحديبية «يعذبكم عذابا أليما» أي في الدنيا كما هو ظاهر المقام أو في الدنيا و الآخرة معا.
قوله تعالى: «ليس على الأعمى حرج و لا على الأعرج حرج و لا على المريض حرج» رفع للحكم بوجوب الجهاد عن ذوي العاهة الذين يشق عليهم الجهاد برفع لازمه و هو الحرج.
ثم تمم الآية أيضا بإعادة نظير ذيل الآية السابقة فقال: «و من يطع الله و رسوله يدخله جنات تجري من تحتها الأنهار و من يتول يعذبه عذابا أليما».
|