بيان
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم و لا نساء من نساء عسى أن يكن خيرا منهن» إلخ، السخرية الاستهزاء و هو ذكر ما يستحقر و يستهان به الإنسان بقول أو إشارة أو فعل تقليدا بحيث يضحك منه بالطبع، و القوم الجماعة و هو في الأصل الرجال دون النساء لقيامهم بالأمور المهمة دونهن، و هذا المعنى هو المراد بالقوم في الآية بما قوبل بالنساء.
و قوله: «عسى أن يكونوا خيرا منهم» و «عسى أن يكن خيرا منهن» حكمة النهي.
و المستفاد من السياق أن الملاك رجاء كون المسخور منه خيرا عند الله من الساخر سواء كان الساخر رجلا أو امرأة و كذا المسخور منه فتخصيص النهي في اللفظ بسخرية القوم من القوم و سخرية النساء من النساء لمكان الغلبة عادة.
و قوله: «و لا تلمزوا أنفسكم» اللمز - على ما قيل - التنبيه على المعايب، و تعليق اللمز بقوله: «أنفسكم» للإشارة إلى أنهم مجتمع واحد بعضهم من بعض فلمز الواحد منهم غيره في الحقيقة لمز نفسه فليجتنب من أن يلمز غيره كما يكره أن يلمزه غيره، ففي قوله: «أنفسكم» إشارة إلى حكمة النهي.
و قوله: «و لا تنابزوا بالألقاب بئس الاسم الفسوق بعد الإيمان» النبز بالتحريك هو اللقب، و يختص - على ما قيل - بما يدل على ذم فالتنابز بالألقاب ذكر بعضهم بعضا بلقب السوء مما يكرهه كالفاسق و السفيه و نحو ذلك.
و المراد بالاسم في «بئس الاسم الفسوق» الذكر كما يقال: شاع اسم فلان بالسخاء و الجود، و على هذا فالمعنى: بئس الذكر ذكر الناس - بعد إيمانهم - بالفسوق فإن الحري بالمؤمن بما هو مؤمن أن يذكر بالخير و لا يطعن فيه بما يسوؤه نحو يا من أبوه كان كذا و يا من أمه كانت كذا.
و يمكن أن يكون المراد بالاسم السمة و العلامة و المعنى: بئست السمة أن يوسم الإنسان بعد الإيمان بالفسوق بأن يذكر بسمة السوء كان يقال لمن اقترف معصية ثم تاب: يا صاحب المعصية الفلانية، أو المعنى: بئس الاسم أن يسم الإنسان نفسه بالفسوق بذكر الناس بما يسوءهم من الألقاب، و على أي معنى كان ففي الجملة إشارة إلى حكمة النهي.
و قوله: «و من لم يتب فأولئك هم الظالمون» أي و من لم يتب عن هذه المعاصي التي يقترفها بعد ورود النهي فلم يندم عليها و لم يرجع إلى الله سبحانه بتركها فأولئك ظالمون حقا فإنهم لا يرون بها بأسا و قد عدها الله معاصي و نهى عنها.
و في الجملة أعني قوله: «و من لم يتب» إلخ، إشعار بأن هناك من كان يقترف هذه المعاصي من المؤمنين.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اجتنبوا كثيرا من الظن إن بعض الظن إثم» إلى آخر الآية المراد بالظن المأمور بالاجتناب عنه ظن السوء فإن ظن الخير مندوب إليه كما يستفاد من قوله تعالى: «لو لا إذ سمعتموه ظن المؤمنون و المؤمنات بأنفسهم خيرا»: النور: 12.
و المراد بالاجتناب عن الظن الاجتناب عن ترتيب الأثر عليه كان يظن بأخيه المؤمن سوء فيرميه به و يذكره لغيره و يرتب عليه سائر آثاره، و أما نفس الظن بما هو نوع من الإدراك النفساني فهو أمر يفاجىء النفس لا عن اختيار فلا يتعلق به النهي اللهم إلا إذا كان بعض مقدماته اختياريا.
