بيان
الآيات تنبىء عن قصة ابني آدم، و تبين أن الحسد ربما يبلغ بابن آدم إلى حيث يقتل أخاه ظالما فيصبح من الخاسرين و يندم ندامة لا يستتبع نفعا، و هي بهذا المعنى ترتبط بما قبلها من الكلام على بني إسرائيل و استنكافهم عن الإيمان برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن إباءهم عن قبول الدعوة الحقة لم يكن إلا حسدا و بغيا، و هذا شأن الحسد يبعث الإنسان إلى قتل أخيه ثم يوقعه في ندامة و حسرة لا مخلص عنها أبدا، فليعتبروا بالقصة و لا يلحوا في حسدهم ثم في كفرهم ذاك الإلحاح.
قوله تعالى: «و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق» الآية التلاوة من التلو و هي القراءة سميت بها لأن القارىء للنبأ يأتي ببعض أجزائه في تلو بعض آخر.
و النبأ هو الخبر إذا كان ذا جدوى و نفع.
و القربان ما يتقرب به إلى الله سبحانه أو إلى غيره، و هو في الأصل مصدر لا يثنى و لا يجمع.
و التقبل هو القبول بزيادة عناية و اهتمام بالمقبول و الضمير في قوله «عليهم» لأهل الكتاب لما مر من كونهم هم المقصودين في سرد الكلام.
و المراد بهذا المسمى بآدم هو آدم الذي يذكر القرآن أنه أبو البشر، و قد ذكر بعض المفسرين أنه كان رجلا من بني إسرائيل تنازع ابناه في قربان قرباه فقتل أحدهما الآخر، و هو قابيل أو قايين قتل هابيل و لذلك قال تعالى بعد سرد القصة: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل.
و هو فاسد أما أولا: فلأن القرآن لم يذكر ممن سمي بآدم إلا الذي يذكر أنه أبو البشر، و لو كان المراد بما في الآية غيره لكان من اللازم نصب القرينة على ذلك لئلا يبهم أمر القصة.
و أما ثانيا فلأن بعض ما ذكر من خصوصيات القصة كقوله: «فبعث الله غرابا» إنما يلائم حال الإنسان الأولي الذي كان يعيش على سذاجة من الفكر و بساطة من الإدراك، يأخذ باستعداده الجبلي في ادخار المعلومات بالتجارب الحاصلة من وقوع الحوادث الجزئية حادثة بعد حادثة، فالآية ظاهرة في أن القاتل ما كان يدري أن الميت يمكن أن يستر جسده بمواراته في الأرض، و هذه الخاصة إنما تناسب حال ابن آدم أبي البشر لا حال رجل من بني إسرائيل، و قد كانوا أهل حضارة و مدنية بحسب حالهم في قوميتهم لا يخفى على أحدهم أمثال هذه الأمور قطعا.
و أما ثالثا فلأن قوله: و لذلك قال تعالى بعد تمام القصة - من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل، يريد به الجواب عن سؤال أورد على الآية، و هو أنه ما وجه اختصاص الكتابة ببني إسرائيل مع أن الذي تقتضيه القصة - و هو الذي كتبه الله - يعم حال جميع البشر، من قتل منهم نفسا فكأنما قتل الناس جميعا، و من أحيا منهم نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.
فأجاب القائل بقوله و لذلك قال تعالى إلخ إن القاتل و المقتول لم يكونا ابني آدم أبي البشر حتى تكون قصتهما مشتملة على حادثة من الحوادث الأولية بين النوع الإنساني فيكون عبرة يعتبر بها كل من جاء بعدهما، و إنما هما ابنا رجل من بني إسرائيل و كان نبأهما من الأخبار القومية الخاصة و لذلك أخذ عبرة مكتوبة لخصوص بني إسرائيل.
لكن ذلك لا يحسم مادة الإشكال فإن السؤال بعد باق على حاله فإن كون قتل الواحد بمنزلة قتل الجميع و إحياء الواحد بمنزلة إحياء الجميع معنى يرتبط بكل قتل وقع بين هذا النوع من غير اختصاصه ببعض دون بعض، و قد وقع ما لا يحصى من القتل قبل بني إسرائيل، و قبل هذا القتل الذي يشير إليه، فما باله رتب على قتل خاص و كتب على قوم خاص؟.
على أن الأمر لو كان كما يقول كان الأحسن أن يقال: من قتل منكم نفسا إلخ ليكون خاصا بهم، ثم يعود السؤال في هذا التخصيص مع عدم استقامته في نفسه.
و الجواب عن أصل الإشكال أن الذي يشتمل عليه قوله: «إنه من قتل نفسا بغير نفس» الآية حكمة بالغة و ليس بحكم مشرع فالمراد بالكتابة عليهم بيان هذه الحكمة لهم مع عموم فائدتها لهم و لغيرهم كالحكم و المواعظ التي بينت في القرآن لأمة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مع عدم انحصار فائدتها فيهم.
