بيان
فصل رابع من الآيات يذكر تعالى فيه المؤمنين ممن كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في خروجه إلى الحديبية فيذكر رضاه عنهم إذ بايعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة ثم يمتن عليهم بإنزال السكينة و إثابة فتح قريب و مغانم كثيرة يأخذونها.
و يخبرهم - و هو بشرى - أن المشركين لو قاتلوهم لانهزموا و ولوا الأدبار و أن الرؤيا التي رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رؤيا صادقة سيدخلون المسجد الحرام آمنين محلقين رءوسهم لا يخافون فإنه تعالى أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون.
قوله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» الرضا هيئة تطرأ على النفس من تلقي ما يلائمها و تقبله من غير دفع، و يقابله السخط، و إذا نسب إلى الله سبحانه كان المراد الإثابة و الجزاء الحسن دون الهيأة الطارئة و الصفة العارضة الحادثة لاستحالة ذلك عليه تعالى: فرضاه سبحانه من صفات الفعل لا من صفات الذات.
و الرضا - كما قيل - يستعمل متعديا إلى المفعول بنفسه و متعديا بعن و متعديا بالباء فإذا عدي بنفسه جاز دخوله على الذات نحو: رضيت زيدا، و على المعنى نحو: رضيت إمارة زيد، قال تعالى: «و رضيت لكم الإسلام دينا»: المائدة: 3، و إذا عدي بعن دخل على الذات كقوله: «رضي الله عنهم و رضوا عنه»: البينة: 8، و إذا عدي بالباء دخل على المعنى كقوله تعالى: «أ رضيتم بالحياة الدنيا من الآخرة».
و لما كان الرضا المنسوب إليه تعالى صفة فعل له بمعنى الإثابة و الجزاء، و الجزاء إنما يكون بإزاء العمل دون الذات ففيما نسب من رضاه تعالى إلى الذات و عدي بعن كما في الآية «لقد رضي الله عن المؤمنين» نوع عناية استدعى عد الرضا و هو متعلق بالعمل متعلقا بالذات و هو أخذ بيعتهم التي هي متعلقة الرضا ظرفا للرضى فلم يسع إلا أن يكون الرضا متعلقا بهم أنفسهم.
فقوله: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» إخبار عن إثابته تعالى لهم بإزاء بيعتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) تحت الشجرة.
و قد كانت البيعة يوم الحديبية تحت شجرة سمرة بها بايعه (صلى الله عليه وآله وسلم) من معه من المؤمنين و قد ظهر به أن الظرف في قوله: «إذ يبايعونك» متعلق بقوله: «لقد رضي» و اللام للقسم.
قوله تعالى: «فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم و أثابهم فتحا قريبا و مغانم كثيرة يأخذونها و كان الله عزيزا حكيما» تفريع على قوله: «لقد رضي الله» إلخ، و المراد بما في قلوبهم حسن النية و صدقها في مبايعتهم فإن العمل إنما يكون مرضيا عند الله لا بصورته و هيئته بل بصدق النية و إخلاصها.
فالمعنى: فعلم ما في قلوبهم من صدق النية و إخلاصها في مبايعتهم لك.
و قيل: المراد بما في قلوبهم الإيمان و صحته و حب الدين و الحرص عليه، و قيل: الهم و الأنفة من لين الجانب للمشركين و صلحهم.
و السياق لا يساعد على شيء من هذين الوجهين كما لا يخفى.
فإن قلت: المراد بما في قلوبهم ليس مطلق ما فيها بل نيتهم الصادقة المخلصة في المبايعة كما ذكر، و علمه تعالى بنيتهم الموصوفة بالصدق و الإخلاص سبب يتفرع عليه رضاه تعالى عنهم لا مسبب متفرع على الرضا، و لازم ذلك تفريع الرضا على العلم بأن يقال: لقد علم ما في قلوبهم فرضي عنهم لا تفريع العلم على الرضا كما في الآية.
