بيان
الآيات تتمة التمهيد و التوطئة التي وضعت في أول السورة لبيان أحكام المواريث و عمدة أحكام التزويج كعدد النساء و تعيين المحارم و هذان البابان من أكبر أبواب القوانين الحاكمة في المجتمع الإنساني و أعظمها، و لهما أعظم التأثير في تكون المجتمع و بقائه فإن النكاح يتعين به وضع المواليد من الإنسان الذين هم أجزاء المجتمع و العوامل التي تكونه، و الإرث يتعلق بتقسيم الثروة الموجودة في الدنيا التي يبتنى عليها بنية المجتمع في عيشته و بقائه.
و قد تعرضت الآيات في ضمن بيانها للنهي عن الزنى و السفاح و النهي عن أكل المال بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراض و عند ذلك تأسس أساسان قيمان لأمر المجتمع في أهم ما يشكله و هو أمر المواليد و أمر المال.
و من هنا يظهر وجه العناية بالتمهيد المسوق لبيان هذه الأحكام التي تعلقت بالاجتماع الإنساني و نشبت في أصوله و جذوره.
و صرف الناس عما اعتادت عليه جماعتهم، و التحمت عليه أفكارهم، و نبتت عليه لحومهم، و مات عليه أسلافهم، و نشأ عليه أخلافهم عسير كل العسر.
و هذا شأن ما شرع في صدر هذه السورة من الأحكام المذكورة، يتضح ذلك بتأمل إجمالي في وضع العالم الإنساني يومئذ بالعموم و في وضع العالم العربي و دارهم دار نزول القرآن و ظهور الإسلام بالخصوص، و في كيفية تدرج القرآن في نزوله و ظهور الأحكام الإسلامية في تشريعها. كلام في الجاهلية الأولى
القرآن يسمي عهد العرب المتصل بظهور الإسلام بالجاهلية، و ليس إلا إشارة منه إلى أن الحاكم فيهم يومئذ الجهل دون العلم، و المسيطر عليهم في كل شيء الباطل و سفر الرأي دون الحق، و كذلك كانوا على ما يقصه القرآن من شئونهم، قال تعالى: يظنون بالله غير الحق ظن الجاهلية: آل عمران 154، و قال: أ فحكم الجاهلية يبغون: - المائدة 50، و قال: إذ جعل الذين كفروا في قلوبهم الحمية حمية الجاهلية: - الفتح 26، و قال: «و لا تبرجن تبرج الجاهلية الأولى: - الأحزاب 33.
كانت العرب يومئذ تجاور في جنوبها الحبشة و هي نصرانية، و في مغربها إمبراطورية الروم و هي نصرانية، و في شمالها الفرس و هم مجوس، و في غير ذلك الهند و مصر و هما وثنيتان و في أرضهم طوائف من اليهود، و هم أعني العرب مع ذلك وثنيون يعيش أغلبهم عيشة القبائل، و هذا كله هو الذي أوجد لهم اجتماعا همجيا بدويا فيه أخلاط من رسوم اليهودية و النصرانية و المجوسية و هم سكارى جهالتهم، قال تعالى: و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله إن يتبعون إلا الظن و إن هم إلا يخرصون: - الأنعام 116.
و قد كانت العشائر و هم البدو على ما لهم من خساسة العيش و دناءته يعيشون بالغزوات و شن الغارات و اختطاف كل ما في أيدي آخرين من متاع أو عرض فلا أمن بينهم و لا أمانة، و لا سلم و لا سلامة، و الأمر إلى من غلب و الملك لمن وضع عليه يده.
أما الرجال فالفضيلة بينهم سفك الدماء و الحمية الجاهلية و الكبر و الغرور و اتباع الظالمين و هضم حقوق المظلومين و التعادي و التنافس و القمار و شرب الخمر و الزنا و أكل الميتة و الدم و حشف التمر.
و أما النساء فقد كن محرومات من مزايا المجتمع الإنساني لا يملكن من أنفسهن إرادة و لا من أعمالهن عملا و لا يملكن ميراثا و يتزوج بهن الرجال من غير تحديد بحد كما عند اليهود و بعض الوثنية و مع ذلك فقد كن يتبرجن بالزينة و يدعون من أحببن إلى أنفسهن و فشا فيهن الزنا و السفاح حتى في المحصنات المزوجات منهن، و من عجيب بروزهن أنهن ربما كن يأتين بالحج عاريات.
و أما الأولاد فكانوا ينسبون إلى الآباء لكنهم لا يورثون صغارا و يذهب الكبار بالميراث و من الميراث زوجة المتوفى، و يحرم الصغار ذكورا و إناثا و النساء.
غير أن المتوفى لو ترك صغيرا ورثه لكن الأقوياء يتولون أمر اليتيم و يأكلون ماله، و لو كان اليتيم بنتا تزوجوها و أكلوا مالها ثم طلقوها و خلوا سبيلها فلا مال تقتات به و لا راغب في نكاحها ينفق عليها و الابتلاء بأمر الأيتام من أكثر الحوادث المبتلى بها بينهم لمكان دوام الحروب و الغزوات و الغارات فبالطبع كان القتل شائعا بينهم.
و كان من شقاء أولادهم أن بلادهم الخربة و أراضيهم القفر البائرة كان يسرع الجدب و القحط إليها فكان الرجل يقتل أولاده خشية الإملاق «الأنعام آية 151»، و كانوا يئدون البنات «التكوير آية 8»، و كان من أبغض الأشياء عند الرجل أن يبشر بالأنثى «الزخرف آية 17».
و أما وضع الحكومة بينهم فأطراف شبه الجزيرة و إن كانت ربما ملك فيها ملوك تحت حماية أقوى الجيران و أقربها كإيران لنواحي الشمال و الروم لنواحي الغرب و الحبشة لنواحي الجنوب إلا أن قرى الأوساط كمكة و يثرب و الطائف و غيرها كانت تعيش في وضع أشبه بالجمهورية و ليس بها، و العشائر في البدو بل حتى في داخل القرى كانت تدار بحكومة رؤسائها و شيوخها و ربما تبدل الوضع بالسلطنة.
فهذا هو الهرج العجيب الذي كان يبرز في كل عدة معدودة منهم بلون، و يظهر في كل ناحية من أرض شبه الجزيرة في شكل مع الرسوم العجيبة و الاعتقادات الخرافية الدائرة بينهم، و أضف إلى ذلك بلاء الأمية و فقدان التعليم و التعلم في بلادهم فضلا عن العشائر و القبائل.
و جميع ما ذكرناه من أحوالهم و أعمالهم و العادات و الرسوم الدائرة بينهم مما يستفاد من سياق الآيات القرآنية و الخطابات التي تخاطبهم بها أوضح استفادة، فتدبر في المقاصد التي ترومها الآيات و البيانات التي تلقيها إليهم بمكة أولا ثم بعد ظهور الإسلام و قوته بالمدينة ثانيا، و في الأوصاف التي تصفهم بها، و الأمور التي تذمها منهم و تلومهم عليها، و النواهي المتوجهة إليهم في شدتها و ضعفها، إذا تأملت كل ذلك تجد صحة ما تلوناه عليك.
على أن التاريخ يذكر جميع ذلك و يتعرض من تفاصيلها ما لم نذكره لإجمال الآيات الكريمة و إيجازها القول فيه.
و أوجز كلمة و أوفاها لإفادة جمل هذه المعاني ما سمى القرآن هذا العهد بعهد الجاهلية فقد أجمل في معناها جميع هذه التفاصيل.
هذا حال عالم العرب ذلك اليوم.
و أما العالم المحيط بهم ذلك اليوم من الروم و الفرس و الحبشة و الهند و غيرهم فالقرآن يجمل القول فيه.
أما أهل الكتاب منهم أعني اليهود و النصارى و من يلحق بهم فقد كانت مجتمعاتهم تدار بالأهواء الاستبدادية و التحكمات الفردية من الملوك و الرؤساء و الحكام و العمال فكانت مقتسمة طبعا إلى طبقتين طبقة حاكمة فعالة لما تشاء تعبث بالنفس و العرض و المال، و طبقة محكومة مستعبدة مستذلة لا أمن لها في مال و عرض و نفس، و لا حرية إرادة إلا ما وافق من يفوقها، و قد كانت الطبقة الحاكمة استمالت علماء الدين و حملة الشرع و أتلفت بهم، و أخذت مجامع قلوب العامة و أفكارهم بأيديهم فكانت بالحقيقة هي الحاكمة في دين الناس و دنياهم تحكم في دين الناس كيفما أرادت بلسان العلماء و أقلامهم و في دنياهم بالسوط و السيف.
و قد اقتسمت الطبقة المحكومة أيضا على حسب قوتها في السطوة و الجدة فيما بينهم نظير الاقتسام الأول و الناس على دين ملوكهم إلى طبقتي الأغنياء المترفين و الضعفاء و العجزة و العبيد، و كذا إلى رب البيت و مربوبيه من النساء و الأولاد، و كذا إلى الرجال المالكين لحرية الإرادة و العمل في جميع شئون الحياة و النساء المحرومات من جميع ذلك التابعات للرجال محضا الخادمات لهم في ما أرادوه منهن من غير استقلال و لو يسيرا.
و جوامع هذه الحقائق التاريخية ظاهرة من قوله تعالى: قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم ألا نعبد إلا الله و لا نشرك به شيئا و لا يتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون: «آل عمران: 64» و قد أدرجها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه إلى هرقل عظيم الروم، و قد قيل إنه كتب بها أيضا إلى عظيم مصر و عظيم الحبشة و ملك الفرس و إلى نجران.
و كذا قوله تعالى: يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم: «الحجرات: 13»، و قوله في ما وصى به التزوج بالإماء و الفتيات: بعضكم من بعض فانكحوهن بإذن أهلهن: «النساء: 25، و قوله في النساء: إني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض: «آل عمران: 195»، إلى غير ذلك من الآيات.
و أما غير أهل الكتاب و هم يومئذ الوثنية و من يلحق بهم فقد كان الوضع فيهم أردأ و أشأم من وضع أهل الكتاب، و الآيات النازلة في الاحتجاج عليهم تكشف عن خيبة سعيهم و خسران صفقتهم في جميع شئون الحياة و ضروب السعادة، قال تعالى: و لقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون إن في هذا لبلاغا لقوم عابدين و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين قل إنما يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فهل أنتم مسلمون فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء: «الأنبياء: 109»، و قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ: «الأنعام: 19».
كيف ظهرت الدعوة الإسلامية؟
كان وضع المجتمع الإنساني يومئذ عهد الجاهلية ما سمعته من إكباب الناس على الباطل و سلطة الفساد و الظلم عليهم في جميع شئون الحياة، و هو ذا دين التوحيد و هو الدين الحق يريد أن يؤمر الحق و يوليه عليهم تولية مطلقة، و يطهر قلوبهم من ألواث الشرك، و يزكي أعمالهم و يصلح مجتمعهم بعد ما تعرق الفساد في جذوره و أغصانه و باطنه و ظاهره.
و بالجملة يريد الله ليهديهم إلى الحق الصريح، و ما يريد ليجعل عليهم من حرج و لكن يريد ليطهرهم و ليتم نعمته عليهم، فما هم عليه من الباطل و ما يريد منهم كلمة الحق في نقطتين متقابلتين و قطبين متخالفين، فهل كان يجب أن يستمال منهم البعض و يصلح بهم الباقين من أهل الباطل، ثم بالبعض البعض حرصا على ظهور الحق مهما كان و بأي وسيلة تيسر كما قيل: إن أهمية الغاية تبيح المقدمة و لو كانت محظورة، و هذا هو السلوك السياسي الذي يستعمله أهل السياسة.
و هذا النحو من السلوك إلى الغرض قلما يتخلف عن الإيصال إلى المقاصد في أي باب جرى غير أنه لا يجري في باب الحق الصريح و هو الذي تؤمه الدعوة الإسلامية فإن الغاية وليدة مقدماتها و وسائلها و كيف يمكن أن يلد الباطل حقا و ينتج السقيم صحيحا و الوليد مجموعة مأخوذة من اللذين يلدانه؟.
و بغية السياسة و هواها أن تبلغ السلطة و السيطرة، و تحوز السبق و التصدر و التعين و التمتع بأي نحو اتفق، و على أي وصف من أوصاف الخير و الشر و الحق و الباطل انطبق، و لا هوى لها في الحق، و لكن الدعوة الحقة لا تبتغي إلا الغرض الحق، و لو توسلت إليه بباطل لكان ذلك منها إمضاء و إنفاذا للباطل فتصير دعوة باطلة لا دعوة حقة.
و لهذه الحقيقة ظهورات بارزة في سيرة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و الطاهرين من آله (عليه السلام).
و بذلك أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه و نزل به القرآن في مواطن راودوه فيها للمساهلة أو المداهنة و لو يسيرا في أمر الدين، قال تعالى: قل يا أيها الكافرون لا أعبد ما تعبدون و لا أنتم عابدون ما أعبد و لا أنا عابد ما عبدتم و لا أنتم عابدون ما أعبد لكم دينكم و لي دين: «سورة الكافرون: 61» و قال تعالى و فيه لحن التهديد. و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات: «الإسراء: 75» و قال تعالى: و ما كنت متخذ المضلين عضدا: «الكهف: 51» و قال تعالى - و هو مثل وسيع المعنى -: و البلد الطيب يخرج نباته بإذن ربه و الذي خبث لا يخرج إلا نكدا: «الأعراف: 58».
و إذا كان الحق لا يمازج الباطل و لا يلتئم به فقد أمره الله سبحانه حينما أعبأه ثقل الدعوة بالرفق و التدرج في أمرها بالنظر إلى نفس الدعوة و المدعو و المدعو إليه من ثلاث جهات.
الأولى: من جهة ما اشتمل عليه الدين من المعارف الحقة و القوانين المشرعة التي من شأنها إصلاح شئون المجتمع الإنساني، و قطع منابت الفساد فإن من الصعب المستصعب تبديل عقائد الناس و لا سيما إذا كانت ناشبة في الأخلاق و الأعمال و قد استقرت عليها العادات، و دارت عليها القرون، و سارت عليها الأسلاف، و نشأت عليها الأخلاف و لا سيما إذا عمت كلمة الدين و دعوته جميع شئون الحياة، و استوعبت جميع الحركات الإنسانية و سكناتها في ظاهرها و باطنها في جميع أزمنتها و لجميع أشخاصها و أفرادها و مجتمعاتها من غير استثناء كما أنه شأن الإسلام فإن ذلك مما يدهش الفكرة تصوره أو هو محال عادي.
و صعوبة هذا الأمر و مشقته في الأعمال أزيد منها في الاعتقادات فإن استيناس الإنسان و اعتياده و مساسه بالعمل أقدم منه بالاعتقاد، و هو أظهر لحسه و آثر عند شهواته و أهوائه، و لذلك أظهرت الدعوة الاعتقادات الحقة في أول أمرها جملة لكن القوانين و الشرائع الإلهية ظهرت بالتدريج حكما فحكما.
و بالجملة تدرجت الدعوة في إلقاء مضمراتها إلى الناس لئلا يشمس عن تلقيها الطباع و لا تتزلزل النفوس في نضد بعض أجزاء الدعوة على بعض، و هذا الذي ذكرناه ظاهر للمتدبر الباحث في هذه الحقائق فإنه يجد الآيات القرآنية مختلفة في إلقاء المعارف الإلهية و القوانين المشرعة في مكيتها و مدنيتها.