و إنما ذكر في الآية أنه بينه لهم لأن الآيات مسوقة لعظتهم و تنبيههم و توبيخهم على ما حسدوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أصروا في العناد و إشعال نار الفتن و التسبيب إلى القتال و مباشرة الحروب على المسلمين، و لذلك ذيل قوله: «من قتل نفسا» إلخ بقوله: «و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون» على أن أصل القصة على النحو الذي ذكره لا مأخذ له رواية و لا تاريخا.
فتبين أن قوله: «نبأ ابني آدم بالحق» يراد به قصة ابني آدم أبي البشر، و تقييد الكلام بقوله: «بالحق» - و هو متعلق بالنبأ أو بقوله «و اتل» - لا يخلو عن إشعار أو دلالة على أن المعروف الدائر بينهم من النبإ لا يخلو من تحريف و سقط، و هو كذلك فإن القصة موجودة في الفصل الرابع من سفر التكوين من التوراة، و ليس فيها خبر بعث الغراب و بحثه في الأرض، و القصة مع ذلك صريحة في تجسم الرب تعالى عن ذلك علوا كبيرا.
و قوله: «إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر» ظاهر السياق أن كل واحد منهما قدم إلى الرب تعالى شيئا يتقرب به و إنما لم يثن لفظ القربان لكونه في الأصل مصدرا لا يثنى و لا يجمع.
و قوله: «قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين» القائل الأول هو القاتل و الثاني هو المقتول، و سياق الكلام يدل على أنهما علما تقبل قربان أحدهما و عدم تقبله من الآخر، و أما أنهما من أين علما ذلك؟ أو بأي طريق استدلوا عليه؟ فالآية ساكتة عن ذلك.
غير أنه ذكر في موضع من كلامه تعالى: أنه كان من المعهود عند الأمم السابقة أو عند بني إسرائيل خاصة تقبل القربان المتقرب به بأكل النار إياه قال تعالى: «الذين قالوا إن الله عهد إلينا أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار قل قد جاءكم رسل من قبلي بالبينات و بالذي قلتم فلم قتلتموهم إن كنتم صادقين»: آل عمران: 138 و القربان معروف عند أهل الكتاب إلى هذا اليوم فمن الممكن أن يكون التقبل للقربان في هذه القصة أيضا على ذلك النحو، و خاصة بالنظر إلى إلقاء القصة إلى أهل الكتاب المعتقدين لذلك، و كيف كان فالقاتل و المقتول جميعا كانا يعلمان قبوله من أحدهما و رده من الآخر.
ثم السياق يدل أيضا على أن القائل «لأقتلنك» هو الذي لم يتقبل قربانه، و أنه إنما قال ذلك حسدا من نفسه إذ لم يكن هناك سبب آخر، و لا أن المقتول كان قد أجرم إجراما باختيار منه حتى يواجه بمثل هذا القول و يهدد بالقتل.
فقول القاتل: «لأقتلنك» تهديد بالقتل حسدا لقبول قربان المقتول دون القاتل فقول المقتول: «إنما يتقبل الله من المتقين» إلى آخر ما حكى الله تعالى عنه جواب عما قاله القاتل فيذكر له أولا: أن مسألة قبول القربان و عدم قبوله لا صنع له في ذلك و لا إجرام، و إنما الإجرام من قبل القاتل حيث لم يتق الله فجازاه الله بعدم قبول قربانه.
و ثانيا: أن القاتل لو أراد قتله و بسط إليه يده لذلك ما هو بباسط يده إليه ليقتله لتقواه و خوفه من الله سبحانه، و إنما يريد على هذا التقدير أن يرجع القاتل و هو يحمل إثم المقتول و إثم نفسه فيكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين.
فقوله: «إنما يتقبل الله من المتقين» مسوق لقصر الإفراد للدلالة على أن التقبل لا يشمل قربان التقي و غير التقي جميعا، أو لقصر القلب كأن القاتل كان يزعم أنه سيتقبل قربانه دون قربان المقتول زعما منه أن الأمر لا يدور مدار التقوى أو أن الله سبحانه غير عالم بحقيقة الحال، يمكن أن يشتبه عليه الأمر كما ربما يشتبه على الإنسان.
و في الكلام بيان لحقيقة الأمر في تقبل العبادات و القرابين، و موعظة و بلاغ في أمر القتل و الظلم و الحسد، و ثبوت المجازاة الإلهية و أن ذلك من لوازم ربوبية رب العالمين فإن الربوبية لا تتم إلا بنظام متقن بين أجزاء العالم يؤدي إلى تقدير الأعمال بميزان العدل و جزاء الظلم بالعذاب الأليم ليرتدع الظالم عن ظلمه أو يجزى بجزائه الذي أعده لنفسه و هو النار.
