بيان
تتضمن السورة مسائل من شرائع الدين بها تتم الحياة السعيدة للفرد و يستقر النظام الصالح الطيب في المجتمع منها ما هو أدب جميل للعبد مع الله سبحانه و مع رسوله كما في الآيات الخمس في مفتتح السورة، و منها ما يتعلق بالإنسان مع أمثاله من حيث وقوعهم في المجتمع الحيوي، و منها ما يتعلق بتفاضل الأفراد و هو من أهم ما ينتظم به الاجتماع المدني و يهدي الإنسان إلى الحياة السعيدة و العيش الطيب الهنيء و يتميز به دين الحق من غيره من السنن الاجتماعية القانونية و غيرها و تختتم السورة بالإشارة إلى حقيقة الإيمان و الإسلام و امتنانه تعالى بما يفيضه من نور الإيمان.
و السورة مدنية بشهادة مضامين آياتها سوى ما قيل في قوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى» الآية و سيجيء.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تقدموا بين يدي الله و رسوله و اتقوا الله إن الله سميع عليم» بين يدي الشيء أمامه و هو استعمال شائع مجازي أو استعاري و إضافته إلى الله و رسوله معا لا إلى الرسول دليل على أنه أمر مشترك بينه تعالى و بين رسوله و هو مقام الحكم الذي يختص بالله سبحانه و برسوله بإذنه كما قال تعالى: «إن الحكم إلا لله»: يوسف: 40، و قال: «و ما أرسلنا من رسول إلا ليطاع بإذن الله»: النساء: 64.
و من الشاهد على ذلك تصدير النهي بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» و تذييله بقوله: «و اتقوا الله إن الله سميع عليم» الظاهر في أن المراد بما بين يدي الله و رسوله هو المقام الذي يربط المؤمنين المتقين بالله و رسوله و هو مقام الحكم الذي يأخذون منه أحكامهم الاعتقادية و العملية.
و بذلك يظهر أن المراد بقوله: «لا تقدموا» تقديم شيء ما من الحكم قبال حكم الله و رسوله إما بالاستباق إلى قول قبل أن يأخذوا القول فيه من الله و رسوله أو إلى فعل قبل أن يتلقوا الأمر به من الله و رسوله لكن تذييله تعالى النهي بقوله: «إن الله سميع عليم» يناسب تقديم القول دون تقديم الفعل و دون الأعم الشامل للقول و الفعل و إلا لقيل: إن الله سميع بصير ليحاذي بالسميع القول و بالبصير الفعل كما يأتي تعالى في كثير من موارد الفعل بمثل قوله: «و الله بما تعملون بصير»: الحديد: 4، فمحصل المعنى: أن لا تحكموا فيما لله و لرسوله فيه حكم إلا بعد حكم الله و رسوله أي لا تحكموا إلا بحكم الله و رسوله و لتكن عليكم سمة الاتباع و الاقتفاء.
لكن بالنظر إلى أن كل فعل و ترك من الإنسان لا يخلو من حكم له فيه و كذلك العزم و الإرادة إلى فعل أو ترك يدخل الأفعال و التروك و كذا إرادتها و العزم عليها في حكم الاتباع، و يفيد النهي عن التقديم بين يدي الله و رسوله النهي عن المبادرة و الإقدام إلى قول لم يسمع من الله و رسوله، و إلى فعل أو ترك أو عزم و إرادة بالنسبة إلى شيء منهما قبل تلقي الحكم من الله و رسوله فتكون الآية قريبة المعنى من قوله تعالى في صفة الملائكة: «بل عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون»: الأنبياء: 27.
و هذا الاتباع المندوب إليه بقوله: «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله» هو الدخول في ولاية الله و الوقوف في موقف العبودية و السير في مسيرها بجعل العبد مشيته تابعة لمشية الله في مرحلة التشريع كما أنها تابعة لها في مرحلة التكوين قال تعالى: «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله»: الإنسان: 30، و قال: «و الله ولي المؤمنين»: آل عمران: 68، و قال: «و الله ولي المتقين»: الجاثية: 19.
و للقوم في قوله تعالى: «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله» وجوه منها: أن التقديم بمعنى التقدم فهو لازم و معنى «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله» لا تعجلوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله و لا تقطعوا بالأمر و النهي دون الله و رسوله، و ربما قيل: إن التقديم في الآية بمعناه المعروف لكنه مستعمل بالإعراض عن متعلقاته كقوله: «يحيي و يميت»: الحديد: 2، فيئول المعنى إلى مجرد كون شيء قدام شيء فيرجع إلى معنى التقدم.
و اللفظ مطلق يشمل التقدم في قول أو فعل حتى التقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في المشية و الجلسة، و التقدم بالطاعات الموقتة قبل وقتها و غير ذلك.
و منها: أن المراد النهي عن التكلم قبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي إذا كنتم في مجلسه و سئل عن شيء فلا تسبقوه بالجواب حتى يجيب هو أولا.