قلت: كما أن للمسبب تفرعا على السبب من حيث التحقق و الوجود كذلك للسبب - سواء كان تاما أو ناقصا - تفرع على المسبب من حيث الانكشاف و الظهور، و الرضا كما تقدم صفة فعل له تعالى منتزع عن مجموع علمه تعالى بالعمل الصالح و ما يثيب به و يجزي صاحب العمل، و الذي انتزع عنه الرضا في المقام هو مجموع علمه تعالى بما في قلوبهم و إنزاله السكينة عليهم و إثابتهم فتحا قريبا و مغانم كثيرة يأخذونها.
فقوله: «فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة» إلخ، تفريع على قوله: «لقد رضي الله عن المؤمنين» للدلالة على حقيقة هذا الرضا و الكشف عن مجموع الأمور التي بتحققها يتحقق معنى الرضا.
ثم قوله: «فأنزل السكينة عليهم» متفرع على قوله: «فعلم ما في قلوبهم» و كذا ما عطف عليه من قوله: «و أثابهم فتحا قريبا» إلخ.
و المراد بالفتح القريب فتح خيبر على ما يفيده السياق و كذا المراد بمغانم كثيرة يأخذونها، غنائم خيبر، و قيل: المراد بالفتح القريب فتح مكة، و السياق لا يساعد عليه.
و قوله: «و كان الله عزيزا حكيما» أي غالبا فيما أراد متقنا لفعله غير مجازف فيه.
قوله تعالى: «وعدكم الله مغانم كثيرة تأخذونها فعجل لكم هذه» إلخ، المراد بهذه المغانم الكثيرة المغانم التي سيأخذها المؤمنون بعد الرجوع من الحديبية أعم من مغانم خيبر و غيرها فتكون الإشارة بقوله: «فعجل لكم هذه» إلى المغانم المذكورة في الآية السابقة و هي مغانم خيبر نزلت منزلة الحاضرة لاقتراب وقوعها.
هذا على تقدير نزول الآية مع الآيات السابقة، و أما على ما قيل: إن الآية نزلت بعد فتح خيبر فأمر الإشارة في قوله: «فعجل لكم هذه» ظاهر لكن المعروف نزول السورة بتمامها في مرجع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الحديبية بينها و بين المدينة.
و قيل: الإشارة بهذه إلى البيعة التي بايعوها تحت الشجرة و هو كما ترى.
و قوله: «و كف أيدي الناس عنكم» قيل: المراد بالناس قبيلتا أسد و غطفان هموا بعد مسير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر أن يغيروا على أموال المسلمين و عيالهم بالمدينة فقذف الله في قلوبهم الرعب و كف أيديهم.
و قيل: المراد مالك بن عوف و عيينة بن حصين مع بني أسد و غطفان جاءوا لنصرة يهود خيبر فقذف الله في قلوبهم الرعب فرجعوا، و قيل: المراد بالناس أهل مكة و من والاها حيث لم يقاتلوه (صلى الله عليه وآله وسلم) و رضوا بالصلح.
و قوله: «و لتكون آية للمؤمنين» عطف على مقدر أي وعدهم الله بهذه الإثابة إثابة الفتح و الغنائم الكثيرة المعجلة و المؤجلة لمصالح كذا و كذا و لتكون آية للمؤمنين أي علامة و أمارة تدلهم على أنهم على الحق و أن ربهم صادق في وعده و نبيهم (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق في إنبائه.
و قد اشتملت السورة على عدة من أنباء الغيب فيها هدى للمتقين كقوله: «سيقول لك المخلفون من الأعراب شغلتنا» إلخ، و قوله: «سيقول المخلفون إذا انطلقتم» إلخ، و قوله: «قل للمخلفين من الأعراب ستدعون» إلخ، و ما في هذه الآيات من وعد الفتح و المغانم، و قوله بعد: «و أخرى لم تقدروا عليها» إلخ، و قوله بعد: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا» إلخ.
و قوله: «و يهديكم صراطا مستقيما» عطف على «تكون» أي و ليهديكم صراطا مستقيما و هو الطريق الموصل إلى إعلاء كلمة الحق و بسط الدين، و قيل: هو الثقة بالله و التوكل عليه في كل ما تأتون و تذرون، و ما ذكرناه أوفق للسياق.
قوله تعالى: «و أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها و كان الله على كل شيء قديرا» أي و غنائم أخرى لم تقدروا عليها قد أحاط الله بها إحاطة قدرة و كان الله على كل شيء قديرا.