الآيات المكية تدعو إلى كليات أجمل فيها القول، و المدنية - و نعني بها ما نزلت بعد الهجرة أينما نزلت - تفصل القول و تأتي بالتفاصيل من الأحكام التي سبقت في المكية كلياتها و مجملاتها، قال تعالى: كلا إن الإنسان ليطغى أن رآه استغنى إن إلى ربك الرجعى أ رأيت الذي ينهى عبدا إذا صلى أ رأيت إن كان على الهدى أو أمر بالتقوى أ رأيت إن كذب و تولى أ لم يعلم بأن الله يرى: «العلق: 14» و الآيات نازلة في أول الرسالة بعد النبوة على ما مرت إليه الإشارة في آيات الصوم من الجزء الثاني، و فيها إجمال التوحيد و المعاد، و إجمال أمر التقوى و العبادة.
و قال تعالى: يا أيها المدثر قم فأنذر و ربك فكبر: «المدثر: 3» و هي أيضا من الآيات النازلة في أول البعثة، و قال تعالى: و نفس و ما سويها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكيها و قد خاب من دسيها: «الشمس: 10»، و قال تعالى: قد أفلح من تزكى و ذكر اسم ربه فصلى: «الأعلى: 15» و قوله تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي أنما إلهكم إله واحد فاستقيموا إليه و استغفروه و ويل للمشركين الذين لا يؤتون الزكوة و هم بالآخرة هم كافرون إن الذين آمنوا و علموا الصالحات لهم أجر غير ممنون: «حم السجدة: 8» و هذه الآيات أيضا من الآيات النازلة في أوائل البعثة.
و قال تعالى: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى و بعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون: «الأنعام: 153» فانظر إلى سياق الآيات الشريفة كيف أجمل القول فيها في النواهي الشرعية أولا، و في الأوامر الشرعية ثانيا، و إنما أجمل بجمع الجميع تحت وصف لا يستنكف حتى العقل العامي من قبوله فإن الفواحش لا يتوقف في شناعتها و لزوم اجتنابها و الكف عنها ذو مسكة، و كذا الاجتماع على صراط مستقيم يؤمن به التفرق و الضعف و الوقوع في الهلكة و الردى لا يرتاب فيه أحد بحكم الغريزة فقد استمد في هذه الدعوة من غرائز المدعوين، و لذلك بعينه ذكر ما ذكر من المحرمات بعنوان التفصيل كعقوق الوالدين و الإساءة إليهما، و قتل الأولاد من إملاق، و قتل النفس المحترمة، و أكل ما اليتيم إلى آخر ما ذكر فإن العواطف الغريزية من الإنسان تؤيد الدعوة في أمرها لاشمئزازها في حالها العادي عن ارتكاب هذه الجرائم و المعاصي، و هناك آيات أخر يعثر عليها المتدبر و يرى أن الحال فيها نظير ما ذكرناه فيما نقلنا من الآيات.
و كيف كان فالآيات المكية شأنها الدعوة إلى مجملات فصلتها بعد ذلك الآيات المدنية، و مع ذلك فالآيات المدنية نفسها لا تخلو عن مثل هذا التدرج فما جميع الأحكام و القوانين الدينية نزلت في المدينة دفعة واحدة بل تدريجا و نجوما.
و يكفيك التدبر في أنموذج منها قد تقدمت الإشارة إليها و هي آيات حرمة الخمر فقد قال تعالى: و من ثمرات النخيل و الأعناب تتخذون منه سكرا و رزقا حسنا: «النحل: 67»، و الآية مكية ذكر فيها أمر الخمر و سكت عنه إلا ما في قوله: و رزقا حسنا من الإيماء إلى أن السكر ليس من الرزق الحسن ثم قال: قل إنما حرم ربي الفواحش ما ظهر منها و ما بطن و الإثم: «الأعراف: 33» و الآية أيضا مكية تحرم الإثم صريحا لكن لم تبين أن شرب الخمر إثم إرفاقا في الدعوة إلى ترك عادة سيئة اجتذبتهم إليها شهواتهم و نبتت عليها لحومهم و شدت عظامهم، ثم قال: «يسألونك عن الخمر و الميسر قل فيهما إثم كبير و منافع للناس و إثمهما أكبر من نفعهما»: البقرة - 219، و الآية مدنية تبين أن شرب الخمر من الإثم الذي حرمته آية الأعراف، و لسان الآية - كما ترى - لسان رفق و نصح، ثم قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا إنما الخمر و الميسر و الأنصاب و الأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون إنما يريد الشيطان أن يوقع بينكم العداوة و البغضاء في الخمر و الميسر و يصدكم عن ذكر الله و عن الصلوة فهل أنتم منتهون: «المائدة: 91»، و الآية مدنية ختم بها أمر التحريم.
و نظيرها الإرث فقد آخى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أولا بين أصحابه و ورث أحد الأخوين الآخر في أول الأمر إعدادا لهم لما سيشرعه الله في أمر الوراثة، ثم نزل قوله تعالى: و أولوا الأرحام بعضهم أولى ببعض في كتاب الله من المؤمنين و المهاجرين: «الأحزاب: 6» و على هذا النحو غالب الأحكام المنسوخة و الناسخة.
ففي جميع هذه الموارد و أشباهها تدرجت الدعوة في إظهار الأحكام و إجرائها أخذا بالإرفاق لحكمة الحفظ لسهولة التحميل و حسن التلقي بالقبول، قال تعالى: و قرآنا فرقناه لتقرأه على الناس على مكث و نزلناه تنزيلا: «الإسراء: 106» و لو كان القرآن نزل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) دفعة واحدة ثم بين الرسول تفاصيل شرائعه على ما يوظفه عليه قوله تعالى: و أنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم: «النحل: 44»، فأتى ببيان جميع معارفه الاعتقادية و الأخلاقية و كليات الأحكام العبادية و القوانين الجارية في المعاملات و السياسات و هكذا لم تستطع الأفهام عندئذ تصورها و حملها فضلا عن قبول الناس لها و عملهم بها و حكومتها على قلوبهم في إرادتها، و على جوارحهم و أبدانهم في فعلها فتنزيله على مكث هو الذي هيأ للدين إمكان القبول و الوقوع في القلوب و قال تعالى: و قال الذين كفروا لو لا نزل عليه القرآن جملة واحدة كذلك لنثبت به فؤادك و رتلناه ترتيلا: «الفرقان: 32» و في الآية دلالة على أنه سبحانه كان يرفق برسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في إنزال القرآن نجوما كما أرفق بأمته فتدبر في ذلك و تأمله و في ذيل الآية قوله: و رتلناه ترتيلا.
و من الواجب أن يتذكر أن السلوك من الإجمال إلى التفصيل و التدرج في إلقاء الأحكام إلى الناس من باب الإرفاق و حسن التربية و رعاية المصلحة غير المداهنة و المساهلة و هو ظاهر.
الثانية: السلوك التدريجي من حيث انتخاب المدعوين و أخذ الترتيب فيهم فمن المعلوم أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان مبعوثا إلى كافة البشر من غير اختصاص دعوته بقوم دون قوم، و لا بمكان دون مكان، و لا بزمان دون زمان و مرجع الأخيرين إلى الأول في الحقيقة البتة قال تعالى: قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا الذي له ملك السموات و الأرض: «الأعراف: 158» و قال تعالى: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ: «الأنعام: 19» و قال تعالى: و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين: «الأنبياء: 107». على أن التاريخ يحكي دعوته (صلى الله عليه وآله وسلم) اليهود و هم من بني إسرائيل، و الروم و العجم و الحبشة و مصر و ليسوا من العرب، و قد آمن به من المشاهير سلمان و هو من العجم و مؤذنه بلال و هو من الحبشة و صهيب و هو من الروم، فعموم نبوته (صلى الله عليه وآله وسلم) في زمانه لا ريب فيه، و الآيات السابقة تشمل بعمومها الأزمان و الأمكنة أيضا.
على أن قوله تعالى: و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه تنزيل من حكيم حميد: «حم السجدة: 42» و قوله تعالى: و لكن رسول الله و خاتم النبيين: «الأحزاب: 40» تدلان على عموم النبوة و شمولها للأمكنة و الأزمنة أيضا، و البحث التفصيلي عن هذه الآيات يطلب من تفسيرها في مواردها.
و كيف كان فالنبوة عامة، و المتأمل في سعة المعارف و القوانين الإسلامية و ما كان عليه الدنيا يوم ظهر الإسلام من ظلمة الجهل و قذارة الفساد و البغي لا يرتاب في عدم إمكان مواجهة الدنيا و مكافحة الشرك و الفساد حينئذ دفعة.
بل كان من الواجب في الحكمة أن تبدأ الدعوة بالبعض و أن يكون ذلك البعض هو قوم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم يظهر بركوز الدين فيهم على غيرهم و هكذا كان، قال تعالى: و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم: «إبراهيم: 4» و قال: و لو نزلناه على بعض الأعجمين فقرأه عليهم ما كانوا به مؤمنين: «الشعراء: 199» و الآيات التي تدل على ارتباط الدعوة و الإنذار بالعرب لا تدل على أزيد من كونهم بعض من تعلقت بهم الدعوة و الإنذار، و كذا الآيات النازلة في التحدي بالقرآن لو كان فيها ما ينحصر تحديه بالبلاغة فحسب إنما هي لكون البلاغة إحدى جهات التحدي بالإعجاز، و لا دليل في ذلك على كون الأمة العربية هي المقصودة بالدعوة فقط نعم اللسان مقصود بالاستقلال للبيان كما مر من قوله: و ما أرسلنا من رسول إلا بلسان قومه ليبين لهم الآية، و قوله: نحن نقص عليك أحسن القصص بما أوحينا إليك هذا القرآن: «يوسف: 3» و قوله: و إنه لتنزيل رب العالمين نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين: «الشعراء: 195» فاللسان العربي هو المظهر للمعاني و المقاصد الذهنية أتم إظهار، و لذلك اختاره الله سبحانه لكتابه العزيز من بين الألسن و قال: إنا جعلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون: «الزخرف: 3».
و بالجملة أمره الله تعالى بعد القيام بأصل الدعوة أن يبدأ بعشيرته فقال: و أنذر عشيرتك الأقربين: «الشعراء: 214» فامتثل أمره و جمع عشيرته و دعاهم إلى ما بعث له و وعدهم أن أول من لباه فهو خليفته من بعده فأجابه إلى ذلك علي (عليه السلام) فشكر له ذلك و استهزأ به الباقون على ما في صحاح الروايات و كتب التاريخ و السير، ثم لحق به أناس من أهله كخديجة زوجته و عمه حمزة بن عبد المطلب و عبيد و عمه أبي طالب على ما روته الشيعة و في أشعاره تصريحات و تلويحات بذلك و إنما لم يتظاهر بالإيمان ليتمكن من حمايته (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم أمره الله سبحانه أن يوسع الدعوة لقومه على ما يظهر من قوله: و كذلك أوحينا إليك قرآنا عربيا لتنذر أم القرى و من حولها: «الشورى: 7» و قوله: لتنذر قوما ما أتاهم من نذير من قبلك لعلهم يهتدون: «الم السجدة: 3» و قوله: و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ، و هذه الآية من الشواهد على أن الدعوة غير مقصورة عليهم، و إنما بدأ بهم حكمة و مصلحة.
ثم أمره الله سبحانه بتوسعة الدعوة للدنيا من جميع المليين و غيرهم كما يدل عليه الآيات السابقة كقوله تعالى: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا» و قوله: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين» و غيرهما مما تقدم.
الثالثة: الأخذ بالمراتب من حيث الدعوة و الإرشاد و الإجراء، و هي الدعوة بالقول و الدعوة السلبية و الجهاد.
أما الدعوة بالقول فهي مما يستفاد من جميع القرآن بالبداهة، و قد أمره الله سبحانه برعاية الكرامات الإنسانية و الأخلاق الحسنة في ذلك قال تعالى: قل إنما أنا بشر مثلكم يوحى إلي: «الكهف: 110» و قال: و اخفض جناحك للمؤمنين: «الحجر: 88» و قال: و لا تستوي الحسنة و لا السيئة ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم: «حم السجدة: 34» و قال: و لا تمنن تستكثر: «المدثر: 6» إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
و أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يستعمل جميع فنون البيان على حسب اختلاف الأفهام و استعدادات الأشخاص، قال تعالى: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن: «النحل: 125».
و أما الدعوة السلبية فهو اعتزال المؤمنين الكافرين في دينهم و أعمالهم و تكوين مجتمع إسلامي لا يمازجه دين غيرهم ممن لا يوحد الله سبحانه و لا أعمال غير المسلمين من المعاصي و سائر الرذائل الأخلاقية إلا ما أوجبته ضرورة الحياة من المخالطة، قال تعالى: لكم دينكم و لي دين: «الكافرون: 6» و قال: فاستقم كما أمرت و من تاب معك و لا تطغوا إنه بما تعملون بصير و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار و ما لكم من دون الله من أولياء ثم لا تنصرون: «هود: 113» و قال: فلذلك فادع و استقم كما أمرت و لا تتبع أهواءهم و قل آمنت بما أنزل الله من كتاب و أمرت لأعدل بينكم الله ربنا و ربكم لنا أعمالنا و لكم أعمالكم لا حجة بيننا و بينكم الله يجمع بيننا و إليه المصير: «الشورى: 15» و قال تعالى: يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة و قد كفروا بما جاءكم من الحق «إلى أن قال»: لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين و لم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم و تقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين و أخرجوكم من دياركم و ظاهروا على إخراجكم أن تولوهم و من يتولهم فأولئك هم الظالمون: «الممتحنة: 9» و الآيات في معنى التبري و الاعتزال عن أعداء الدين كثيرة، و هي - كما ترى - تشرح معنى هذا التبري و كيفيته و خصوصيته.
و أما الجهاد فقد تقدم الكلام فيه في ذيل آيات الجهاد من سورة البقرة و هذه المراتب الثلاث من مزايا الدين الإسلامي و مفاخره و المرتبة الأولى لازمة في الأخيرتين و كذا الثانية في الثالثة، فقد كانت من سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) الدعوة و الموعظة في غزواته قبل الشروع فيها على ما أمره به ربه سبحانه فقال: «فإن تولوا فقل آذنتكم على سواء».
و من أخنى القول ما نبذوا به الإسلام: أنه دين السيف دون الدعوة مع أن الكتاب و السيرة و التاريخ تشهد به و تنوره و لكن من لم يجعل الله له نورا فما له من نور.
و هؤلاء المنتقدون بعضهم من أهل الكنيسة التي كانت عقدت منذ قرون فيها محكمة دينية تقضي على المنحرفين عن الدين بالنار تشبها بالمحكمة الإلهية يوم القيامة فكان عمالها يجولون في البلاد فيجلبون إليها من الناس من اتهموه بالردة و لو بالأقوال الحديثة في الطبيعيات و الرياضيات مما لم يقل به الفلسفة الإسكولاستيكية التي كانت الكنيسة تروجها.
فليت شعري هل بسط التوحيد و قطع منابت الوثنية و تطهير الدنيا من قذارة الفساد أهم عند العقل السليم أو تخنيق من قال بمثل حركة الأرض أو نفي الفلك البطليموسي و رد أنفاسه إلى صدره، و الكنيسة هي التي أثارت العالم المسيحي على المسلمين باسم الجهاد مع الوثنية فأقامت الحروب الصليبية على ساقها مائتي سنة تقريبا و خربت البلاد و أفنت الملايين من النفوس و أباحت الأعراض.
