بيان
الآيات في معنى أخذ النتيجة مما أعيد ذكره من الأنباء التي فيها مزدجر و هي نبأ الساعة المذكور أولا ثم أنباء الأمم الهالكة المذكورة ثانيا فهي تنعطف أولا على أنباء الأمم الهالكة فتخاطب قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن كفاركم ليسوا خيرا من أولئك الأمم الطاغية الجبارة و قد أهلكهم الله على أذل وجه و أهونه و لا لكم براءة مكتوبة من عذاب الله، و لا أن جمعكم ينفعكم في الذب عن العقاب.
ثم تنعطف إلى ما مر من نبأ الساعة بأنها موعدهم الصعب أن أجرموا و كذبوا و الساعة أدهى و أمر، ثم تشير إلى موطن المتقين يومئذ و عند ذلك تختتم السورة.
قوله تعالى: «أ كفاركم خير من أولئكم أم لكم براءة في الزبر» الظاهر أنه خطاب لقوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من مسلم و كافر على ما تشعر به الإضافة في «كفاركم» و الخيرية هي الخيرية في زينة الدنيا و زخارف حياتها كالمال و البنين أو من جهة الأخلاق العامة في مجتمعهم كالسخاء و الشجاعة و الشفقة على الضعفاء، و الإشارة بأولئكم إلى الأقوام المذكورة أنباؤهم: قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون، و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: ليس الذين كفروا منكم خيرا من أولئكم الأمم المهلكين المعذبين حتى يشملهم العذاب دونكم.
و يمكن أن يكون خطاب «أ كفاركم» لخصوص الكفار بعناية أنهم قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و فيهم كفار و هم هم.
و قوله: «أم لكم براءة في الزبر» ظاهره أيضا عموم الخطاب، و الزبر جمع زبور و هو الكتاب، و قد ذكروا أن المراد بالزبر الكتب السماوية المنزلة على الأنبياء، و المعنى: بل أ لكم براءة في الكتب السماوية التي نزلت من عند الله أنكم في أمن من العذاب و المؤاخذة و إن كفرتم و أجرمتم و اقترفتم ما شئتم من الذنوب.
قوله تعالى: «أم يقولون نحن جميع منتصر» الجميع المجموع و المراد به وحدة مجتمعهم من حيث الإرادة و العمل، و الانتصار الانتقام أو التناصر كما في خطابات يوم القيامة: «ما لكم لا تناصرون»: الصافات: 25، و المعنى: بل أ يقولون أي الكفار نحن قوم مجتمعون متحدون ننتقم ممن أرادنا بسوء أو ينصر بعضنا بعضا فلا ننهزم.
قوله تعالى: «سيهزم الجمع و يولون الدبر» اللام في «الجمع» للعهد الذكري و في «الدبر» للجنس، و تولي الدبر الإدبار، و المعنى: سيهزم الجمع الذي يتبجحون به و يولون الأدبار و يفرون.
و في الآية إخبار عن مغلوبية و انهزام لجمعهم، و دلالة على أن هذه المغلوبية انهزام منهم في حرب سيقدمون عليها، و قد وقع ذلك في غزاة بدر، و هذا من ملاحم القرآن الكريم.
قوله تعالى: «بل الساعة موعدهم و الساعة أدهى و أمر» «أدهى» اسم تفضيل من الدهاء و هو عظم البلية المنكرة التي ليس إلى التخلص منها سبيل، و «أمر» اسم تفضيل من المرارة ضد الحلاوة، و في الآية إضراب عن إيعادهم بالانهزام و العذاب الدنيوي إلى إيعادهم بما سيجري عليهم في الساعة و قد أشير إلى نبئها في أول الأنباء الزاجرة، و الكلام يفيد الترقي.
و المعنى: و ليس الانهزام و العذاب الدنيوي مقام عقوبتهم بل الساعة التي أشرنا إلى نبئها هي موعدهم و الساعة أدهى من كل داهية و أمر من كل مر.