فقوله: «أخرى» مبتدأ و «لم تقدروا عليها» صفته و قوله: «قد أحاط الله بها» خبره الثاني و خبره الأول محذوف، و تقدير الكلام: و ثمة غنائم أخرى قد أحاط الله بها.
و قيل: قوله: «أخرى» في موضع نصب بالعطف على قوله: «هذه» و التقدير: و عجل لكم غنائم أخرى، و قيل: في موضع نصب بفعل محذوف، و التقدير: و قضى غنائم أخرى، و قيل: في موضع جر بتقدير رب و التقدير: و رب غنائم أخرى و هذه وجوه لا يخلو شيء منها من وهن.
و المراد بالأخرى في الآية - على ما قيل - غنائم هوازن، و قيل: المراد غنائم فارس و الروم، و قيل: المراد فتح مكة و الموصوف محذوف، و التقدير: و قرية أخرى لم تقدروا عليها أي على فتحها، و أول الوجوه أقربها.
قوله تعالى: «و لو قاتلكم الذين كفروا لولوا الأدبار ثم لا يجدون وليا و لا نصيرا» خبر آخر ينبئهم الله سبحانه ضعف الكفار عن قتال المؤمنين بأنفسهم و أن ليس لهم ولي يتولى أمرهم و لا نصير ينصرهم، و يتخلص في أنهم لا يقوون في أنفسهم على قتالكم و لا نصير لهم من الأعراب ينصرهم، و هذا في نفسه بشرى للمؤمنين.
قوله تعالى: «سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا» «سنة الله» مفعول مطلق لفعل مقدر أي سن سنة الله أي هذه سنة قديمة له سبحانه أن يظهر أنبياءه و المؤمنين بهم إذا صدقوا في إيمانهم و أخلصوا نياتهم على أعدائهم من الذين كفروا و لن تجد لسنة الله تبديلا كما قال تعالى: «كتب الله لأغلبن أنا و رسلي»: المجادلة: 21.
و لم يصب المسلمون في شيء من غزواتهم إلا بما خالفوا الله و رسوله بعض المخالفة.
قوله تعالى: «و هو الذي كف أيديهم عنكم و أيديكم عنهم ببطن مكة من بعد أن أظفركم عليهم» إلخ، الظاهر أن المراد بكف أيدي كل من الطائفتين عن الأخرى ما وقع من الصلح بين الفئتين بالحديبية و هي بطن مكة لقربها منها و اتصالها بها حتى قيل إن بعض أراضيها من الحرم و ذلك أن كلا من الفئتين كانت أعدى عدو للأخرى و قد اهتمت قريش بجمع المجموع من أنفسهم و من الأحابيش، و بايع المؤمنون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يقاتلوا، و عزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أن يناجز القوم، و قد أظفر الله النبي و الذين آمنوا على الكفار حيث دخلوا أرضهم و ركزوا أقدامهم في عقر دارهم فلم يكن ليتوهم بينهم إلا القتال لكن الله سبحانه كف أيدي الكفار عن المؤمنين و أيدي المؤمنين عن الكفار بعد إظفار المؤمنين عليهم و كان الله بما يعملون بصيرا.
قوله تعالى: «هم الذين كفروا و صدوكم عن المسجد الحرام و الهدي معكوفا أن يبلغ محله» العكوف على أمر هو الإقامة عليه، و المعكوف - كما في المجمع - الممنوع من الذهاب إلى جهة بالإقامة في مكانه، و منه الاعتكاف و هو الإقامة في المسجد للعبادة.
و المعنى: المشركون مشركوا مكة هم الذين كفروا و منعوكم عن المسجد الحرام و منعوا الهدي - الذي سقتموه - حال كونه محبوسا من أن يبلغ محله أي الموضع الذي ينحر أو يذبح فيه و هو مكة التي ينحر أو يذبح فيها هدي العمرة كما أن هدي الحج ينحر أو يذبح في منى، و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من معه من المؤمنين محرمين للعمرة ساقوا هديا لذلك.
قوله تعالى: «و لو لا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم» الوطء الدوس، و المعرة المكروه، و قوله: «أن تطئوهم» بدل اشتمال من مدخول لو لا، و جواب لو لا محذوف، و التقدير: ما كف أيديكم عنهم.
