بيان
قوله تعالى: «يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين» الإيصاء و التوصية هو العهد و الأمر، و قال الراغب في مفردات القرآن: الوصية: التقدم إلى الغير بما يعمل به مقترنا بوعظ، انتهى.
و في العدول عن لفظ الأبناء إلى الأولاد دلالة على أن حكم السهم و السهمين مخصوص بما ولده الميت بلا واسطة، و أما أولاد الأولاد فنازلا فحكمهم حكم من يتصلون به فلبنت الابن سهمان و لابن البنت سهم واحد إذا لم يكن هناك من يتقدم على مرتبتهم كما أن الحكم في أولاد الإخوة و الأخوات حكم من يتصلون به، و أما لفظ الابن فلا يقضي بنفي الواسطة كما أن الأب أعم من الوالد.
و أما قوله تعالى في ذيل الآية: «آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا» فسيجيء أن هناك عناية خاصة تستوجب اختيار لفظ الأبناء على الأولاد.
و أما قوله: «للذكر مثل حظ الأنثيين» ففي انتخاب هذا التعبير إشعار بإبطال ما كانت عليه الجاهلية من منع توريث النساء فكأنه جعل إرث الأنثى مقررا معروفا و أخبر بأن للذكر مثله مرتين أو جعله هو الأصل في التشريع و جعل إرث الذكر محمولا عليه يعرف بالإضافة إليه، و لو لا ذلك لقال: للأنثى نصف حظ الذكر و إذن لا يفيد هذا المعنى و لا يلتئم السياق معه - كما ترى - هذا ما ذكره بعض العلماء و لا بأس به، و ربما أيد ذلك بأن الآية لا تتعرض بنحو التصريح مستقلا إلا لسهام النساء و إن صرحت بشيء من سهام الرجال فمع ذكر سهامهن معه كما في الآية التالية و الآية التي في آخر السورة.
و بالجملة قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين في محل التفسير لقوله: يوصيكم الله في أولادكم، و اللام في الذكر و الأنثيين لتعريف الجنس أي إن جنس الذكر يعادل في السهم أنثيين، و هذا إنما يكون إذا كان هناك في الوراث ذكر و أنثى معا فللذكر ضعفا الأنثى سهما و لم يقل: للذكر مثل حظي الأنثى أو مثلا حظ الأنثى ليدل الكلام على سهم الأنثيين إذا انفردتا بإيثار الإيجاز على ما سيجيء.
و على أي حال إذا تركبت الورثة من الذكور و الإناث كان لكل ذكر سهمان و لكل أنثى سهم إلى أي مبلغ بلغ عددهم.
قوله تعالى: «فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك» ظاهر وقوع هذا الكلام بعد قوله: «للذكر مثل حظ الأنثيين» إنه على تقدير معطوف عليه محذوف كأنه قيل: هذا إذا كانوا نساء و رجالا فإن كن نساء «إلخ» و هو شائع في الاستعمال و منه قوله تعالى: و أتموا الحج و العمرة لله فإن أحصرتم فما استيسر من الهدي: «البقرة: 196» و قوله: أياما معدودات فمن كان منكم مريضا أو على سفر فعدة من أيام أخر: «البقرة: 184».
و الضمير في كن راجع إلى الأولاد في قوله: في أولادكم و تأنيث الضمير لتأنيث الخبر، و الضمير في قوله: ترك راجع إلى الميت المعلوم من سياق الكلام.
قوله تعالى: «و إن كانت واحدة فلها النصف» الضمير إلى الولد المفهوم من السياق و تأنيثه باعتبار الخبر و المراد بالنصف نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.
و لم يذكر سهم الأنثيين فإنه مفهوم من قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين فإن ذكرا و أنثى إذا اجتمعا كان سهم الأنثى الثلث للآية و سهم الذكر الثلثين و هو حظ الأنثيين فحظ الأنثيين الثلثان فهذا المقدار مفهوم من الكلام إجمالا و ليس في نفسه متعينا للفهم إذ لا ينافي ما لو كان قيل بعده: و إن كانتا اثنتين فلهما النصف أو الجميع مثلا لكن يعينه السكوت عن ذكر هذا السهم و التصريح الذي في قوله: فإن كن نساء فوق اثنتين، فإنه يشعر بالتعمد في ترك ذكر حظ الأنثيين.
على أن كون حظهما الثلثين هو الذي عمل به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و جرى العمل عليه منذ عهده (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى عهدنا بين علماء الأمة سوى ما نقل من الخلاف عن ابن عباس.
و هذا أحسن الوجوه في توجيه ترك التصريح بسهم الأنثيين، قال الكليني رحمه الله في الكافي: إن الله جعل حظ الأنثيين الثلثين بقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين، و ذلك أنه إذا ترك الرجل بنتا و ابنا فللذكر مثل حظ الأنثيين و هو الثلثان فحظ الأنثيين الثلثان، و اكتفا بهذا البيان أن يكون ذكر الأنثيين بالثلثين، انتهى، و نقل مثله عن أبي مسلم المفسر: أنه يستفاد من قوله تعالى: للذكر مثل حظ الأنثيين و ذلك أن الذكر مع الأنثى الواحدة يرث الثلثين فيكون الثلثان هما حظ الأنثيين، انتهى و إن كان ما نقل عنهما لا يخلو من قصور يحتاج في التتميم إلى ما أوضحناه آنفا فليتأمل فيه.
و هناك وجوه أخر سخيفة ذكروها في توجيه الآية كقول بعضهم: إن المراد بقوله تعالى: فإن كن نساء فوق اثنتين، الاثنتان و ما فوقهما فهذه الجملة تتضمن بيان حظ الأنثيين، و النساء فوق اثنتين جميعا.
و مثل قول بعضهم: إن حكم البنتين هاهنا معلوم بالقياس إلى حكم الأختين في آخر آية من السورة حيث ذكرت لهما الثلثين إلى غير ذلك مما يجعل عن أمثالها كلامه تعالى.
قوله تعالى: «و لأبويه لكل واحد منهما السدس» إلى قوله: «فلأمه السدس» في عطف الأبوين في الحكم على الأولاد دلالة على أن الأبوين يشاركان الأولاد في طبقتهم، و قوله: و ورثه أبواه، أي انحصر الوارث فيهما، و في قوله: فإن كان له إخوة «إلخ» بعد قوله: فإن لم يكن له ولد و ورثه أبواه، دلالة على أن الإخوة واقعة في طبقة ثانية لاحقة لطبقة الأبناء و البنات لا ترث مع وجودهم غير أن الإخوة تحجب الأم عن الثلث.
قوله تعالى: «من بعد وصية يوصي بها أو دين» أما الوصية فهي التي تندب إليها قوله: كتب عليكم إذا حضر أحدكم الموت إن ترك خيرا الوصية الآية: «البقرة: 180» و لا ينافي تقدمها في الآية على الدين ما ورد في السنة أن الدين مقدم على الوصية لأن الكلام ربما يقدم فيه غير الأهم على الأهم لأن الأهم لمكانته و قوة ثبوته ربما لا يحتاج إلى ما يحتاج إليه غيره من التأكيد و التشديد، و منه التقديم، و على هذا فقوله: أو دين في مقام الإضراب و الترقي طبعا.
و بذلك يظهر وجه توصيف الوصية بقوله: يوصي بها ففيه دلالة على التأكيد، و لا يخلو مع ذلك من الإشعار بلزوم إكرام الميت و مراعاة حرمته فيما وصى به كما قال تعالى: فمن بدله بعد ما سمعه فإنما إثمه على الذين يبدلونه الآية: «البقرة: 181».
قوله تعالى: «آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا» الخطاب للورثة أعني لعامة المكلفين من حيث إنهم يرثون أمواتهم، و هو كلام ملقى للإيماء إلى سر اختلاف السهام في وراثة الآباء و الأبناء و نوع تعليم لهم خوطبوا به بلسان «لا تدرون» و أمثال هذه التعبيرات شائعة في اللسان.
على أنه لو كان الخطاب لغير الورثة أعني للناس من جهة أنهم سيموتون و يورثون آباءهم و أبناءهم لم يكن وجه لقوله: أقرب لكم نفعا فإن الظاهر أن المراد بالانتفاع هو الانتفاع بالمال الموروث و هو إنما يعود إلى الورثة دون الميت.
و تقديم الآباء على الأبناء يشعر بكون الآباء أقرب نفعا من الأبناء، كما في قوله تعالى: إن الصفا و المروة من شعائر الله: «البقرة: 158» و قد مرت الرواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أنه قال: أبدأ بما بدأ الله الحديث.