و بعضهم من غير أهل الكنيسة من المدعين للتمدن و الحرية!! و هؤلاء هم الذين يوقدون نار الحروب العالمية و يقلبون الدنيا ظهر البطن كلما هتفت بهم مزاعمهم توجه خطر يسير على بعض منافعهم المادية فهل استقرار الشرك في الدنيا و انحطاط الأخلاق و موت الفضائل و إحاطة الشؤم و الفساد على الأرض و من فيها أضر أم زوال السلطة على أشبار من الأرض أو الخسارة في دريهمات يسيرة؟! نعم إن الإنسان لربه لكنود.
و يعجبني نقل ما ذكره بعض المحققين الأعاظم في هذا الباب في بعض رسائله قال رحمه الله: الوسائل المتبعة للإصلاح الاجتماعي و تحقيق العدل و تمزيق الظلم و مقاومة الشر و الفساد تكاد تنحصر في ثلاثة أنواع: 1 - وسائل الدعوة و الإرشاد بالخطب و المقالات و المؤلفات و النشرات، و هذه هي الخطة الشريفة التي أشار إليها الحق جل شأنه بقوله: ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن، و قوله: ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك و بينه عداوة كأنه ولي حميم و هذه هي الطريقة التي استعملها الإسلام في أول البعثة، إلى أن قال: 2 - وسائل المقاومة السلمية و السلبية كالمظاهرات و الإضرابات و المقاطعة الاقتصادية و عدم التعاون مع الظالمين، و عدم الاشتراك في أعمالهم و حكومتهم، و أصحاب هذه الطريقة لا يبيحون اتخاذ طريق الحرب و القتل و العنف، و هي المشار إليها بقوله تعالى: و لا تركنوا إلى الذين ظلموا فتمسكم النار، و لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء و في القرآن الكريم كثير من الآيات التي تشير إلى هذه الطريقة، و أشهر من دعا إلى هذه الطريقة و أكد عليها النبي الهندي بوذا، و المسيح (عليه السلام)، و الأديب الروسي «تولستوي» و الزعيم الهندي الروحي «غاندي».
3 - الحرب و الثورة و القتال.
و الإسلام يتدرج في هذه الأساليب الثلاثة: «الأولى» الموعظة الحسنة و الدعوة السليمة فإن لم ينجح في دفع الظالمين و درء فسادهم و استبدادهم «فالثانية» المقاطعة السلمية أو السلبية و عدم التعاون و المشاركة معهم فإن لم تجد و تنفع «فالثالثه» الثورة المسلحة فإن الله لا يرضى بالظلم أبدا بل و الراضي الساكت شريك الظالم.
الإسلام عقيدة، و قد غلط و ركب الشطط من قال: إن الإسلام نشر دعوته بالسيف و القتال فإن الإسلام إيمان و عقيدة، و العقيدة لا تحصل بالجبر و الإكراه و إنما تخضع للحجة و البرهان، و القرآن المجيد ينادي بذلك في عدة آيات منها «لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي».
و الإسلام إنما استعمل السيف و شهر السلاح على الظالمين الذين لم يقتنعوا بالآيات و البراهين استعمل القوة في سبيل من وقف حجر عثرة في سبيل الدعوة إلى الحق، أجهز السلاح لدفع شر المعاندين لا إلى إدخالهم في حظيرة الإسلام يقول جل شأنه: قاتلوهم حتى لا تكون فتنة فالقتال إنما هو لدفع الفتنة لا لاعتناق الدين و العقيدة.
فالإسلام لا يقاتل عبطة و اختيارا و إنما يحرجه الأعداء فيلتجىء إليه اضطرارا و لا يأخذ منه إلا بالوسائل الشريفة فيحرم في الحرب و السلم التخريب و الإحراق و السم و قطع الماء عن الأعداء كما يحرم قتل النساء و الأطفال و قتل الأسرى و يوصي بالرفق بهم و الإحسان إليهم مهما كانوا من العداء و البغضاء للمسلمين و يحرم الاغتيال في الحرب و السلم و يحرم قتل الشيوخ و العجزة و من لم يبدأ بالحرب و يحرم الهجوم على العدو ليلا «فانبذ إليهم على سواء» و يحرم القتل على الظنة و التهمة و العقاب قبل ارتكاب الجريمة إلى أمثال ذلك من الأعمال التي يأباها الشرف و المروءة و التي تنبعث من الخسة و القسوة و الدناءة و الوحشية.
كل تلك الأعمال التي أبى شرف الإسلام ارتكاب شيء منها مع الأعداء في كل ما كان له من المعارك و الحروب قد ارتكبتها بأفظع صورها و أهول أنواعها الدول المتمدنة في هذا العصر الذي يسمونه عصر النور نعم أباح عصر النور قتل النساء و الأطفال و الشيوخ و المرضى و التبييت ليلا و الهجوم ليلا بالسلاح و القنابل على العزل و المدنيين الآمنين، و أباح القتل بالجملة.
أ لم يرسل الألمان في الحرب العالمية الثانية القنابل الصاروخية إلى لندن فهدمت المباني و قتلت النساء و الأطفال و السكان الآمنين؟! أ لم يقتل الألمان ألوف الأسرى؟! أ لم يرسل الحلفاء في الحرب الماضية ألوف الطائرات إلى ألمانيا لتخريب مدنها؟! أ لم يرم الأمريكان القنابل الذرية على المدن اليابانية؟!.
و بعد اختراع وسائل الدمار الحديثة كالصواريخ و القنابل الذرية و الهيدروجينية لا يعلم إلا الله ما ذا يحل بالأرض من عذاب و خراب و مآسي و آلام إذا حدثت حرب عالمية ثالثة و لجأت الدول المتحاربة إلى استعمال تلك الوسائل، أرشد الله الإنسان إلى طريق الصواب و هداه الصراط المستقيم، انتهى.
قوله تعالى: «و آتوا اليتامى أموالهم» إلى آخر الآية، أمر بإيتاء اليتامى أموالهم و هو توطئة للجملتين اللاحقتين: و لا تتبدلوا «إلخ» أو الجملتان كالمفسر لهذه الجملة غير أن التعليل الذي في آخر الآية لكونه راجعا إلى الجملتين أو الجملة الأخيرة يؤيد أن الجملة الأولى موضوعة في الكلام تمهيدا للنهي الذي في الجملتين اللاحقتين.
و أصل النهي عن التصرف المضار في أموال اليتامى كما تقدم بيانه توطئة و تمهيد لما سيذكر من أحكام الإرث، و لما سيذكر في الآية التالية من حكم التزوج.
و أما قوله تعالى: «و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب» أي لا تتبدلوا الخبيث من أموالكم من الطيب من أموالهم بأن يكون لهم عندكم مال طيب فتعزلوه لأنفسكم و تردوا إليهم ما يعادله من ردي أموالكم.
و يمكن أن يكون المراد: لا تتبدلوا أكل الحرام من أكل الحلال - كما قيل - لكن المعنى الأول أظهر فإن الظاهر أن كلا من الجملتين أعني قوله: و لا تتبدلوا إلخ و قوله: و لا تأكلوا إلخ بيان لنوع خاص من التصرف غير الجائز و قوله: و آتوا اليتامى إلخ تمهيد لبيانهما معا، و أما قوله: إنه كان حوبا كبيرا الحوب الإثم مصدر و اسم مصدر.
قوله تعالى: «و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانحكوا ما طاب لكم من النساء» قد مرت الإشارة فيما مر إلى أن أهل الجاهلية من العرب - و كانوا لا يخلون في غالب الأوقات عن الحروب و المقاتل و الغيلة و الغارة و كان يكثر فيهم حوادث القتل - كان يكثر فيهم الأيتام، و كانت الصناديد و الأقوياء منهم يأخذون إليهم يتامى النساء و أموالهن فيتزوجون بهن و يأكلون أموالهن إلى أموالهم ثم لا يقسطون فيهن و ربما أخرجوهن بعد أكل مالهن فيصرن عاطلات ذوات مسكنة لا مال لهن يرتزقن به و لا راغب فيهن فيتزوج بهن و ينفق عليهن، و قد شدد القرآن الكريم النكير على هذا الدأب الخبيث و الظلم الفاحش، و أكد النهي عن ظلم اليتامى و أكل أموالهم كقوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما إنما يأكلون في بطونهم نارا و سيصلون سعيرا: «النساء: 10»، و قوله تعالى: و آتوا اليتامى أموالهم و لا تتبدلوا الخبيث بالطيب و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبا كبيرا الآية: «النساء: 2»، فأعقب ذلك أن المسلمين أشفقوا على أنفسهم - كما قيل - و خافوا خوفا شديدا حتى أخرجوا اليتامى من ديارهم خوفا من الابتلاء بأموالهم و التفريط في حقهم، و من أمسك يتيما عنده أفرز حظه من الطعام و الشراب و كان إذا فضل من غذائهم شيء لم يدنوا منه حتى يبقى و يفسد فأصبحوا متحرجين من ذلك و سألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن ذلك و شكوا إليه فنزل: و يسألونك عن اليتامى قل إصلاح لهم خير و إن تخالطوهم فإخوانكم و الله يعلم المفسد من المصلح و لو شاء الله لأعنتكم إن الله عزيز حكيم: «البقرة: 220»، فأجاز لهم أن يأووهم و يمسكوهم إصلاحا لشأنهم و أن يخالطوهم فإنهم إخوانهم فجلى عنهم و فرج همهم.
إذا تأملت في ذلك ثم رجعت إلى قوله تعالى: و إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا «إلخ» و هو واقع عقيب قوله: و آتوا اليتامى أموالهم الآية اتضح لك أن الآية واقعة موقع الترقي بالنسبة إلى النهي الواقع في الآية السابقة و المعنى - و الله أعلم -: اتقوا أمر اليتامى، و لا تتبدلوا خبيث أموالكم من طيب أموالهم، و لا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم حتى إنكم إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمات منهم و لم تطب نفوسكم أن تنكحوهن و تتزوجوا بهن فدعوهن و انكحوا نساء غيرهن ما طاب لكم مثنى و ثلاث و رباع.
فالشرطية أعني قوله: إن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء، في معنى قولنا إن لم تطب لكم اليتامى للخوف من عدم القسط فلا تنكحوهن و انكحوا نساء غيرهن فقوله: فانكحوا ساد مسد الجزاء الحقيقي، و قوله: ما طاب لكم، يغني عن ذكر وصف النساء أعني لفظ غيرهن، و قد قيل: ما طاب لكم و لم يقل: من طاب لكم إشارة إلى العدد الذي سيفصله بقوله: مثنى و ثلاث إلخ و وضع قوله: إن خفتم ألا تقسطوا موضع عدم طيب النفس من وضع السبب موضع المسبب مع الإشعار بالمسبب في الجزاء بقوله: ما طاب لكم، هذا.
و قد قيل في معنى الآية أمور أخر غير ما مر على ما ذكر في مطولات التفاسير و هي كثيرة، منها: أنه كان الرجل منهم يتزوج بالأربع و الخمس و أكثر و يقول: ما يمنعني أن أتزوج كما تزوج فلان، فإذا فني ماله مال إلى مال اليتيم الذي في حجره فنهاهم الله عن أن يتجاوزوا الأربع لئلا يحتاجوا إلى أخذ مال اليتيم ظلما.
و منها: أنهم كانوا يشددون في أمر اليتامى و لا يشددون في أمر النساء فيتزوجون منهن عددا كثيرا و لا يعدلون بينهن، فقال تعالى: إن كنتم تخافون أمر اليتامى فخافوا في النساء فانكحوا منهن واحدة إلى أربع.
و منها: أنهم كانوا يتحرجون من ولاية اليتامى و أكل أموالهم فقال سبحانه: إن كنتم تحرجتم من ذلك فكذلك تحرجوا من الزنا و انكحوا ما طاب لكم من النساء.
و منها: أن المعنى إن خفتم ألا تقسطوا في اليتيمة المرباة في حجوركم فانكحوا ما طاب لكم من النساء مما أحل لكم من يتامى قرباتكم مثنى و ثلاث و رباع.
و منها: أن المعنى إن كنتم تتحرجون عن مؤاكلة اليتامى فتحرجوا من الجمع بين النساء و أن لا تعدلوا بينهن و لا تتزوجوا منهن إلا من تأمنون معه الجور، فهذه وجوه ذكروها لكنك بصير بأن شيئا منها لا ينطبق على لفظ الآية ذاك الانطباق فالمصير إلى ما قدمناه.
قوله تعالى: «مثنى و ثلاث و رباع» بناء مفعل و فعال في الأعداد تدلان على تكرار المادة فمعنى مثنى و ثلاث و رباع اثنتين اثنتين و ثلاثا ثلاثا و أربعا أربعا، و لما كان الخطاب متوجها إلى أفراد الناس و قد جيء بواو التفصيل بين مثنى و ثلاث و رباع الدال على التخيير أفاد الكلام أن لكل واحد من المؤمنين أن يتخذ لنفسه زوجتين أو ثلاثا أو أربعا فيصرن بالإضافة إلى الجميع مثنى و ثلاث و رباع.
و بذلك و بقرينة قوله بعده: و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم و كذا آية المحصنات بجميع ذلك يدفع أن يكون المراد بالآية أن تنكح الاثنتان بعقد واحد أو الثلاث بعقد واحد مثلا، أو يكون المراد أن تنكح الاثنتان معا ثم الاثنتان معا و هكذا، و كذا في الثلاث و الأربع، أو يكون المراد اشتراك أزيد من رجل واحد في الزوجة الواحدة مثلا فهذه محتملات لا تحتملها الآية.
على أن الضرورة قاضية أن الإسلام لا ينفذ الجمع بين أزيد من أربع نسوة أو اشتراك أزيد من رجل في زوجة واحدة.
و كذا يدفع بذلك احتمال أن يكون الواو للجمع فيكون في الكلام تجويز الجمع بين تسع نسوة لأن مجموع الاثنتين و الثلاث و الأربع تسع، و قد ذكر في المجمع: أن الجمع بهذا المعنى غير محتمل البتة فإن من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع لم يلزم منه اجتماع الأعداد فيكون دخولهم تسعة تسعة، و لأن لهذا العدد لفظا موضوعا و هو تسع فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العي - جل كلامه عن ذلك و تقدس -.
قوله تعالى: «و إن خفتم ألا تعدلوا فواحدة» أي فانكحوا واحدة لا أزيد، و قد علقه تعالى على الخوف من ذلك دون العلم لأن العلم في هذه الأمور - و لتسويل النفس فيها أثر بين - لا يحصل غالبا فتفوت المصلحة.
قوله تعالى: «أو ما ملكت أيمانكم» و هي الإماء فمن خاف ألا يقسط فيهن فعليه أن ينكح واحدة، و إن أحب أن يزيد في العدد فعليه بالإماء إذ لم يشرع القسم في الإماء.
و من هنا يظهر أن ليس المراد التحضيض على الإماء بتجويز الظلم و التعدي عليهن فإن الله لا يحب الظالمين و ليس بظلام للعبيد بل لما لم يشرع القسم فيهن فأمر العدل فيهن أسهل، و لهذه النكتة بعينها كان المراد بذكر ملك اليمين الاكتفاء باتخاذهن و إتيانهن بملك اليمين دون نكاحهن بما يبلغ العدد أو يكثر عليه فإن مسألة نكاحهن سيتعرض لها في ما سيجيء من قوله: و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات الآية: «النساء: 25».