و منها: أن المعنى: لا تسبقوه بقول أو فعل حتى يأمركم به.
و منها: أن المعنى: لا تقدموا أقوالكم و أفعالكم على قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فعله و لا تمكنوا أحدا يمشي أمامه.
و الظاهر أن تفسير «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله» بالنهي عن التقديم بين يدي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقط في هذه الوجوه الثلاثة الأخيرة مبني على حملهم ذكر الله تعالى مع رسوله في الآية على نوع من التشريف كقوله: أعجبني زيد و كرمه فيكون ذكره تعالى للإشارة إلى أن السبقة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على أي حال في معنى السبقة على الله سبحانه.
و لعل التأمل فيما قدمناه من الوجه يكفيك في المنع عن المصير إلى شيء من هذه الوجوه.
و قوله: «و اتقوا الله إن الله سميع عليم» أمر بالتقوى في موقف الاتباع و العبودية و لا ظرف للإنسان إلا ظرف العبودية و لذلك أطلق التقوى.
و في قوله: «إن الله سميع عليم» تعليل للنهي و التقوى فيه أي اتقوه بالانتهاء عن هذا النهي فلا تقدموا قولا بلسانكم و لا في سركم لأن الله سميع يسمع أقوالكم عليم يعلم ظاهركم و باطنكم و علانيتكم و سركم.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي» إلخ، و ذلك بأن تكون أصواتهم عند مخاطبته و تكليمه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرفع من صوته و أجهر لأن في ذلك كما قيل أحد شيئين: إما نوع استخفاف به و هو الكفر، و إما إساءة الأدب بالنسبة إلى مقامه و هو خلاف التعظيم و التوقير المأمور به.
و قوله: «و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض» فإن من التعظيم عند التخاطب أن يكون صوت المتكلم أخفض من صوت مخاطبه فمطلق الجهر بالخطاب فاقد لمعنى التعظيم فخطاب العظماء بالجهر فيه كخطاب عامة الناس لا يخلو من إساءة الأدب و الوقاحة.
و قوله: «أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون» أي لئلا تحبط أو كراهة أن تحبط أعمالكم، و هو متعلق بالنهيين جميعا أي إنما نهيناكم عن رفع الصوت فوق صوته و الجهر له بالقول كجهر بعضكم لبعض لئلا تبطل أعمالكم بذلك من حيث لا تشعرون فإن فيهما الحبط، و قد تقدم القول في الحبط في الجزء الثاني من الكتاب.
و جوز بعضهم كون «أن تحبط» إلخ، تعليلا للمنهي عنه و هو الرفع و الجهر، و المعنى: فعلكم ذلك لأجل الحبوط منهي عنه، و الفرق بين تعليله للنهي و تعليله للمنهي عنه أن الفعل المنهي عنه معلل على الأول و الفعل المعلل منهي عنه على الثاني، و فيه تكلف ظاهر.
و ظاهر الآية أن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجهر له بالقول معصيتان موجبتان للحبط فيكون من المعاصي غير الكفر ما يوجب الحبط.
و قد توجه الآية بأن المراد بالحبط فقدان نفس العمل للثواب لا إبطال العمل ثواب سائر الأعمال كما في الكفر، قال في مجمع البيان،: و قال أصحابنا: أن المعنى في قوله: «أن تحبط أعمالكم» إنه ينحبط ثواب ذلك العمل لأنهم لو أوقعوه على وجه تعظيم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و توقيره لاستحقوا الثواب فلما أوقعوه على خلاف ذلك الوجه استحقوا العقاب و فاتهم ذلك الثواب فانحبط عملهم فلا تعلق لأهل الوعيد بهذه الآية.
و لأنه تعالى علق الإحباط في هذه الآية بنفس العمل و هم يعلقونه بالمستحق على العمل و ذلك خلاف الظاهر.
انتهى.
و فيه أن الحبط المتعلق بالكفر الذي لا ريب في تعلقه بثواب الأعمال أيضا متعلق في كلامه بنفس الأعمال كما في هذه الآية فلتحمل هذه على ما حملت عليه ذلك من غير فرق، و كونه خلاف الظاهر ممنوع فإن بطلان العمل بطلان أثره المترتب عليه.
و قد توجه الآية أيضا بالبناء على اختصاص الحبط بالكفر بأن رفع الصوت فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الجهر له بالقول ليسا بمحبطين من حيث أنفسهما بل من حيث أدائهما أحيانا إلى إيذائه (صلى الله عليه وآله وسلم) و إيذاؤه كفر و الكفر محبط للعمل.
قال بعضهم: المراد في الآية النهي عن رفع الصوت مطلقا و معلوم أن ملاكه التحذر مما يتوقع فيه من إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الذي هو كفر محبط للعمل بالاتفاق.
فورد النهي عما هو مظنة أذاه - سواء وجد هذا المعنى أو لا - حماية للحومة و حسما للمادة.