و المعنى: و لو لا أن تدوسوا رجالا مؤمنين و نساء مؤمنات بمكة و أنتم جاهلون بهم لا تعلمون فتصيبكم من قتلهم و إهلاكهم مكروه لما كف الله أيديكم عنهم.
و قوله: «ليدخل الله في رحمته من يشاء» اللام متعلق بمحذوف، و التقدير: و لكن كف أيديكم عنهم ليدخل في رحمته أولئك المؤمنين و المؤمنات غير المتميزين بسلامتهم من القتل و إياكم بحفظكم من أصابه المعرة.
و قيل: المعنى: ليدخل في رحمته من أسلم من الكفار بعد الصلح.
و قوله: «لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما» التزيل التفرق و ضمير «تزيلوا» لجميع من تقدم ذكره من المؤمنين و الكفار من أهل مكة أي لو تفرقوا بأن يمتاز المؤمنون من الكفار لعذبنا الذين كفروا من أهل مكة عذابا أليما لكن لم نعذبهم لحرمة من اختلط بهم من المؤمنين.
قوله تعالى: «إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية» إلى آخر الآية قال الراغب: و عبر عن القوة الغضبية إذا ثارت و كثرت بالحمية فيقال: حميت على فلان أي غضبت عليه قال تعالى: «حمية الجاهلية» و عن ذلك استعير قولهم: حميت المكان حمى انتهى.
و الظرف في قوله: «إذ جعل» متعلق بقوله سابقا: «و صدوكم» و قيل: متعلق بقوله: «لعذبنا» و قيل: متعلق باذكر المقدر، و الجعل بمعنى الإلقاء و «الذين كفروا» فاعله و الحمية مفعوله و «حمية الجاهلية» بيان للحمية و الجاهلية وصف موضوع في موضع الموصوف و التقدير الملة الجاهلية.
و لو كان «جعل» بمعنى صير كان مفعوله الثاني مقدرا و التقدير إذ جعل الذين كفروا الحمية راسخة في قلوبهم و وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: «جعل الذين كفروا» للدلالة على سبب الحكم.
و معنى الآية: هم الذين كفروا و صدوكم إذ ألقوا في قلوبهم الحمية حمية الملة الجاهلية.
و قوله: «فأنزل الله سكينته على رسوله و على المؤمنين» تفريع على قوله: «جعل الذين كفروا» و يفيد نوعا من المقابلة كأنه قيل: جعلوا في قلوبهم الحمية فقابله الله سبحانه بإنزال السكينة على رسوله و على المؤمنين فاطمأنت قلوبهم و لم يستخفهم الطيش و أظهروا السكينة و الوقار من غير أن يستفزهم الجهالة.
و قوله: «و ألزمهم كلمة التقوى» أي جعلها معهم لا تنفك عنهم، و هي على ما اختاره جمهور المفسرين كلمة التوحيد و قيل: المراد الثبات على العهد و الوفاء به و قيل: المراد بها السكينة و قيل: قولهم: بلى في عالم الذر، و هو أسخف الأقوال.
و لا يبعد أن يراد بها روح الإيمان التي تأمر بالتقوى كما قال تعالى: «أولئك كتب في قلوبهم الإيمان و أيدهم بروح منه»: المجادلة: 22، و قد أطلق الله الكلمة على الروح في قوله: «و كلمته ألقاها إلى مريم و روح منه»: النساء: 171.
و قوله: «و كانوا أحق بها و أهلها» أما كونهم أحق بها فلتمام استعدادهم لتلقي هذه العطية الإلهية بما عملوا من الصالحات فهم أحق بها من غيرهم، و أما كونهم أهلها فلأنهم مختصون بها لا توجد في غيرهم و أهل الشيء خاصته.
و قيل: المراد و كانوا أحق بالكسينة و أهلها، و قيل: إن في الكلام تقديما و تأخيرا و الأصل و كانوا أهلها و أحق بها و هو كما ترى.
و قوله: «و كان الله بكل شيء عليما» تذييل لقوله: «و كانوا أحق بها و أهلها» أو لجميع ما تقدم، و المعنى على الوجهين ظاهر.