و على هذا فكون بعض الظن إثما من حيث كون ما يترتب عليه من الأثر إثما كإهانة المظنون به و قذفه و غير ذلك من الآثار السيئة المحرمة، و المراد بكثير من الظن - و قد جيء به نكرة ليدل على كثرته في نفسه لا بالقياس إلى سائر أفراد الظن - هو بعض الظن الذي هو إثم فهو كثير في نفسه و بعض من مطلق الظن، و لو أريد بكثير من الظن أعم من ذلك كأن يراد ما يعلم أن فيه إثما و ما لا يعلم منه ذلك كان الأمر بالاجتناب عنه أمرا احتياطيا توقيا من الوقوع في الإثم.
و قوله: «و لا تجسسوا» التجسس بالجيم تتبع ما استتر من أمور الناس للاطلاع عليها، و مثله التحسس بالحاء المهملة إلا أن التجسس بالجيم يستعمل في الشر و التحسس بالحاء يستعمل في الخير، و لذا قيل: معنى الآية لا تتبعوا عيوب المسلمين لتهتكوا الأمور التي سترها أهلها.
و قوله: «و لا يغتب بعضكم بعضا أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» الغيبة على ما في مجمع البيان ذكر العيب بظهر الغيب على وجه يمنع الحكمة منه، و قد فسرت بتفاسير مختلفة حسب الاختلاف في مصاديقها سعة و ضيقا في الفقه، و يئول إلى أن يذكر من الإنسان في ظهر الغيب ما يسوءه لو ذكر به و لذا لم يعدوا من الغيبة ذكر المتجاهر بالفسق بما تجاهر به.
و الغيبة تفسد أجزاء المجتمع واحدا بعد واحد فتسقطها عن صلاحية التأثير الصالح المرجو من الاجتماع و هو أن يخالط كل صاحبه و يمازجه في أمن و سلامة بأن يعرفه إنسانا عدلا سويا يأنس به و لا يكرهه و لا يستقذره، و أما إذا عرفه بما يكرهه و يعيبه به انقطع عنه بمقدار ذلك و ضعفت رابطة الاجتماع فهي كالأكلة التي تأكل جثمان من ابتلي بها عضوا بعد عضو حتى تنتهي إلى بطلان الحياة.
و الإنسان إنما يعقد المجتمع ليعيش فيه بهوية اجتماعية أعني بمنزلة اجتماعية صالحة لأن يخالطه و يمازج فيفيد و يستفاد منه، و غيبته بذكر عيبه لغيره تسقطه عن هذه المنزلة و تبطل منه هذه الهوية، و فيه تنقيص واحد من عدد المجتمع الصالح و لا يزال ينتقص بشيوع الغيبة حتى يأتي على آخره فيتبدل الصلاح فسادا و يذهب الأنس و الأمن و الاعتماد و ينقلب الدواء داء.
فهي في الحقيقة إبطال هوية اجتماعية على حين غفلة من صاحبها و من حيث لا يشعر به، و لو علم بذلك على ما فيه من المخاطرة لتحرز منه و توقى انهتاك ستره و هو الستر ألقاه الله سبحانه على عيوب الإنسان و نواقصه ليتم به ما أراده من طريق الفطرة من تألف أفراد الإنسان و تجمعهم و تعاونهم و تعاضدهم، و أين الإنسان و النزاهة من كل عيب.
و إلى هذه الحقيقة أشار تعالى فيما ذكره من التمثيل بقوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا فكرهتموه» و قد أتي بالاستفهام الإنكاري و نسب الحب المنفي إلى أحدهم و لم يقل: بعضكم و نحو ذلك ليكون النفي أوضح استيعابا و شمولا و لذا أكده بقوله بعد: «فكرهتموه» فنسب الكراهة إلى الجميع و لم يقل: فكرهه.
و بالجملة محصله أن اغتياب المؤمن بمنزلة أن يأكل الإنسان لحم أخيه حال كونه ميتا، و إنما كان لحم أخيه لأنه من أفراد المجتمع الإسلامي المؤلف من المؤمنين و إنما المؤمنون إخوة، و إنما كان ميتا لأنه لغيبته غافل لا يشعر بما يقال فيه.
و في قوله: «فكرهتموه» و لم يقل: فتكرهونه إشعار بأن الكراهة أمر ثابت محقق منكم في أن تأكلوا إنسانا هو أخوكم و هو ميت فكما أن هذا مكروه لكم فليكن مكروها لكم اغتياب أخيكم المؤمن بظهر الغيب فإنه في معنى أكل أحدكم أخاه ميتا.