و الأمر على ذلك بالنظر إلى آثار الرحم و اعتبار العواطف الإنسانية فإن الإنسان أرأف بولده منه بوالديه و هو يرى بقاء ولده بقاء لنفسه دون بقاء والديه فآباء الإنسان أقوى ارتباطا و أمس وجودا به من أبنائه، و إذا بني الانتفاع الإرثي على هذا الأصل كان لازمه أن يذهب الإنسان إذا ورث أباه مثلا بسهم أزيد منه إذا ورث ابنه مثلا و إن كان ربما يسبق إلى الذهن البدوي أن يكون الأمر بالعكس.
و هذه الآية أعني قوله: آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم، نفعا من الشواهد على أنه تعالى بنى حكم الإرث على أساس تكويني خارجي كسائر الأحكام الفطرية الإسلامية.
على أن الآيات المطلقة القرآنية الناظرة إلى أصل التشريع أيضا كقوله: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم: «الروم: 30» تدل على ذلك، و كيف يتصور مع وجود أمثال هذه الآيات أن يرد في الشريعة أحكام إلزامية و فرائض غير متغيرة و ليس لها أصل في التكوين في الجملة.
و ربما يمكن أن يستشم من الآية أعني قوله: آباؤكم و أبناؤكم إلخ، تقدم أولاد الأولاد على الأجداد و الجدات فإن الأجداد و الجدات لا يرثون مع وجود الأولاد و أولاد الأولاد.
قوله تعالى: «فريضة من الله» إلخ الظاهر أنه منصوب بفعل مقدر و التقدير خذوا أو الزموا و نحو ذلك و تأكيد بالغ أن هذه السهام المذكورة قدمت إليكم و هي مفرزة معينة لا تتغير عما وضعت عليه.
و هذه الآية متكفلة لبيان سهام الطبقة الأولى و هي الأولاد و الأب و الأم على جميع تقاديرها إما تصريحا كسهم الأب و الأم و هو السدس لكل واحد منهما مع وجود الأولاد، و الثلث أو السدس للأم مع عدمهم على ما ذكر في الآية و كسهم البنت الواحدة و هو النصف، و سهم البنات إذا تفردن و هو الثلثان، و سهم البنين و البنات إذا اجتمعوا و هو للذكر مثل حظ الأنثيين، و يحلق بها سهم البنتين و هو الثلثان كما تقدم.
و إما تلويحا كسهم الابن الواحد فإنه يرث جميع المال لقوله: للذكر مثل حظ الأنثيين و قوله في البنت: و إن كانت واحدة فلها النصف، و كذا الأبناء إذا تفردوا لما يفهم من قوله: للذكر مثل حظ الأنثيين، أن الأبناء متساوون في السهام، و أمر الآية في إيجازها عجيب.
و اعلم أيضا أن مقتضى إطلاق الآية عدم الفرق في إيراث المال و و إمتاع الورثة بين النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بين سائر الناس و قد تقدم نظير هذا الإطلاق أو العموم في قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان و الأقربون و للنساء نصيب.
الآية، و ما ربما قيل: إن خطابات القرآن العامة لا تشمل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لجريانها على لسانه فهو مما لا ينبغي أن يصغي إليه.
نعم هاهنا نزاع بين أهل السنة و الشيعة في أن النبي هل يورث أو أن ما تركه صدقة و منشؤه الرواية التي رواها أبو بكر في قصة فدك و البحث فيه خارج عن وضع هذا الكتاب و لذلك نرى التعرض له هاهنا فضلا فليراجع محله المناسب له.
قوله تعالى: «و لكم نصف ما ترك أزواجكم» إلى قوله: «توصون بها أو دين» المعنى ظاهر، و قد استعمل النصف بالإضافة فقيل: نصف ما ترك، و الربع بالقطع فقيل: و لهن الربع مما تركتم فإن القطع عن الإضافة يستلزم التتميم بمن ظاهره أو مقدرة، و من هذه تفيد معنى الأخذ و الشروع من الشيء و هذا المعنى يناسب كون مدخول من كالجزء التابع من الشيء المبتدأ منه و كالمستهلك فيه، و هذا إنما يناسب ما إذا كان المدخول قليلا أو ما هو كالقليل بالنسبة إلى المبتدأ منه كالسدس و الربع و الثلث من المجموع دون مثل النصف و الثلثين، و لذا قال تعالى: السدس مما ترك، و قال: فلأمه الثلث، و قال: فلكم الربع بالقطع عن الإضافة في جميع ذلك، و قال: و لكم نصف ما ترك، و قال: فلهن ثلثا ما ترك بالإضافة، و قال: فلها النصف أي نصف ما ترك فاللام عوض عن المضاف إليه.
قوله تعالى: «و إن كان رجل يورث كلالة أو امرأة» إلى آخر الآية أصل الكلالة مصدر بمعنى الإحاطة، و منه الإكليل لإحاطته بالرأس و منه الكل - بضم الكاف - لإحاطته بالأجزاء، و منه الكل - بفتح الكاف - لنوع إحاطة منه ثقيلة على من هو كل عليه، قال الراغب: الكلالة اسم لما عدا الولد و الوالد من الورثة، قال: و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن الكلالة فقال: من مات و ليس له ولد و لا والد فجعله اسما للميت، و كلا القولين صحيح فإن الكلالة مصدر يجمع الوارث و الموروث جميعا، انتهى.
أقول: و على هذا فلا مانع من كون كان ناقصة و رجل اسمها و يورث وصفا للرجل و كلالة خبرها و المعنى: و إن كان الميت كلالة للوارث ليس أبا له و لا ابنا.
و يمكن أن يكون كان تامة و رجل يورث فاعله و كلالة مصدرا وضع موضع الحال، و يئول المعنى أيضا إلى كون الميت كلالة للورثة، و قال الزجاج على ما نقل عنه: من قرأ يورث - بكسر الراء - فكلالة مفعول، و من قرأ يورث - بفتح الراء - فكلالة منصوب على الحال.
و قوله: غير مضار منصوب على الحال، و المضارة هو الإضرار و ظاهره أن المراد به الإضرار بالدين من قبل الميت كان يعتمل بالدين للإضرار بالورثة و تحريمهم الإرث، أو المراد المضارة بالدين كما ذكروا بالوصية بما يزيد على ثلث المال.
قوله تعالى: «تلك حدود الله» إلى آخر الآيتين الحد هو الحاجز بين الشيئين الذي يمنع اختلاط أحدهما بالآخر و ارتفاع التمايز بينهما كحد الدار و البستان، و المراد بها أحكام الإرث و الفرائض المبينة، و قد عظم الله أمرها بما ذكر في الآيتين من الثواب على إطاعته و إطاعة رسوله فيها و العذاب الخالد المهين على المعصية.
كلام في الإرث على وجه كلي
هاتان الآيتان أعني قوله تعالى: يوصيكم الله في أولادكم إلى آخر الآيتين، و الآية التي في آخر السورة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة إلى آخر الآية، مع قوله تعالى: للرجال نصيب مما ترك الوالدان الآية، و مع قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله: «الأحزاب: 6، الأنفال: 7»، خمس آيات أو ست هي الأصل القرآني للإرث في الإسلام و السنة تفسرها أوضح تفسير و تفصيل.
و الكليات المنتزعة المستفادة منها التي هي الأصل في تفاصيل الأحكام أمور: منها: ما تقدم في قوله: آباؤكم و أبناؤكم لا تدرون أيهم أقرب لكم نفعا، و يظهر منها أن للقرب و البعد من الميت تأثيرا في باب الإرث، و إذا ضمت الجملة إلى بقية الآية أفادت أن ذلك مؤثر في زيادة السهم و قلته و عظمه و صغره، و إذا ضمت إلى قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله أفادت أن الأقرب نسبا في باب الإرث يمنع الأبعد.
فأقرب الأقارب إلى الميت الأب و الأم و الابن و البنت إذ لا واسطة بينهم و بين الميت، و الابن و البنت يمنعان أولاد أنفسهما لأنهم يتصلون به بواسطتهم فإذا فقدت واسطتهم فهم يقومون مقامها.
و تتلوها المرتبة الثانية و هم إخوة الميت و أخواته و جده و جدته فإنهم يتصلون بالميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم، و أولاد الأخ و الأخت يقومون مقام أبيهم و أمهم، و كل بطن يمنع من بعده من البطون كما مر.
و تتلو هذه المرتبة مرتبة أعمام الميت و أخواله و عماته و خالاته فإن بينهم و بين الميت واسطتين و هما الجد أو الجدة و الأب أو الأم، و الأمر على قيام ما مر.
و يظهر من مسألة القرب و البعد المذكورة أن ذا السببين مقدم على ذي السبب الواحد، و من ذلك تقدم كلالة الأبوين على كلالة الأب فلا ترث معها، و أما كلالة الأم فلا تزاحمها كلالة الأبوين.