قوله تعالى: «إن المجرمين في ضلال و سعر» جمع سعير و هي النار المسعرة و في الآية تعليل لما قبلها من قوله: «و الساعة أدهى و أمر»، و المعنى: إنما كانت الساعة أدهى و أمر لهم لأنهم مجرمون و المجرمون في ضلال عن موطن السعادة و هو الجنة و نيران مسعرة.
قوله تعالى: «يوم يسحبون في النار على وجوههم ذوقوا مس سقر» السحب جر الإنسان على وجهه، و «يوم» ظرف لقوله: «في ضلال و سعر»، و «سقر» من أسماء جهنم و مسها هو إصابتها لهم بحرها و عذابها.
و المعنى: كونهم في ضلال و سعر في يوم يجرون في النار على وجوههم يقال لهم: ذوقوا ما تصيبكم جهنم بحرها و عذابها.
قوله تعالى: «إنا كل شيء خلقناه بقدر» «كل شيء» منصوب بفعل مقدر يدل عليه «خلقناه» و التقدير خلقنا كل شيء خلقناه، و «بقدر» متعلق بقوله: «خلقناه» و الباء للمصاحبة، و المعنى: أنا خلقنا كل شيء مصاحبا لقدر.
و قدر الشيء هو المقدار الذي لا يتعداه و الحد و الهندسة التي لا يتجاوزه في شيء من جانبي الزيادة و النقيصة، قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21، فلكل شيء حد محدود في خلقه لا يتعداه و صراط ممدود في وجوده يسلكه و لا يتخطاه.
و الآية في مقام التعليل لما في الآيتين السابقتين من عذاب المجرمين يوم القيامة كأنه قيل: لما ذا جوزي المجرمون بالضلال و السعر يوم القيامة و أذيقوا مس سقر؟ فأجيب بقوله: «إنا كل شيء خلقناه بقدر» و محصله أن لكل شيء قدرا و من القدر في الإنسان أن الله سبحانه خلقه نوعا متكاثر الأفراد بالتناسل اجتماعيا في حياته الدنيا يتزود من حياته الدنيا الداثرة لحياته الآخرة الباقية، و قدر أن يرسل إليهم رسولا يدعوهم إلى سعادة الدنيا و الآخرة فمن استجاب الدعوة فاز بالسعادة و دخل الجنة و جاور ربه، و من ردها و أجرم فهو في ضلال و سعر.
و من الخطإ أن يقال: إن الجواب عن السؤال بهذا النحو من المصادرة الممنوعة في الاحتجاج فإن السؤال عن مجازاته تعالى إياهم بالنار لإجرامهم في معنى السؤال عن تقديره ذلك، فمعنى السؤال: لم قدر الله للمجرمين المجازاة بالنار؟ و معنى الجواب: أن الله قدر للمجرمين المجازاة بالنار، أو معنى السؤال: لم يدخلهم الله النار؟ و معنى الجواب: أن الله يدخلهم النار و ذلك مصادرة بينة.
و ذلك لأن بين فعلنا و بين فعله تعالى فرقا فإنا نتبع في أفعالنا القوانين و الأصول الكلية المأخوذة من الكون الخارجي و الوجود العيني، و هي الحاكمة علينا في إرادتنا و أفعالنا، فإذا أكلنا لجوع أو شربنا لعطش فإنما نريد بذلك الشبع و الري لما حصلنا من الكون الخارجي أن الأكل يفيد الشبع و الشرب يفيد الري و هو الجواب لو سئلنا عن الفعل.
و بالجملة أفعالنا تابعة للقواعد الكلية و الضوابط العامة المنتزعة عن الوجود العيني المتفرعة عليه، و أما فعله تعالى فهو نفس الوجود العيني، و الأصول العقلية الكلية مأخوذة منه متأخرة عنه محكومة له فلا تكون حاكمة فيه متقدمة عليه، قال تعالى: «لا يسأل عما يفعل و هم يسألون»: الأنبياء: 23، و قال: «إن الله يفعل ما يشاء»: الحج: 18، و قال: «الحق من ربك»: آل عمران: 60.
فلا سؤال عن فعله تعالى بلم بمعنى السؤال عن السبب الخارجي إذ لا سبب دونه يعينه في فعله، و لا بمعنى السؤال عن الأصل الكلي العقلي الذي يصحح فعله إذ الأصول العقلية منتزعة عن فعله متأخرة عنه.