ثم لما كان هذا المنهي عنه منقسما إلى ما يبلغ حد الكفر و هو المؤذي له عليه الصلاة و السلام و إلى ما لا يبلغ ذلك المبلغ، و لا دليل يميز أحد القسمين من الآخر و لو فرض وجوده لم يلتفت إليه في كثير من الأحيان، لزم المكلف أن يكف عن ذلك مطلقا مخافة أن يقع فيما هو محبط للعمل و هو البالغ حد الأذى.
و إلى التباس أحد القسمين بالآخر الإشارة بقوله تعالى: «أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون» و إلا فلو كان رفع الصوت و الجهر بالقول منهيا عنهما مطلقا سواء بلغا حد الأذى أو لم يبلغا لم يكن موقع لقوله تعالى: «و أنتم لا تشعرون» إذ الأمر منحصر بين أن يكون رفع الصوت أو الجهر بالقول بالغا حد الأذى فيكون كفرا محبطا قطعا أو غير بالغ فيكون أيضا ذنبا محبطا قطعا فالإحباط محقق على أي تقدير فلا موقع لإدعام الكلام بعدم الشعور مع أن الشعور ثابت مطلقا للعلم به بعد النهي.
انتهى ملخصا.
و فيه أن ظهور قوله: «لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي و لا تجهروا له بالقول كجهر بعضكم لبعض» في النهي النفسي دون النهي المقدمي أخذا بالاحتياط مما لا ريب فيه لكن كلا من الفعلين مما يدرك كونه عملا سيئا عقلا قبل ورود النهي الشرعي عنه كالافتراء و الإفك، و كان الذين يأتون بهما المؤمنين كما صدر النهي بقوله: «يا أيها الذين آمنوا» و هم و إن أمكن أن يسامحوا في بعض السيئات بحسبانه هينا لكنهم لا يرضون ببطلان إيمانهم و أعمالهم الصالحة من أصله.
فنبه سبحانه بقوله: «أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون» على أنكم لا تشعرون بما لذلك من الأثر الهائل العظيم فإنما هو إحباط الأعمال فلا تقربوا شيئا منهما أن تحبط أعمالكم و أنتم لا تشعرون.
فقوله: «و أنتم لا تشعرون» ناظر إلى حالهم قبل النهي حيث كانوا يشعرون بكون الفعل سيئة لكنهم ما كانوا يعلمون بعظمة مساءته لهذا الحد، و أما بعد صدور البيان الإلهي فهم شاعرون بالإحباط.
فالآية من وجه نظيره قوله تعالى في آيات الإفك: «و تحسبونه هينا و هو عند الله عظيم»: النور: 15، و قوله في آيات القيامة: «و بدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون»: الزمر: 47.
قوله تعالى: «إن الذين يغضون أصواتهم عند رسول الله أولئك الذين امتحن الله قلوبهم للتقوى» إلخ، غض الصوت خلاف رفعه، و معنى الامتحان الابتلاء و الاختبار و إنما يكون لتحصيل العلم بحال الشيء المجهول قبل ذلك، و إذ يستحيل ذلك في حقه تعالى فالمراد به هنا التمرين و التعويد - كما قيل - أو حمل المحنة و المشقة على القلب ليعتاد بالتقوى.
و الآية مسوقة للوعد الجميل على غض الصوت عند رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد توصيفهم بأن قلوبهم ممتحنة للتقوى و الذي امتحنهم لذلك هو الله سبحانه، و فيه تأكيد و تقوية لمضمون الآية السابقة و تشويق للانتهاء بما فيها من النهي.
و في التعبير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) في هذه الآية برسول الله بعد التعبير عنه في الآية السابقة بالنبي إشارة إلى ملاك الحكم فإن الرسول بما هو رسول ليس له من الأمر شيء فما له فلمرسله، و تعظيمه و توقيره تعظيم لمرسله و توقير له فغض الصوت عند رسول الله تعظيم و تكبير لله سبحانه، و المداومة و الاستمرار على ذلك - كما يستفاد من قوله: «يغضون» المفيد للاستمرار - كاشف عن تخلقهم بالتقوى و امتحانه تعالى قلوبهم للتقوى.
و قوله: «لهم مغفرة و أجر عظيم» وعد جميل لهم بإزاء ما في قلوبهم من تقوى الله، و العاقبة للتقوى.
قوله تعالى: «إن الذين ينادونك من وراء الحجرات أكثرهم لا يعقلون» سياق الآية يؤدي أنه واقع و أنهم كانوا قوما من الجفاة ينادونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من وراء حجرات بيته من غير رعاية لمقتضى الأدب و واجب التعظيم و التوقير فذمهم الله سبحانه حيث وصف أكثرهم بأنهم لا يعقلون كالبهائم من الحيوان.