و منها: أنه قد اعتبر في الوراث تقدم و تأخر من جهة أخرى فإن السهام ربما اجتمعت فتزاحمت بالزيادة على أصل التركة فمنهم من عين له عند الزحام سهم آخر كالزوج يذهب بالنصف فإذا زاحمه الولد عاد إلى الربع بعينه و مثله الزوجة في ربعها و ثمنها و كالأم تذهب بالثلث فإذا زاحمها ولد أو إخوة عادت إلى السدس و الأب لا يزول عن سدسه مع وجود الولد، و منهم من عين له سهم ثم إذا زاحمه آخر سكت عنه و لم يذكر له سهم بعينه كالبنت و البنات و الأخت و الأخوات يذهبن بالنصف و الثلثين و قد سكت عن سهامهم عند الزحام، و يستفاد منه أن أولئك المقدمين لا يزاحمون و لا يرد عليهم نقص في صورة زيادة السهام على الأصل و إنما يرد ما يرد من النقص على الآخرين المسكوت عن سهامهم عند الزحام.
و منها: أن السهام قد تزيد على المال كما إذا فرض زوج و أخوات من كلالة الأبوين فهناك نصف و ثلثان و هو زائد على مخرج المال، و كذا لو فرض أبوان و بنتان و زوج فتزيد السهام على أصل التركة فإنها سدسان و ثلثان و ربع.
و كذلك قد تزيد التركة على الفريضة كما إذا كانت هناك بنت واحدة أو بنتان فقط و هكذا، و السنة المأثورة التي لها شأن تفسير الكتاب على ما ورد من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أنه في صورة زيادة السهام على أصل المال يدخل النقص على هؤلاء الذين لم يعين لهم إلا سهم واحد و هم البنات و الأخوات دون غيرهم و هو الأم و الزوج الذين عين الله فرائضهما بحسب تغير الفروض و كذا في صورة زيادة أصل التركة على السهام يرد الزائد على من يدخل عليه النقص في الصورة السابقة كما في بنت و أب فللأب السدس و للبنت نصف المال بالفريضة و الباقي بالرد.
و قد سن عمر بن الخطاب أيام خلافته في صورة زيادة السهام العول و عمل الناس في الصدر الأول في صورة زيادة التركة بالتعصيب و سيجيء الكلام فيهما في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و منها: أن التأمل في سهام الرجال و النساء في الإرث يفيد أن سهم المرأة ينقص عن سهم الرجل في الجملة إلا في الأبوين فإن سهم الأم قد يربو على سهم الأب بحسب الفريضة و لعل تغليب جانب الأم على جانب الأب أو تسويتهما لكونها في الإسلام أمس رحما بولدها و مقاساتها كل شديدة في حمله و وضعه و حضانته و تربيته، قال تعالى: و وصينا الإنسان بوالديه إحسانا حملته أمه كرها و وضعته كرها و حمله و فصاله ثلاثون شهرا: «الأحقاف: 15» و خروج سهمها عن نصف ما للرجل إلى حد المساواة أو الزيادة تغليب لجانبها قطعا.
و أما كون سهم الرجل في الجملة ضعف سهم المرأة فقد اعتبر فيه فضل الرجل على المرأة بحسب تدبير الحياة عقلا و كون الإنفاق اللازم على عهدته، قال تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم: «النساء: 34» و القوام من القيام و هو إدارة المعاش، و المراد بالفضل هو الزيادة في التعقل فإن حياته حياة تعقلية و حياة المرأة إحساسية عاطفية، و إعطاء زمام المال يدا عاقلة مدبرة أقرب إلى الصلاح من إعطائه يدا ذات إحساس عاطفي و هذا الإعطاء.
و التخصيص إذا قيس إلى الثروة الموجودة في الدنيا المنتقلة من الجيل الحاضر إلى الجيل التالي يكون تدبير ثلثي الثروة الموجودة إلى الرجال و تدبير ثلثها إلى النساء فيغلب تدبير التعقل على تدبير الإحساس و العواطف فيصلح أمر المجتمع و تسعد الحياة.
و قد تدورك هذا الكسر الوارد على النساء بما أمر الله سبحانه الرجل بالعدل في أمرها الموجب لاشتراكها مع الرجل فيما بيده من الثلثين فتذهب المرأة بنصف هذين الثلثين من حيث المصرف، و عندها الثلث الذي تتملكه و بيدها أمر ملكه و مصرفه.
و حاصل هذا الوضع و التشريع العجيب أن الرجل و المرأة متعاكسان في الملك و المصرف فللرجل ملك ثلثي ثروة الدنيا و له مصرف ثلثها، و للمرأة ملك ثلث الثروة و لها مصرف ثلثيها، و قد لوحظ في ذلك غلبة روح التعقل على روح الإحساس و العواطف في الرجل، و التدبير المالي بالحفظ و التبديل و الإنتاج و الاسترباح أنسب و أمس بروح التعقل، و غلبة العواطف الرقيقة و الإحساسات اللطيفة على روح التعقل في المرأة، و ذلك بالمصرف أمس و ألصق فهذا هو السر في الفرق الذي اعتبره الإسلام في باب الإرث و النفقات بين الرجال و النساء.
و ينبغي أن يكون زيادة روح التعقل بحسب الطبع في الرجل و مزيته على المرأة في هذا الشأن هو المراد بالفضل الذي ذكره الله سبحانه في قوله عز من قائل: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية، دون الزيادة في البأس و الشدة و الصلابة فإن الغلظة و الخشونة في قبيل الرجال و إن كانت مزية وجودية يمتاز بها الرجل من المرأة و تترتب عليها في المجتمع الإنساني آثار عظيمة في أبواب الدفاع و الحفظ و الأعمال الشاقة و تحمل الشدائد و المحن و الثبات و السكينة في الهزاهز و الأهوال، و هذه شئون ضرورية في الحياة لا يقوم لها قبيل النساء بالطبع.
لكن النساء أيضا مجهزات بما يقابلها من الإحساسات اللطيفة و العواطف الرقيقة التي لا غنى للمجتمع عنها في حياته، و لها آثار هامة في أبواب الأنس و المحبة و السكن و الرحمة و الرأفة و تحمل أثقال التناسل و الحمل و الوضع و الحضانة و التربية و التمريض و خدمة البيوت، و لا يصلح شأن الإنسان بالخشونة و الغلظة لو لا اللينة و الرقة، و لا بالغضب لو لا الشهوة، و لا أمر الدنيا بالدفع لو لا الجذب.
و بالجملة هذان تجهيزان متعادلان في الرجل و المرأة يتعادل بهما كفتا الحياة في المجتمع المختلط المركب من القبيلين، و حاشاه سبحانه أن يحيف في كلامه أو يظلم في حكمه أم يخافون أن يحيف الله عليهم، و لا يظلم ربك أحدا و هو القائل: بعضكم من بعض: «آل عمران: 195» و قد أشار إلى هذا الالتيام و البعضية بقوله في الآية: بما فضل الله بعضهم على بعض.
و قال أيضا: و من آياته أن خلقكم من تراب ثم إذا أنتم بشر تنتشرون و من آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها و جعل بينكم مودة و رحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون: «الروم: 21» فانظر إلى عجيب بيان الآيتين حيث وصف الإنسان و هو الرجل بقرينة المقابلة بالانتشار و هو السعي في طلب المعاش، و إليه يعود جميع أعمال اقتناء لوازم الحياة بالتوسل إلى القوة و الشدة حتى ما في المغالبات و الغزوات و الغارات و لو كان للإنسان هذا الانتشار فحسب لانقسم أفراده إلى واحد يكر و آخر يفر.
لكن الله سبحانه خلق النساء و جهزهن بما يوجب أن يسكن إليهن الرجال و جعل بينهم مودة و رحمة فاجتذبن الرجال بالجمال و الدلال و المودة و الرحمة، فالنساء هن الركن الأول و العامل الجوهري للاجتماع الإنساني.
و من هنا ما جعل الإسلام الاجتماع المنزلي و هو الازدواج هو الأصل في هذا الباب قال تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: «الحجرات: 13»، فبدأ بأمر ازدواج الذكر و الأنثى و ظهور التناسل بذلك ثم بنى عليه الاجتماع الكبير المتكون من الشعوب و القبائل.
و من ذيل الآية يظهر أن التفضيل المذكور في قوله: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض الآية، إنما هو تفضيل في التجهيز بما ينتظم به أمر الحياة الدنيوية أعني المعاش أحسن تنظيم، و يصلح به حال المجتمع إصلاحا جيدا، و ليس المراد به الكرامة التي هي الفضيلة الحقيقية في الإسلام و هي القربى و الزلفى من الله سبحانه فإن الإسلام لا يعبأ بشيء من الزيادات الجسمانية التي لا يستفاد منها إلا للحياة المادية و إنما هي وسائل يتوسل بها لما عند الله.