قوله تعالى: «لقد صدق الله رسوله الرؤيا بالحق لتدخلن المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون» الخ، قيل: إن صدق و كذب مخففين يتعديان إلى مفعولين يقال: صدقت زيدا الحديث و كذبته الحديث، و إلى المفعول الثاني بفي يقال: صدقته في الحديث و كذبته فيه، و مثقلين يتعديان إلى مفعول واحد يقال: صدقته في حديثه و كذبته في حديثه.
و اللام في «لقد صدق الله» للقسم، و قوله: «لتدخلن المسجد الحرام» جواب القسم.
و قوله: «بالحق» حال من الرؤيا و الباء فيه للملابسة، و التعليق بالمشية في قوله: «إن شاء الله» لتعليم العباد و المعنى: أقسم لقد صدق الله رسوله في الرؤيا التي أراه لتدخلن أيها المؤمنون المسجد الحرام إن شاء الله حال كونكم آمنين من شر المشركين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون المشركين.
و قوله: «فعلم ما لم تعلموا فجعل من دون ذلك فتحا قريبا» «ذلك» إشارة إلى ما تقدم من دخولهم المسجد الحرام آمنين، و المراد بقوله: «من دون ذلك» أقرب من ذلك و المعنى: فعلم تعالى من المصلحة في دخولكم المسجد الحرام آمنين ما جهلتموه و لم تعلموه، و لذلك جعل قبل دخولكم كذلك فتحا قريبا ليتيسر لكم الدخول كذلك.
و من هنا يظهر أن المراد بالفتح القريب في هذه الآية فتح الحديبية فهو الذي سوى للمؤمنين الطريق لدخول المسجد الحرام آمنين و يسر لهم ذلك و لو لا ذلك لم يمكن لهم الدخول فيه إلا بالقتال و سفك الدماء و لا عمرة مع ذلك لكن صلح الحديبية و ما اشترط من شرط أمكنهم من دخول المسجد معتمرين في العام القابل.
و من هنا تعرف أن قول بعضهم: إن المراد بالفتح القريب في الآية فتح خيبر بعيد من السياق، و أما القول بأنه فتح مكة فأبعد.
و سياق الآية يعطي أن المراد بها إزالة الريب عن بعض من كان مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن المؤمنين كانوا يزعمون من رؤيا رآها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من دخولهم المسجد آمنين محلقين رءوسهم و مقصرين، أنهم سيدخلونه كذلك في عامهم ذلك فلما خرجوا قاصدين مكة معتمرين فاعترضهم المشركون بالحديبية و صدوهم عن المسجد الحرام ارتاب بعضهم في الرؤيا فأزال الله ريبهم بما في الآية.
و محصله: أن الرؤيا حقة أراها الله نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد صدق تعالى في ذلك، و ستدخلون المسجد الحرام إن شاء الله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون، لكنه تعالى أخره و قدم عليه هذا الفتح و هو صلح الحديبية ليتيسر لكم دخوله لعلمه تعالى بأنه لا يمكن لكم دخوله آمنين محلقين رءوسكم و مقصرين لا تخافون إلا بهذا الطريق.
قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله» إلخ، تقدم تفسيره في سورة التوبة الآية 33، و قوله: «و كفى بالله شهيدا» أي شاهدا على صدق نبوته و الوعد إن دينه سيظهر على الدين كله أو على أن رؤياه صادقة، فالجملة تذييل ناظر إلى نفس الآية أو الآية السابقة.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين» الآية: أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن سلمة بن الأكوع قال: بينا نحن قائلون إذ نادى منادي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيها الناس البيعة البيعة نزل روح القدس، فثرنا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تحت شجرة سمرة فبايعناه فذلك قول الله تعالى: «لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة» فبايع لعثمان إحدى يديه على الأخرى فقال الناس هنيئا لابن عفان يطوف بالبيت و نحن هاهنا. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لو مكث كذا و كذا سنة ما طاف حتى أطوف.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و مسلم و ابن مردويه عن مغفل بن يسار قال: لقد رأيتني يوم الشجرة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يبايع الناس و أنا رافع غصنا من أغصانها عن رأسه و نحن أربع عشرة مائة و لم نبايعه على الموت و لكن بايعناه على أن لا نفر.