قوله تعالى: «ذلك أدنى ألا تعولوا» العول هو الميل أي هذه الطريقة على ما شرعت أقرب من ألا تميلوا عن العدل و لا تتعدوا عليهن في حقوقهن، و ربما قيل: إن العول بمعنى الثقل و هو بعيد لفظا و معنى.
و في ذكر هذه الجملة التي تتضمن حكمة التشريع دلالة على أن أساس التشريع في أحكام النكاح على القسط و نفي العول و الإجحاف في الحقوق.
قوله تعالى: «و آتوا النساء صدقاتهن نحلة» الصدقة بضم الدال و فتحها و الصداق هو المهر، و النحلة هي العطية من غير مثامنة.
و في إضافة الصدقات إلى ضمير هن دلالة على أن الحكم بوجوب الإيتاء مبني على المتداول بين الناس في سنن الازدواج من تخصيص شيء من المال أو أي شيء له قيمة مهرا لهن كأنه يقابل به البضع مقابلة الثمن المبيع فإن المتداول بين الناس أن يكون الطالب الداعي للازدواج هو الرجل على ما سيأتي في البحث العلمي التالي، و هو الخطبة كما أن المشتري يذهب بالثمن إلى البائع ليأخذ سلعته، و كيف كان ففي الآية إمضاء هذه العادة الجارية عند الناس.
و لعل إمكان توهم عدم جواز تصرف الزوج في المهر أصلا حتى برضا من الزوجة هو الموجب للإتيان بالشرط في قوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا مع ما في اشتراط الأكل بطيب النفس من تأكيد الجملة السابقة المشتملة على الحكم، و الدلالة على أن الحكم وضعي لا تكليفي.
و الهناء سهولة الهضم و قبول الطبع و يستعمل في الطعام، و المري من الري و هو في الشراب كالهنيء في الطعام غير أن الهناء يستعمل في الطعام و الشراب معا، فإذا قيل: هنيئا مريئا اختص الهناء بالطعام و الري بالشراب.
قوله تعالى: «و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما» السفه خفة العقل، و كان الأصل في معناه مطلق الخفة فيما من شأنه أن لا يخف و منه الزمام السفيه أي كثير الاضطراب و ثوب سفيه أي رديء النسج ثم غلب في خفة النفس و اختلف باختلاف الأغراض و المقاصد فقيل سفيه لخفيف الرأي في الأمور الدنيوية و سفيه للفاسق غير المبالي في أمر دينه و هكذا.
و ظاهر ما يتراءى من الآية أنه نهي عن الإكثار في الإنفاق على السفهاء و إعطائهم من المال أزيد من حاجاتهم الضرورية في الارتزاق، غير أن وقوع الآية في سياق الكلام في أموال اليتامى التي يتولى أمر إدارتها و إنمائها الأولياء قرينة معينة على كون المراد بالسفهاء هم السفهاء من اليتامى، و أن المراد بقوله: أموالكم، في الحقيقة أموالهم أضيف إلى الأولياء بنوع من العناية كما يشهد به أيضا قوله بعد: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، و إن كان و لا بد من دلالة الآية على أمر سائر السفهاء غير اليتامى، فالمراد بالسفهاء ما يعم اليتيم و غير اليتيم لكن الأول أرجح.
و كيف كان فلو كان المراد بالسفهاء سفهاء اليتامى، فالمراد بقوله: أموالكم، أموال اليتامى و إنما أضيفت إلى الأولياء المخاطبين بعناية أن مجموع المال و الثروة الموجودة في الدنيا لمجموع أهلها و إنما اختص بعض أفراد المجتمع ببعض منه و آخر بآخر للصلاح العام الذي يبتني عليه أصل الملك و الاختصاص فيجب أن يتحقق الناس بهذه الحقيقة و يعلموا أنهم مجتمع واحد و المال كله لمجتمعهم، و على كل واحد منهم أن يكلأه و يتحفظ به و لا يدعه يضيع بتبذير نفوس سفيهة، و تدبير كل من لا يحسن التدبير كالصغير و المجنون، و هذا من حيث الإضافة كقوله تعالى: و من لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم: «النساء: 25»، و من المعلوم أن المراد بالفتيات ليس الإماء اللاتي يملكها من يريد النكاح.
ففي الآية دلالة على حكم عام موجه إلى المجتمع و هو أن المجتمع ذو شخصية واحدة له كل المال الذي أقام الله به صلبه و جعله له معاشا فيلزم على المجتمع أن يدبره و يصلحه و يعرضه معرض النماء و يرتزق به ارتزاقا معتدلا مقتصدا و يحفظه عن الضيعة و الفساد، و من فروع هذا الأصل أنه يجب على الأولياء أن يتولوا أمر السفهاء فلا يؤتوهم أموالهم فيضيعوها بوضعها في غير ما ينبغي أن توضع فيه بل عليهم أن يحبسوها عنهم و يصلحوا شأنها، و ينموها بالكسب و الاتجار و الاسترباح و يرزقوا أولئك السفهاء من فوائدها و نمائها دون أصلها حتى لا ينفد رويدا رويدا و ينتهي إلى مسكنة صاحب المال و شقوته.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، أن يرتزق السفيه في المال بأن يعيش من نمائه و نتاجه و أرباحه لا من المال بأن يشرع في الأكل من أصله على ركود منه من غير جريان و دوران فينفد عن آخره، و هذه هي النكتة في قوله: «فيها» دون أن يقول: «منها» كما ذكره الزمخشري.
و لا يبعد أن يستفاد من الآية عموم ولاية المحجور عليهم بمعنى أن الله لا يرضى بإهمال أمر هؤلاء بل على المجتمع الإسلامي تولي أمرهم فإن كان هناك واحد من الأولياء الأقربين كالأب و الجد فعليه التولي و المباشرة، و إلا فعلى الحكومة الشرعية أو على المؤمنين أن يقوموا بالأمر على التفصيل المذكور في الفقه.
كلام في أن جميع المال لجميع الناس
هذه حقيقة قرآنية هي أصل لأحكام و قوانين هامة في الإسلام أعني ما تفيده هذه الآية: أن المال لله ملكا حقيقيا جعله قياما و معاشا للمجتمع الإنساني من غير أن يقفه على شخص دون شخص وقفا لا يتغير و لا يتبدل و هبة تنسلب معها قدرة التصرف التشريعي ثم أذن في اختصاصهم بهذا الذي خوله الجميع على طبق نسب مشرعة كالوراثة و الحيازة و التجارة و غير ذلك و شرط لتصرفهم أمورا كالعقل و البلوغ و نحو ذلك.
و الأصل الثابت الذي يراعى حاله و يتقدر به فروعه هو كون الجميع للجميع، فإنما تراعى المصالح الخاصة على تقدير انحفاظ المصلحة العامة التي تعود إلى المجتمع و عدم المزاحمة، و أما مع المزاحمة و المفاوتة فالمقدم هو صلاح المجتمع من غير تردد.
و يتفرع على هذا الأصل الأصيل في الإسلام فروع كثيرة هامة كأحكام الإنفاق و معظم أحكام المعاملات و غير ذلك، و قد أيده الله تعالى في موارد من كتابه كقوله تعالى: خلق لكم ما في الأرض جميعا: «البقرة: 29»، و قد أوردنا بعض الكلام المتعلق بهذا المقام في البحث عن آيات الإنفاق من سورة البقرة فليراجع هناك.
قوله تعالى: «و ارزقوهم فيها و اكسوهم و قولوا لهم قولا معروفا» قد تقدم استيفاء الكلام في معنى الرزق في قوله تعالى: و ترزق من تشاء بغير حساب: «آل عمران: 27» و قوله: و ارزقوهم فيها و اكسوهم، كقوله: و على المولود له رزقهن و كسوتهن: «البقرة: 233» فالمراد بالرزق هو الغذاء الذي يغتذي به الإنسان و الكسوة ما يلبسه مما يقيه الحر و البرد غير أن لفظ الرزق و الكسوة في عرف القرآن كالكسوة و النفقة في لساننا كالكناية يكنى بها عن مجموع ما ترتفع به حوائج الإنسان المادية الحيوية فيدخل فيه سائر ما يحتاج إليه الإنسان كالمسكن و نحوه كما أن الأكل ذو معنى خاص بحسب أصله ثم يكنى به عن مطلق التصرفات كقوله: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا الآية.
و أما قوله: «و قولوا لهم قولا معروفا» فإنما هو كلمة أخلاقية يصلح بها أمر الولاية فإن هؤلاء و إن كانوا سفهاء محجورين عن التصرف في أموالهم غير أنهم ليسوا حيوانا أعجم و لا من الأنعام السائمة بل بشر يجب أن يعامل معهم معاملة الإنسان فيكلموا بما يكلم به الإنسان لا بالمنكر من القول و يعاشروا بما يعاشر به الإنسان.
و من هنا يظهر أن من الممكن أن يكون قوله: و قولوا لهم قولا معروفا.
كناية عن المعاملة الحسنة و المعاشرة الممدوحة غير المذمومة كما في قوله تعالى: «و قولوا للناس حسنا»: «البقرة: 83».
قوله تعالى: «و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم» إلى قوله: «أموالهم» الابتلاء الامتحان و المراد من بلوغ النكاح بلوغ أوانه ففيه مجاز عقلي و الإيناس المشاهدة و فيه شوب من معنى الألفة فإن مادته الأنس، و الرشد خلاف الغي و هو الاهتداء إلى مقاصد الحياة، و دفع مال اليتيم إليه كناية عن إعطائه إياه و إقباضه له كأن الولي يدفعه إليه و يبعده من نفسه فهو على ابتذاله كناية لطيفة.
و قوله: حتى إذا بلغوا النكاح، متعلق بقوله: و ابتلوا، ففيه دلالة ما على الاستمرار بأن يشرع الولي في ابتلائه من أول ما يأخذ في التمييز و يصلح للابتلاء حتى ينتهي إلى أوان النكاح و يبلغ مبلغ الرجال، و من طبع هذا الحكم ذلك فإن إيناس الرشد لا يحصل بابتلاء الصبي في واقعة أو واقعتين بل يجب تكراره إلى أن يحصل الإيناس و يتمشى بالطبع في مدة مديدة حتى يبلغ الرهاق ثم النكاح.
و قوله: فإن آنستم إلخ تفريع على قوله: و ابتلوا و المعنى: و امتحنوهم فإن آنستم منهم الرشد فادفعوا إليهم أموالهم و الكلام يؤذن بأن بلوغ النكاح بمنزلة المقتضي لدفع المال إلى اليتيم و استقلاله بالتصرف في مال نفسه و الرشد شرط لنفوذ التصرف، و قد فصل الإسلام النظر في أمر البلوغ من الإنسان فاكتفى في أمر العبادات و أمثال الحدود و الديات بمجرد السن الشرعي الذي هو سن النكاح و اشترط في نفوذ التصرفات المالية و الأقارير و نحوها مما تفصيل بيانه في الفقه مع بلوغ النكاح الرشد، و ذلك من لطائف سلوكه في مرحلة التشريع فإن إهمال أمر الرشد و إلغاءه في التصرفات المالية و نحوها مما يختل به نظام الحياة الاجتماعية في قبيل الأيتام و يكون نفوذ تصرفاتهم و أقاريرهم مفضيا إلى غرور الأفراد الفاسدة إياهم و إخراج جميع وسائل الحياة من أيديهم بأدنى وسيلة بالكلمات المزيفة و المواعيد الكاذبة و المعاملات الغررية إلى ذلك فالرشد لا محيص من اشتراطه في هذا النوع من الأمور، و أما أمثال العبادات فعدم الحاجة فيها إلى الاشتراط ظاهر، و كذا أمثال الحدود و الديات فإن إدراك قبح هذه الجنايات و المعاصي و فهم وجوب الكف عنها لا يحتاج فيه إلى الرشد بل الإنسان يقوى على تفهم ذلك قبله و لا يختلف حاله في ذلك قبل الرشد و بعده.
قوله تعالى: «و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا» اه الإسراف هو التعدي عن الاعتدال في العمل، و البدار هو المبادرة إلى الشيء و قوله و بدارا أن يكبروا في معنى حذر أن يكبروا فلا يدعوكم أن تأكلوا، و حذف النفي أو ما في معناه قبل أن و أن قياسي على ما ذكره النحاة قال تعالى: يبين الله لكم أن تضلوا: «النساء: 176» أي لئلا تضلوا أو حذر أن تضلوا.
و التقابل الواقع بين الأكل إسرافا و الأكل بدارا أن يكبروا يعطي أن الأكل إسرافا هو التعدي إلى أموالهم من غير حاجة و لا شائبة استحقاق بل إجحافا من غير مبالاة و الأكل بدارا أن يأكل الولي منها مثل ما يعد أجرة لعمله فيها عادة غير أن اليتيم لو كبر أمكن أن يمنعه عن مثل هذا الأكل فالجميع ممنوع إلا أن يكون الولي فقيرا لا محيص له من أن يشتغل بالاكتساب لسد جوعة أو يعمل لليتيم و يسد حاجته الضرورية من ماله و هذا بالحقيقة يرجع إلى ما يأخذ العامل للتجارة و البناية و نحوهما و هو الذي ذكره بقوله: من كان غنيا أي لا يحتاج في معاشه إلى الأخذ من مال اليتيم فليستعفف أي ليطلب طريق العفة و ليلزمه فلا يأخذ من أموالهم و من كان فقيرا فليأكل منها بالمعروف، و ذكر بعض المفسرين أن المعنى: فليأكل بالمعروف من مال نفسه لا من أموالهم و هو لا يلائم التفصيل بين الغني و الفقير.
و أما قوله تعالى: «فإذا دفعتم إليهم أموالهم فأشهدوا عليهم» فتشريع للاستشهاد عند الدفع تحكيما للأمر و رفعا لغائلة الخلاف و النزاع فمن الممكن أن يدعي اليتيم بعد الرشد و أخذ المال من الولي عليه، ثم ذيل الجميع بقوله تعالى: و كفى بالله حسيبا ربطا للحكم بمنشئه الأصلي الأولي أعني محتد كل حكم من أسمائه و صفاته تعالى فإنه تعالى لما كان حسيبا لم يكن ليخلي أحكام عباده من غير حساب دقيق و هو تشريعه المحكم، و تتميما للتربية الدينية الإسلامية فإن الإسلام يأخذ في تربية الناس على أساس التوحيد إذ الإشهاد و إن كان رافعا غالبا للخلاف و النزاع لكن ربما تخلف عنه لانحراف من الشهود في عدالتهم أو غير ذلك من متفرقات العوامل لكن السبب المعنوي العالي القوي هو تقوى الله الذي كفى به حسيبا فلو جعل الولي و الشهود و اليتيم الذي دفع إليه المال هذا المعنى نصب أعينهم لم يقع هناك اختلاف و لا نزاع البتة.
فانظر إلى الآيتين كيف أبدعتا في البيان فقد بينتا أولا رءوس مسائل الولاية على أموال اليتامى و المحجور عليهم و مهماتها: من كيفية الأخذ و الحفظ و الإنماء و التصرف و الرد و وقت الأخذ و الدفع و تحكيم مبناه ببيان وجه المصلحة العامة في ذلك كله و هو أن المال لله جعله قياما للإنسان على ما تقدم بيانه.