و اعلم أن ما في قوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل» إلخ، من التعليل جار في التجسس أيضا كالغيبة، و إنما الفرق أن الغيبة هو إظهار عيب الغير للغير أو التوصل إلى الظهور عليه من طريق نقل الغير، و التجسس هو التوصل إلى العلم بعيب الغير من طريق تتبع آثاره و لذلك لم يبعد أن يكون الجملة أعني قوله: «أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا» إلخ، تعليلا لكل من الجملتين أعني «و لا تجسسوا و لا يغتب بعضكم بعضا».
و اعلم أن في الكلام إشعارا أو دلالة على اقتصار الحرمة في غيبة المسلمين، و من القرينة عليه قوله في التعليل: «لحم أخيه» فالأخوة إنما هي بين المؤمنين.
و قوله: «و اتقوا الله إن الله تواب رحيم» ظاهره أنه عطف على قوله: «اجتنبوا كثيرا من الظن» إن كان المراد بالتقوى هو التجنب عن هذه الذنوب التي كانوا يقترفونها بالتوبة إلى الله سبحانه فالمراد بقوله: «إن الله تواب رحيم» أن الله كثير القبول للتوبة رحيم بعباده التائبين إليه اللائذين به.
و إن كان هو التجنب عنها و التورع فيها و إن لم يكونوا يقترفونها فالمراد بقوله: «إن الله تواب رحيم» أن الله كثير الرجوع إلى عباده المتقين بالهداية و التوفيق و الحفظ عن الوقوع في مهالك الشقوة رحيم بهم.
و ذلك أن التوبة من الله توبتان: توبة قبل توبة العبد بالرجوع إليه بالتوفيق للتوبة كما قال تعالى: «ثم تاب عليهم ليتوبوا»: التوبة: 118، و توبة بعد توبة العبد بالرجوع إليه بالمغفرة و قبول التوبة كما في قوله: «فمن تاب من بعد ظلمه و أصلح فإن الله يتوب عليه»: المائدة: 39.
قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم» إلخ، الشعوب جمع شعب بالكسر فالسكون و هو على ما في المجمع الحي العظيم من الناس كربيعة و مضر، و القبائل جمع قبيلة و هي دون الشعب كتميم من مضر.
و قيل: الشعوب دون القبائل و سميت بها لتشعبها، قال الراغب: الشعب القبيلة المنشعبة من حي واحد، و جمعه شعوب، قال تعالى: «شعوبا و قبائل» و الشعب من الوادي ما اجتمع منه طرف و تفرق طرف فإذا نظرت إليه من الجانب الذي تفرق أخذت في وهمك واحدا يتفرق، و إذا نظرت من جانب الاجتماع أخذت في وهمك اثنين اجتمعا فلذلك قيل: شعبت إذا جمعت، و شعبت إذا فرقت.
انتهى.
و قيل: الشعوب العجم و القبائل العرب، و الظاهر أن مآله إلى أحد القولين السابقين، و سيجيء تمام الكلام فيه.
ذكر المفسرون أن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب، و عليه فالمراد بقوله: «من ذكر و أنثى» آدم و حواء، و المعنى: أنا خلقناكم من أب و أم تشتركون جميعا فيهما من غير فرق بين الأبيض و الأسود و العربي و العجمي و جعلناكم شعوبا و قبائل مختلفة لا لكرامة لبعضكم على بعض بل لأن تتعارفوا فيعرف بعضكم بعضا و يتم بذلك أمرا اجتماعكم فيستقيم مواصلاتكم و معاملاتكم فلو فرض ارتفاع المعرفة من بين أفراد المجتمع انفصم عقد الاجتماع و بادت الإنسانية فهذا هو الغرض من جعل الشعوب و القبائل لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتباهوا بالآباء و الأمهات.
و قيل: المراد بالذكر و الأنثى مطلق الرجل و المرأة، و الآية مسوقة لإلغاء مطلق التفاضل بالطبقات كالأبيض و الأسود و العرب و العجم و الغني و الفقير و المولى و العبد و الرجل و المرأة، و المعنى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من رجل و امرأة فكل واحد منكم إنسان مولود من إنسانين لا تفترقون من هذه الجهة، و الاختلاف الحاصل بالشعوب و القبائل - و هو اختلاف راجع إلى الجعل الإلهي - ليس لكرامة و فضيلة و إنما هو لأن تتعارفوا فيتم بذلك اجتماعكم.