قوله تعالى: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك» إلخ اللام للقسم، و بسط اليد إليه كناية عن الأخذ بمقدمات القتل و إعمال أسبابه، و قد أتى في جواب الشرط بالنفي الوارد على الجملة الإسمية، و بالصفة بباسط دون الفعل و أكد النفي بالباء ثم الكلام بالقسم، كل ذلك للدلالة على أنه بمراحل من البعد من إرادة قتل أخيه، لا يهم به و لا يخطر بباله.
و أكد ذلك كله بتعليل ما ادعاه من قوله: «ما أنا بباسط يدي» إلخ: «بقوله إني أخاف الله رب العالمين» فإن ذكر المتقين لربهم و هو الله رب العالمين الذي يجازي في كل إثم بما يتعقبه من العذاب ينبه في نفوسهم غريزة الخوف من الله تعالى، و لا يخليهم و إن يرتكبوا ظلما يوردهم مورد الهلكة.
ثم ذكر تأويل قوله: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي» إلخ بمعنى حقيقة هذا الذي أخبر به، و محصله أن الأمر على هذا التقدير يدور بين أن يقتل هو أخاه فيكون هو الظالم الحامل للإثم الداخل في النار، أو يقتله أخوه فيكون هو كذلك، و ليس يختار قتل أخيه الظالم على سعادة نفسه و ليس بظالم، بل يختار أن يشقى أخوه الظالم بقتله و يسعد هو و ليس بظالم، و هذا هو المراد بقوله: «إني أريد، إلخ» كنى بالإرادة عن الاختيار على تقدير دوران الأمر.
فالآية في كونها تأويلا لقوله: «لئن بسطت إلي يدك» إلخ كالذي وقع في قصة موسى و صاحبه حين قتل غلاما لقياه فاعترض عليه موسى بقوله: «أ قتلت نفسا زكية بغير نفس لقد جئت شيئا نكرا» فنبأه صاحبه بتأويل ما فعل بقوله: «و أما الغلام فكان أبواه مؤمنين فخشينا أن يرهقهما طغيانا و كفرا فأردنا أن يبدلهما ربهما خيرا منه زكاة و أقرب رحما»: الكهف: 81.
فقد أراد المقتول أي اختار الموت مع السعادة و إن استلزم شقاء أخيه بسوء اختياره على الحياة مع الشقاء و الدخول في حزب الظالمين، كما اختار صاحب موسى موت الغلام مع السعادة و إن استلزم الحزن و الأسى من أبويه على حياته و صيرورته طاغيا كافرا يضل بنفسه و يضل أبويه، و الله يعوضهما منه من هو خير منه زكاة و أقرب رحما.
و الرجل أعني ابن آدم المقتول من المتقين العلماء بالله، أما كونه من المتقين فلقوله: «إنما يتقبل الله من المتقين» المتضمن لدعوى التقوى، و قد أمضاها الله تعالى بنقله من غير رد، و أما كونه من العلماء بالله فلقوله: «إني أخاف الله رب العالمين» فقد ادعى مخافة الله و أمضاها الله سبحانه منه، و قد قال تعالى: «إنما يخشى الله من عباده العلماء»: فاطر: 28 فحكايته تعالى قوله: «إني أخاف الله رب العالمين» و إمضاؤه له توصيف له بالعلم كما وصف صاحب موسى أيضا بالعلم إذ قال: «و علمناه من لدنا علما»: الكهف: 65.
و كفى له علما ما خاطب به أخاه الباغي عليه من الحكمة البالغة و الموعظة الحسنة فإنه بين عن طهارة طينته و صفاء فطرته: أن البشر ستكثر عدتهم ثم تختلف بحسب الطبع البشري جماعتهم فيكون منهم متقون و آخرون ظالمون، و أن لهم جميعا و لجميع العالمين ربا واحدا يملكهم و يدبر أمرهم، و أن من التدبير المتقن أن يحب و يرتضي العدل و الإحسان، و يكره و يسخط الظلم و العدوان و لازمه وجوب التقوى و مخافة الله على الإنسان و هو الدين، فهناك طاعات و قربات و معاصي و مظالم، و أن الطاعات و القربات إنما تتقبل إذا كانت عن تقوى، و أن المعاصي و المظالم آثام يحملها الظالم، و من لوازمه أن تكون هناك نشأة أخرى فيها الجزاء، و جزاء الظالمين النار.
و هذه - كما ترى - أصول المعارف الدينية و مجامع علوم المبدأ و المعاد أفاضها هذا العبد الصالح إفاضة ضافية لأخيه الجاهل الذي لم يكن يعرف أن الشيء يمكن أن يتوارى عن الأنظار بالدفن حتى تعلمه من الغراب، و هو لم يقل لأخيه حينما كلمه: إنك إن أردت أن تقتلني ألقيت نفسي بين يديك و لم أدافع عن نفسي و لا أتقي القتل، و إنما قال: ما كنت لأقتلك.