و ثانيا الأصل الأخلاقي الذي يربي الإنسان على وفق هذه الشرائع و هو الذي ذكره تعالى بقوله: و قولوا لهم قولا معروفا.
و ثالثا ببناء الجميع على أصل التوحيد الحاكم بوحدته في جميع الأحكام العملية و الأخلاقية و الباقي على حسن تأثيره في جميع الموارد لو فرض ضعف الأحكام العملية و الدستورات الأخلاقية من حيث الأثر، و هو الذي ذكره بقوله: و كفى بالله حسيبا.
بحث روائي
في الدر المنثور، في قوله تعالى: و آتوا اليتامى أموالهم الآية أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: إن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم فلما بلغ اليتيم طلب ماله فمنعه عنه فخاصمه إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنزلت الآية: و آتوا اليتامى أموالهم، الحديث.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): لا يحل لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر.
و في الكافي، عنه (عليه السلام): إذا جمع الرجل أربعا فطلق إحداهن فلا يتزوج الخامسة حتى تنقضي عدة المرأة التي طلق.
أقول: و الروايات في الباب كثيرة.
و في العلل، بإسناده عن محمد بن سنان: أن الرضا (عليه السلام) كتب إليه فيما كتب من جواب مسائله علة تزويج الرجل أربع نسوة و تحريم أن تتزوج المرأة أكثر من واحد لأن الرجل إذا تزوج أربع نسوة كان الولد منسوبا إليه، و المرأة لو كان لها زوجان أو أكثر من ذلك لم يعرف الولد لمن هو؟ إذ هم مشتركون في نكاحها و في ذلك فساد الأنساب و المواريث و المعارف، قال محمد بن سنان: و من علل النساء الحرائر و تحليل أربع نسوة لرجل واحد أنهن أكثر من الرجال فلما نظر و الله أعلم يقول الله عز و جل: فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى و ثلاث و رباع، فذلك تقدير قدره الله تعالى ليتسع فيه الغني و الفقير فيتزوج الرجل على قدر طاقته، الحديث.
و في الكافي، عن الصادق (عليه السلام): في حديث قال: و الغيرة للرجال، و لذلك حرم على المرأة إلا زوجها و أحل للرجل أربعا فإن الله أكرم من أن يبتليهن بالغيرة و يحل للرجل معها ثلاثا.
أقول: و يوضح ذلك أن الغيرة هي إحدى الأخلاق الحميدة و الملكات الفاضلة و هي تغير الإنسان عن حاله المعتاد، و نزوعه إلى الدفاع و الانتقام عند تعدي الغير إلى بعض ما يحترمه لنفسه من دين أو عرض أو جاه و يعتقد كرامته عليه، و هذه الصفة الغريزية لا يخلو عنها في الجملة إنسان أي إنسان فرض فهي من فطريات الإنسان، و الإسلام دين مبني على الفطرة تؤخذ فيه الأمور التي تقضي بها فطرة الإنسان فتعدل بقصرها فيما هو صلاح الإنسان في حياته، و يحذف عنها ما لا حاجة إليه فيها من وجوه الخلل و الفساد كما في اقتناء المال و المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و غير ذلك.
فإذا فرض أن الله سبحانه أحل للرجل مع المرأة الواحدة ثلاثا أخر - و الدين مبني على رعاية حكم الفطرة - كان لازم ذلك أن يكون ما يتراءى من حال النساء و تغيرهن على الرجال في أمر الضرائر حسدا منهن لا غيرة و سيتضح مزيد اتضاح في البحث الآتي عن تعدد الزوجات أن هذا الحال حال عرضي طار عليهن لا غريزي فطري.
و في الكافي، بإسناده عن زرارة عن الصادق (عليه السلام) قال: لا يرجع الرجل فيما يهب لامرأته، و لا المرأة فيما تهب لزوجها جيزت أو لم تجز أ ليس الله تبارك و تعالى يقول: و لا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئا؟ و قال: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسا فكلوه هنيئا مريئا؟ و هذا يدخل في الصداق و الهبة.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن القداح عن أبي عبد الله عن أبيه (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أمير المؤمنين (عليه السلام) فقال: يا أمير المؤمنين بي وجع في بطني فقال له أمير المؤمنين (عليه السلام) أ لك زوجة؟ قال: نعم قال استوهب منها شيئا طيبة به نفسها من مالها ثم اشتر به عسلا ثم اسكب عليه من ماء السماء ثم اشربه فإني سمعت الله يقول في كتابه: و نزلنا من السماء ماء مباركا، و قال: يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس، و قال: فإن طبن لكم منه شيئا فكلوه هنيئا مريئا، شفيت إن شاء الله تعالى، قال: ففعل ذلك فشفي: أقول: و رواه أيضا في الدر المنثور عن عبد بن حميد و ابن المنذر و ابن أبي حاتم عنه (عليه السلام) و هو نوع من الاستفادة لطيف، و بناؤه على التوسعة في المعنى و يوجد له نظائر في الأخبار المأثورة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) سنورد بعضها في الموارد المناسبة له.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام): إذا حدثتكم بشيء فاسألوني من كتاب الله، ثم قال في بعض حديثه: إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) نهى عن القيل و القال، و فساد المال، و كثيرة السؤال، فقيل له: يا بن رسول الله أين هذا من كتاب الله؟ قال: إن الله عز و جل يقول: لا خير في كثير من نجويهم - إلا من أمر بصدقة أو معروف أو إصلاح بين الناس، و قال: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم التي جعل الله لكم قياما، و قال: و لا تسئلوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم.
و في تفسير العياشي، عن يونس بن يعقوب قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم، قال: من لا تثق به.
و فيه، عن إبراهيم بن عبد الحميد قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن هذه الآية و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال: كل من يشرب الخمر فهو سفيه.
و فيه، عن علي بن أبي حمزة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: و لا تؤتوا السفهاء أموالكم قال: هم اليتامى لا تعطوهم أموالهم حتى تعرفوا منهم الرشد فقلت: فكيف يكون أموالهم أموالنا؟ قال: إذا كنت أنت الوارث لهم.
و في تفسير القمي، عن الباقر (عليه السلام): في الآية: فالسفهاء النساء و الولد إذا علم الرجل أن امرأته سفيهة مفسدة و ولده سفيه مفسد لم ينبغ له أن يسلط واحدا منهما على ماله الذي جعل الله له قياما يقول: معاشا الحديث.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة، و هي تؤيد ما قدمناه أن للسفه معنى وسيع ذو مراتب كالسفيه المحجور عليه و الصبي قبل أن يرشد و المرأة المتلهية المتهوسة و شارب الخمر و مطلق من لا تثق به، و بحسب اختلاف هذه المصاديق يختلف معنى إيتاء المال، و كذا معنى إضافة «أموالكم» و عليك بالتطبيق و الاعتبار.
و قوله في رواية ابن أبي حمزة: إذا كنت أنت الوارث لهم إشارة إلى ما قدمناه أن المال كله للمجتمع بحسب الأصل ثم لكل من الأشخاص ثانيا و للمصالح الخاصة فإن اشتراك المجتمع في المال أولا هو الموجب لانتقاله من واحد إلى آخر.
و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): انقطاع يتم اليتيم الاحتلام و هو أشده، و إن احتلم و لم يؤنس منه رشد و كان سفيها أو ضعيفا فليمسك عنه وليه ماله.
و فيه، عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: و ابتلوا اليتامى الآية قال: إيناس الرشد حفظ المال.
أقول: و قد تقدم وجه دلالة الآية عليه.
و في التهذيب، عنه (عليه السلام): في قول الله: و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال: فذاك رجل يحبس نفسه عن المعيشة فلا بأس أن يأكل بالمعروف إذا كان يصلح لهم فإن كان المال قليلا فلا يأكل منه شيئا.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و النسائي و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه عن ابن عمر: أن رجلا سأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: ليس لي مال و لي يتيم فقال: كل من مال يتيمك غير مسرف و لا مبذر و لا متأثل مالا و من غير أن تقي مالك بماله.
أقول: و الروايات في هذه المعاني كثيرة من طرق أهل البيت (عليهم السلام) و غيرهم، و هناك مباحث فقهية و أخبار ناظرة إليها من أرادها فعليه بجوامع الحديث و كتب الفقه.
و في تفسير العياشي، عن رفاعة عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: فليأكل بالمعروف، قال (عليه السلام): كان أبي يقول: إنها منسوخة.
و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و النحاس كلاهما في الناسخ و ابن المنذر من طريق عطاء عن ابن عباس: و من كان فقيرا فليأكل بالمعروف قال: نسختها: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية.
أقول: و كون الآية منسوخة لا يلائم ميزان النسخ إذ ليس بين الآيات الكريمة ما نسبتها إلى هذه الآية نسبة الناسخة إلى المنسوخة، و أما قوله تعالى: إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلما الآية فهو لا ينافي بمضمونه مضمون هذه الآية فإن الأكل في هذه الآية المجوزة مقيد بالمعروف، و في تلك الآية المحرمة بالظلم و لا تنافي بين تجويز الأكل بالمعروف و تحريم الأكل ظلما، فالحق أن الآية غير منسوخة، و الروايتان لا توافقان الكتاب على ما فيهما من الضعف.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن المغيرة عن جعفر بن محمد (عليهما السلام): في قول الله: فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم قال: فقال: إذا رأيتموهم يحبون آل محمد فارفعوهم درجة.
أقول: و هو من الجري من باطن التنزيل فإن أئمة الدين آباء المؤمنين و المؤمنون أيتام المعارف عند انقطاعهم عنهم فإذا صح انتسابهم إليهم بالحب فليرفعوا درجة بتعليم المعارف الحقة التي هي ميراث آبائهم.
بحث علمي في فصول ثلاثة
1 - النكاح من مقاصد الطبيعة:
أصل التواصل بين الرجل و المرأة مما تبينه الطبيعة الإنسانية بل الحيوانية بأبلغ بيانها، و الإسلام دين الفطرة فهو مجوزه لا محالة.
و أمر الإيلاد و الإفراخ الذي هو بغية الطبيعة و غرض الخلقة في هذا الاجتماع هو السبب الوحيد و العامل الأصلي في تقليب هذا العمل في قالب الازدواج و إخراجه من مطلق الاختلاط للسفاد و المقاربة إلى شكل النكاح و الملازمة و لهذا ترى أن الحيوان الذي يشترك في تربيته الوالدان معا كالطيور في حضانة بيضها و تغذية أفراخها و تربيتها و كالحيوان الذي يحتاج في الولادة و التربية إلى وكر تحتاج الإناث منه في بنائه و حفظه إلى معاونة الذكور يختار لهذا الشأن الازدواج و هو نوع من الملازمة و الاختصاص بين الزوجين الذكور و الإناث منه فيتواصلان عندئذ و يتشاركان في حفظ بيض الإناث و تدبيرها و إخراج الأفراخ منها و هكذا إلى آخر مدة تربية الأولاد ثم ينفصلان إن انفصلا ثم يتجدد الازدواج و هكذا فعامل النكاح و الازدواج هو الإيلاد و تربية الأولاد و أما إطفاء نائرة الشهوة أو الاشتراك في الأعمال الحيوية كالكسب و جمع المال و تدبير الأكل و الشرب و الأثاث و إدارة البيت فأمور خارجة عن مستوى غرض الطبيعة و الخلقة و إنما هي أمور مقدمية أو فوائد مترتبة.
و من هنا يظهر أن الحرية و الاسترسال من الزوجين بأن يتواصل كل من الزوجين مع غير زوجه أينما أراد و مهما أراد من غير امتناع كالحيوان العجم الذي ينزو الذكور منه على الإناث أينما وجدها على ما يكاد يكون هو السنة الجارية بين الملل المتمدنة اليوم و كذا الزنا و خاصة زنا المحصنة منه.
و كذا تثبيت الازدواج الواقع و تحريم الطلاق و الانفصال بين الزوجين، و ترك الزوج و اتخاذ زوج آخر ما دامت الحياة تجمع بينهما.
و كذا إلغاء التوالد و تربية الأولاد و بناء الازدواج على أساس الاشتراك في الحياة المنزلية على ما هو المتداول اليوم بين الملل الراقية و نظيره إرسال المواليد إلى المعاهد العامة المعدة للرضاع و التربية كل ذلك على خلاف سنة الطبيعة و قد جهز الإنسان بما ينافي هذه السنن الحديثة على ما مرت الإشارة إليه.
نعم الحيوان الذي لا حاجة في ولادته و تربيته إلى أزيد من حمل الأم إياه و إرضاعها له و تربيته بمصاحبتها فلا حاجة طبيعية فيه إلى الازدواج و المصاحبة و الاختصاص فهذا النوع من الحيوان له حرية السفاد بمقدار ما لا يضر بغرض الطبيعة من جهة حفظ النسل.
و إياك أن تتوهم أن الخروج عن سنة الخلقة و ما تستدعيه الطبيعة لا بأس به بعد تدارك النواقص الطارئة بالفكر و الروية مع ما فيه من لذائذ الحياة و التنعم، فإن ذلك من أعظم الخبط فإن هذه البنيات الطبيعية التي منها البنية الإنسانية مركبات مؤلفة من أجزاء كثيرة تستوجب بوقوع كل في موقعه الخاص على شرائطه المخصوصة به وضعا هو الملائم لغرض الطبيعة و الخلقة و هو المناسب لكمال النوع كالمعاجين و المركبات من الأدوية التي تحتاج إلى أجزاء بأوصاف و مقادير و أوزان و شرائط خاصة لو خرج واحد منها عن هيئته الخاصة أدنى خروج و انحراف سقط الأثر.
فالإنسان مثلا موجود طبيعي تكويني ذو أجزاء مركبة تركيبا خاصا يستتبع أوصافا داخلية و خواص روحية تستعقب أفعالا و أعمالا فإذا حول بعض أفعاله و أعماله من مكانته الطبيعية إلى غيرها يستتبع ذلك انحرافا و تغيرا في صفاته و خواصه الروحية و انحرف بذلك جميع الخواص و الصفات عن مستوى الطبيعة و صراط الخلقة و بطل بذلك ارتباطه بكماله الطبيعي و الغاية التي يبتغيها بحسب الخلقة.
و إذا بحثنا في المصائب العامة التي تستوعب اليوم الإنسانية و تحبط أعمال الناس و مساعيهم لنيل الراحة و الحياة السعيدة و تهدد الإنسانية بالسقوط و الانهدام وجدنا أن أقوى العوامل فيها بطلان فضيلة التقوى و تمكن الخرق و القسوة و الشدة و الشره من نفوس الجوامع البشرية و أعظم أسبابه و علله الحرية و الاسترسال و الإهمال في نواميس الطبيعة في أمر الزوجية و تربية الأولاد فإن سنة الاجتماع المنزلي و تربية الأولاد اليوم تميت قرائح الرأفة و الرحمة و العفة و الحياة و التواضع من الإنسان من أول حين يأخذ في التمييز إلى آخر ما يعيش.
و أما تدارك هذه النواقص بالفكر و الروية فهيهات ذلك فإنما الفكر كسائر لوازم الحياة وسيلة تكوينية اتخذتها الطبيعة وسيلة لرد ما خرج و انحرف عن صراط الطبيعة و التكوين إليه لا لإبطال سعي الطبيعة و الخلقة و قتلها بنفس السيف الذي أعطته للإنسان لدفع الشر عنها، و لو استعمل الفكر الذي هو أحد وسائل الطبيعة في تأييد ما أفسد من شئون الطبيعة عادت هذه الوسيلة أيضا فاسدة منحرفة كسائر الوسائل، و لذلك ترى أن الإنسان اليوم كلما أصلح بقوة فكره واحدة من المفاسد العامة التي تهدد اجتماعه أنتج ذلك ما هو أمر و أدهى و زاد البلاء و المصيبة شيوعا و شمولا.