و اعترض عليه بأن الآية مسوقة لنفي التفاخر بالأنساب و ذمه كما يدل عليه قوله: «و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا» و ترتب هذا الغرض على هذا الوجه غير ظاهر، و يمكن أن يناقش فيه أن الاختلاف في الأنساب من مصاديق الاختلاف الطبقاتي و بناء هذا الوجه على كون الآية مسوقة لنفي مطلق الاختلاف الطبقاتي و كما يمكن نفي التفاخر بالأنساب و ذمه استنادا إلى أن الأنساب تنتهي إلى آدم و حواء و الناس جميعا مشتركون فيهما، كذلك يمكن نفيه و ذمه استنادا إلى أن كل إنسان مولود من إنسانين و الناس جميعا مشتركون في ذلك.
و الحق أن قوله: «و جعلناكم شعوبا و قبائل» إن كان ظاهرا في ذم التفاخر بالأنساب فأول الوجهين أوجه، و إلا فالثاني لكونه أعم و أشمل.
و قوله: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» استئناف مبين لما فيه الكرامة عند الله سبحانه، و ذلك أنه نبههم في صدر الآية على أن الناس بما هم ناس يساوي بعضهم بعضا لا اختلاف بينهم و لا فضل لأحدهم على غيره، و أن الاختلاف المترائي في الخلقة من حيث الشعوب و القبائل إنما هو للتوصل به إلى تعارفهم ليقوم به الاجتماع المنعقد بينهم إذ لا يتم ائتلاف و لا تعاون و تعاضد من غير تعرف فهذا هو غرض الخلقة من الاختلاف المجعول لا أن تتفاخروا بالأنساب و تتفاضلوا بأمثال البياض و السواد فيستعبد بذلك بعضهم بعضا و يستخدم إنسان إنسانا و يستعلي قوم على قوم فينجر إلى ظهور الفساد في البر و البحر و هلاك الحرث و النسل فينقلب الدواء داء.
ثم نبه سبحانه في ذيل الآية بهذه الجملة أعني قوله: «إن أكرمكم عند الله أتقاكم» على ما فيه الكرامة عنده، و هي حقيقة الكرامة.
و ذلك أن الإنسان مجبول على طلب ما يتميز به من غيره و يختص به من بين أقرانه من شرف و كرامة، و عامة الناس لتعلقهم بالحياة الدنيا يرون الشرف و الكرامة في مزايا الحياة المادية من مال و جمال و نسب و حسب و غير ذلك فيبذلون جل جهدهم في طلبها و اقتنائها ليتفاخروا بها و يستعلوا على غيرهم.
و هذه مزايا وهمية لا تجلب لهم شيئا من الشرف و الكرامة دون أن توقعهم في مهابط الهلكة و الشقوة، و الشرف الحقيقي هو الذي يؤدي الإنسان إلى سعادته الحقيقية و هو الحياة الطيبة الأبدية في جوار رب العزة و هذا الشرف و الكرامة هو بتقوى الله سبحانه و هي الوسيلة الوحيدة إلى سعادة الدار الآخرة، و تتبعها سعادة الدنيا قال تعالى: «تريدون عرض الدنيا و الله يريد الآخرة»: الأنفال: 67، و قال: «و تزودوا فإن خير الزاد التقوى»: البقرة: 197، و إذا كانت الكرامة بالتقوى فأكرم الناس عند الله أتقاهم كما قال تعالى.
و هذه البغية و الغاية التي اختارها الله بعلمه غاية للناس لا تزاحم فيها و لا تدافع بين المتلبسين بها على خلاف الغايات و الكرامات التي يتخذها الناس بحسب أوهامهم غايات يتوجهون إليها و يتباهون بها كالغنى و الرئاسة و الجمال و انتشار الصيت و كذا الأنساب و غيرها.
و قوله: «إن الله عليم خبير» فيه تأكيد لمضمون الآية و تلويح إلى أن الذي اختاره الله كرامة للناس كرامة حقيقية اختارها الله بعلمه و خبرته بخلاف ما اختاره الناس كرامة و شرفا لأنفسهم فإنها وهمية باطلة فإنها جميعا من زينة الحياة الدنيا قال تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان لو كانوا يعلمون»: العنكبوت: 64.