نعم وقع في كلامه سبحانه تعليل الفعل بأحد ثلاثة أوجه: أحدها: تعليل الفعل بما يترتب عليه من الغايات و الفوائد العائدة إلى الخلق لا إليه، لكنه تعليل للفعل لا لكونه فعلا له سبحانه بل لكونه أمرا واقعا في صف الأسباب و المسببات كما في قوله تعالى: «و لتجدن أقربهم مودة للذين آمنوا الذين قالوا إنا نصارى ذلك بأن منهم قسيسين و رهبانا و أنهم لا يستكبرون»: المائدة: 82، و قال: «و ضربت عليهم الذلة و المسكنة - إلى أن قال - ذلك بما عصوا و كانوا يعتدون»: البقرة: 61.
الثاني: تعليل فعله تعالى بشيء من أسمائه و صفاته المناسبة له كتعليله تعالى مضامين كثير من الآيات في كلامه بمثل قوله: «إن الله غفور رحيم» «و هو العزيز الحكيم» «و هو اللطيف الخبير» إلى غير ذلك و هو شائع في القرآن الكريم، و إذا أجدت التأمل في موارده وجدتها من تعليل الفعل بما له من صفة خاصة بصفة عامة لفعله تعالى فإن أسماءه تعالى الفعلية منتزعة عن فعله العام فتعليل فعل خاص بصفة من صفاته و اسم من أسمائه تعليل الوجه الخاص في الفعل بالوجه العام فيه كقوله تعالى: «و كأين من دابة لا تحمل رزقها الله يرزقها و إياكم و هو السميع العليم»: العنكبوت: 60، يعلل قضاء حاجة الدواب و الإنسان إلى الرزق المسئول بلسان حاجتها بأنه سميع عليم أي أنه خلق كل شيء و الحال أن مسائلهم مسموعة له و أحوالهم معلومة عنده و هما صفتا فعله العام، و قوله: «فتلقى آدم من ربه كلمات فتاب عليه إنه هو التواب الرحيم»: البقرة: 37، يعلل توبته على آدم بأنه تواب رحيم أي صفة فعله هي التوبة و الرحمة.
الثالث: تعليل فعله الخاص بفعله العام و مرجعه في الحقيقة إلى الوجه الثاني كقوله: «إن المجرمين في ضلال و سعر - إلى أن قال - إنا كل شيء خلقناه بقدر» فإن القدر و هو كون الشيء محدودا لا يتخطى حده في مسير وجوده فعل عام له تعالى لا يخلو عنه شيء من الخلق فتعليل العذاب بالقدر من تعليل فعله الخاص بفعله العام و بيان أنه مصداق من مصاديق القدر إذ كان من المقدر في الإنسان أن لو أجرم برد دعوة النبوة عذب و دخل النار يوم القيامة، و كقوله: «و إن منكم إلا واردها كان على ربك حتما مقضيا»: مريم: 71، يعلل الورود بالقضاء و هو فعل له عام و الورود خاص بالنسبة إليه.
فتبين أن ما في كلامه من تعليل فعل من أفعاله إنما هو من تعليل الفعل الخاص بصفته العامة و العلة علة للإثبات لا للثبوت، و ليس من المصادرة في شيء.
قوله تعالى: «و ما أمرنا إلا واحدة كلمح بالبصر» قال في المجمع،: اللمح النظر بالعجلة و هو خطف البصر.
انتهى.
و المراد بالأمر ما يقابل النهي لكنه الأمر التكويني بإرادة وجود الشيء، قال تعالى: «إنما أمره إذا أراد شيئا أن يقول له كن فيكون»: يس: 82 فهو كلمة كن و لعله لكونه كلمة اعتبر الخبر مؤنثا فقيل: «إلا واحدة».
و الذي يفيده السياق أن المراد بكون الأمر واحدة أنه لا يحتاج في مضيه و تحقق متعلقه إلى تعدد و تكرار بل أمر واحد بإلقاء كلمة كن يتحقق به المتعلق المراد كلمح بالبصر من غير تأن و مهل حتى يحتاج إلى الأمر ثانيا و ثالثا.