نعم ربما قال القائل من هؤلاء: إن الصفات الروحية التي تسمى فضائل نفسانية هي بقايا من عهد الأساطير و التوحش لا تلائم حياة الإنسان الراقي اليوم كالعفة و السخاء و الحياء و الرأفة و الصدق فإن العفة تقييد لطبيعة النفس فيما تشتهيه من غير وجه، و السخاء إبطال لسعي الإنسان في جمعه المال و ما قاساه من المحن في طريق اكتسابه على أنه تعويد للمسكين بالبطالة في الاكتساب و بسط يده لذل السؤال، و الحياء لجام يلجم الإنسان عن مطالبة حقوقه و إظهار ما في ضميره، و الرأفة تضعف القلب، و الصدق لا يلائم الحياة اليومية، و هذا الكلام بعينه من مصاديق الانحراف الذي ذكرناه.
و لم يدر هذا القائل إن هذه الفضائل في المجتمع الإنساني من الواجبات الضرورية التي لو ارتفعت من أصلها لم يعش المجتمع بعدها في حال الاجتماع و لا ساعة.
فلو ارتفعت هذه الخصال و تعدى كل فرد إلى ما لكل فرد من مختصات الحقوق و الأموال و الأعراض، و لم يسخ أحد ببذل ما مست إليه حاجة المجتمع، و لم ينفعل أحد من مخالفة ما يجب عليه رعايته من القوانين و لم يرأف أحد بالعجزة الذين لا ذنب لهم في عجزهم كالأطفال و من في تلوهم، و كذب كل أحد لكل أحد في جميع ما يخبر به و يعده و هكذا تلاشى المجتمع الإنساني من حينه.
فينبغي لهذا القائل إن يعلم أن هذه الخصال لا ترتحل و لن ترتحل عن الدنيا، و أن الطبيعة الإنسانية مستمسكة بها حافظة لحياتها ما دامت داعية للإنسان إلى الاجتماع، و إنما الشأن كل الشأن في تنظيم هذه الصفات و تعديلها بحيث توافق غرض الطبيعة و الخلقة في دعوتها الإنسان إلى سعادة الحياة، و لو كانت الخصال الدائرة في المجتمع المترقي اليوم فضائل للإنسانية معدلة بما هو الحري من التعديل لما أوردت المجتمع مورد الفساد و الهلكة و لأقر الناس في مستقر أمن و راحة و سعادة.
و لنعد إلى ما كنا فيه من البحث فنقول: الإسلام وضع أمر الازدواج فيما ذكرناه موضعه الطبيعي فأحل النكاح و حرم الزنا و السفاح، و وضع علقة الزوجية على أساس جواز المفارقة و هو الطلاق، و وضع هذه العلقة على أساس الاختصاص في الجملة على ما سنشرحه، و وضع عقد هذا الاجتماع على أساس التوالد و التربية، و من الأحاديث النبوية المشهورة قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): تناكحوا تناسلوا تكثروا الحديث.
2 - استيلاء الذكور على الإناث:
ثم إن التأمل في سفاد الحيوانات يعطي أن للذكور منها شائبة استيلاء على الإناث في هذا الباب فإنا نرى أن الذكر منها كأنه يرى نفسه مالكا للبضع مسلطا على الأنثى، و لذلك ما ترى أن الفحولة منها تتنازع و تتشاجر على الإناث من غير عكس فلا تثور الأنثى على مثلها إذا مال إليها الذكر بخلاف العكس، و كذا ما يجري بينها مجرى الخطبة من الإنسان إنما يبدأ من ناحية الذكران دون الإناث، و ليس إلا أنها ترى بالغريزة أن الذكور في هذا العمل كالفاعل المستعلي و الإناث كالقابل الخاضع، و هذا المعنى غير ما يشاهد من نحو طوع من الذكور للإناث في مراعاة ما تميل إليه نفسها و يستلذه طبعها فإن ذلك راجع إلى مراعاة جانب العشق و الشهوة و استزادة اللذة، و أما نحو الاستيلاء و الاستعلاء المذكور فإنه عائد إلى قوة الفحولة و إجراء ما تأمر به الطبيعة.
و هذا المعنى أعني لزوم الشدة و البأس لقبيل الذكور و اللين و الانفعال لقبيل الإناث مما يوجد الاعتقاد به قليلا أو كثيرا عند جميع الأمم حتى سرى إلى مختلف اللغات فسمي كل ما هو شديد صعب الانقياد بالذكر و كل لين سهل الانفعال بالأنثى يقال: حديد ذكر و سيف ذكر و نبت ذكر و مكان ذكر و هكذا.
و هذا الأمر جار في نوع الإنسان دائر بين المجتمعات المختلفة و الأمم المتنوعة في الجملة و إن كان ربما لم يخل من الاختلاف زيادة و نقيصة.
و قد اعتبره الإسلام في تشريعه قال الله تعالى: الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض: «النساء: 34» فشرع وجوب إجابتها له إذا دعاها إلى المواقعة إن أمكنت لها.
3 - تعدد الزوجات:
و أمر الوحدة و التعدد فيما نشاهده من أقسام الحيوان غير واضح ففيما كان بينها اجتماع منزلي تتأحد الإناث و تختص بالذكور لما أن الذكور في شغل شاغل في مشاركتها في تدبير المنزل و حضانة الأفراخ و تربيتها و ربما تغير الوضع الجاري بينها بالصناعة و التدبير و الكفالة أعني بالتأهيل و التربية كما يشاهد من أمر الديك و الدجاج و الحمام و نحوها.
و أما الإنسان فاتخاذ الزوجات المتعددة كانت سنة جارية في غالب الأمم القديمة كمصر و الهند و الصين و الفرس بل و الروم و اليونان فإنهم كانوا ربما يضيفون إلى الزوجة الواحدة في البيت خدنا يصاحبونها بل و كان ذلك عند بعض الأمم لا ينتهي إلى عدد يقف عليه كاليهود و العرب فكان الرجل منهم ربما تزوج العشرة و العشرين و أزيد و قد ذكروا أن سليمان الملك تزوج مئات من النساء.
و أغلب ما كان يقع تعدد الزوجات إنما هو في القبائل و من يحذو حذوهم من سكان القرى و الجبال فإن لرب البيت منهم حاجة شديدة إلى الجمع و كثرة الأعضاء فكانوا يقصدون بذلك التكاثر في البنين بكثرة الاستيلاد ليهون لهم أمر الدفاع الذي هو من لوازم عيشتهم و ليكون ذلك وسيلة يتوسلون بها إلى الترؤس و السؤدد في قومهم على ما في كثرة الازدواج من تكثر الأقرباء بالمصاهرة.
و ما ذكره بعض العلماء أن العامل في تعدد الزوجات في القبائل و أهل القرى إنما هو كثرة المشاغل و الأعمال فيهم كأعمال الحمل و النقل و الرعي و الزراعة و السقاية و الصيد و الطبخ و النسج و غير ذلك فهو و إن كان حقا في الجملة إلا أن التأمل في صفاتهم الروحية يعطي أن هذه الأعمال في الدرجة الثانية من الأهمية عندهم، و ما ذكرناه هو الذي يتعلق به قصد الإنسان البدوي أولا و بالذات كما أن شيوع الادعاء و التبني أيضا بينهم سابقا كان من فروع هذا الغرض.
على أنه كان في هذه الأمم عامل أساسي آخر لتداول تعدد الزوجات بينهم و هو زيادة عدة النساء على الرجال بما لا يتسامح فيه فإن هذه الأمم السائرة بسيرة القبائل كانت تدوم فيهم الحروب و الغزوات و قتل الفتك و الغيلة فكان القتل يفني الرجال، و يزيد عدد النساء على الرجال زيادة لا ترتفع حاجة الطبيعة معها إلا بتعدد الزوجات - هذا.
و الإسلام شرع الازدواج بواحدة، و أنفذ التكثير إلى أربع بشرط التمكن من القسط بينهن مع إصلاح جميع المحاذير المتوجهة إلى التعدد على ما سنشير إليها قال الله تعالى: و لهن مثل الذي عليهن بالمعروف: «البقرة: 228».
و قد استشكلوا على حكم تعدد الزوجات: أولا: أنه يضع آثارا سيئة في المجتمع فإنه يقرع قلوب النساء في عواطفهن و يخيب آمالهن و يسكن فورة الحب في قلوبهن فينعكس حس الحب إلى حس الانتقام فيهملن أمر البيت و يتثاقلن في تربية الأولاد و يقابلن الرجال بمثل ما أساءوا إليهن فيشيع الزنا و السفاح و الخيانة في المال و العرض فلا يلبث المجتمع دون أن ينحط في أقرب وقت.
و ثانيا: أن التعدد في الزوجات يخالف ما هو المشهود المتراءى من عمل الطبيعة فإن الإحصاء في الأمم و الأجيال يفيد أن قبيلي الذكورة و الإناث متساويان عددا تقريبا فالذي هيأته الطبيعة هو واحدة لواحد، و خلاف ذلك خلاف غرض الطبيعة.
و ثالثا: أن في تشريع تعدد الزوجات ترغيبا للرجال إلى الشره و الشهوة، و تقوية لهذه القوة في المجتمع.
و رابعا: أن في ذلك حطا لوزن النساء في المجتمع بمعادلة الأربع منهن بواحد من الرجال و هو تقويم جائر حتى بالنظر إلى مذاق الإسلام الذي سوى فيه بين مرأتين و رجل كما في الإرث و الشهادة و غيرهما، و لازمه تجويز التزوج باثنتين منهن لا أزيد ففي تجويز الأربع عدول عن العدل على أي حال من غير وجه و هذه الإشكالات مما اعترض بها النصارى على الإسلام أو من يوافقهم من المدنيين المنتصرين لمسألة تساوي حقوق الرجال و النساء في المجتمع.
و الجواب عن الأول ما تقدم غير مرة في المباحث المتقدمة أن الإسلام وضع بنية المجتمع الإنساني على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فالمتبع عنده هو الصلاح العقلي في السنن الاجتماعية دون ما تهواه الإحساسات و تنجذب إليه العواطف و ليس في ذلك إماتة العواطف و الإحساسات الرقيقة و إبطال حكم المواهب الإلهية و الغرائز الطبيعية فإن من المسلم في الأبحاث النفسية أن الصفات الروحية و العواطف و الإحساسات الباطنة تختلف كما و كيفا باختلاف التربية و العادة، كما أن كثيرا من الآداب و الرسوم الممدوحة عند الشرقيين مثلا مذمومة عند الغربيين و بالعكس، و كل أمة تختلف مع غيرها في بعضها.
و التربية الدينية في الإسلام تقيم المرأة الإسلامية مقاما لا تتألم بأمثال ذلك عواطفها.
نعم المرأة الغربية حيث اعتادت منذ قرون بالوحدة و لقنت بذلك جيلا بعد جيل استحكم في روحها عاطفة نفسانية تضاد التعدد.
و من الدليل على ذلك الاسترسال الفظيع الذي شاعت بين الرجال و النساء في الأمم المتمدنة! اليوم.
أ ليس رجالهم يقضون أوطار الشهوة من كل من هووها و هوتهم من نسائهم من محارم و غيرها و من بكر أو ثيب و من ذات بعل أو غيرها، حتى أن الإنسان لا يقدر أن يقف في كل ألف منهم بواحد قد سلم من الزنا سواء في ذلك الرجال و النساء و لم يقنعوا بذلك حتى وقعوا في الرجال وقوعا قل ما يسلم منه فرد حتى بلغ الأمر مبلغا رفعوا قبيل سنة إلى برلمان بريطانيا العظمى أن يبيح لهم اللواط سنة قانونية و ذلك بعد شيوعه بينهم من غير رسمية، و أما النساء و خاصة الأبكار و غير ذوات البعل من الفتيات فالأمر فيهن أغرب و أفظع.
فليت شعري كيف لا تأسف النساء هناك و لا يتحرجن و لا تنكسر قلوبهن و لا تتألم عواطفهن حين يشاهدن كل هذه الفضائح من رجالهن؟ و كيف لا تتألم عواطف الرجل و إحساساته حين يبني بفتاة ثم يجدها ثيبا فقدت بكارتها و افترشت لا للواحد و الاثنين من الرجال ثم لا يلبث حتى يباهي بين الأقران أن السيدة ممن توفرت عليها رغبات الرجال و تنافس في القضاء منها العشرات و المئات!! و هل هذا إلا أن هذه السيئات تكررت بينهم و نزعة الحرية تمكنت من أنفسهم حتى صارت عادة عريقة مألوفة لا تمتنع منها العواطف و الإحساسات و لا تستنكرها النفوس؟ فليس إلا أن السنن الجارية تميل العواطف و الإحساسات إلى ما يوافقها و لا يخالفها.
و أما ما ذكروه من استلزام ذلك إهمالهن في تدبير البيت و تثاقلهن في تربية الأولاد و شيوع الزنا و الخيانة فالذي أفادته التجربة خلاف ذلك فإن هذا الحكم جرى في صدر الإسلام و ليس في وسع أحد من أهل الخبرة بالتاريخ أن يدعي حصول وقفة في أمر المجتمع من جهته بل كان الأمر بالعكس.
على أن هذه النساء اللاتي يتزوج بهن على الزوجة الأولى في المجتمع الإسلامي و سائر المجتمعات التي ترى ذلك أعني الزوجة الثانية و الثالثة و الرابعة إنما يتزوج بهن عن رضاء و رغبة منهن و هن من نساء هذه المجتمعات، و لم يسترققهن الرجال من مجتمعات أخرى، و لا جلبوهن للنكاح من غير هذه الدنيا و إنما رغبن في مثل هذا الازدواج لعلل اجتماعية، فطباع جنس المرأة لا يمتنع عن مسألة تعدد الزوجات، و لا قلوبهن تتألم منها بل لو كان شيء من ذلك فهو من لوازم أو عوارض الزوجية الأولى أعني أن المرأة إذا توحدت للرجل لا تحب أن ترد عليها و على بيتها أخرى لخوفها أن تميل عنها بعلها أو تترأس عليها غيرها أو يختلف الأولاد و نحو ذلك فعدم الرضاء و التألم فيما كان إنما منشؤه حالة عرضية التوحد بالبعل لا غريزة طبيعية.
و الجواب عن الثاني أن الاستدلال بتسوية الطبيعة بين الرجال و النساء في العدد مختل من وجوه.
منها أن أمر الازدواج لا يتكي على هذا الذي ذكروه فحسب بل هناك عوامل و شرائط أخرى لهذا الأمر فأولا الرشد الفكري و التهيؤ لأمر النكاح أسرع إلى النساء منها إلى الرجال فالنساء و خاصة في المناطق الحارة إذا جزن التسع صلحن للنكاح، و الرجال لا يتهيئون لذلك غالبا قبل الست عشرة من السنين و هو الذي اعتبره الإسلام للنكاح.
و من الدليل على ذلك السنة الجارية في فتيات الأمم المتمدنة فمن الشاذ النادر أن تبقى فتاة على بكارتها إلى سن البلوغ القانوني فليس إلا أن الطبيعة هيأتها للنكاح قبل تهيئتها الرجال لذلك.