و في الآية دلالة على أن من الواجب على الناس أن يتبعوا في غايات الحياة أمر ربهم و يختاروا ما يختاره و يهدي إليه و قد اختار لهم التقوى كما أن من الواجب عليهم أن يختاروا من سنن الحياة ما يختاره لهم من الدين.
قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا و لكن قولوا أسلمنا و لما يدخل الإيمان في قلوبكم» إلخ الآية و ما يليها إلى آخر السورة متعرضة لحال الأعراب في دعواهم الإيمان و منهم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإيمانهم، و سياق نقل قولهم و أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيبهم بقوله: «لم تؤمنوا» يدل على أن المراد بالأعراب بعض الأعراب البادين دون جميعهم، و يؤيده قوله: «و من الأعراب من يؤمن بالله و اليوم الآخر»: التوبة: 99.
و قوله: «قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا» أي قالوا لك آمنا و ادعوا الإيمان قل لم تؤمنوا و كذبهم في دعواهم، و قوله: «و لكن قولوا أسلمنا» استدراك مما يدل عليه سابق الكلام، و التقدير: فلا تقولوا آمنا و لكن قولوا: أسلمنا.
و قوله: «و لما يدخل الإيمان في قلوبكم» لنفي دخول الإيمان في قلوبهم مع انتظار دخوله، و لذلك لم يكن تكرارا لنفي الإيمان المدلول عليه بقوله: «لم تؤمنوا».
و قد نفي في الآية الإيمان عنهم و أوضحه بأنه لم يدخل في قلوبهم بعد و أثبت لهم الإسلام، و يظهر به الفرق بين الإيمان و الإسلام بأن الإيمان معنى قائم بالقلب من قبيل الاعتقاد، و الإسلام أمر قائم باللسان و الجوارح فإنه الاستسلام و الخضوع لسانا بالشهادة على التوحيد و النبوة و عملا بالمتابعة العملية ظاهرا سواء قارن الاعتقاد بحقية ما شهد عليه و عمل به أو لم يقارن، و بظاهر الشهادتين تحقن الدماء و عليه تجري المناكح و المواريث.
و قوله: «و إن تطيعوا الله و رسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئا» الليت النقص يقال: لاته يليته ليتا إذا نقصه، و المراد بالإطاعة الإخلاص فيها بموافقة الباطن للظاهر من غير نفاق، و طاعة الله استجابة ما دعا إليه من اعتقاد و عمل، و طاعة رسوله تصديقه و اتباعه فيما يأمر به فيما له الولاية عليه من أمور الأمة، و المراد بالأعمال جزاؤها المراد بنقص الأعمال نقص جزائها.
و المعنى: و إن تطيعوا الله فيما يأمركم به من اتباع دينه اعتقادا، و تطيعوا الرسول فيما يأمركم به لا ينقص من أجور أعمالكم شيئا، و قوله: «إن الله غفور رحيم» تعليل لعدم نقصه تعالى أعمالهم إن أطاعوه و رسوله.
قوله تعالى: «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله ثم لم يرتابوا و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون» تعريف تفصيلي للمؤمنين بعد ما عرفوا إجمالا بأنهم الذين دخل الإيمان في قلوبهم كما هو لازم قوله: «لم تؤمنوا» و «لما يدخل الإيمان في قلوبكم».
فقوله: «إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله و رسوله» فيه قصر المؤمنين في الذين آمنوا بالله و رسوله إلخ، فتفيد تعريفهم بما ذكر من الأوصاف تعريفا جامعا مانعا فمن اتصف بها مؤمن حقا كما أن من فقد شيئا منها ليس بمؤمن حقا.
و الإيمان بالله و رسوله عقد القلب على توحيده تعالى و حقية ما أرسل به رسوله و على صحة الرسالة و اتباع الرسول فيما يأمر به.