و تشبيه الأمر من حيث تحقق متعلقه بلمح بالبصر لا لإفادة أن زمان تأثيره قصير كزمان تحقق اللمح بالبصر بل لإفادة أنه لا يحتاج في تأثيره إلى مضي زمان و لو كان قصيرا فإن التشبيه باللمح بالبصر في الكلام يكنى به عن ذلك، فأمره تعالى و هو إيجاده و إرادة وجوده لا يحتاج في تحققه إلى زمان و لا مكان و لا حركة كيف لا؟ و نفس الزمان و المكان و الحركة إنما تحققت بأمره تعالى.
و الآية و إن كانت بحسب مؤداها في نفسها تعطي حقيقة عامة في خلق الأشياء و أن وجودها من حيث إنه فعل الله سبحانه كلمح بالبصر و إن كان من حيث إنه وجود لشيء كذا تدريجيا حاصلا شيئا فشيئا.
إلا أنها بحسب وقوعها في سياق إيعاد الكفار بعذاب يوم القيامة ناظرة إلى إتيان الساعة و أن أمرا واحدا منه تعالى يكفي في قيام الساعة و تجديد الخلق بالبعث و النشور فتكون متممة لما أقيم من الحجة بقوله: «إنا كل شيء خلقناه بقدر».
فيكون مفاد الآية الأولى أن عذابهم بالنار على وفق الحكمة و لا محيص عنه بحسب الإرادة الإلهية لأنه من القدر، و مفاد هذه الآية أن تحقق الساعة التي يعذبون فيها بمضي هذه الإرادة و تحقق متعلقها لا مئونة فيه عليه سبحانه لأنه يكفي فيه أمر واحد منه تعالى كلمح بالبصر.
قوله تعالى: «و لقد أهلكنا أشياعكم فهل من مدكر» الأشياع جمع شيعة و المراد - كما قيل - الأشباه و الأمثال في الكفر و تكذيب الأنبياء من الأمم الماضية.
و المراد بالآية و الآيتين بعدها تأكيد الحجة السابقة التي أقيمت على شمول العذاب لهم لا محالة.
و محصل المعنى: أن ليس ما أنذرناكم به من عذاب الدنيا و عذاب الساعة مجرد خبر أخبرناكم به و لا قول ألقيناه إليكم فهذه أشياعكم من الأمم الماضية شرع فيهم بذلك فقد أهلكناهم و هو عذابهم في الدنيا و سيلقون عذاب الآخرة فإن أعمالهم مكتوبة مضبوطة في كتب محفوظة عندنا سنحاسبهم بها و نجازيهم بما عملوا.
قوله تعالى: «و كل شيء فعلوه في الزبر و كل صغير و كبير مستطر» الزبر كتب الأعمال و تفسيره باللوح المحفوظ سخيف، و المراد بالصغير و الكبير صغير الأعمال و كبيرها على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: «إن المتقين في جنات و نهر» أي في جنات عظيمة الشأن بالغة الوصف و نهر كذلك، قيل: المراد بالنهر الجنس، و قيل: النهر بمعنى السعة.
قوله تعالى: «في مقعد صدق عند مليك مقتدر» المقعد المجلس، المليك صيغة مبالغة للملك على ما قيل، و ليس من إشباع كسر لام الملك، و المقتدر القادر العظيم القدرة و هو الله سبحانه.
و المراد بالصدق صدق المتقين في إيمانهم و عملهم أضيف إليه المقعد لملابسة ما و يمكن أن يراد به كون مقامهم و ما لهم فيه صدقا لا يشوبه كذب فلهم حضور لا غيبة معه، و قرب لا بعد معه، و نعمة لا نقمة معها، و سرور لا غم معه، و بقاء لا فناء معه.
و يمكن أن يراد به صدق هذا الخبر من حيث إنه تبشير و وعد جميل للمتقين، و على هذا ففيه نوع مقابلة بين وصف عاقبة المتقين و المجرمين حيث أوعد المجرمون بالعذاب و الضلال و قرر ذلك بأنه من القدر و لن يتخلف، و وعد المتقون بالثواب و الحضور عند ربهم المليك المقتدر و قرر ذلك بأنه صدق لا كذب فيه.