و لازم هذه الخاصة أن لو اعتبرنا مواليد ست عشرة سنة من قوم و الفرض تساوي عدد الذكور و الإناث فيهم كان الصالح للنكاح في السنة السادسة عشر من الرجال و هي سنة أول الصلوح مواليد سنة واحدة و هم مواليد السنة الأولى المفروضة، و الصالحة للنكاح من النساء مواليد سبع سنين و هي مواليد السنة الأولى إلى السابعة، و لو اعتبرنا مواليد خمسة و عشرين سنة و هي سن بلوغ الأشد من الرجال حصل في السنة الخامسة و العشرين على الصلوح من الرجال مواليد عشرة سنين و من النساء مواليد خمس عشرة سنة، و إذا أخذنا بالنسبة الوسطى حصل لكل واحد من الرجال اثنتان من النساء بعمل الطبيعة.
و ثانيا أن الإحصاء كما ذكروه يبين أن النساء أطول عمرا من الرجال و لازمه أن تهيىء سنة الوفاة و الموت عددا من النساء ليس بحذائهن رجال.
و ثالثا: أن خاصة النسل و التوليد تدوم في الرجال أكثر من النساء فالأغلب على النساء أن يئسن من الحمل في سن الخمسين و يمكث ذلك في الرجال سنين عديدة بعد ذلك، و ربما بقي قابلية التوليد في الرجال إلى تمام العمر الطبيعي و هي مائة سنة فيكون عمر صلاحية الرجال للتوليد و هو ثمانون سنة تقريبا ضعفه في المرأة و هو أربعون تقريبا، و إذا ضم هذا الوجه إلى الوجه السابق أنتج أن الطبيعة و الخلقة أباح للرجال التعدي من الزوجة الواحدة إلى غيرها فلا معنى لتهيئة قوة التوليد و المنع عن الاستيلاد من محل شأنه ذلك فإن ذلك مما تأباه سنة العلل و الأسباب الجارية.
و رابعا: أن الحوادث المبيدة لأفراد المجتمع من الحروب و المقاتل و غيرهما تحل بالرجال و تفنيهم أكثر منها بالنساء بما لا يقاس كما تقدم أنه كان أقوى العوامل لشيوع تعدد الزوجات في القبائل فهذه الأرامل و النساء العزل لا محيص لهن عن قبول التعدد أو الزنا أو خيبة القوة المودعة في طبائعهن و بطلانها.
و مما يتأيد به هذه الحقيقة ما وقع في الألمان الغربي قبل عدة شهور من كتابة هذه الأوراق: أظهرت جمعية النساء العزل تحرجها من فقدان البعولة و سألت الحكومة أن يسمح لهن بسنة تعدد الزوجات الإسلامية حتى يتزوج من شاء من الرجال بأزيد من واحدة و يرتفع بذلك غائلة الحرمان، غير أن الحكومة لم تجبهن في ذلك و امتنعت الكنيسة من قبوله و رضيت بفشو الزنا و شيوعه و فساد النسل به.
و منها أن الاستدلال بتسوية الطبيعة النوعية بين الرجال و النساء في العدد مع الغض عما تقدم إنما يستقيم فيما لو فرض أن يتزوج كل رجل في المجتمع بأكثر من الواحدة إلى أربع من النساء لكن الطبيعة لا تسمح بإعداد جميع الرجال لذلك و لا يسع ذلك بالطبع إلا لبعضهم دون جميعهم و الإسلام لم يشرع تعدد الزوجات بنحو الفرض و الوجوب على الرجال بل إنما أباح ذلك لمن استطاع أن يقيم القسط منهم، و من أوضح الدليل على عدم استلزام هذا التشريع حرجا و لا فسادا أن سير هذه السنة بين المسلمين و كذا بين سائر الأمم الذين يرون ذلك لم يستلزم حرجا من قحط النساء و إعوازهن على الرجال.
بل بالعكس من ذلك أعد تحريم التعدد في البلاد التي فيها ذلك ألوفا من النساء حرمن الأزواج و الاجتماع المنزلي و اكتفين بالزنا.
و منها أن الاستدلال المذكور مع الإغماض عن ما سبق إنما يستقيم لو لم يصلح هذا الحكم و لم يعدل بتقييده بقيود ترتفع بها المحاذير المتوهمة فقد شرط الإسلام على من يريد من الرجال التعدد أن يقيم العدل في معاشرتهن بالمعروف و في القسم و الفراش و فرض عليهم نفقتهن ثم نفقة أولادهن و لا يتيسر الإنفاق على أربع نسوة مثلا و من يلدنه من الأولاد مع شريطة العدل في المعاشرة و غير ذلك إلا لبعض أولي الطول و السعة من الناس لا لجميعهم.
على أن هناك طرقا دينية شرعية يمكن أن تستريح إليها المرأة فتلزم الزوج على الاقتصار عليها و الإغماض عن التكثير.
و الجواب عن الثالث: أنه مبني على عدم التدبر في نحو التربية الإسلامية و مقاصد هذه الشريعة فإن التربية الدينية للنساء في المجتمع الإسلامي الذي يرتضيه الدين بالستر و العفاف و الحياء و عدم الخرق تنمي المرأة و شهوة النكاح فيها أقل منها في الرجل على الرغم مما شاع أن شهوة النكاح فيها أزيد و أكثر و استدل عليه بتولعها المفرط بالزينة و الجمال طبعا و هذا أمر لا يكاد يشك فيه رجال المسلمين ممن تزوج بالنساء الناشئات على التربية الدينية فشهوة النكاح في المتوسط من الرجال تعادل ما في أكثر من امرأة واحدة بل و المرأتين و الثلاث.
و من جهة أخرى من عناية هذا الدين أن يرتفع الحرمان في الواجب من مقتضيات الطبع و مشتهيات النفس فاعتبر أن لا تختزن الشهوة في الرجل و لا يحرم منها فيدعوه ذلك إلى التعدي إلى الفجور و الفحشاء و المرأة الواحدة ربما اعتذرت فيما يقرب من ثلث أوقات المعاشرة و المصاحبة كأيام العادة و بعض أيام الحمل و الوضع و الرضاع و نحو ذلك و الإسراع في رفع هذه الحاجة الغريزية هو لازم ما تكرر منا في المباحث السابقة من هذا الكتاب أن الإسلام يبني المجتمع على أساس الحياة التعقلية دون الحياة الإحساسية فبقاء الإنسان على حالة الإحساس الداعية إلى الاسترسال في الأهواء و الخواطر السوء كحال التعزب و نحوه من أعظم المخاطر في نظر الإسلام.
و من جهة أخرى من أهم المقاصد عند شارع الإسلام تكثر نسل المسلمين و عمارة الأرض بيد مجتمع مسلم عمارة صالحة ترفع الشرك و الفساد.
فهذه الجهات و أمثالها هي التي اهتم بها الإسلام في تشريع تعدد الزوجات دون ترويج أمر الشهوة و ترغيب الناس إلى الانكباب عليها و لو أنصف هؤلاء المستشكلون كان هذه السنن الاجتماعية المعروفة بين هؤلاء البانين للاجتماع على أساس التمتع المادي أولى بالرمي بترويج الفحشاء و الترغيب إلى الشره من الإسلام الباني للاجتماع على أساس السعادة الدينية.
على أن في تجويز تعدد الزوجات تسكينا لثورة الحرص التي هي من لوازم الحرمان فكل محروم حريص، و لا هم للممنوع المحبوس إلا أن يهتك حجاب المنع و الحبس، فالمسلم و إن كان ذا زوجة واحدة فإنه على سكن و طيب نفس من أنه ليس بممنوع عن التوسع في قضاء شهوته لو تحرجت نفسه يوما إليه، و هذا نوع تسكين لطيش النفس، و إحصان لها عن الميل إلى الفحشاء و هتك الأعراض المحرمة.
و قد أنصف بعض الباحثين من الغربيين حيث قال: لم يعمل في إشاعة الزنا و الفحشاء بين الملل المسيحية عامل أقوى من تحريم الكنيسة تعدد الزوجات.
و الجواب عن الرابع أنه ممنوع فقد بينا في بعض المباحث السابقة عند الكلام في حقوق.
المرأة في الإسلام: أنه لم يحترم النساء و لم يراع حقوقهن كل المراعاة أي سنة من السنن الدينية أو الدنيوية من قديمها و حديثها بمثل ما احترمهن الإسلام و سنزيد في ذلك وضوحا.
و أما تجويز تعدد الزوجات للرجل فليس بمبني على ما ذكر من إبطال الوزن الاجتماعي و إماتة حقوقهن و الاستخفاف بموقفهن في الحياة و إنما هو مبني على جهات من المصالح تقدم بيان بعضها.
و قد اعترف بحسن هذا التشريع الإسلامي و ما في منعه من المفاسد الاجتماعية و المحاذير الحيوية جمع من باحثي الغرب من الرجال و النساء من أراده فليراجع إلى مظانه.
و أقوى ما تشبث به مخالفوا سنة التعدد من علماء الغرب و زوقوه في أعين الناظرين ما هو مشهود في بيوت المسلمين تلك البيوت المشتملة على زوجات عديدة: ضرتان أو ضرائر فإن هذه البيوت لا تحتوي على حياة صالحة و لا عيشة هنيئة، لا تلبث الضرتان من أول يوم حلتا البيت دون أن تأخذا في التحاسد حتى أنهم سموا الحسد بداء الضرائر، و عندئذ تنقلب جميع العواطف و الإحساسات الرقيقة التي جبلت عليها النساء من الحب و لين الجانب و الرقة و الرأفة و الشفقة و النصح و حفظ الغيب و الوفاء و المودة و الرحمة و الإخلاص بالنسبة إلى الزوج و أولاده من غير الزوجة و بيته و جميع ما يتعلق به إلى أضدادها، فينقلب البيت الذي هو سكن للإنسان يستريح فيه من تعب الحياة اليومي و تألم الروح و الجسم من مشاق الأعمال و الجهد في المكسب معركة قتال يستباح فيها النفس و العرض و المال و الجاه، لا يؤمن فيه من شيء لشيء، و يتكدر فيه صفو العيش و ترتحل لذة الحياة، و يحل محلها الضرب و الشتم و السب و اللعن و السعاية و النميمة و الرقابة و المكر و المكيدة، و اختلاف الأولاد و تشاجرهم، و ربما انجر الأمر إلى هم الزوجة بإهلاك الزوج، و قتل بعض الأولاد بعضا أو أباهم، و تتبدل القرابة بينهم إلى الأوتار التي تسحب في الأعقاب سفك الدماء و هلاك النسل و فساد البيت، أضف إلى ذلك ما يسري من ذلك إلى المجتمع من الشقاء و فساد الأخلاق و القسوة و الظلم و البغي و الفحشاء و انسلاب الأمن و الوثوق و خاصة إذا أضيف إلى ذلك جواز الطلاق فإباحة تعدد الزوجات و الطلاق ينشئان في المجتمع رجالا ذواقين مترفين لا هم لهم إلا اتباع الشهوات و الحرص و التولع على أخذ هذه و ترك تلك، و رفع واحدة و وضع أخرى، و ليس فيه إلا تضييع نصف المجتمع و إشقاؤه و هو قبيل النساء، و بذلك يفسد النصف الآخر.
هذا محصل ما ذكروه، و هو حق غير أنه إنما يرد على المسلمين لا على الإسلام و تعاليمه، و متى عمل المسلمون بحقيقة ما ألقته إليهم تعاليم الإسلام حتى يؤخذ الإسلام بالمفاسد التي أعقبته أعمالهم؟ و قد فقدوا منذ قرون الحكومة الصالحة التي تربي الناس بالتعاليم الدينية الشريفة بل كان أسبق الناس إلى هتك الأستار التي أسدلها الدين و نقض قوانينه و إبطال حدوده هي طبقة الحكام و الولاة على المسلمين، و الناس على دين ملوكهم، و لو اشتغلنا بقص بعض السير الجارية في بيوت الملوك و الفضائح التي كان يأتي بها ملوك الإسلام و ولاته منذ أن تبدلت الحكومة الدينية بالملك و السلطنة المستبدة لجاء بحياله تأليفا مستقلا، و بالجملة لو ورد الإشكال فهو وارد على المسلمين في اختيارهم لبيوتهم نوع اجتماع لا يتضمن سعادة عيشتهم و نحو سياسة لا يقدرون على إنفاذها بحيث لا تنحرف عن مستقيم الصراط، و الذنب في ذلك عائد إلى الرجال دون النساء و الأولاد و إن كان على كل نفس ما اكتسبت من إثم، و ذلك أن سيرة هؤلاء الرجال و تفديتهم سعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و صفاء جو مجتمعهم في سبيل شرهم و جهالتهم هو الأصل لجميع هذه المفاسد و المنبت لكل هذه الشقوة المبيدة.
و أما الإسلام فلم يشرع تعدد الزوجات على نحو الإيجاب و الفرض على كل رجل، و إنما نظر في طبيعة الأفراد و ما ربما يعرضهم من العوارض الحادثة، و اعتبر الصلاح القاطع في ذلك كما مر تفصيله ثم استقصى مفاسد التكثير و محاذيره و أحصاها فأباح عند ذلك التعدد حفظا لمصلحة المجتمع الإنساني، و قيده بما يرتفع معه جميع هذه المفاسد الشنيعة و هو وثوق الرجل بأنه سيقسط بينهن و يعدل فمن وثق من نفسه بذلك و وفق له فهو الذي أباح له الدين تعدد الزوجات، و أما هؤلاء الذين لا عناية لهم بسعادة أنفسهم و أهليهم و أولادهم و لا كرامة عندهم إلا ترضية بطونهم و فروجهم، و لا مفهوم للمرأة عندهم إلا أنها مخلوقة في سبيل شهوة الرجل و لذته فلا شأن للإسلام فيهم، و لا يجوز لهم إلا الازدواج بواحدة لو جاز لهم ذلك و الحال هذه.
على أن في أصل الإشكال خلطا بين جهتين مفرقتين في الإسلام، و هما جهتا التشريع و الولاية.
توضيح ذلك أن المدار في القضاء بالصلاح و الفساد في القوانين الموضوعة و السنن الجارية عند الباحثين اليوم هو الآثار و النتائج المرضية أو غير المرضية الحاصلة من جريانها في الجوامع و قبول الجوامع لها بفعليتها الموجودة و عدم قبولها، و ما أظن أنهم على غفلة من أن المجتمع ربما اشتمل على بعض سنن و عادات و عوارض لا تلائم الحكم المبحوث عنه و أنه يجب تجهيز المجتمع بما لا ينافي الحكم أو السنة المذكورة حتى يرى إلى ما يصير أمره؟ و ما ذا يبقى من الأثر خيرا أو شرا أو نفعا أو ضرا؟ إلا أنهم يعتبرون في القوانين الموضوعة ما يريده و يستدعيه المجتمع بحاضر إرادته و ظاهر فكرته كيفما كان، فما وافق إرادتهم و مستدعياتهم فهو القانون الصالح و ما خالف ذلك فهو القانون غير الصالح.