و لم يقل: إني أريد أن أقتل بيدك على أي تقدير لتكون ظالما فتكون من أصحاب النار فإن التسبيب إلى ضلال أحد و شقائه في حياته ظلم و ضلال في شريعة الفطرة من غير اختصاص بشرع دون شرع، و إنما قال: إني أريد ذلك و أختاره على تقدير بسطك يدك لقتلي.
و من هنا يظهر اندفاع ما أورد على القصة: أنه كما أن القاتل منهما أفرط بالظلم و التعدي كذلك المقتول قصر بالتفريط و الانظلام حيث لم يخاطبه و لم يقابله بالدفاع عن نفسه بل سلم له أمر نفسه و طاوعه في إرادة قتله حيث قال له: «لئن بسطت إلي يدك» إلخ.
وجه الاندفاع أنه، لم يقل: إني لا أدافع عن نفسي و أدعك و ما تريد مني و إنما قال: لست أريد قتلك، و لم يذكر في الآية أنه قتل و لم يدافع عن نفسه على علم منه بالأمر فلعله قتله غيلة أو قتله و هو يدافع أو يحترز.
و كذا ما أورد عليها أنه ذكر إرادته تمكين أخيه من قتله ليشقى بالعذاب الخالد ليكون هو بذلك سعيدا حيث قال: «إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار» كبعض المتقشفين من أهل العبادة و الورع حيث يرى أن الذي عليه هو التزهد و التعبد، و إن ظلمه ظالم أو تعدى عليه متعد حمل الظالم وزر ظلمه، و ليس عليه من الدفاع عن حقه إلا الصبر و الاحتساب.
و هذا من الجهل، فإنه من الإعانة على الإثم، و هي توجب اشتراك المعين و المعان في الإثم جميعا لا انفراد الظالم بحمل الاثنين معا.
وجه الاندفاع: أن قوله: «إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك»، قول على تقدير بالمعنى الذي تقدم بيانه.
و قد أجيب عن الإشكالين ببعض وجوه سخيفة لا جدوى في ذكرها.
قوله تعالى: «إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار»، أي ترجع بإثمي و إثمك كما فسره بعضهم، و قال الراغب في مفرداته: أصل البواء مساواة الأجزاء في المكان خلاف النبوة الذي هو منافاة الأجزاء يقال: مكان بواء إذا لم يكن نابئا بنازلة، و بوأت له مكانا: سويته فتبوء - إلى أن قال - و قوله: إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك أي تقيم بهذه الحالة.
قال: أنكرت باطلها و بؤت بحقها.
انتهى و على هذا فتفسيره بالرجوع تفسير بلازم المعنى.
و المراد بقوله: «أن تبوء بإثمي و إثمك» أن ينتقل إثم المقتول ظلما إلى قاتله على إثمه الذي كان له فيجتمع عليه الإثمان، و المقتول يلقى الله سبحانه و لا إثم عليه، فهذا ظاهر قوله: «أن تبوء بإثمي و إثمك» و قد ورد بذلك الروايات و الاعتبار العقلي يساعد عليه.
و قد تقدم شطر من البحث فيه في الكلام على أحكام الأعمال في الجزء الثاني من الكتاب.
و الإشكال عليه بأن لازمه جواز مؤاخذة الإنسان بذنب غيره، و العقل يحكم بخلافه، و قد قال تعالى: «لا تزر وازرة وزر أخرى»: النجم: 38. مدفوع بأن ذلك ليس من أحكام العقل النظري حتى يختم عليه باستحالة الوقوع، بل من أحكام العقل العملي التي تتبع مصالح المجتمع الإنساني في ثبوتها و تغيرها، و من الجائز أن يعتبر المجتمع الفعل الصادر عن أحد فعلا صادرا عن غيره و يكتبه عليه و يؤاخذه به، أو الفعل الصادر عنه غير صادر عنه كما إذا قتل إنسانا و للمجتمع على المقتول حقوق كان يجب أن يستوفيها منه، فمن الجائز أن يستوفي المجتمع حقوقه من القاتل، و كما إذا بغى على المجتمع بالخروج و الإفساد و الإخلال بالأمن العام فإن للمجتمع أن يعتبر جميع الحسنات الباغي كأن لم تكن، إلى غير ذلك.