فقد تحصل من جميع ما قدمنا أن الرجال فضلوا على النساء بروح التعقل الذي أوجب تفاوتا في أمر الإرث و ما يشبهه لكنها فضيلة بمعنى الزيادة و أما الفضيلة بمعنى الكرامة التي يعتني بشأنها الإسلام فهي التقوى أينما كانت.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و البخاري و مسلم و أبو داود و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و البيهقي في سننه من طرق جابر بن عبد الله قال: عادني رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و أبو بكر في بني سلمة ماشيين فوجدني النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا أعقل شيئا فدعا بماء فتوضأ منه ثم رش علي فأفقت فقلت: ما تأمرني أن أصنع في مالي يا رسول الله؟ فنزلت: يوصيكم الله في أولادكم للذكر مثل حظ الأنثيين.
أقول: قد تقدم مرارا أن أسباب النزول المروية لا تأبى أن تتعدد و تجتمع عدة منها في آية، و لا تنافي عدم انحصار عناية الآية النازلة فيها و لا أن يتصادف النزول فينطبق عليها مضمون الآية فلا يضر بالرواية ما فيها من قول جابر: ما تأمرني أن أصنع بمالي يا رسول الله فنزلت «إلخ»، مع أن قسمة المال لم يكن عليه حتى يجاب بالآية، و أعجب منه ما رواه أيضا عن عبد بن حميد و الحاكم عن جابر قال: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يعودني و أنا مريض فقلت: كيف أقسم مالي بين ولدي؟ فلم يرد علي شيئا و نزلت: يوصيكم الله في أولادكم.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم عن السدي قال: كان أهل الجاهلية لا يورثون الجواري، و لا الضعفاء من الغلمان، لا يرث الرجل من والده إلا من أطاق القتال فمات عبد الرحمن أخو حسان الشاعر، و ترك امرأة له يقال لها: أم كحة و ترك خمس جوار فجاءت الورثة فأخذوا ماله فشكت أم كحة ذلك إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله هذه الآية: فإن كن نساء فوق اثنتين فلهن ثلثا ما ترك - و إن كانت واحدة فلها النصف ثم قال في أم كحة: و لهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد - فإن كان لكم ولد فلهن الثمن.
و فيه، أيضا عنهما عن ابن عباس قال: لما نزلت آية الفرائض التي فرض الله فيها ما فرض للولد الذكر و الأنثى و الأبوين كرهها الناس أو بعضهم و قالوا: تعطى المرأة الربع أو الثمن، و تعطى الابنة النصف، و يعطى الغلام الصغير، و ليس من هؤلاء أحد يقاتل القوم، و لا يحوز الغنيمة، و كانوا يفعلون ذلك في الجاهلية لا يعطون الميراث إلا لمن قاتل القوم و يعطونه الأكبر فالأكبر.
أقول: و كان منه التعصيب و هو إعطاء الميراث عصبة الأب إذا لم يترك الميت ابنا كبيرا يطيق القتال، و قد عمل به أهل السنة في الزائد على الفريضة فيما إذا لم يستوعب السهام التركة، و ربما وجد شيء من ذلك في رواياتهم لكن وردت الروايات من طرق أهل البيت (عليهم السلام) بنفي التعصيب، و أن الزائد على الفرائض يرد على من ورد عليه النقص و هم الأولاد و الإخوة من الأبوين أو الأب، و إلى الأب في بعض الصور، و الذي يستفاد من الآيات يوافق ذلك على ما مر.
و فيه، أخرج الحاكم و البيهقي عن ابن عباس قال: أول من أعال الفرائض عمر تدافعت عليه و ركب بعضها بعضا قال: و الله ما أدري كيف أصنع بكم؟ و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد في هذا المال شيئا أحسن من أن أقسمه عليكم بالحصص! ثم قال ابن عباس: و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت فريضة، فقيل له: و أيها قدم الله؟ قال: كل فريضة لم يهبطها الله من فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، و كل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر الله فالذي قدم كالزوجين و الأم، و الذي أخر كالأخوات و البنات فإذا اجتمع من قدم الله و أخر بدىء بمن قدم فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لهن، و إن لم يبق شيء فلا شيء لهن.
و فيه، أيضا أخرج سعيد بن منصور عن ابن عباس قال: أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في المال نصفا و ثلثا و ربعا؟ إنما هو نصفان و ثلاثة أثلاث و أربعة أرباع.
و فيه، أيضا عنه عن عطاء قال: قلت لابن عباس: إن الناس لا يأخذون بقولي و لا بقولك و لو مت أنا و أنت ما اقتسموا ميراثا على ما تقول قال: فليجتمعوا فلنضع أيدينا على الركن ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين ما حكم الله بما قالوا.
أقول: و هذا المعنى منقول عن ابن عباس من طرق الشيعة أيضا كما يأتي.
في الكافي، عن الزهري عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة قال: جالست ابن عباس فعرض ذكر الفرائض من المواريث فقال ابن عباس: سبحان الله العظيم أ ترون الذي أحصى رمل عالج عددا جعل في مال نصفا و نصفا و ثلثا؟! فهذان النصفان قد ذهبا بالمال فأين موضع الثلث؟ فقال له زفر بن أوس البصري: يا أبا العباس فمن أول من أعال هذه الفرائض؟ فقال: عمر بن الخطاب لما التفت عنده الفرائض و دفع بعضها بعضا قال: و الله ما أدري أيكم قدم الله و أيكم أخر؟ و ما أجد شيئا أوسع من أن أقسم عليكم هذا المال بالحصص و أدخل على كل ذي حق حقه فأدخل عليه من عول الفرائض و أيم الله لو قدم من قدم الله و أخر من أخر الله ما عالت الفريضة، فقال له زفر بن أوس: و أيها قدم و أيها أخر؟ فقال: كل فريضة لم يهبطها الله عن فريضة إلا إلى فريضة فهذا ما قدم الله، و أما ما أخر الله فكل فريضة إذا زالت عن فرضها لم يكن لها إلا ما بقي فتلك التي أخر، فأما التي قدم فالزوج له النصف فإذا دخل عليه ما يزيله عنه رجع إلى الربع لا يزيله عنه شيء، و الزوجة لها الربع فإذا زالت إلى الثمن لا يزيلها عنه شيء، و الأم لها الثلث فإذا زالت عنه صارت إلى السدس و لا يزيلها عنه شيء فهذه الفرائض التي قدم الله عز و جل، و أما التي أخر ففريضة البنات و الأخوات لها النصف و الثلثان فإذا أزالتهن الفرائض عن ذلك لم يكن لها إلا ما بقي، فتلك التي أخر الله، فإذا اجتمع ما قدم الله و ما أخر بدىء بما قدم الله فأعطي حقه كاملا فإن بقي شيء كان لمن أخر و إن لم يبق شيء فلا شيء له، فقال له زفر: فما منعك أن تشير بهذا الرأي على عمر؟ فقال: هيبته.
أقول: و هذا القول من ابن عباس مسبوق بقول علي (عليه السلام) بنفي العول، و هو مذهب أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كما يأتي.
في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) في حديث قال: كان أمير المؤمنين (عليه السلام) يقول: إن الذي أحصى رمل عالج ليعلم أن السهام لا تعول على ستة لو تبصرون وجهها لم تجز ستة.
أقول: في الصحاح: أن عالج موضع بالبادية به رمل، و قوله (عليه السلام): إن السهام لا تعول على ستة أي لا تميل على الستة حتى تغيرها إلى غيرها، و الستة هي السهام المصرح بها في الكتاب و هي: النصف و الثلث و الثلثان و الربع و السدس و الثمن.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام) قال: قال أمير المؤمنين (عليه السلام): الحمد لله الذي لا مقدم لما أخر، و لا مؤخر لما قدم، ثم ضرب بإحدى يديه على الأخرى، ثم قال: يا أيتها الأمة المتحيرة بعد نبيها لو كنتم قدمتم من قدم الله و أخرتم من أخر الله، و جعلتم الولاية و الوراثة حيث جعلها الله ما عال ولي الله، و لا عال سهم من فرائض الله، و لا اختلف اثنان في حكم الله، و لا تنازعت الأمة في شيء من أمر الله إلا و عند علي علمه من كتاب الله، فذوقوا وبال أمركم و ما فرطتم فيما قدمت أيديكم، و ما الله بظلام للعبيد، و سيعلم الذي ظلموا أي منقلب ينقلبون.