قوله تعالى: «و لو أنهم صبروا حتى تخرج إليهم لكان خيرا لهم و الله غفور رحيم» أي و لو أنهم صبروا عن ندائك فلم ينادوك حتى تخرج إليهم لكان خيرا لما فيه من حسن الأدب و رعاية التعظيم و التوقير لمقام الرسالة، و كان ذلك مقربا لهم إلى مغفرة الله و رحمته لأنه غفور رحيم.
فقوله: «و الله غفور رحيم» كالناظر إلى ما ذكر من الصبر و يمكن أن يكون ناظرا إلى كون أكثرهم لا يعقلون و المعنى: أن ما صدر عنهم من الجهالة و سوء الأدب معفو عنه لأنه لم يكن عن تعقل و فهم منهم بل عن قصور في ذلك و الله غفور رحيم.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا» إلخ، الفاسق - كما قيل - الخارج عن الطاعة إلى المعصية، و النبأ الخبر العظيم الشأن، و التبين و الاستبانة و الإبانة - على ما في الصحاح - بمعنى واحد و هي تتعدى و لا تتعدى فإذا تعدت كانت بمعنى الإيضاح و الإظهار يقال: تبينت الأمر و استبنته و أبنته أي أوضحته و أظهرته، و إذا لزمت كانت بمعنى الاتضاح و الظهور يقال: أبان الأمر و استبان و تبين أي اتضح و ظهر.
و معنى الآية: يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بخبر ذي شأن فتبينوا خبره بالبحث و الفحص للوقوف على حقيقته حذر أن تصيبوا قوما بجهالة فتصيروا نادمين على ما فعلتم بهم.
و قد أمضى الله سبحانه في هذه الآية أصل العمل بالخبر و هو من الأصول العقلائية التي يبتني عليه أساس الحياة الاجتماعية الإنسانية، و أمر بالتبين في خبر الفاسق و هو في معنى النهي عن العمل بخبره، و حقيقته الكشف عن عدم اعتبار حجيته و هذا أيضا كالإمضاء لما بني عليه العقلاء من عدم حجية الخبر الذي لا يوثق بمن يخبر به و عدم ترتيب الأثر على خبره.
بيان ذلك: أن حياة الإنسان حياة علمية يبني فيها سلوكه طريق الحياة على ما يشاهده من الخير و الشر و النافع و الضار و الرأي الذي يأخذ به فيه، و لا يتيسر له ذلك إلا فيما هو بمرأى منه و مشهد، و ما غاب عنه مما تتعلق به حياته و معاشه أكثر مما يحضره و أكثر فاضطر إلى تتميم ما عنده من العلم بما هو عند غيره من العلم الحاصل بالمشاهدة و النظر، و لا طريق إليه إلا السمع و هو الخبر.
فالركون إلى الخبر بمعنى ترتيب الأثر عليه عملا و معاملة مضمونة معاملة العلم الحاصل للإنسان من طريق المشاهدة و النظر في الجملة مما يتوقف عليه حياة الإنسان الاجتماعية توقفا ابتدائيا، و عليه بناء العقلاء و مدار العمل.
فالخبر إن كان متواترا أو محفوفا بقرائن قطعية توجب قطعية مضمونه كان حجة معتبرة من غير توقف فيها فإن لم يكن متواترا و لا محفوفا بما يفيد قطعية مضمونه و هو المسمى بخبر الواحد اصطلاحا كان المعتبر منه عندهم ما هو الموثوق به بحسب نوعه و إن لم يفده بحسب شخصه، و كل ذلك لأنهم لا يعملون إلا بما يرونه علما و هو العلم الحقيقي أو الوثوق و الظن الاطمئناني المعدود علما عادة.
إذا تمهد هذا فقوله تعالى في تعليل الأمر بالتبين في خبر الفاسق: «أن تصيبوا قوما بجهالة» إلخ، يفيد أن المأمور به هو رفع الجهالة و حصول العلم بمضمون الخبر عند ما يراد العمل به و ترتيب الأثر عليه ففي الآية إثبات ما أثبته العقلاء و نفي ما نفوه في هذا الباب، و هو إمضاء لا تأسيس.
قوله تعالى: «و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم» إلخ، العنت الإثم و الهلاك، و الطوع و الطاعة الانقياد لكن أكثر ما يقال الطاعة في الائتمار لما أمر و الارتسام لما رسم على ما ذكره الراغب لكن ربما يعكس الأمر فيسمى جري المتبوع على ما يريده التابع و يهواه طاعة من المتبوع للتابع و منه قوله تعالى في الآية: «لو يطيعكم» حيث سمي عمل الرسول على ما يراه و يهواه المؤمنون طاعة منه لهم.