و قوله: «ثم لم يرتابوا» أي لم يشكوا في حقية ما آمنوا به و كان إيمانهم ثابتا مستقرا لا يزلزله شك، و التعبير بثم دون الواو - كما قيل - للدلالة على انتفاء عروض الريب حينا بعد حين كأنه طري جديد دائما فيفيد ثبوت الإيمان على استحكامه الأولى و لو قيل: و لم يرتابوا كان من الجائز أن يصدق مع الإيمان أولا مقارنا لعدم الارتياب مع السكوت عما بعد.
و قوله: «و جاهدوا بأموالهم و أنفسهم في سبيل الله» المجاهدة بذل الجهد و الطاقة و سبيل الله دينه، و المراد بالمجاهدة بالأموال و الأنفس العمل بما تسعه الاستطاعة و تبلغه الطاقة في التكاليف المالية كالزكاة و غير ذلك من الإنفاقات الواجبة، و التكاليف البدنية كالصلاة و الصوم و الحج و غير ذلك.
و المعنى: و يجدون بإتيان التكاليف المالية و البدنية حال كونهم أو حال كون عملهم في دين الله و سبيله.
و قوله: «أولئك هم الصادقون» تصديق في إيمانهم إذا كانوا على الصفات المذكورة.
قوله تعالى: «قل أ تعلمون الله بدينكم و الله يعلم ما في السماوات و ما في الأرض و الله بكل شيء عليم» توبيخ للأعراب حيث قالوا: آمنا و لازمه دعوى الصدق في قولهم و الإصرار على ذلك، و قيل: لما نزلت الآية السابقة حلفت الأعراب أنهم مؤمنون صادقون في قولهم: آمنا، فنزل: «قل أ تعلمون الله بدينكم» الآية، و معنى الآية ظاهر.
قوله تعالى: «يمنون عليك أن أسلموا قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين» أي يمنون عليك بأن أسلموا و قد أخطئوا في منهم هذا من وجهين أحدهما أن حقيقة النعمة التي فيها المن هو الإيمان الذي هو مفتاح سعادة الدنيا و الآخرة دون الإسلام الذي له فوائد صورية من حقن الدماء و جواز المناكح و المواريث، و ثانيهما أن ليس للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمر الدين إلا أنه رسول مأمور بالتبليغ فلا من عليه لأحد ممن أسلم.
فلو كان هناك من لكان لهم على الله سبحانه لأن الدين دينه لكن لا من لأحد على الله لأن المنتفع بالدين في الدنيا و الآخرة هم المؤمنون دون الله الغني على الإطلاق فالمن لله عليهم أن هداهم له.
و قد بدل ثانيا الإسلام من الإيمان للإشارة إلى أن المن إنما هو بالإيمان دون الإسلام الذي إنما ينفعهم في الظاهر فقط.
فقد تضمن قوله: «قل لا تمنوا علي إسلامكم بل الله يمن» إلخ، الإشارة إلى خطئهم من الجهتين جميعا: إحداهما: خطئهم من جهة توجيه المن إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو رسول ليس له من الأمر شيء، و إليه الإشارة بقوله: «لا تمنوا علي إسلامكم».
و ثانيهما: أن المن - لو كان هناك من - إنما هو بالإيمان دون الإسلام، و إليه الإشارة بتبديل الإسلام من الإيمان.
قوله تعالى: «إن الله يعلم غيب السماوات و الأرض و الله بصير بما تعملون» ختم للسورة و تأكيد يعلل و يؤكد به جميع ما تقدم في السورة من النواهي و الأوامر و ما بين فيها من الحقائق و ما أخبر فيها عن إيمان قوم و عدم إيمان آخرين فالآية تعلل بمضمونها جميع ذلك.