أقول: و توضيح ورود النقص على حظوظ الورثة زيادة على ما مر أن الفرائض المذكورة في كلامه تعالى ست: النصف، و الثلثان، و الثلث، و السدس، و الربع، و الثمن، و هذه السهام قد يجتمع بعضها مع بعض بحيث يحصل التزاحم كما أنه قد يجتمع النصف و السدسان و الربع في الطبقة الأولى كبنت و أب و أم و زوج فتزيد السهام على الأصل، و كذا الثلثان و السدسان و الربع كبنتين و أبوين و زوج فتتزاحم، و كذلك يجتمع النصف و الثلث و الربع و السدس في الطبقة الثانية كأخت و جدين للأب و الأم و زوجة، و كذا الثلثان و الثلث و الربع و السدس كأختين و جدين و زوج.
فإن أوردنا النقص على جميع السهام كان العول، و إن حفظنا فريضة الأبوين و الزوجين و كلالة الأم و هي الثلث و السدس و النصف و الربع و الثمن عن ورود النقص عليها - لأن الله عين هذه السهام و لم يبهمها في حال بخلاف سهام البنت الواحدة فما زادت و الأخت الواحدة لأبوين أو لأب فما زادت و بخلاف سهام الذكر و الأنثى عند الوحدة و الكثرة - ورد النقص دائما على الأولاد و الإخوة و الأخوات لما مر.
و أما كيفية الرد فليراجع فيها إلى جوامع الحديث و كتب الفقه.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و البيهقي في سننه عن زيد بن ثابت: أنه كان يحجب الأم بالأخوين فقالوا له: يا أبا سعيد إن الله يقول: فإن كان له إخوة و أنت تحجبها بأخوين؟ فقال: إن العرب تسمي الأخوين إخوة.
أقول: و هو المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و إن كان المعروف أن الإخوة جمع الأخ و لا يطلق الجمع على ما دون الثلاثة.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يحجب الأم عن الثلث إلا أخوان أو أربع أخوات لأب و أم أو لأب أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و أما الإخوة لأم فإنهم يتقربون بالأم و هي بوجودها تمنعهم، و في أخبار الفريقين أن الإخوة يحجبون الأم و لا يرثون لوجود من يتقدم عليهم في الميراث و هو الأبوان فحجب الإخوة الأم مع عدم إرثهم إنما هو نوع مراعاة لحال الأب من حيث رد الزائد على الفريضة إليه، و منه يعلم وجه عدم حجب الإخوة للأم فإنهم ليسوا عالة للأب.
و في المجمع، في قوله تعالى: من بعد وصية يوصي بها أو دين، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): أنكم تقرءون في هذه الآية الوصية قبل الدين، و أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قضى بالدين قبل الوصية: أقول: و رواه السيوطي في الدر المنثور عن عدة من أرباب الجوامع و التفاسير.
و في الكافي، في معنى الكلالة عن الصادق (عليه السلام): من ليس بوالد و لا ولد.
و فيه، عنه (عليه السلام) في قوله تعالى: و إن كان رجل يورث كلالة الآية، إنما عنى بذلك الإخوة و الأخوات من الأم خاصة.
أقول: و الأخبار في ذلك كثيرة و قد رواها أهل السنة، و قد استفاضت الروايات بذلك و أن حكم كلالة الأب و الأبوين هو المذكور في الآية الخاتمة للسورة: يستفتونك قل الله يفتيكم في الكلالة الآية.
و من الشواهد على ذلك أن الفرائض المذكورة للكلالة في آخر السورة تربو على ما ذكر لهم في هذه الآية زيادة ضعف أو أزيد، و من المستفاد من سياق الآيات و ذكر الفرائض أنه تعالى يرجح سهم الرجال على النساء في الجملة ترجيح المثلين على المثل أو ما يقرب من ذلك مهما أمكن، و الكلالة إنما يتقرب إلى الميت من جهة الأم و الأب أو أحدهما فالتفاوت المراعى في جانب الأب و الأم يسري إليهم فيترجح لا محالة فرائض كلالة الأبوين أو الأب على كلالة الأم و يكشف بذلك أن القليل لكلالة الأم و الكثير لغيره.
و في المعاني، بإسناده إلى محمد بن سنان: أن أبا الحسن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة إعطاء النساء نصف ما يعطى الرجال من الميراث: لأن المرأة إذا تزوجت أخذت و الرجل يعطي فلذلك وفر على الرجال و علة أخرى في إعطاء الذكر مثلي ما تعطى الأنثى لأن الأنثى من عيال الذكر إن احتاجت، و عليه أن يعولها و عليه نفقتها، و ليس على المرأة أن تعول الرجل و لا تؤخذ بنفقته إن احتاج فوفر على الرجال لذلك، و ذلك قول الله عز و جل: الرجال قوامون على النساء - بما فضل الله بعضهم على بعض و بما أنفقوا من أموالهم.
و في الكافي، بإسناده عن الأحول قال: قال ابن أبي العوجاء: ما بال المرأة المسكينة الضعيفة تأخذ سهما واحدا و يأخذ الرجال سهمين؟ فذكر ذلك بعض أصحابنا لأبي عبد الله (عليه السلام) فقال: إن المرأة ليس عليها جهاد، و لا نفقة، و لا معقلة، فإنما ذلك على الرجال فلذلك جعل للمرأة سهما واحدا، و للرجل سهمين.
أقول: و الروايات في هذا المعنى كثيرة و قد مر دلالة الكتاب أيضا على ذلك.
بحث علمي في فصول
1 - ظهور الإرث:
كان الإرث أعني تملك بعض الأحياء المال الذي تركه الميت من أقدم السنن الدائرة في المجتمع الإنساني، و قد خرج عن وسع ما بأيدينا من تواريخ الأمم و الملل الحصول على مبدإ حصوله، و من طبيعة الأمر أيضا ذلك فإنا نعلم بالتأمل في طبيعة الإنسان الاجتماعية أن المال و خاصة لو كان مما لا يد عليه يحن إليه الإنسان و يتوق إليه نفسه لصرفه في حوائجه، و حيازته و خاصة فيما لا مانع عنه من دءوبه الأولية القديمة، و الإنسان في ما كونه من مجتمعة همجيا أو مدنيا لا يستغني عن اعتبار القرب و الولاية المنتجين للأقربية و الأولوية بين أفراد المجتمع الاعتبار الذي عليه المدار في تشكل البيت و البطن و العشيرة و القبيلة و نحو ذلك، فلا مناص في المجتمع من كون بعض الأفراد أولى ببعض كالولد بوالديه و الرحم برحمه، و الصديق بصديقه، و المولى بعبده، و أحد الزوجين بالآخر، و الرئيس بمرءوسه حتى القوي بالضعيف، و إن اختلفت المجتمعات في تشخيص ذلك اختلافا شديدا يكاد لا تناله يد الضبط.
و لازم هذين الأمرين كون الإرث دائرا بينهم من أقدم العهود الاجتماعية.
2 - تحول الإرث تدريجيا:
لم تزل هذه السنة كسائر السنن الجارية في المجتمعات الإنسانية تتحول من حال إلى حال و تلعب بها يد التطور و التكامل منذ أول ظهورها غير أن الأمم الهمجية لما لم تستقر على حال منتظم تعسر الحصول في تواريخهم على تحوله المنتظم حصولا يفيد وثوقا به.
و القدر المتيقن من أمرهم أنهم كانوا يحرمون النساء و الضعفاء الإرث، و إنما كان يختص بالأقوياء و ليس إلا لأنهم كانوا يعاملون مع النساء و الضعفاء من العبيد و الصغار معاملة الحيوان المسخر و السلع و الأمتعة التي ليس لها إلا أن ينتفع بها الإنسان دون أن تنتفع هي بالإنسان و ما في يده أو تستفيد من الحقوق الاجتماعية التي لا تتجاوز النوع الإنساني.
و مع ذلك كان يختلف مصداق القوي في هذا الباب برهة بعد برهة فتارة مصداقه رئيس الطائفة أو العشيرة، و تارة رئيس البيت، و تارة أخرى أشجع القوم و أشدهم بأسا، و كان ذلك يوجب طبعا تغير سنة الإرث تغيرا جوهريا.
و لكون هذه السنن الجارية لا تضمن ما تقترحه الفطرة الإنسانية من السعادة المقترحة كان يسرع إليها التغير و التبدل حتى أن الملل المتمدنة التي كان يحكم بينهم القوانين أو ما يجري مجراها من السنن المعتادة الملية كان شأنهم ذلك كالروم و اليونان، و ما عمر قانون من قوانين الإرث الدائرة بين الأمم حتى اليوم مثل ما عمرت سنة الإرث الإسلامية فقد حكمت في الأمم الإسلامية منذ أول ظهورها إلى اليوم ما يقرب من أربعة عشر قرنا.
3 - الوراثة بين الأمم المتمدنة:
من خواص الروم أنهم كانوا يرون للبيت في نفسه استقلالا مدنيا يفصله عن المجتمع العام و يصونه عن نفوذ الحكومة العامة في جل ما يرتبط بأفراده من الحقوق الاجتماعية، فكان يستقل في الأمر و النهي و الجزاء و السياسة و نحو ذلك.