و الآية على ما يفيده السياق من تتمة الكلام في الآية السابقة تعمم ما فيها من الحكم و تؤكد ما فيها من التعليل فمضمون الآية السابقة الحكم بوجوب التبين في خبر الفاسق و تعليله بوجوب التحرز عن بناء العمل على الجهالة، و مضمون هذه الآية تنبيه المؤمنين على أن الله سبحانه أوردهم شرع الرشد و لذلك حبب إليهم الإيمان و زينة في قلوبهم و كره إليهم الكفر و الفسوق و العصيان فعليهم أن لا يغفلوا عن أن فيهم رسول الله و هو مؤيد من عند الله و على بينة من ربه لا يسلك إلا سبيل الرشد دون الغي فعليهم أن يطيعوا الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يأمرهم به و يريدوا ما أراده و يختاروا ما اختاره، و لا يصروا على أن يطيعهم في آرائهم و أهوائهم فإنه لو يطيعهم في كثير من الأمر جهدوا و هلكوا.
فقوله: «و اعلموا أن فيكم رسول الله» عطف على قوله في الآية السابقة: «فتبينوا» و تقديم الخبر للدلالة على الحصر، و الإشارة إلى ما هو لازمه فإن اختصاصهم بكون رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم لازمه أن يتعلقوا بالرشد و يتجنبوا الغي و يرجعوا الأمور إليه و يطيعوه و يتبعوا أثره و لا يتعلقوا بما تستدعيه منهم أهواؤهم.
فالمعنى: و لا تنسوا أن فيكم رسول الله، و هو كناية عن أنه يجب عليهم أن يرجعوا الأمور و يسيروا فيما يواجهونه من الحوادث على ما يراه و يأمر به من غير أن يتبعوا أهواء أنفسهم.
و قوله: «لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم» أي جهدتم و هلكتم، و الجملة كالجواب لسؤال مقدر كان سائلا يسأل فيقول: لما ذا نرجع إليه و لا يرجع إلينا و لا يوافقنا؟ فأجيب بأنه «لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم».
و قوله: «و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم» استدراك عما يدل عليه الجملة السابقة: «لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم» من أنهم مشرفون بالطبع على الهلاك و الغي فاستدرك أن الله سبحانه أصلح ذلك بما أنعم عليهم من تحبيب الإيمان و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان.
و المراد بتحبيب الإيمان إليهم جعله محبوبا عندهم و بتزيينه في قلوبهم تحليته بجمال يجذب قلوبهم إلى نفسه فيتعلقون به و يعرضون عما يلهيهم عنه.
و قوله: «و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان» عطف على «حبب» و تكريه الكفر و ما يتبعه إليهم جعلها مكروهة عندهم تتنفر عنها نفوسهم، و الفرق بين الفسوق و العصيان - على ما قيل - إن الفسوق هو الخروج عن الطاعة إلى المعصية، و العصيان نفس المعصية و إن شئت فقل: جميع المعاصي، و قيل: المراد بالفسوق الكذب بقرينة الآية السابقة و العصيان سائر المعاصي.
و قوله: «أولئك هم الراشدون» بيان أن حب الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان هو سبب الرشد الذي يطلبه الإنسان بفطرته و يتنفر عن الغي الذي يقابله فعلى المؤمنين أن يلزموا الإيمان و يتجنبوا الكفر و الفسوق و العصيان حتى يرشدوا و يتبعوا الرسول و لا يتبعوا أهواءهم.
و لما كان حب الإيمان و الانجذاب إليه و كراهة الكفر و نحوه صفة بعض من كان الرسول فيهم دون الجميع كما يصرح به الآية السابقة، و قد وصف بذلك جماعتهم تحفظا على وحدتهم و تشويقا لمن لم يتصف بذلك منهم غير السياق و التفت عن خطابهم إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: «أولئك هم الراشدون» و الإشارة إلى من اتصف بحب الإيمان و كراهة الكفر و الفسوق و العصيان، ليكون مدحا للمتصفين بذلك و تشويقا لغيرهم.
و اعلم أن في قوله: «و اعلموا أن فيكم رسول الله لو يطيعكم في كثير من الأمر لعنتم» إشعارا بأن قوما من المؤمنين كانوا مصرين على قبول نبأ الفاسق الذي تشير إليه الآية السابقة، و هو الوليد بن عقبة أرسله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى بني المصطلق لأخذ زكواتهم فجاء إليهم فلما رآهم هابهم و رجع إلى المدينة و أخبر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم ارتدوا فعزم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على قتالهم فنزلت الآية فانصرف و في القوم بعض من يصر على أن يغزوهم.
و سيجيء القصة في البحث الروائي التالي.
قوله تعالى: «فضلا من الله و نعمة و الله عليم حكيم» تعليل لما تقدم من فعله تعالى بالمؤمنين من تحبيب الإيمان و تزيينه و تكريه الكفر و الفسوق و العصيان أي إن ذلك منه تعالى مجرد عطية و نعمة لا إلى بدل يصل إليه منهم لكن ليس فعلا جزافيا فإنه تعالى عليهم بمورد عطيته و نعمته حكيم لا يفعل ما يفعل جزافا كما قال: «و ألزمهم كلمة التقوى و كانوا أحق بها و أهلها و كان الله بكل شيء عليما»: الفتح: 26.