ففي هذه الموارد و أمثالها لا يرى المجتمع السيئات التي صدرت من المظلوم إلا أوزارا للظالم، و إنما تزر وازرته وزر نفسها لا وزر غيرها، لأنها تملكتها من الغير بما أوقعته عليه من الظلم و الشر نظير ما يبتاع الإنسان ما يملكه غيره بثمن، فكما أن تصرفات المالك الجديد لا تمنع لكون المالك الأول مالكا للعين زمانا لانتقالها إلى غيره ملكا، كذلك لا يمنع قوله: «لا تزر وازرة وزر أخرى» مؤاخذة النفس القاتلة بسيئة بمجرد أن النفس الوازرة كانت غيرها زمانا، و لا أن قوله: «لا تزر وازرة وزر أخرى» يبقى بلا فائدة و لا أثر بسبب جواز انتقال الوزر بسبب جديد كما لا يبقى قوله (عليه السلام): «لا يحل مال امرىء مسلم إلا بطيب نفسه» بلا فائدة بتجويز انتقال الملك ببيع و نحوه.
و قد ذكر بعض المفسرين: أن المراد بقوله: «بإثمي و إثمك» بإثم قتلي إن قتلتني و إثمك الذي كنت أثمته قبل ذلك كما نقل عن ابن مسعود و ابن عباس و غيرهما، أو أن المراد بإثم قتلي و إثمك الذي لم يتقبل من أجله قربانك كما نقل عن الجبائي و الزجاج، أو أن معناه بإثم قتلي و إثمك الذي هو قتل جميع الناس كما نقل عن آخرين.
و هذه وجوه ذكروها ليس على شيء منها من جهة اللفظ دليل، و لا يساعد عليه اعتبار.
على أن المقابلة بين الإثمين مع كونهما جميعا للقاتل ثم تسمية أحدهما بإثم المقتول و غيره بإثم القاتل خالية عن الوجه.
قوله تعالى: «فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين» قال الراغب في مفرداته: الطوع الانقياد و يضاده الكره، و الطاعة مثله لكن أكثر ما يقال في الايتمار لما أمر و الارتسام فيما رسم، و قوله: فطوعت له نفسه نحو أسمحت له قرينته و انقادت له و سولت، و طوعت أبلغ من أطاعت و طوعت له نفسه بإزاء قولهم: تابت عن كذا نفسه.
انتهى ملخصا.
و ليس مراده أن طوعت مضمن معنى انقادت أو سولت بل يريد أن التطويع يدل على التدريج كالإطاعة على الدفعة، كما هو الغالب في بابي الإفعال و التفعيل فالتطويع في الآية اقتراب تدريجي للنفس من الفعل بوسوسة بعد وسوسة و همامة بعد همامة تنقاد لها حتى تتم لها الطاعة الكاملة فالمعنى: انقادت له نفسه و أطاعت أمره إياها بقتل أخيه طاعة تدريجية، فقوله: «قتل أخيه» من وضع المأمور به موضع الأمر كقولهم: أطاع كذا في موضع: أطاع الأمر بكذا.
و ربما قيل: إن قوله: طوعت بمعنى زينت فقوله: «قتل أخيه» مفعول به، و قيل: بمعنى طاوعت أي طاوعت له نفسه في قتل أخيه، فالقتل منصوب بنزع الخافض، و معنى الآية ظاهر.
و ربما استفيد من قوله: «فأصبح من الخاسرين» أنه إنما قتله ليلا، و فيه كما قيل: إن أصبح - و هو مقابل أمسى - و إن كان بحسب أصل معناه يفيد ذلك لكن عرف العرب يستعمله بمعنى صار من غير رعاية أصل اشتقاقه، و في القرآن شيء كثير من هذا القبيل كقوله: «فأصبحتم بنعمته إخوانا»: آل عمران: 130 و قوله: «فيصبحوا على ما أسروا في أنفسهم نادمين»: المائدة: 52 فلا سبيل إلى إثبات إرادة المعنى الأصلي في المقام.
قوله تعالى: «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه» البحث طلب الشيء في التراب ثم يقال: بحثت عن الأمر بحثا كذا في المجمع،.
و المواراة: الستر، و منه التواري للتستر، و الوراء لما خلف الشيء.
و السوأة ما يتكرهه الإنسان.
و الويل الهلاك.
و يا ويلتا كلمة تقال عند الهلكة، و العجز مقابل الاستطاعة.
و الآية بسياقها تدل على أن القاتل قد كان بقي زمانا على تحير من أمره، و كان يحذر أن يعلم به غيره، و لا يدري كيف الحيلة إلى أن لا يظفروا بجسده حتى بعث الله الغراب، و لو كان بعث الغراب و بحثه و قتله أخاه متقاربين لم يكن وجه لقوله: «يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب». و كذا المستفاد من السياق أن الغراب دفن شيئا في الأرض بعد البحث فإن ظاهر الكلام أن الغراب أراد إراءة كيفية المواراة لا كيفية البحث، و مجرد البحث ما كان يعلمه كيفية المواراة و هو في سذاجة الفهم بحيث لم ينتقل ذهنه بعد إلى معنى البحث، فكيف كان ينتقل من البحث إلى المواراة و لا تلازم بينهما بوجه؟ فإنما انتقل إلى معنى المواراة بما رأى أن الغراب بحث في الأرض ثم دفن فيها شيئا.