و كان رب البيت هو معبودا لأهله من زوجة و أولاد و عبيد، و كان هو المالك من بينهم و لا يملك دونه أحد ما دام أحد أفراد البيت، و كان هو الولي عليهم القيم بأمرهم باختياره المطلق النافذ فيهم، و كان هو يعبد رب البيت السابق من أسلافه.
و إذا كان هناك مال يرثه البيت كما إذا مات بعض الأبناء فيما ملكه بإذن رب البيت اكتسابا أو بعض البنات فيما ملكته بالازدواج صداقا و أذن لها رب البيت أو بعض الأقارب فإنما كان يرثه رب البيت لأنه مقتضى ربوبيته و ملكه المطلق للبيت و أهله.
و إذا مات رب البيت فإنما كان يرثه أحد أبنائه أو إخوانه ممن في وسعه ذلك و ورثه الأبناء فإن انفصلوا و أسسوا بيوتا جديدة كانوا أربابها و إن بقوا في بيتهم القديم كان نسبتهم إلى الرب الجديد أخيهم مثلا هي النسبة السابقة إلى أبيهم من الورود تحت قيمومته و ولايته المطلقة.
و كذا كان يرثه الأدعياء لأن الادعاء و التبني كان دائرا عندهم كما بين العرب في الجاهلية.
و أما النساء كالزوجة و البنت و الأم فلم يكن يرثن لئلا ينتقل مال البيت بانتقالهن إلى بيوت أخرى بالازدواج فإنهم ما كانوا يرون جواز انتقال الثروة من بيت إلى آخر، و هذا هو الذي ربما ذكره بعضهم فقال: إنهم كانوا يقولون بالملكية الاشتراكية الاجتماعية دون الانفرادية الفردية و أظن أن مأخذه شيء آخر غير الملك الاشتراكي فإن الأقوام الهمجية المتوحشة أيضا من أقدم الأزمنة كانوا يمتنعون من مشاركة غيرهم من الطوائف البدوية فيما حازوه من المراعي و الأراضي الخصبة و حموه لأنفسهم و كانوا يحاربون عليه و يدفعون عن محمياتهم و هذا نوع من الملك العام الاجتماعي الذي مالكه هيئة المجتمع الإنساني دون أفراده، و هو مع ذلك لا ينفي أن يملك كل فرد من المجتمع شيئا من هذا الملك العام اختصاصا.
و هذا ملك صحيح الاعتبار غير أنهم ما كانوا يحسنون تعديل أمره و الاستدرار منه، و قد احترمه الإسلام كما ذكرناه فيما تقدم، قال تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا: «البقرة: 29» فالمجتمع الإنساني و هو المجتمع الإسلامي و من هو تحت ذمته هو المالك لثروة الأرض بهذا المعنى ثم المجتمع الإسلامي هو المالك لما في يده من الثروة و لذلك لا يرى الإسلام إرث الكافر من المسلم.
و لهذا النظر آثار و نماذج في بعض الملل الحاضرة حيث لا يرون جواز تملك الأجانب شيئا من الأراضي و الأموال غير المنقولة من أوطانهم و نحو ذلك.
و لما كان البيت في الروم القديم ذا استقلال و تمام في نفسه كان قد استقر فيه هذه العادة القديمة المستقرة في الطوائف و الممالك المستقلة.
و كان قد أنتج استقرار هذه العادة أو السنة في بيوت الروم مع سنتهم في التزويج من منع الازدواج بالمحارم أن القرابة انقسمت عندهم قسمين: أحدهما القرابة الطبيعية و هي الاشتراك في الدم، و كان لازمها منع الازدواج في المحارم و جوازه في غيرهم، و الثاني القرابة الرسمية و هي القانونية و لازمها الإرث و عدمه و النفقة و الولاية و غير ذلك فكان الأبناء أقرباء ذوي قرابة طبيعية و رسمية معا بالنسبة إلى رب البيت و رئيسه و في ما بينهم، أنفسهم و كانت النساء جميعا ذوات قرابة طبيعية لا رسمية فكانت المرأة لا ترث والدها و لا ولدها و لا أخاها و لا بعلها و لا غيرهم.
هذه سنة الروم القديم.
و أما اليونان فكان وضعهم القديم في تشكل البيوت قريبا من وضع الروم القديم، و كان الميراث فيهم يرثه أرشد الأولاد الذكور، و يحرم النساء جميعا من زوجة و بنت و أخت، و يحرم صغار الأولاد و غيرهم غير أنهم كالروميين ربما كانوا يحتالون لإيراث الصغار من أبنائهم و من أحبوها و أشفقوا عليها من زوجاتهم و بناتهم و أخواتهم بحبل متفرقة تسهل الطريق لامتاعهن بشيء من الميراث قليل أو كثير بوصية أو نحوها و سيجيء الكلام في أمر الوصية.
و أما الهند و مصر و الصين فكان أمر الميراث في حرمان النساء منه مطلقا و حرمان ضعفاء الأولاد أو بقاؤهم تحت الولاية و القيمومة قريبا مما تقدم من سنة الروم و اليونان.
و أما الفرس فإنهم كانوا يرون نكاح المحارم و تعدد الزوجات كما تقدم و يرون التبني، و كانت أحب النساء إلى الزوج ربما قامت مقام الابن بالادعاء و ترث كما يرث الابن و الدعي بالسوية و كانت تحرم بقية الزوجات، و البنت المزوجة لا ترث حذرا من انتقال المال إلى خارج البيت، و التي لم تزوج بعد ترث نصف سهم الابن، فكانت الزوجات غير الكبيرة و البنت المزوجة محرومات، و كانت الزوجة الكبيرة و الابن و الدعي و البنت غير المزوجة بعد مرزوقين.
و أما العرب فقد كانوا يحرمون النساء مطلقا و الصغار من البنين و يمتعون أرشد الأولاد ممن يركب الفرس و يدفع عن الحرمة، فإن لم يكن فالعصبة.
هذا حال الدنيا يوم نزلت آيات الإرث، ذكرها و تعرض لها كثير من تواريخ آداب الملل و رسومهم و الرحلات و كتب الحقوق و أمثالها من أراد الاطلاع على تفاصيل القول أمكنه أن يراجعها.
و قد تلخص من جميع ما مر أن السنة كانت قد استقرت في الدنيا يومئذ على حرمان النساء بعنوان أنهن زوجة أو أم أو بنت أو أخت إلا بعناوين أخرى مختلفة، و على حرمان الصغار و الأيتام إلا في بعض الموارد تحت عنوان الولاية و القيمومة الدائمة غير المنقطعة.
4 - ما ذا صنع الإسلام و الظرف هذا الظرف؟:
قد تقدم مرارا أن الإسلام يرى أن الأساس الحق للأحكام و القوانين الإنسانية هو الفطرة التي فطر الناس عليها و لا تبديل لخلق الله، و قد بنى الإرث على أساس الرحم التي هي من الفطرة و الخلقة الثابتة، و قد ألغى إرث الأدعياء حيث يقول تعالى: و ما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم و الله يقول الحق و هو يهدي السبيل ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله، فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين و مواليكم: «الأحزاب: 5».
ثم أخرج الوصية من تحت عنوان الإرث و أفردها عنوانا مستقلا يعطى به و يؤخذ و إن كانوا يسمون التملك من جهة الإيصاء إرثا، و ليس ذلك مجرد اختلاف في التسمية فإن لكل من الوصية و الإرث ملاكا آخر و أصلا فطريا مستقلا، فملاك الإرث هو الرحم و لا نفوذ لإرادة المتوفى فيها أصلا، و ملاك الوصية نفوذ إرادة المتوفى بعد وفاته و إن شئت قل: حين ما يوصي في ما يملكه في حياته و احترام مشيته، فلو أدخلت الوصية في الإرث لم يكن ذلك إلا مجرد تسمية.
و أما ما كان يسميها الناس كالروم القديم مثلا إرثا فلم يكن لاعتبارهم في سنة الإرث أحد الأمرين، إما الرحم و إما احترام إرادة الميت بل حقيقة الأمر أنهم كانوا يبنون الإرث على احترام الإرادة و هي إرادة الميت بقاء المال الموروث في البيت الذي كان فيه تحت يد رئيس البيت و ربه أو إرادته انتقاله بعد الموت إلى من يحبه الميت و يشفق عليه فكان الإرث على أي حال يبتني على احترام الإرادة و لو كان مبتنيا على أصل الرحم و اشتراك الدم لرزق من المال كثير من المحرومين منه، و حرم كثير من المرزوقين.