قوله تعالى: «و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما» إلى آخر الآية الاقتتال و التقاتل بمعنى واحد كالاستباق و التسابق، و رجوع ضمير الجمع في «اقتتلوا» إلى الطائفتين باعتبار المعنى فإن كلا من الطائفتين جماعة و مجموعهما جماعة كما أن رجوع ضمير التثنية إليهما باعتبار المعنى.
و نقل عن بعضهم في وجه التفرقة بين الضميرين: أنهم أولا في حال القتال مختلطون فلذا جمع أولا ضميرهم، و في حال الصلح متميزون متفارقون فلذا ثنى الضمير.
و قوله: «فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله» البغي الظلم و التعدي بغير حق، و الفيء الرجوع، و المراد بأمر الله ما أمر به الله، و المعنى: فإن تعدت إحدى الطائفتين على الأخرى بغير حق فقاتلوا الطائفة المتعدية حتى ترجع إلى ما أمر به الله و تنقاد لحكمه.
و قوله: «فإن فاءت فأصلحوا بينهما بالعدل» أي فإن رجعت الطائفة المتعدية إلى أمر الله فأصلحوا بينهما لكن لا إصلاحا بوضع السلاح و ترك القتال فحسب بل إصلاحا متلبسا بالعدل بإجراء أحكام الله فيما تعدت به المتعدية من دم أو عرض أو مال أو أي حق آخر ضيعته.
و قوله: «و أقسطوا إن الله يحب المقسطين» الإقساط إعطاء كل ما يستحقه من القسط و السهم و هو العدل فعطف قوله: «و أقسطوا» على قوله: «أصلحوا بينهما بالعدل» من عطف المطلق على المقيد للتأكيد، و قوله: «إن الله يحب المقسطين» تعليل يفيد تأكيدا على تأكيد كأنه قيل: أصلحوا بينهما بالعدل و أعدلوا دائما و في جميع الأمور لأن الله يحب العادلين لعدالتهم.
قوله تعالى: «إنما المؤمنون إخوة فأصلحوا بين أخويكم» استئناف مؤكد لما تقدم من الإصلاح بين الطائفتين المتقاتلتين من المؤمنين، و قصر النسبة بين المؤمنين في نسبة الإخوة مقدمة ممهدة لتعليل ما في قوله: «فأصلحوا بين أخويكم» من حكم الصلح فيفيد أن الطائفتين المتقاتلتين لوجود الإخوة بينهما يجب أن يستقر بينهما الصلح، و المصلحون لكونهم إخوة للمتقاتلتين يجب أن يسعوا في إصلاح ما بينهما.
و قوله: «فأصلحوا بين أخويكم» و لم يقل: فأصلحوا بين الأخوين من أوجز الكلام و ألطفه حيث يفيد أن المتقاتلتين بينهما أخوة فمن الواجب أن يستقر بينهما الصلح و سائر المؤمنين إخوان للمتقاتلتين فيجب عليهم أن يسعوا في الإصلاح بينهما.
و قوله: «و اتقوا الله لعلكم ترحمون» موعظة للمتقاتلتين و المصلحين جميعا.
كلام في معنى الإخوة
و اعلم أن قوله: «إنما المؤمنون إخوة» جعل تشريعي لنسبة الإخوة بين المؤمنين لها آثار شرعية و حقوق مجعولة، و قد تقدم في بعض المباحث المتقدمة أن من الأبوة و البنوة و الأخوة و سائر أنواع القرابة ما هو اعتباري مجعول يعتبره الشرائع و القوانين لترتيب آثار خاصة عليه كالوراثة و الإنفاق و حرمة الإزدواج و غير ذلك، و منها ما هو طبيعي بالانتهاء إلى صلب واحد أو رحم واحدة أو هما.
و الاعتباري من القرابة غير الطبيعي منها فربما يجتمعان كالأخوين المتولدين بين الرجل و المرأة عن نكاح مشروع، و ربما يختلفان كالولد الطبيعي المتولد من زنا فإنه ليس ولدا في الإسلام و لا يلحق بمولده و إن كان ولدا طبيعيا، و كالداعي الذي هو ولد في بعض القوانين و ليس بولد طبيعي.
و اعتبار المعنى الاعتباري و إن كان لغرض ترتيب آثار حقيقته عليه كما يؤخذ أحد القوم رأسا لهم ليكون نسبته إليهم نسبة الرأس إلى البدن فيدبر أمر المجتمع و يحكم بينهم و فيهم كما يحكم الرأس على البدن.