و لذلك لما رأوا المسلمين تائهين في أودية الغي فاسدين في معاشهم و معادهم نسبوا ما يشاهدونه منهم من الكذب و الخيانة و الخنا و هضم الحقوق و فشو البغي و فساد البيوت و اختلال الاجتماع إلى القوانين الدينية الدائرة بينهم زعما منهم أن السنة الإسلامية في جريانها بين الناس و تأثيرها أثرها كسائر السنن الاجتماعية التي تحمل على الناس عن إحساسات متراكمة بينهم، و يستنتجون من ذلك أن الإسلام هو المولد لهذه المفاسد الاجتماعية و منه ينشأ هذا البغي و الفساد و فيهم أبغى البغي و أخنى الخنا، و كل الصيد في جوف الفراء و لو كان دينا واقعيا و كانت القوانين الموضوعة فيه جيدة متضمنة لصلاح الناس و سعادتهم لأثرت فيهم الآثار المسعدة الجميلة، و لم ينقلب وبالا عليهم!.
و لكنهم خلطوا بين طبيعة الحكم الصالحة المصلحة، و بين طبيعة الناس الفاسدة المفسدة، و الإسلام مجموع معارف أصلية و أخلاقية و قوانين عملية متناسبة الأطراف مرتبطة الأجزاء إذا أفسد بعض أجزائها أوجب ذلك فساد الجميع و انحرافها في التأثير كالأدوية و المعاجين المركبة التي تحتاج في تأثيرها الصحي إلى سلامة أجزائها و إلى محل معد مهيأ لورودها و عملها، و لو أفسد بعض أجزائها أو لم يعتبر في الإنسان المستعمل لها شرائط الاستعمال بطل عنها وصف التأثير، و ربما أثرت ما يضاد أثرها المترقب منها.
هب أن السنة الإسلامية لم تقو على إصلاح الناس و محق الذمائم و الرذائل العامة لضعف مبانيها التقنينية فما بال السنة الديمقراطية لا تنجع في بلادنا الشرقية أثرها في البلاد الأوربية؟ و ما بالنا كلما أمعنا في السير و الكدح بالغنا في الرجوع على أعقابنا القهقرى و لا يشك شاك أن الذمائم و الرذائل اليوم أشد تصلبا و تعرقا فينا و نحن مدنيون متنورون منها قبل نصف قرن و نحن همجيون، و ليس لنا حظ من العدل الاجتماعي و حياة الحقوق البشرية و المعارف العامة العالية و كل سعادة اجتماعية إلا أسماء نسميها و ألفاظا نسمعها.
فهل يمكن لمعتذر عن ذلك إلا بأن هذه السنن المرضية إنما لم تؤثر أثرها لأنكم لا تعملون بها، و لا تهتمون بإجرائها فما بال هذا العذر يجري فيها و ينجع و لا يجري في الإسلام و لا ينجع؟.
و هب أن الإسلام لوهن أساسها و العياذ بالله عجز عن التمكن في قلوب الناس و النفوذ الكامل في أعماق المجتمع فلم تدم حكومته و لم يقدر على حفظ حياته في المجتمع الإسلامي فلم يلبث دون أن عاد مهجورا فما بال السنة الديمقراطية و كانت سنة مرضية عالمية ارتحلت بعد الحرب العالمية الكبرى الأولى عن روسيا و انمحت آثارها و خلفتها السنة الشيوعية؟ و ما بالها انقلبت إلى السنة الشيوعية بعد الحرب العالمية الكبرى الثانية في ممالك الصين و لتوني و إستوني و ليتواني و رومانيا و المجر و يوغوسلاوي و غيرها، و هي تهدد سائر الممالك و قد نفذت فيها نفوذا؟.
و ما بال السنة الشيوعية بعد ما عمرت ما يقرب من أربعين سنة، و انبسطت و حكمت فيما يقرب من نصف المجتمع الإنساني و لم يزل دعاتها و أولياؤها يتباهون في فضيلتها أنها المشرعة الصافية الوحيدة التي لا يشوبها تحكم الاستبداد و لا استثمار الديمقراطية و أن البلاد التي تعرقت فيها هي الجنة الموعودة ثم لم يلبث هؤلاء الدعاة و الأولياء أنفسهم دون أن انتهضوا قبل سنتين على تقبيح حكومة قائدها الوحيد ستالين الذي كان يتولى إمامتها و قيادتها منذ ثلاثين سنة، و أوضحوا أن حكومته كانت حكومة تحكم و استبداد و استعباد في صورة الشيوعية، و لا محالة كان له التأثير العظيم في وضع القوانين الدائرة و إجرائها و سائر ما يتعلق بذلك فلم ينتش شيء من ذلك إلا عن إرادة مستبدة مستعبدة و حكومة فردية تحيي ألوفا و تميت ألوفا و تسعد أقواما و تشقي آخرين.
و الله يعلم من الذي يأتي بعد هؤلاء و يقضي عليهم بمثل ما قضوا به على من كان قبلهم.
و السنن و الآداب و الرسوم الدائرة في المجتمعات أعم من الصحيحة و الفاسدة ثم المرتحلة عنها لعوامل متفرقة أقواها خيانة أولياؤها و ضعف إرادة الأفراد المستنين بها كثيرة يعثر عليها من راجع كتب التواريخ.
فليت شعري ما الفارق بين الإسلام من حيث إنها سنة اجتماعية و بين هذه السنن المتقلبة المتبدلة حيث يقبل العذر فيها و لا يقبل في الإسلام؟ نعم كلمة الحق اليوم واقعة بين قدرة هائلة غربية و جهالة تقليد شرقية فلا سماء تظلها و لا أرض تقلها و على أي حال يجب أن يتنبه مما فصلناه أن تأثير سنة من السنن أثرها في الناس و عدمه و كذا بقاؤها بين الناس و ارتحالها لا يرتبط كل الارتباط بصحتها و فسادها حتى يستدل عليه بذلك بل لسائر العلل و الأسباب تأثير في ذلك فما من سنة من السنن الدائرة بين الناس في جميع الأطوار و العهود إلا و هي تنتج يوما و تعقم آخر و تقيم بين الناس برهة من الزمان و ترتحل عنهم في أخرى لعوامل مختلفة تعمل فيها، و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء.
و بالجملة القوانين الإسلامية و الأحكام التي فيها، تخالف بحسب المبنى و المشرب سائر القوانين الاجتماعية الدائرة بين الناس فإن القوانين الاجتماعية التي لهم تختلف باختلاف الأعصار و تتبدل بتبدل المصالح لكن القوانين الإسلامية لا تحتمل الاختلاف و التبدل من واجب أو حرام أو مستحب أو مكروه أو مباح غير أن الأفعال التي للفرد من المجتمع أن يفعلها أو يتركها و كل تصرف له أن يتصرف به أو يدعه فلوالي الأمر أن يأمر الناس بها أو ينهاهم عنها و يتصرف في ذلك كأن المجتمع فرد و الوالي نفسه المتفكرة المريدة.
فلو كان للإسلام وال أمكنه أن يمنع الناس عن هذه المظالم التي يرتكبونها باسم تعدد الزوجات و غير ذلك من غير أن يتغير الحكم الإلهي بإباحته، و إنما هو عزيمة إجرائية عامة لمصلحة نظير عزم الفرد الواحد على ترك تعدد الزوجات لمصلحة يراها لا لتغيير في الحكم بل لأنه حكم إباحي له أن يعزم على تركه.
بحث علمي آخر ملحق به في تعدد أزواج النبي
و مما اعترضوا عليه تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قالوا: إن تعدد الزوجات لا يخلو في نفسه عن الشره و الانقياد لداعي الشهوة: و هو (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يقنع بما شرعه لأمته من الأربع حتى تعدى إلى التسع من النسوة.
و المسألة ترتبط بآيات متفرقة كثيرة في القرآن، و البحث من كل جهة من جهاتها يجب أن يستوفى عند الكلام على الآية المربوطة بها و لذلك أخرنا تفصيل القول إلى محاله المناسبة له و إنما نشير هاهنا إلى ذلك إشارة إجمالية.
فنقول: من الواجب أن يلفت نظر هذا المعترض المستشكل إلى أن قصة تعدد زوجات النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليست على هذه السذاجة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالغ في حب النساء حتى أنهى عدة أزواجه إلى تسع نسوة بل كان اختياره لمن اختارها منهن على نهج خاص في مدى حياته فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان تزوج - أول ما تزوج - بخديجة رضي الله عنها و عاش معها مقتصرا عليها نيفا و عشرين سنة و هي ثلثا عمره الشريف بعد الازدواج منها ثلاث عشرة سنة بعد نبوته قبل الهجرة من مكة ثم هاجر إلى المدينة و شرع في نشر الدعوة و إعلاء كلمة الدين، و تزوج بعدها من النساء منهن البكر و منهن الثيب و منهن الشابة و منهن العجوز و المكتهلة و كان على ذلك ما يقرب من عشرة سنين ثم حرم عليه النساء بعد ذلك إلا من هي في حبالة نكاحه، و من المعلوم أن هذا الفعال على هذه الخصوصيات لا يقبل التوجيه بمجرد حب النساء و الولوع بهن و الوله بالقرب منهن فأول هذه السيرة و آخرها يناقضان ذلك.
على أنا لا نشك بحسب ما نشاهده من العادة الجارية أن المتولع بالنساء المغرم بحبهن و الخلاء بهن و الصبوة إليهن مجذوب إلى الزينة عشيق للجمال مفتون بالغنج و الدلال حنين إلى الشباب و نضارة السن و طراوة الخلقة، و هذه الخواص أيضا لا تنطبق على سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه بنى بالثيب بعد البكر و بالعجوز بعد الفتاة الشابة فقد بنى بأم سلمة و هي مسنة، و بنى بزينب بنت جحش و سنها يومئذ يربو على خمسين بعد ما تزوج بمثل عائشة و أم حبيبة و هكذا.
و قد خير (صلى الله عليه وآله وسلم) نساءه بين التمتيع و السراح الجميل و هو الطلاق إن كن يردن الدنيا و زينتها و بين الزهد في الدنيا و ترك التزيين و التجمل إن كن يردن الله و رسوله و الدار الآخرة على ما يشهد به قوله تعالى في القصة: يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا و زينتها فتعالين أمتعكن و أسرحكن سراحا جميلا و إن كنتن تردن الله و رسوله و الدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجرا عظيما: - الأحزاب 29، و هذا المعنى أيضا - كما ترى - لا ينطبق على حال رجل مغرم بجمال النساء صاب إلى وصالهن.
فلا يبقى حينئذ للباحث المتعمق إذا أنصف إلا أن يوجه كثرة ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما بين أول أمره و آخر أمره بعوامل أخر غير عامل الشره و الشبق و التلهي.
فقد تزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) ببعض هؤلاء الأزواج اكتسابا للقوة و ازديادا للعضد و العشيرة، و ببعض هؤلاء استمالة للقلوب و توقيا من بعض الشرور، و ببعض هؤلاء ليقوم على أمرها بالإنفاق و إدارة المعاش و ليكون سنة جارية بين المؤمنين في حفظ الأرامل و العجائز من المسكنة و الضيعة، و ببعضها لتثبيت حكم مشروع و إجرائه عملا لكسر السنن المنحطة و البدع الباطلة الجارية بين الناس كما في تزوجه بزينب بنت جحش و قد كانت زوجة لزيد بن حارثة ثم طلقها زيد، و قد كان زيد هذا يدعى ابن رسول الله على نحو التبني و كانت زوجة المدعو ابنا عندهم كزوجة الابن الصلبي لا يتزوج بها الأب فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل فيها الآيات.
و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) تزوج لأول مرة بعد وفاة خديجة بسودة بنت زمعة و قد توفي عنها زوجها بعد الرجوع من هجرة الحبشة الثانية، و كانت سودة هذه مؤمنة مهاجرة و لو رجعت إلى أهلها و هم يومئذ كفار لفتنوها كما فتنوا غيرها من المؤمنين و المؤمنات بالزجر و القتل و الإكراه على الكفر.
و تزوج بزينب بنت خزيمة بعد قتل زوجها عبد الله بن جحش في أحد و كانت من السيدات الفضليات في الجاهلية تدعى أم المساكين لكثرة برها للفقراء و المساكين و عطوفتها بهم فصان بازدواجها ماء وجهها.
و تزوج بأم سلمة و اسمها هند و كانت من قبل زوجة عبد الله أبي سلمة ابن عمة النبي و أخيه من الرضاعة أول من هاجر إلى الحبشة و كانت زاهدة فاضلة ذات دين و رأي فلما توفي عنها زوجها كانت مسنة ذات أيتام فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و تزوج بصفية بنت حيي بن أخطب سيد بني النضير قتل زوجها يوم خيبر و قتل أبوها مع بني قريظة، و كانت في سبي خيبر فاصطفاها و أعتقها و تزوج بها فوقاها بذلك من الذل و وصل سببه ببني إسرائيل.
و تزوج بجويرية و اسمها برة بنت الحارث سيد بني المصطلق بعد وقعة بني المصطلق و قد كان المسلمون أسروا منهم مائتي بيت بالنساء و الذراري، فتزوج (صلى الله عليه وآله وسلم) بها فقال المسلمون هؤلاء أصهار رسول الله لا ينبغي أسرهم و أعتقوهم جميعا فأسلم بنو المصطلق بذلك، و لحقوا عن آخرهم بالمسلمين و كانوا جما غفيرا و أثر ذلك أثرا حسنا في سائر العرب.
و تزوج بميمونة و اسمها برة بنت الحارث الهلالية و هي التي وهبت نفسها للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد وفاة زوجها الثاني أبي رهم بن عبد العزى فاستنكحها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تزوج بها و قد نزل فيها القرآن.
و تزوج بأم حبيبة و اسمها رملة بنت أبي سفيان و كانت زوجة عبيد الله بن جحش و هاجر معها إلى الحبشة الهجرة الثانية فتنصر عبيد الله هناك و ثبتت هي على الإسلام و أبوها أبو سفيان يجمع الجموع على الإسلام يومئذ فتزوج بها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أحصنها.
و تزوج بحفصة بنت عمر و قد قتل زوجها خنيس بن حذاقة ببدر و بقيت أرملة و تزوج بعائشة بنت أبي بكر و هي بكر.
فالتأمل في هذه الخصوصيات مع ما تقدم في صدر الكلام من جمل سيرته في أول أمره و آخره و ما سار به من الزهد و ترك الزينة و ندبه نساءه إلى ذلك لا يبقى للمتأمل موضع شك في أن ازدواجه (صلى الله عليه وآله وسلم) بمن تزوج بها من النساء لم يكن على حد غيره من عامة الناس، أضف إلى ذلك جمل صنائعه (صلى الله عليه وآله وسلم) في النساء، و إحياء ما كانت قرون الجاهلية و أعصار الهمجية أماتت من حقوقهن في الحياة، و أخسرته من وزنهن في المجتمع الإنساني حتى روي أن آخر ما تكلم به (صلى الله عليه وآله وسلم) هو توصيتهن لجامعة الرجال قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «الصلاة الصلاة، و ما ملكت أيمانكم لا تكلفوهم ما لا يطيقون، الله الله في النساء فإنهن عوان في أيديكم» الحديث.
و كانت سيرته (صلى الله عليه وآله وسلم) في العدل بين نسائه و حسن معاشرتهن و رعاية جانبهن مما يختص به (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما سيأتي شذرة منه في الكلام على سيرته في مستقبل المباحث إن شاء الله و كان حكم الزيادة على الأربع كصوم الوصال من مختصاته التي منعت عنها الأمة، و هذه الخصال و ظهورها على الناس هي التي منعت أعداءه من الاعتراض عليه بذلك مع تربصهم الدوائر به.
|