ثم إنه بعد ذلك عمد إلى الإرث و عنده في ذلك أصلان جوهريان: أصل الرحم و هو العنصر المشترك بين الإنسان و أقربائه لا يختلف فيه الذكور و الإناث و الكبار و الصغار حتى الأجنة في بطون أمهاتهم و إن كان مختلف الأثر في التقدم و التأخر، و منع البعض للبعض من جهة قوته و ضعفه بالقرب من الإنسان و البعد منه، و انتفاء الوسائط و تحققها قليلا أو كثيرا كالولد و الأخ و العم، و هذا الأصل يقضي باستحقاق أصل الإرث مع حفظ الطبقات المتقدمة و المتأخرة.
و أصل اختلاف الذكر و الأنثى في نحو وجود القرائح الناشئة عن الاختلاف في تجهيزهما بالتعقل و الإحساسات، فالرجل بحسب طبعه إنسان التعقل كما أن المرأة مظهر العواطف و الإحساسات اللطيفة الرقيقة، و هذا الفرق مؤثر في حياتيهما التأثير البارز في تدبير المال المملوك، و صرفه في الحوائج، و هذا الأصل هو الموجب للاختلاف في السهام في الرجل و المرأة و إن وقعا في طبقة واحدة كالابن و البنت، و الأخ و الأخت في الجملة على ما سنبينه.
و استنتج من الأصل الأول ترتب الطبقات بحسب القرب و البعد من الميت لفقدان الوسائط و قلتها و كثرتها فالطبقة الأولى هي التي تتقرب من الميت بلا واسطة و هي الابن و البنت و الأب و الأم، و الثانية الأخ و الأخت و الجد و الجدة و هي تتقرب من الميت بواسطة واحدة و هي الأب أو الأم أو هما معا، و الثالثة العم و العمة و الخال و الخالة، و هي تتقرب إلى الميت بواسطتين.
و هما أب الميت أو أمه و جده أو جدته، و على هذا القياس، و الأولاد في كل طبقة يقومون مقام آبائهم و يمنعون الطبقة اللاحقة و روعي حال الزوجين لاختلاط دمائهما بالزواج مع جميع الطبقات فلا يمنعهما طبقة و لا يمنعان طبقة.
ثم استنتج من الأصل الثاني اختلاف الذكر و الأنثى في غير الأم و الكلالة المتقربة بالأم بأن للذكر مثل حظ الأنثيين.
و السهام الستة المفروضة في الإسلام النصف و الثلثان و الثلث و الربع و السدس و الثمن و إن اختلفت، و كذا المال الذي ينتهي إلى أحد الوراث و إن تخلف عن فريضته غالبا بالرد أو النقص الوارد و كذا الأب و الأم و كلالة الأم و إن تخلفت فرائضهم عن قاعدة «للذكر مثل حظ الأنثيين» و لذلك يعسر البحث الكلي الجامع في باب الإرث إلا أن الجميع بحسب اعتبار النوع في تخليف السابق للاحق يرجع إلى استخلاف أحد الزوجين للآخر و استخلاف الطبقة المولدة و هم الآباء و الأمهات للطبقة المتولدة و هم الأولاد، و الفريضة الإسلامية في كل من القبيلين أعني الأزواج و الأولاد للذكر مثل حظ الأنثيين.
و ينتج هذا النظر الكلي أن الإسلام يرى اقتسام الثروة الموجودة في الدنيا بالثلث و الثلثين فللأنثى ثلث و للذكر ثلثان هذا من حيث التملك لكنه لا يرى نظير هذا الرأي في الصرف للحاجة فإنه يرى نفقة الزوجة على الزوج و يأمر بالعدل المقتضي للتساوي في المصرف و يعطي للمرأة استقلال الإرادة و العمل فيما تملكه من المال لا مداخلة للرجل فيه، و هذه الجهات الثلاث تنتج أن للمرأة أن تتصرف في ثلثي ثروة الدنيا الثلث الذي تملكها و نصف الثلثين الذين يملكهما الرجل و ليس في قبال تصرف الرجل إلا الثلث.
5 - علام استقر حال النساء و اليتامى في الإسلام:
أما اليتامى فهم يرثون كالرجال الأقوياء، و يربون و ينمي أموالهم تحت ولاية الأولياء كالأب و الجد أو عامة المؤمنين أو الحكومة الإسلامية حتى إذا بلغوا النكاح و أونس منهم الرشد دفعت إليهم أموالهم و استووا على مستوى الحياة المستقلة، و هذا أعدل السنن المتصورة في حقهم.
و أما النساء فإنهن بحسب النظر العام يملكن ثلث ثروة الدنيا و يتصرفن في ثلثيها بما تقدم من البيان، و هن حرات مستقلات فيما يملكن لا يدخلن تحت قيمومة دائمة و لا موقتة و لا جناح على الرجال فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف.
فالمرأة في الإسلام ذات شخصية تساوي شخصية الرجل في حرية الإرادة و العمل من جميع الجهات، و لا تفارق حالها حال الرجل إلا في ما تقتضيه صفتها الروحية الخاصة المخالفة لصفة الرجل الروحية و هي أن لها حياة إحساسية و حياة الرجل تعقلية فاعتبر للرجل زيادة في الملك العام ليفوق تدبير التعقل في الدنيا على تدبير الإحساس و العاطفة، و تدورك ما ورد عليها من النقص باعتبار غلبتها في التصرف، و شرعت عليها وجوب إطاعة الزوج في أمر المباشرة و تدورك ذلك بالصداق، و حرمت القضاء و الحكومة و المباشرة للقتال لكونها أمورا يجب بناؤها على التعقل دون الإحساس، و تدورك ذلك بوجوب حفظ حماهن و الدفاع عن حريمهن على الرجال، و وضع على عاتقهم أثقال طلب الرزق و الإنفاق عليها و على الأولاد و على الوالدين و لها حق حضانة الأولاد من غير إيجاب، و قد عدل جميع هذه الأحكام بأمور أخرى دعين إليها كالتحجب و قلة مخالطة الرجال و تدبير المنزل و تربية الأولاد.
و قد أوضح معنى امتناع الإسلام عن إعطاء التدابير العامة الاجتماعية كتدبير الدفاع و القضاء و الحكومة للعاطفة و الإحساس و وضع زمامها في يدها، النتائج المرة التي يذوقها المجتمع البشري إثر غلبة الإحساس على التعقل في عصرنا الحاضر، و أنت بالتأمل في الحروب العالمية الكبرى التي هي من هدايا المدنية الحاضرة، و في الأوضاع العامة الحاكمة على الدنيا، و عرض هذه الحوادث على العقل و الإحساس العاطفي تقف على تشخيص ما منه الإغراء و ما إليه النصح و الله الهادي.
على أن الملل المتمدنة من الغربيين لم يألوا جهدا و لم يقصروا حرصا منذ مئات السنين في تربية البنات مع الأبناء في صف واحد، و إخراج ما فيهن من استعداد الكمال من القوة إلى الفعل، و أنت مع ذلك إذا نظرت في فهرس نوابغ السياسة و رجال القضاء و التقنين و زعماء الحروب و قوادها و هي الخلال الثلاث المذكورة: الحكومة، القضاء القتال لم تجد فيه شيئا يعتد به من أسماء النساء و لا عددا يقبل المقايسة إلى المئات و الألوف من الرجال، و هذا في نفسه أصدق شاهد على أن طباع النساء لا تقبل الرشد و النماء في هذه الخلال التي لا حكومة فيها بحسب الطبع إلا للتعقل و كلما زاد فيها دبيب العواطف زادت خيبة و خسرانا.
و هذا و أمثاله من أقطع الأجوبة للنظرية المشهورة القائلة إن السبب الوحيد في تأخر النساء عن الرجال في المجتمع الإنساني هو ضعف التربية الصالحة فيهن منذ أقدم عهود الإنسانية، و لو دامت عليهن التربية الصالحة الجيدة مع ما فيهن من الإحساسات و العواطف الرقيقة لحقن الرجال أو تقدمن عليهم في جهات الكمال.
و هذا الاستدلال أشبه بالاستدلال بما ينتج نقيض المطلوب فإن اختصاصهن بالعواطف الرقيقة أو زيادتها فيهن هو الموجب لتأخرهن فيما يحتاج من الأمور إلى قوة التعقل و تسلطه على العواطف الروحية الرقيقة كالحكومة و القضاء، و تقدم من يزيد عليهن في ذلك و هم الرجال فإن التجارب القطعية تفيد أن من اختص بقوة صفة من الصفات الروحية فإنما تنجح تربيته فيما يناسبها من المقاصد و المآرب، و لازمه أن تنجح تربية الرجال في أمثال الحكومة و القضاء و يمتازوا عنهن في نيل الكمال فيها، و أن تنجح تربيتهن فيما يناسب العواطف الرقيقة و يرتبط بها من الأمور كبعض شعب صناعة الطب و التصوير و الموسيقى و النسج و الطبخ و تربية الأطفال و تمريض المرضى و أبواب الزينة و نحو ذلك، و يتساوى القبيلان فيما سوى ذلك.