بحث روائي
في كمال الدين، بإسناده إلى علي بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الرقى أ تدفع من القدر شيئا؟ فقال: هي من القدر. و قال: إن القدرية مجوس هذه الأمة و هم الذين أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه و فيهم نزلت هذه الآية: «يوم يسحبون في النار على وجوههم - ذوقوا مس سقر إنا كل شيء خلقناه بقدر».
أقول: المراد بالقدرية النافون للقدر و هم المعتزلة القائلون بالتفويض، و قوله: إنهم مجوس هذه الأمة ذلك لقولهم: إن خالق الأفعال الاختيارية هو الإنسان و الله خالق لما وراء ذلك فأثبتوا إلهين اثنين كما أثبتت المجوس إلهين اثنين: خالق الخير و خالق الشر.
و قوله: أرادوا أن يصفوا الله بعدله فأخرجوه من سلطانه، و ذلك أنهم قالوا بخلق الإنسان لأفعاله فرارا عن القول بالجبر المنافي للعدل فأخرجوا الله من سلطانه على أعمال عباده بقطع نسبتها عنه تعالى.
و قوله: و فيهم نزلت هذه الآية، إلخ، المراد به جري الآيات فيهم دون كونهم سببا للنزول و موردا له لما عرفت في تفسير الآيات من كونها عامة بحسب السياق، و في نزول الآيات فيهم روايات أخرى مروية عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام)، و من طرق أهل السنة أيضا روايات في هذا المعنى عن ابن عباس و ابن عمر و محمد بن كعب و غيرهم.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد عن حذيفة بن اليمان قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن لكل أمة مجوسا و إن مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.
الخبر.
أقول: و رواه في ثواب الأعمال، بإسناده عن الصادق عن آبائه عن علي (عليه السلام) و لفظه: لكل أمة مجوس و مجوس هذه الأمة الذين يقولون: لا قدر.
و فيه، أخرج ابن مردويه بسند رواه عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): النهر الفضاء و السعة ليس بنهر جار.
و فيه، أخرج أبو نعيم عن جابر قال: بينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوما في مسجد المدينة فذكر بعض أصحابه الجنة فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أبا دجانة أ ما علمت أن من أحبنا و ابتلي بمحبتنا أسكنه الله تعالى معنا؟ ثم تلا «في مقعد صدق عند مليك مقتدر».
و في روح المعاني،: في قوله: «في مقعد صدق» الآية،: و قال جعفر الصادق رضي الله عنه: مدح المكان بالصدق فلا يقعد فيه إلا أهل الصدق.
كلام في القدر
القدر و هو هندسة الشيء و حد وجوده مما تكرر ذكره في كلامه تعالى فيما تكلم فيه في أمر الخلقة، قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21، و ظاهره أن القدر ملازم للإنزال من الخزائن الموجودة عنده تعالى، و أما نفس الخزائن و هي من إبداعه تعالى لا محالة فهي غير مقدرة بهذا القدر الذي يلازم الإنزال و الإنزال إصداره إلى هذا العالم المشهود كما يفيده قوله: «و أنزلنا الحديد»: الحديد: 25، و قوله: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر: 6.
و يؤيد ذلك ما ورد من تفسير القدر بمثل العرض و الطول و سائر الحدود و الخصوصيات الطبيعية الجسمانية كما في المحاسن، عن أبيه عن يونس عن أبي الحسن الرضا (عليه السلام) قال: لا يكون إلا ما شاء الله و أراد و قدر و قضى. قلت: فما معنى شاء؟ قال: ابتدأ الفعل. قلت: فما معنى أراد؟ قال: الثبوت عليه. قلت: فما معنى قدر؟ قال: تقدير الشيء من طوله و عرضه. قلت: فما معنى قضى؟ قال: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له.