و المراد بغيب السماوات و الأرض ما فيها من الغيب أو الأعم مما فيهما و من الخارج منهما.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن مقاتل في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا - لا يسخر قوم من قوم» قال: نزلت في قوم من بني تميم استهزءوا من بلال و سلمان و عمار و خباب و صهيب و ابن فهيرة و سالم مولى أبي حذيفة. و في المجمع،: نزل قوله: «لا يسخر قوم من قوم» في ثابت بن قيس بن شماس و كان في أذنه وقر و كان إذا دخل المسجد تفسحوا له حتى يقعد عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسمع ما يقول. فدخل المسجد يوما و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم فجعل يتخطى رقاب الناس و يقول: تفسحوا تفسحوا حتى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس فجلس خلفه مغضبا فلما انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال الرجل: أنا فلان فقال ثابت: ابن فلانة ذكر أما له كان يعير بها في الجاهلية فنكس الرجل رأسه حياء فنزلت الآية.: عن ابن عباس. و فيه،: و قوله: «و لا نساء من نساء» نزل في نساء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سخرن من أم سلمة.: عن أنس.: و ذلك أنها ربطت حقويها بسبيبة و هي ثوب أبيض و سدلت طرفيها خلفها فكانت تجره فقالت عائشة لحفصة: انظري ما ذا تجر خلفها كأنه لسان كلب فهذه كانت سخريتهما، و قيل: إنها عيرتها بالقصر، و أشارت بيدها أنها قصيرة.: عن الحسن. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و البخاري في الأدب، و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و أبو يعلى و ابن جرير و ابن المنذر و البغوي في معجمه، و ابن حبان و الشيرازي في الألقاب، و الطبراني و ابن السني في عمل اليوم و الليلة، و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان، عن أبي جبيرة بن الضحاك قال: فينا نزلت في بني سلمة «و لا تنابزوا بالألقاب» قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة و ليس فينا رجل إلا و له اسمان أو ثلاثة فكان إذا دعا أحدهم باسم من تلك الأسماء قالوا: يا رسول الله إنه يكره هذا الاسم فأنزل الله «و لا تنابزوا بالألقاب». و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: أن سلمان الفارسي كان مع رجلين في سفر يخدمهما و ينال من طعامهما و أن سلمان نام نوما فطلبه صاحباه فلم يجداه فضربا الخباء و قالا ما يريد سلمان شيئا غير هذا أن يجيء إلى طعام معدود و خباء مضروب فلما جاء سلمان أرسلاه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يطلب لهما إداما فانطلق فأتاه فقال: يا رسول الله بعثني أصحابي لتؤدمهم إن كان عندك. قال: ما يصنع أصحابك بالأدم؟ قد ائتدموا. فرجع سلمان فخبرهما فانطلقا فأتيا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالا: و الذي بعثك بالحق ما أصبنا طعاما منذ نزلنا. قال: إنكما قد ائتدمتما سلمان بقولكما. فنزلت «أ يحب أحدكم أن يأكل لحم أخيه ميتا». و فيه، أخرج الضياء المقدسي عن أنس قال: كانت العرب يخدم بعضها بعضا في الأسفار و كان مع أبي بكر و عمر رجل يخدمهما فناما و استيقظا و لم يهيىء لهما طعاما فقالا: إن هذا لنئوم فأيقظاه فقالا: ائت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقل له: إن أبا بكر و عمر يقرئانك السلام و يستأدمانك، فقال: إنهما ائتدما، فجاءاه فقالا يا رسول الله بأي شيء ائتدمنا؟ قال: بلحم أخيكما، و الذي نفسي بيده إني لأرى لحمه بين ثناياكما، فقالا: استغفر لنا يا رسول الله. قال: مراه فليستغفر لكما.
أقول: الظاهر أن القصة الموردة في الروايتين واحدة و الرجلان المذكوران في الرواية الأولى أبو بكر و عمر و الرجل المذكور في الثانية هو سلمان، و يؤيد هذا ما عن جوامع الجامع، قال: و روي: أن أبا بكر و عمر بعثا سلمان إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليأتي لهما بطعام فبعثه إلى أسامة بن زيد و كان خازن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على رحله فقال: ما عندي شيء فعاد إليهما فقالا: بخل أسامة و لو بعثنا سلمان إلى بئر سميحة لغار ماؤها. ثم انطلقا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال لهما: ما لي أرى خضرة اللحم في أفواهكما قالا: يا رسول الله ما تناولنا اليوم لحما. قال: ظلمتم تأكلون لحم سلمان و أسامة فنزلت. و في العيون، بإسناده عن محمد بن يحيى بن أبي عباد عن عمه قال: سمعت الرضا (عليه السلام) يوما ينشد و قليلا ما كان ينشد شعرا: كلنا نأمل مدا في الأجل و المنايا هن آفات الأمل لا يغرنك أباطيل المنى و الزم القصد و دع عنك العلل إنما الدنيا كظل زائل حل فيه راكب ثم رحل فقلت: لمن هذا أعز الله الأمير؟ فقال: لعراقي لكم قلت: أنشدنيه أبو العتاهية لنفسه فقال: هات اسمه و دع هذا، إن الله سبحانه يقول: «و لا تنابزوا بالألقاب» و لعل الرجل يكره هذا. و في الكافي، بإسناده عن الحسين بن مختار عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام) في كلام له: ضع أمر أخيك على أحسنه حتى يأتيك ما يقلبك منه، و لا تظنن بكلمة خرجت من أخيك سوءا و أنت تجد لها في الخير محملا. و في نهج البلاغة، و قال (عليه السلام): إذا استولى الصلاح على الزمان و أهله، ثم أساء رجل الظن برجل لم يظهر منه حوبة فقد ظلم، و إذا استولى الفساد على الزمان و أهله ثم أحسن رجل الظن برجل فقد غرر.