و الغراب من بين الطير من عادته أنه يدخر بعض ما اصطاده لنفسه بدفنه في الأرض و بعض ما يقتات بالحب و نحوه من الطير و إن كان ربما بحث في الأرض لكنه للحصول على مثل الحبوب و الديدان لا للدفن و الإدخار.
و ما تقدم من إرجاع ضمير الفاعل في «ليريه» إلى الغراب هو الظاهر من الكلام لكونه هو المرجع القريب، و ربما قيل: إن الضمير راجع إلى الله سبحانه، و لا بأس به لكنه لا يخلو عن شيء من البعد، و المعنى صحيح على التقديرين، و أما قوله: «قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب»، فإنما قاله لأنه استسهل ما رأى من حيلة الغراب للمواراة فإنه وجد نفسه تقدر على إتيان مثل ما أتى به الغراب من البحث ثم التوسل به إلى المواراة لظهور الرابطة بين البحث و المواراة، و عند ذلك تأسف على ما فاته من الفائدة، و ندم على إهماله في التفكر في التوسل إلى المواراة حتى يستبين له أن البحث هو الوسيلة القريبة إليه، فأظهر هذه الندامة بقوله: «يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي» و هو تخاطب جار بينه و بين نفسه على طريق الاستفهام الإنكاري، و التقدير أن يستفهم منكرا: أ عجزت أن تكون مثل هذا الغراب فتواري سوأة أخيك؟ فيجاب: لا.
ثم يستفهم ثانيا استفهاما إنكاريا فيقال: فلم غفلت عن ذلك و لم تتوسل إليها بهذه الوسيلة على ظهورها و أشقيت نفسك في هذه المدة من غير سبب؟ و لا جواب عن هذه المسألة، و فيه الندامة فإن الندامة تأثر روحي خاص من الإنسان و تألم باطني يعرضه من مشاهدته إهماله شيئا من الأسباب المؤدية إلى فوت منفعة أو حدوث مضرة، و إن شئت فقل هي تأثر الإنسان العارض له من تذكره إهماله في الاستفادة من إمكان من الإمكانات.
و هذا حال الإنسان إذا أتى من المظالم بما يكره أن يطلع عليه الناس فإن هذه أمور لا يقبلها المجتمع بنظامه الجاري فيه، المرتبط بعض أجزائه ببعض فلا بد أن يظهر أثر هذه الأمور المنافية له و إن خفيت على الناس في أول حدوثها، و الإنسان الظالم المجرم يريد أن يجبر النظام على قبوله و ليس بقابل نظير أن يأكل الإنسان أو يشرب شيئا من السم و هو يريد أن يهضمه جهاز هضمه و ليس بهاضم، فهو و إن أمكن وروده في باطنه لكن له موعدا لن يخلفه و مرصدا لن يتجاوزه، و إن ربك لبالمرصاد.
و عند ذلك يظهر للإنسان نقص تدبيره في بعض ما كان يجب عليه مراقبته و رعايته فيندم لذلك، و لو عاد فأصلح هذا الواحد فسد آخر و لا يزال الأمر على ذلك حتى يفضحه الله على رءوس الأشهاد.
و قد اتضح بما تقدم من البيان: أن قوله: «فأصبح من النادمين» إشارة إلى ندامته على عدم مواراته سوأة أخيه، و ربما أمكن أن يقال: إن المراد به ندمه على أصل القتل و ليس ببعيد.
كلام في معنى الإحساس و التفكير
هذا الشطر من قصة ابني آدم أعني قوله تعالى: «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين» آية واحدة في القرآن لا نظيرة لها من نوعها و هي تمثل حال الإنسان في الانتفاع بالحس، و أنه يحصل خواص الأشياء من ناحية الحس، ثم يتوسل بالتفكر فيها إلى أغراضه و مقاصده في الحياة على نحو ما يقضي به البحث العلمي أن علوم الإنسان و معارفه تنتهي إلى الحس خلافا للقائلين بالتذكر و العلم الفطري.
و توضيحه أنك إذا راجعت الإنسان فيما عنده من الصور العلمية من تصور أو تصديق جزئي أو كلي و بأي صفة كانت علومه و إدراكاته وجدت عنده و إن كان من أجهل الناس و أضعفهم فهما و فكرا صورا كثيرة و علوما جمة لا تكاد تنالها يد الإحصاء بل لا يحصيها إلا رب العالمين.