لكن لما كان الاعتبار لمصلحة مقتضية كان تابعا للمصلحة فإن اقتضت ترتيب جميع آثار الحقيقة ترتبت عليه جميعا و إن اقتضت بعضها كان المترتب على الموضوع الاعتباري ذلك البعض كما أن القراءة مثلا جزء من الصلاة و الجزء الحقيقي ينتفي بانتفائه الكل مطلقا لكن القراءة لا ينتفي بانتفائها الصلاة إذا كان ذلك سهوا و إنما تبطل الصلاة إذا تركت عمدا.
و لذلك أيضا ربما اختلفت آثار معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة كجزئية الركوع حيث تبطل الصلاة بزيادته و نقيصته عمدا و سهوا بخلاف جزئية القراءة كما تقدم فمن الجائز أن يختلف الآثار المترتبة على معنى اعتباري بحسب الموارد المختلفة لكن لا تترتب الآثار الاعتبارية إلا على موضوع اعتباري كالإنسان يتصرف في ماله لكن لا بما أنه إنسان بل بما أنه مالك و الأخ يرث أخاه في الإسلام لا لأنه أخ طبيعي يشارك الميت في الوالد أو الوالدة أو فيهما - فولد الزنا كذلك و لا يرث أخاه الطبيعي - بل يرثه لأنه أخ في الشريعة الإسلامية.
و الإخوة من هذا القبيل فمنها أخوة طبيعية لا أثر لها في الشرائع و القوانين و هي اشتراك إنسانين في أب أو أم أو فيهما، و منها أخوة اعتبارية لها آثار اعتبارية و هي في الإسلام أخوة نسبية لها آثار في النكاح و الإرث، و أخوة رضاعية لها آثار في النكاح دون الإرث، و أخوة دينية لها آثار اجتماعية و لا أثر لها في النكاح و الإرث، و سيجيء قول الصادق (عليه السلام): المؤمن أخو المؤمن، عينه و دليله، لا يخونه، و لا يظلمه و لا يغشه، و لا يعده عدة فيخلفه.
و قد خفي هذا المعنى على بعض المفسرين فأخذ إطلاق الإخوة في كلامه تعالى على المؤمنين إطلاقا مجازيا من باب الاستعارة بتشبيه الاشتراك في الإيمان بالمشاركة في أصل التوالد لأن كلا منهما أصل للبقاء إذ التوالد منشأ الحياة، و الإيمان منشأ البقاء الأبدي في الجنان، و قيل: هو من باب التشبيه البليغ من حيث انتسابهم إلى أصل واحد هو الإيمان الموجب للبقاء الأبدي.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا»: روى زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: ما سلت السيوف، و لا أقيمت الصفوف في صلاة و لا زحوف، و لا جهر بأذان، و لا أنزل الله: «يا أيها الذين آمنوا» حتى أسلم أبناء قبيلة الأوس و الخزرج. أقول: و عن ابن عباس أيضا: ما نزل يا أيها الذين آمنوا إلا بالمدينة، و لا «يا أيها الناس» إلا بمكة الخبر.
و توقف بعضهم في عموم ذيله، و اعلم أن هناك روايات في الدر المنثور، و تفسير القمي، في سبب نزول قوله: «لا تقدموا بين يدي الله و رسوله» الآية لا تنطبق على الآية ذاك الانطباق تركناها من أراد الوقوف عليها فليراجعهما.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و أبو يعلى و البغوي في معجم الصحابة، و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل، عن أنس قال: لما نزلت «يا أيها الذين آمنوا - لا ترفعوا أصواتكم فوق صوت النبي إلى قوله و أنتم لا تشعرون» و كان ثابت بن قيس بن شماس رفيع الصوت فقال: أنا الذي كنت أرفع صوتي على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حبط عملي أنا من أهل النار، و جلس في بيته حزينا. ففقده رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فانطلق بعض القوم إليه فقالوا له: فقدك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لك؟ قال: أنا الذي أرفع صوتي فوق صوت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أجهر له بالقول حبط عملي و أنا من أهل النار، فأتوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبروه بذلك فقال: لا بل هو من أهل الجنة. فلما كان يوم اليمامة قتل.
أقول: قوله: «فلما كان يوم اليمامة قتل» من كلام الراوي يريد أنه استشهد يوم اليمامة فكان ذلك تصديق قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الرواية مروية بطرق مختلفة أخرى باختلاف يسير.
و فيه، أخرج البخاري في الأدب، و ابن أبي الدنيا و البيهقي عن داود بن قيس قال: رأيت الحجرات من جريد النخل مغشي من خارج بمسوح الشعر و أظن عرض الباب من باب الحجرة إلى باب البيت نحوا من ستة أو سبعة أذرع و أحزر البيت الداخل عشرة أذرع، و أظن سمكه بين الثمان و السبع: أقول: و روي مثل صدره عن ابن سعد عن عطاء الخراساني قال: أدركت حجر أزواج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من جريد النخل على أبوابها المسوح من شعر أسود.
الحديث.