أقول: و الروايتان غير متعارضتين فالثانية ناظرة إلى نفس الظن و الأولى إلى ترتيب الأثر عليه عملا.
و في الخصال، عن أسباط بن محمد بإسناده إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: الغيبة أشد من الزنا، فقيل: يا رسول الله و لم ذلك؟ قال: صاحب الزنا يتوب فيتوب الله عليه و صاحب الغيبة يتوب فلا يتوب الله عليه حتى يكون صاحبه الذي يحله:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن ابن مردويه و البيهقي عن أبي سعيد و جابر عنه (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لفظه قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغيبة أشد من الزنا. قالوا: يا رسول الله و كيف الغيبة أشد من الزنا؟ قال: إن الرجل يزني فيتوب فيتوب الله عليه و إن صاحب الغيبة لا يغفر له حتى يغفرها له صاحبه. و في الكافي، بإسناده إلى السكوني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الغيبة أسرع في دين الرجل المسلم من الأكلة في جوفه. و فيه، بإسناده عن حفص بن عمر عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كفارة الاغتياب قال: تستغفر الله لمن اغتبته كما ذكرته. و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و جعلناكم شعوبا و قبائل» قال: الشعوب العجم و القبائل العرب:. أقول: و نسبه في مجمع البيان، إلى الصادق (عليه السلام). و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و البيهقي عن جابر بن عبد الله قال: خطبنا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في وسط أيام التشريق خطبة الوداع فقال: يا أيها الناس ألا إن ربكم واحد، ألا إن أباكم واحد، ألا لا فضل لعربي على عجمي، و لا لعجمي على عربي، و لا لأسود على أحمر و لا لأحمر على أسود إلا بالتقوى إن أكرمكم عند الله أتقاكم. ألا هل بلغت؟ قالوا: بلى يا رسول الله. قال فليبلغ الشاهد الغائب. و في الكافي، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) زوج مقداد بن الأسود ضباعة بنت الزبير بن عبد المطلب. إنما زوجه لتضع المناكح، و ليتأسوا برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ليعلموا أن أكرمهم عند الله أتقاهم. و في روضة الكافي، بإسناده عن جميل بن دراج قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): فما الكرم؟ قال: التقوى. و في الكافي، بإسناده عن يونس بن يعقوب عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث قال: إن الإسلام قبل الإيمان و عليه يتوارثون و عليه يتناكحون و الإيمان عليه يثابون. و في الخصال، عن الأعمش عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) في حديث: و الإسلام غير الإيمان، و كل مؤمن مسلم و ليس كل مسلم مؤمنا. و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «قالت الأعراب آمنا»: أخرج ابن جرير عن قتادة: في قوله: «قالت الأعراب آمنا» قال: نزلت في بني أسد.: أقول: و هو مروي أيضا عن مجاهد و غيره. و فيه، أخرج ابن ماجة و ابن مردويه و الطبراني و البيهقي في شعب الإيمان، عن علي بن أبي طالب قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): الإيمان معرفة بالقلب و إقرار باللسان و عمل بالأركان. و فيه، أخرج النسائي و البزاز و ابن مردويه عن ابن عباس قال: جاءت بنو أسد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا: يا رسول الله أسلمنا و قاتلك العرب و لم نقاتلك فنزلت هذه الآية «يمنون عليك أن أسلموا». أقول: و في هذا المعنى روايات أخر.
|