على أن تأخرهن فيما ذكر من الأمور لو كان مستندا إلى الاتفاق و الصدفة كما ذكر لانتقض في بعض هذه الأزمنة الطويلة التي عاش فيها المجتمع الإنساني و قد خمنوها بملايين من السنين كما أن تأخر الرجال فيما يختص من الأمور المختصة بالنساء كذلك و لو صح لنا أن نعد الأمور اللازمة للنوع غير المنفكة عن مجتمعهم و خاصة إذا ناسبت أمورا داخلية في البنية الإنسانية من الاتفاقيات لم يسع لنا أن نحصل على خلة طبيعية فطرية من خلال الإنسانية العامة كميل طباعه إلى المدنية و الحضارة، و حبه للعلم، و بحثه عن أسرار الحوادث و نحو ذلك فإن هذه صفات لازمة لهذا النوع و في بنية أفراده ما يناسبها من القرائح نعدها لذلك صفات فطرية نظير ما نعد تقدم النساء في الأمور الكمالية المستظرفة و تأخرهن في الأمور التعقلية و الأمور الهائلة و الصعبة الشديدة من مقتضى قرائحهن، و كذلك تقدم الرجال و تأخرهم في عكس ذلك.
فلا يبقى بعد ذلك كله إلا انقباضهن من نسبة كمال التعقل إلى الرجال و كمال الإحساس و التعطف إليهن، و ليس في محله فإن التعقل و الإحساس في نظر الإسلام موهبتان إلهيتان مودعتان في بنية الإنسان لمآرب إلهية حقة في حياته لا مزية لإحداهما على الأخرى و لا كرامة إلا للتقوى، و أما الكمالات الأخر كائنة ما كانت فإنما تنمو و تربو إذا وقعت في صراطه و إلا لم تعد إلا أوزارا سيئة.
6 - قوانين الإرث الحديثة:
هذه القوانين و السنن و إن خالفت قانون الإرث الإسلامي كما و كيفا على ما سيمر بك إجمالها غير أنها استظهرت في ظهورها و استقرارها بالسنة الإسلامية في الإرث فكم بين موقف الإسلام عند تشريع إرث النساء في الدنيا و بين موقفهن من الفرق.
فقد كان الإسلام يظهر أمرا ما كانت الدنيا تعرفه و لا قرعت أسماع الناس بمثله، و لا ذكرته أخلاف عن أسلافهم الماضين و آبائهم الأولين، و أما هذه القوانين فإنها أبديت و كلف بها أمم حينما كانت استقرت سنة الإسلام في الإرث بين الأمم الإسلامية في معظم المعمورة بين مئات الملايين من الناس توارثها الأخلاف من أسلافهم في أكثر من عشرة قرون، و من البديهيات في أبحاث النفس أن وقوع أمر من الأمور في الخارج ثم ثبوتها و استقرارها نعم العون في وقوع ما يشابهها و كل سنة سابقة من السنن الاجتماعية مادة فكرية للسنن اللاحقة المجانسة بل الأولى هي المادة المتحولة إلى الثانية فليس لباحث اجتماعي أن ينكر استظهار القوانين الجديدة في الإرث بما تقدمها من الإرث الإسلامي و تحوله إليها تحولا عادلا أو جائرا.
و من أغرب الكلام ما ربما يقال - قاتل الله عصبية الجاهلية الأولى -: أن القوانين الحديثة إنما استفادت في موادها من قانون الروم القديمة، و أنت قد عرفت ما كانت عليه سنة الروم القديمة في الإرث، و ما قدمته السنة الإسلامية إلى المجتمع البشري و أن السنة الإسلامية متوسطة في الظهور و الجريان العملي بين القوانين الرومية القديمة و بين القوانين الغربية الحديثة و كانت متعرفة متعمقة في مجتمع الملايين و مئات الملايين من النفوس الإنسانية قرونا متوالية متطاولة، و من المحال أن تبقى سدى و على جانب من التأثير في أفكار هؤلاء المقننين.
و أغرب منه أن هؤلاء القائلين يذكرون أن الإرث الإسلامي مأخوذ من الإرث الرومي القديم!.
و بالجملة فالقوانين الحديثة الدائرة بين الملل الغربية و إن اختلفت في بعض الخصوصيات غير أنها كالمطبقة على تساوي الرجال و النساء في سهم الإرث فالبنات و البنون سواء، و الأمهات و الآباء سواء في السهام و هكذا.
و قد رتبت الطبقات في قانون فرنسا على هذا النحو: 1 البنون و البنات 2 الآباء و الأمهات و الإخوة و الأخوات 3 الأجداد و الجدات 4 الأعمام و العمات و الأخوال و الخالات، و قد أخرجوا علقة الزوجية من هذه الطبقات و بنوها على أساس المحبة و العلقة القلبية و لا يهمنا التعرض لتفاصيل ذلك و تفاصيل الحال في سائر الطبقات من أرادها فليرجع إلى محلها.
و الذي يهمنا هو التأمل في نتيجة هذه السنة الجارية و هي اشتراك المرأة مع الرجل في ثروة الدنيا الموجودة بحسب النظر العام الذي تقدم غير أنهم جعلوا الزوجة تحت قيمومة الزوج لا حق لها في تصرف مالي في شيء من أموالها الموروثة إلا بإذن زوجها، و عاد بذلك المال منصفا بين الرجل و المرأة ملكا، و تحت ولاية الرجل تدبيرا و إدارة! و هناك جمعيات منتهضة يبذلون مساعيهم لإعطاء النساء الاستقلال و إخراجهن من تحت قيمومة الرجال في أموالهن و لو وفقوا لما يريدون كانت الرجال و النساء متساويين من حيث الملك و من حيث ولاية التدبير و التصرف.
7 - مقايسة هذه السنن بعضها إلى بعض:
و نحن بعد ما قدمنا خلاصة السنن الجارية بين الأمم الماضية و قرونها الخالية إلى الباحث الناقد نحيل إليه قياس بعضها إلى البعض و القضاء على كل منها بالتمام و النقص و نفعه للمجتمع الإنساني و ضرره من حيث وقوعه في صراط السعادة ثم قياس ما سنه شارع الإسلام إليها و القضاء بما يجب أن يقضى به.
و الفرق الجوهري بين السنة الإسلامية و السنن غيرها في الغاية و الغرض، فغرض الإسلام أن تنال الدنيا صلاحها، و غرض غيره أن تنال ما تشتهيها، و على هذين الأصلين يتفرع ما يتفرع من الروع قال تعالى: و عسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم و عسى أن تحبوا شيئا و هو شر لكم و الله يعلم و أنتم لا تعلمون: «البقرة: 216»، و قال تعالى: و عاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئا و يجعل الله فيه خيرا كثيرا: «النساء: 19».
8 - الوصية:
قد تقدم أن الإسلام أخرج الوصية من تحت الوراثة و أفردها عنوانا مستقلا لما فيها من الملاك المستقل و هو احترام إرادة المالك بالنسبة إلى ما يملكه في حياته، و قد كانت الوصية بين الأمم المتقدمة من طرق الاحتيال لدفع الموصي ماله أو بعض ماله إلى غير من تحكم السنة الجارية بإرثه كالأب و رئيس البيت و لذلك كانوا لا يزالون يضعون من القوانين ما يحدها و يسد بنحو هذا الطريق المؤدي إلى إبطال حكم الإرث و لا يزال يجري الأمر في تحديدها هذا المجرى حتى اليوم.
و قد حدها الإسلام بنفوذها إلى ثلث المال فهي غير نافذة في الزائد عليه، و قد تبعته في ذلك بعض القوانين الحديثة كقانون فرنسا غير أن النظرين مختلفان، و لذلك كان الإسلام يحث عليها و القوانين تردع عنها أو هي ساكتة.
و الذي يفيده التدبر في آيات الوصية و الصدقات و الزكاة و الخمس و مطلق الإنفاق أن في هذه التشريعات تسهيل طريق أن يوضع ما يقرب من نصف رقبة الأموال و الثلثان من منافعها للخيرات و المبرات و حوائج طبقة الفقراء و المساكين لتقرب بذلك الطبقات المختلفة في المجتمع، و يرتفع الفواصل البعيدة من بينهم، و تقام به أصلاب المساكين مع ما في القوانين الموضوعة بالنسبة إلى كيفية تصرف المثرين في ثروتهم من تقريب طبقتهم من طبقة المساكين، و لتفصيل هذا البحث محل آخر سيمر بك إن شاء الله تعالى.
|