و فيه، أخرج أحمد و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن منده و ابن مردويه بسند جيد عن الحارث بن ضرار الخزاعي قال: قدمت على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فدعاني إلى الإسلام فدخلت فيه و أقررت به، و دعاني إلى الزكاة فأقررت بها. قلت: يا رسول الله أرجع إلى قومي فأدعوهم إلى الإسلام و أداء الزكاة فمن استجاب لي و ترسل إلي يا رسول الله رسولا إبان كذا و كذا لتأتيك ما جمعت من الزكاة. فلما جمع الحارث الزكاة ممن استجاب له و بلغ الإبان الذي أراد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليه احتبس الرسول فلم يأت فظن الحارث أنه قد حدث فيه سخطه من الله و رسوله فدعا بسروات قومه فقال لهم: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان وقت لي وقتا يرسل إلى رسوله ليقبض ما كان عندي من الزكاة و ليس من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الخلف و لا أرى حبس رسوله إلا من سخطه فانطلقوا فنأتي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). و بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) الوليد بن عقبة إلى الحارث ليقبض ما كان عنده مما جمع من الزكاة فلما أن سار الوليد حتى بلغ بعض الطريق فرق فرجع فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: إن الحارث منعني الزكاة و أراد قتلي فضرب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) البعث إلى الحارث. فأقبل الحارث بأصحابه حتى إذا استقبل البعث و فصل عن المدينة لقيهم الحارث فقالوا: هذا الحارث فلما غشيهم قال لهم: إلى من بعثتم؟ قالوا: إليك. قال: و لم؟ قالوا: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث إليك الوليد بن عقبة فزعم أنك منعته الزكاة و أردت قتله. قال: لا و الذي بعث محمدا بالحق ما رأيته و لا أتاني. فلما دخل الحارث على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: منعت الزكاة و أردت قتل رسولي؟ قال: لا و الذي بعثك بالحق ما رأيته و لا رآني و ما أقبلت إلا حين احتبس علي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خشيت أن يكون كانت سخطة من الله و رسوله فنزل «يا أيها الذين آمنوا إن جاءكم فاسق بنبأ - فتبينوا إلى قوله حكيم».
أقول: نزول الآية في قصة الوليد بن عقبة مستفيض من طرق أهل السنة و الشيعة و قال ابن عبد البر في الاستيعاب: و لا خلاف بين أهل العلم بتأويل القرآن فيما علمت أن قوله عز و جل: «إن جاءكم فاسق بنبأ» نزلت في الوليد بن عقبة.
و في المحاسن، بإسناده عن زياد الحذاء عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث له قال: يا زياد ويحك و هل الدين إلا الحب؟ أ لا ترى إلى قول الله: «إن كنتم تحبون الله فاتبعوني - يحببكم الله و يغفر لكم ذنوبكم»؟ أ و لا ترون إلى قول الله لمحمد (صلى الله عليه وآله وسلم): «حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم» قال: «يحبون من هاجر إليهم» و قال: الحب هو الدين و الدين هو الحب: أقول: و روي في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار عن الصادق (عليه السلام) ما في معناه و لفظه: و هل الإيمان إلا الحب و البغض؟ ثم تلا هذه الآية: «حبب إليكم الإيمان» إلى آخر الآية:. و في المجمع، و قيل: الفسوق هو الكذب عن ابن عباس و ابن زيد و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام):.
أقول: و في هذا المعنى بعض روايات أخر.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن عقبة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن عينه و دليله لا يخونه و لا يظلمه و لا يغشه و لا يعده عدة فيخلفه.
أقول: و في معناه روايات أخر عنه (عليه السلام) و في بعضها: المسلم أخو المسلم لا يظلمه و لا يخذله و لا يغتابه. و في المحاسن، بإسناده عن أبي حمزة الثمالي عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: المؤمن أخو المؤمن لأبيه و أمه و ذلك أن الله تبارك و تعالى خلق المؤمن من طينة جنان السماوات، و أجرى فيهم من ريح روحه فلذلك هو أخوه لأبيه و أمه. و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن أنس قال: قيل للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم): لو أتيت عبد الله بن أبي فانطلق و ركب حمارا و انطلق المسلمون يمشون و هي أرض سبخة، فلما انطلق إليهم قال: إليك عني فوالله لقد آذاني ريح حمارك. فقال رجل من الأنصار: و الله لحمار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أطيب ريحا منك، فغضب لعبد الله رجال من قومه فغضب لكل منهما أصحابه فكان بينهم ضرب بالجريد و الأيدي و النعال فأنزل فيهم «و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا - فأصلحوا بينهما».
أقول: و في بعض الروايات كما في المجمع، أن الذي قال ذلك لعبد الله بن أبي بن سلول هو عبد الله بن رواحة و أن التضارب وقع بين رهطه من الأوس و رهط عبد الله بن أبي من الخزرج، و في انطباق الآية بموضوعها و حكمها على هذه الروايات خفاء.
|