و من المشهود من أمرها على كثرتها و خروجها عن طور الإحصاء و التعديد أنها لا تزال تزيد و تنمو مدة الحياة الإنسانية في الدنيا، و لو تراجعنا القهقرى وجدناها تنقص ثم تنقص حتى تنتهي إلى الصفر، و عاد الإنسان و ما عنده شيء من العلم بالفعل قال تعالى: «علم الإنسان ما لم يعلم»: العلق: 5.
و ليس المراد بالآية أنه تعالى يعلمه ما لم يعلم و أما ما علمه فهو فيه في غنى عن تعليم ربه فإن من الضروري أن العلم في الإنسان أيا ما كان هو لهدايته إلى ما يستكمل به في وجوده و ينتفع به في حياته، و الذي تسير إليه أقسام الأشياء غير الحية بالانبعاثات الطبيعية تسير و تهتدي أقسام الموجودات الحية - و منها الإنسان - إليه بنور العلم فالعلم من مصاديق الهدى.
و قد نسب الله سبحانه مطلق الهداية إلى نفسه حيث قال: «الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى»: طه: 50 و قال: الذي خلق فسوى و الذي قدر فهدى»: الأعلى: 3 و قال و هو بوجه من الهداية بالحس و الفكر: «أمن يهديكم في ظلمات البر و البحر»: النمل: 63 و قد مر شطر من الكلام في معنى الهداية في بعض المباحث السابقة، و بالجملة لما كان كل علم هداية و كل هداية فهي من الله كان كل علم للإنسان بتعليمه تعالى.
و يقرب من قوله: «علم الإنسان ما لم يعلم» قوله: «و الله أخرجكم من بطون أمهاتكم لا تعلمون شيئا و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة»: النحل: 78.
و التأمل في حال الإنسان و التدبر في الآيات الكريمة يفيدان أن علم الإنسان النظري أعني العلم بخواص الأشياء و ما يستتبعه من المعارف العقلية يبتدىء من الحس فيعلمه الله من طريقه خواص الأشياء كما يدل عليه قوله: «فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه» الآية.
فنسبة بعث الغراب لإراءة كيفية المواراة إلى الله سبحانه نسبة تعليم كيفية المواراة إليه تعالى بعينه فالغراب و إن كان لا يشعر بأن الله سبحانه هو الذي بعثه، و كذلك ابن آدم لم يكن يدري أن هناك مدبرا يدبر أمر تفكيره و تعلمه، و كانت سببية الغراب و بحثه بالنسبة إلى تعلمه بحسب النظر الظاهري سببية اتفاقية كسائر الأسباب الاتفاقية التي تعلم الإنسان طرق تدبير المعاش و المعاد، لكن الله سبحانه هو الذي خلق الإنسان و ساقه إلى كمال العلم لغاية حياته، و نظم الكون نوع نظم يؤديه إلى الاستكمال بالعلم بأنواع من التماس و التصاك تقع بينه و بين أجزاء الكون، فيتعلم بها الإنسان ما يتوسل به إلى أغراضه و مقاصده من الحياة فالله سبحانه هو الذي يبعث الغراب و غيره إلى عمل يتعلم به الإنسان شيئا فهو المعلم للإنسان.
و لهذا المعنى نظائر في القرآن كقوله تعالى: «و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله»: المائدة: 4 عد ما علموه و علموه مما علمهم الله و إنما تعلموه من سائر الناس أو ابتكروه بأفكار أنفسهم، و قوله: «و اتقوا الله و يعلمكم الله»: البقرة: 228 و إنما كانوا يتعلمونه من الرسول، و قوله: «و لا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله»: البقرة: 228 و إنما تعلم الكاتب ما علمه بالتعلم من كاتب آخر مثله إلا أن جميع ذلك أمور مقصودة في الخلق و التدبير فما حصل من هذه الأسباب من فائدة العلم الذي يستكمل به الإنسان فالله سبحانه هو معلمه بهذه الأسباب كما أن المعلم من الإنسان يعلم بالقول و التلقين، و الكاتب من الإنسان يعلم غيره بالقول و القلم مثلا.
و هذا هو السبيل في جميع ما يسند إليه تعالى في عالم الأسباب فالله تعالى هو خالقه و بينه و بين مخلوقة أسباب هي الأسباب بحسب الظاهر و هي أدوات و آلات لوجود الشيء، و إن شئت فقل: هي من شرائط وجود الشيء الذي تعلق وجوده من جميع جهاته و أطرافه بالأسباب، فمن شرائط وجود زيد «الذي ولده عمرو و هند» أن يتقدمه عمرو و هند و ازدواج و تناكح بينهما، و إلا لم يوجد زيد المفروض، و من شرائط «الإبصار بالعين الباصرة» أن تكون قبله عين باصرة، و هكذا.