و روي هذا المعنى عن أبيه عن ابن أبي عمير عن محمد بن إسحاق عن الرضا (عليه السلام) في خبر مفصل و فيه: فقال: أ و تدري ما قدر؟ قال: لا، قال: هو الهندسة من الطول و العرض و البقاء.
الخبر.
و من هنا يظهر أن المراد بكل شيء في قوله: «و خلق كل شيء فقدره تقديرا»: الفرقان: 3، و قوله: «إنا كل شيء خلقناه بقدر»: القمر: 49، و قوله: «و كل شيء عنده بمقدار»: الرعد: 8، و قوله: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50، الأشياء الواقعة في عالمنا المشهود، من الطبيعيات الواقعة تحت الخلق و التركيب، أو أن للتقدير مرتبتين: مرتبة تعم جميع ما سوى الله و هي تحديد أصل الوجود بالإمكان و الحاجة و هذا يعم جميع الموجودات ما خلا الله سبحانه، قال تعالى: «و كان الله بكل شيء محيطا»: النساء: 126.
و مرتبة تخص عالمنا المشهود و هي تحديد وجود الأشياء الموجودة فيه من حيث وجودها و آثار وجودها و خصوصيات كونها بما أنها متعلقة الوجود و الآثار بأمور خارجة من العلل و الشرائط فيختلف وجودها و أحوالها باختلاف عللها و شرائطها فهي مقلوبة بقوالب من داخل و خارج تعين لها من العرض و الطول و الشكل و الهيئة و سائر الأحوال و الأفعال ما يناسبها.
فالتقدير يهدي هذا النوع من الموجودات إلى ما قدر لها في مسير وجودها، قال تعالى: «الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3، أي هدى ما خلقه إلى ما قدر له، ثم أتم ذلك بإمضاء القضاء، و في معناه قوله في الإنسان: «من نطفة خلقه فقدره ثم السبيل يسره»: عبس: 20، و يشير بقوله: «ثم السبيل يسره» إلى أن التقدير لا ينافي اختيارية أفعاله الاختيارية.
و هذا النوع من القدر في نفسه غير القضاء الذي هو الحكم البتي منه تعالى بوجوده «و الله يحكم لا معقب لحكمه»: الرعد: 41، فربما قدر و لم يعقبه القضاء كالقدر الذي يقتضيه بعض العلل و الشرائط الخارجة ثم يبطل لمانع أو باستخلاف سبب آخر، قال تعالى: «يمحوا الله ما يشاء و يثبت»: الرعد: 39، و قال: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: البقرة: 106، و ربما قدر و تبعه القضاء كما إذا قدر من جميع الجهات باجتماع جميع علله و شرائطه و ارتفاع موانعه.
و إلى ذلك يشير قوله (عليه السلام) في خبر المحاسن السابق: إذا قضى أمضاه فذلك الذي لا مرد له، و قريب منه ما في عدة من أخبار القضاء و القدر ما معناه أن القدر يمكن أن يتخلف و أما القضاء فلا يرد.
و عن علي (عليه السلام) بطرق مختلفة كما في التوحيد، بإسناده عن ابن نباتة: أن أمير المؤمنين (عليه السلام) عدل من عند حائط مائل إلى حائط آخر فقيل له: يا أمير المؤمنين تفر من قضاء الله؟ قال: أفر من قضاء الله إلى قدر الله عز و جل.
و أما النوع الأول من الموجودات الذي قدره حد وجوده من إمكانه و حاجته فحسب فالقدر و القضاء فيه واحد و لا يتخلف القدر فيه عن التحقق البتة.
و البحث العقلي يؤيد ما تقدم فإن الأمور التي لها علل مركبة من فاعل و مادة و شرائط و معدات و موانع فإن لكل منها تأثيرا في الشيء بما يسانخه فهو كالقالب الذي يقلب به الشيء فيأخذ لنفسه هيئة قالبة و خصوصيته و هذا هو قدره ثم العلة التامة إذا اجتمعت أجزاؤه أعطته ضرورة الوجود، و هذه هي القضاء الذي لا مرد له، و قد تقدم في تفسير أول سورة الإسراء كلام في القضاء لا يخلو من نفع في هذا البحث، فليرجع إليه.
|