أقول: كون المؤمنين يومئذ أربع عشرة مائة مروي في روايات أخرى، و في بعض الروايات ألف و ثلاثمائة و في بعضها إلى ألف و ثمان مائة، و كذا كون البيعة على أن لا يفروا و في بعضها على الموت.
و فيه، أخرج أحمد عن جابر و مسلم عن أم بشر عنه عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يدخل النار أحد ممن بايع تحت الشجرة.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله تعالى: «فعلم ما في قلوبهم - فأنزل السكينة عليهم» قال: إنما أنزلت السكينة على من علم منه الوفاء.
أقول: و الرواية تخصص ما تقدم عليها و يدل عليه قوله تعالى فيما تقدم: «إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث على نفسه و من أوفى بما عاهد عليه الله فسيؤتيه أجرا عظيما» فاشترط في الأجر - و يلازمه الاشتراط في الرضا - الوفاء و عدم النكث، و قد أورد القمي هذا المعنى في تفسيره و كأنه رواية.
و في الدر المنثور، أيضا: في قوله تعالى: «إذ جعل الذين كفروا» الآية: أخرج ابن أبي شيبة و أحمد و البخاري و مسلم و النسائي و ابن جرير و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن سهل بن حنيف أنه قال يوم صفين: اتهموا أنفسكم فلقد رأيتنا يوم الحديبية نرجىء الصلح الذي كان بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين المشركين و لو نرى قتالا لقاتلنا. فجاء عمر إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله أ لسنا على الحق و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى. قال: ففيم نعطي الدنية في ديننا؟ و نرجع و لما يحكم الله بيننا و بينهم؟ قال: يا ابن الخطاب إني رسول الله و لن يضيعني الله أبدا. فرجع متغيظا فلم يصبر حتى جاء أبا بكر فقال: يا أبا بكر أ لسنا على الحق و هم على الباطل؟ قال: بلى. قال: أ ليس قتلانا في الجنة و قتلاهم في النار؟ قال: بلى قال: فلم نعطي الدنية في ديننا؟ قال: يا ابن الخطاب إنه رسول الله و لن يضيعه الله أبدا فنزلت سورة الفتح فأرسل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عمر فأقرأه إياها فقال: يا رسول الله أ و فتح هو؟ قال: نعم.
و في كمال الدين، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما» قال: لو أخرج الله ما في أصلاب المؤمنين من الكافرين و ما في أصلاب الكافرين من المؤمنين لعذبنا الذين كفروا.
أقول: و هذا المعنى مروي في روايات أخر.
و بإسناده عن جميل قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قوله تعالى: «و ألزمهم كلمة التقوى» قال: هو الإيمان.
و في الدر المنثور، أخرج الترمذي و عبد الله بن أحمد في زوائد المسند و ابن جرير و الدارقطني في الإفراد و ابن مردويه و البيهقي في الأسماء و الصفات عن أبي بن كعب عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و ألزمهم كلمة التقوى» قال: لا إله إلا الله.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا بطرق أخرى عن علي و سلمة بن الأكوع و أبي هريرة، و روي أيضا من طرق الشيعة كما في العلل، بإسناده عن الحسن بن عبد الله عن آبائه عن جده الحسن بن علي (عليهما السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث يفسر فيه «سبحان الله و الحمد لله و لا إله إلا الله و الله أكبر» قال (صلى الله عليه وآله وسلم): و قوله: لا إله إلا الله يعني وحدانيته لا يقبل الله الأعمال إلا بها، و هي كلمة التقوى يثقل الله بها الموازين يوم القيامة.
و في المجمع، في قصة فتح خيبر قال: و لما قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة ثم خرج منها غاديا إلى خيبر.
ذكر ابن إسحاق بإسناده إلى أبي مروان الأسلمي عن أبيه عن جده قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر حتى إذا كنا قريبا منها و أشرفنا عليها قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قفوا فوقف الناس فقال اللهم رب السماوات السبع و ما أظللن و رب الأرضين السبع و ما أقللن و رب الشياطين و ما أضللن إنا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها و نعوذ بك من شر هذه القرية و شر أهلها و شر ما فيها. أقدموا بسم الله.
و عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى خيبر فسرنا ليلا فقال رجل من القوم لعامر بن الأكوع: أ لا تسمعنا من هنيهاتك و كان عامر رجلا شاعرا فجعل يقول: لا هم لو لا أنت ما حجينا و لا تصدقنا و لا صلينا فاغفر فداء لك ما اقتنينا و ثبت الأقدام إن لاقينا و أنزلن سكينة علينا إنا إذا صيح بنا أتينا و بالصياح عولوا علينا فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من هذا السائق؟ قالوا: عامر. قال: يرحمه الله. قال عمر و هو على جمل له وجيب: يا رسول الله لو لا أمتعتنا به، و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما استغفر لرجل قط يخصه إلا استشهد. قالوا: فلما جد الحرب و تصاف القوم خرج يهودي و هو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب شاكي السلاح بطل مجرب إذا الحروب أقبلت تلهب فبرز إليه عامر و هو يقول: قد علمت خيبر أني عامر شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين فوقع سيف اليهودي في ترس عامر و كان سيف عامر فيه قصر فتناول به ساق اليهودي ليضربه فرجع ذباب سيفه فأصاب عين ركبة عامر فمات منه. قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه. قال: فأتيت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنا أبكي فقلت: قالوا: إن عامرا بطل عمله، فقال: من قال ذلك؟ قلت: نفر من أصحابك، فقال: كذب أولئك بل أوتي من الأجر مرتين. قال: فحاصرناهم حتى أصابنا مخمصة شديدة ثم إن الله فتحها علينا، و ذلك أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أعطى اللواء عمر بن الخطاب و نهض من نهض معه من الناس فلقوا أهل خيبر فانكشف عمر و أصحابه فرجعوا إلى رسول الله يجبنه أصحابه و يجبنهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذته الشقيقة فلم يخرج إلى الناس فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبر فقال: لأعطين الراية غدا رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله كرارا غير فرار لا يرجع حتى يفتح الله على يديه.
و روى البخاري و مسلم عن قتيبة بن سعيد قال: حدثنا يعقوب عن عبد الرحمن الإسكندراني عن أبي حازم قال: أخبرني سعد بن سهل: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال يوم خيبر: لأعطين هذه الراية غدا رجلا يفتح الله على يديه يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله. قال: فبات الناس يدوكون بجملتهم أنهم يعطاها؟ فلما أصبح الناس غدوا على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلهم يرجون أن يعطاها. فقال: أين علي بن أبي طالب؟ فقالوا: يا رسول الله هو يشتكي عينيه. قال: فأرسلوا إليه فأتي به فبصق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في عينيه فبرأ كأن لم يكن به وجع فأعطاه الراية، فقال علي: يا رسول الله أقاتلهم حتى يكونوا مثلنا. قال: أنفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ثم ادعهم إلى الإسلام و أخبرهم بما يجب عليهم من حق الله فوالله لأن يهدي الله بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون لك حمر النعم. قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول: قد علمت خيبر أني مرحب... الأبيات، فبرز له علي و هو يقول: أنا الذي سمتني أمي حيدرة كليث غابات كريه المنظرة أوفيهم بالصاع كيل السندرة فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله و كان الفتح على يده:. أورده مسلم في صحيحه. و روى أبو عبد الله الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: خرجنا مع علي حين بعثه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، فلما دنا من الحصن خرج إليه أهله فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده فتناول علي باب الحصن فتترس به عن نفسه فلم يزل في يده و هو يقاتل حتى فتح الله عليه ثم ألقاه من يده، فلقد رأيتني في نفر مع سبعة أنا ثامنهم نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.
و بإسناده عن ليث بن أبي سليم عن أبي جعفر محمد بن علي قال: حدثني جابر بن عبد الله: أن عليا حمل الباب يوم خيبر حتى صعد المسلمون عليه فاقتحموها، و أنه حرك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا:. قال: و روي من وجه آخر عن جابر: ثم اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.
و بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان علي يلبس في الحر و الشتاء القباء المحشو الثخين و ما يبالي الحر فأتاني أصحابي فقالوا: إنا رأينا من أمير المؤمنين شيئا فهل رأيت؟ فقلت: و ما هو؟ قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحر الشديد في القباء المحشو الثخين و ما يبالي الحر، و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين و ما يبالي البرد فهل سمعت في ذاك شيئا؟ فقلت: لا فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك فإنه يسمر معه فسألته فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على علي فسمر معه ثم سأله عن ذلك فقال: أ و ما شهدت خيبر؟ قلت: بلى. قال: أ فما رأيت رسول الله حين دعا أبا بكر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم ثم جاء بالناس و قد هزم ثم بعث إلى عمر فعقد له ثم بعثه إلى القوم فانطلق فلقي القوم فقاتلهم ثم رجع و قد هزم. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لأعطين الراية اليوم رجلا يحب الله و رسوله و يحبه الله و رسوله يفتح الله على يديه كرارا غير فرار فدعاني و أعطاني الراية ثم قال: اللهم اكفه الحر و البرد فما وجدت بعد ذلك حرا و لا بردا و هذا كله منقول من كتاب دلائل النبوة للإمام أبي بكر البيهقي.
قال الطبرسي: ثم لم يزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يفتح الحصون حصنا حصنا و يحوز الأموال حتى انتهوا إلى حصن الوطيح و السلالم و كان آخر حصون خيبر افتتح، و حاصرهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بضع عشرة ليلة.
قال ابن إسحاق: و لما افتتح القموص حصن أبي الحقيق أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بصفية بنت حيي بن أخطب و بأخرى معها فمر بهما بلال و هو الذي جاء بهما على قتلى من قتلى يهود فلما رأتهم التي معها صفية صاحت و صكت وجهها و حثت التراب على رأسها فلما رآها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أعزبوا عني هذه الشيطانة، و أمر بصفية فحيزت خلفه و ألقى عليها رداءه فعرف المسلمون أنه قد اصطفاها لنفسه، و قال لبلال لما رأى من تلك اليهودية ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال حيث تمر بامرأتين على قتلى رجالهما؟ و كانت صفية قد رأت في المنام و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق أن قمرا وقع في حجرها فعرضت رؤياها على زوجها فقال: ما هذا إلا أنك تتمنين ملك الحجاز محمدا و لطم وجهها لطمة اخضرت عينها منها فأتي بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بها أثر منها فسألها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما هو؟ فأخبرته. و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أنزل فأكلمك؟ قال: نعم. فنزل و صالح رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة و ترك الذرية لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم و يخلون بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين ما كان لهم من مال و أرض على الصفراء و البيضاء و الكراع و الخلقة و على البز إلا ثوبا على ظهر إنسان، و قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فبرئت منكم ذمة الله و ذمة رسوله إن كتمتموني شيئا فصالحوه على ذلك. فلما سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا بعثوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يسألونه أن يسيرهم و يحقن دماءهم و يخلون بينه و بين الأموال ففعل و كان ممن مشى بين رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و بينهم في ذلك محيصة بن مسعود أحد بني حارثة. فلما نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يعاملهم الأموال على النصف، و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها فصالحهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على النصف على أنا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم، و صالحه أهل فدك على مثل ذلك فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين و كانت فدك خالصة لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب. و لما اطمأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم و هي ابنة أخي مرحب شاة مصلية، و قد سألت أي عضو أحب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقيل لها: الذراع فأكثرت فيها السم و سمت سائر الشاة ثم جاءت بها فلما وضعتها بين يديه تناول الذراع فأخذها و لاك منها مضغة و انتهش منها و معه بشر بن البراء بن معرور فتناول عظما فانتهش منه فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ارفعوا أيديكم فإن كتف هذه الشاة يخبرني أنها مسمومة ثم دعاها فاعترفت فقال: ما حملك على ذلك؟ فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك فقلت: إن كان نبيا فسيخبر و إن كان ملكا استرحت منه فتجاوز عنها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مات بشر بن البراء من أكلته التي أكل. قال: و دخلت أم بشر بن البراء على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعوده في مرضه الذي توفي فيه فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أم بشر ما زالت أكلة خيبر التي أكلت بخيبر مع ابنك تعاودني فهذا أوان قطعت أبهري، و كان المسلمون يرون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مات شهيدا مع ما أكرمه الله به من النبوة.
|