فمن زعم أنه يوحد الله سبحانه بنفي الأسباب و إلغائها، و قدر أن ذلك أبلغ في إثبات قدرته المطلقة و نفي العجز عنه، و زعم أن إثبات ضرورة تخلل الأسباب قول بكونه تعالى مجبرا على سلوك سبيل خاص في الإيجاد فاقدا للاختيار فقد ناقض نفسه من حيث لا يشعر.
و بالجملة فالله سبحانه هو الذي علم الإنسان خواص الأشياء التي تنالها حواسه نوعا من النيل، علمه إياها من طريق الحواس، ثم سخر له ما في الأرض و السماء جميعا، قال تعالى: «و سخر لكم ما في السموات و ما في الأرض جميعا منه»: الجاثية: 13.
و ليس هذا التسخير إلا لأن يتوسل بنوع من التصرف فيها إلى بلوغ أغراضه و أمانيه في الحياة أي أنه جعلها مرتبطة بوجوده لينتفع بها، و جعله متفكرا يهتدي إلى كيفية التصرف و الاستعمال و التوسل، و من الدليل على ذلك قوله تعالى: «أ لم تر أن الله سخر لكم ما في الأرض و الفلك تجري في البحر بأمره»: الحج: 65، و قوله تعالى: «و جعل لكم من الفلك و الأنعام ما تركبون»: الزخرف: 12، و قوله تعالى: «عليها و على الفلك تحملون»: غافر: 80 و غير ذلك من الآيات المشابهة لها فانظر إلى لسان الآيات كيف نسبت جعل الفلك إلى الله سبحانه و هو من صنع الإنسان، ثم نسب الحمل إليه تعالى و هو من صنع الفلك و الأنعام و نسب جريانها في البحر إلى أمره و هو مستند إلى جريان البحر أو هبوب الريح أو البخار و نحوه، و سمي ذلك كله تسخيرا منه للإنسان لما أن لإرادته نوع حكومة في الفلك و ما يناظرها من الأنعام و في الأرض و السماء تسوقها إلى الغايات المطلوبة له.
و بالجملة هو سبحانه أعطاه الفكر على الحس ليتوسل به إلى كماله المقدر له بسبب علومه الفكرية الجارية في التكوينيات أعني العلوم النظرية.
قال تعالى: «و جعل لكم السمع و الأبصار و الأفئدة لعلكم تشكرون»: النحل: 78 و أما العلوم العملية و هي التي تجري فيما ينبغي أن يعمل و ما لا ينبغي فإنما هي بإلهام من الله سبحانه من غير أن يوجدها حس أو عقل نظري، قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها»: الشمس: 10 و قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30 فعد العلم بما ينبغي فعله و هو الحسنة و ما لا ينبغي فعله و هو السيئة مما يحصل له بالإلهام الإلهي و هو القذف في القلب.
فجميع ما يحصل للإنسان من العلم إنما هي هداية إلهية و بهداية إلهية، غير أنها مختلفة بحسب النوع: فما كان من خواص الأشياء الخارجية فالطريق الذي يهدي به الله سبحانه الإنسان هو طريق الحس، و ما كان من العلوم الكلية الفكرية فإنما هي بإعطاء و تسخير إلهي من غير أن يبطله وجود الحس أو يستغني الإنسان عنها في حال من الأحوال، و ما كان من العلوم العملية المتعلقة بصلاح الأعمال و فسادها و ما هو تقوى أو فجور فإنما هي بإلهام إلهي بالقذف في القلوب و قرع باب الفطرة.
و القسم الثالث الذي يرجع بحسب الأصل إلى إلهام إلهي إنما ينجح في عمله و يتم في أثره إذا صلح القسم الثاني و نشأ على صحة و استقامة كما أن العقل أيضا إنما يستقيم في عمله إذا استقام الإنسان في تقواه و دينه الفطري، قال تعالى: «و ما يذكر إلا أولوا الألباب: آل عمران: 7 و قال تعالى: «و ما يتذكر إلا من ينيب»: غافر: 13 و قال تعالى: «و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة»: الأنعام: 101 و قال تعالى: «و من يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه»: البقرة: 103 أي لا يترك مقتضيات الفطرة إلا من فسد عقله فسلك غير سبيله.
و الاعتبار يساعد هذا التلازم الذي بين العقل و التقوى، فإن الإنسان إذا أصيب في قوته النظرية فلم يدرك الحق حقا أو لم يدرك الباطل باطلا فكيف يلهم بلزوم هذا أو اجتناب ذاك؟ كمن يرى أن ليس وراء الحياة المادية المعجلة شيء فإنه لا يلهم التقوى الديني الذي هو خير زاد للعيشة الآخرة.
و كذلك الإنسان إذا فسد دينه الفطري و لم يتزود من التقوى الديني لم تعتدل قواه الداخلية المحسة من شهوة أو غضب أو محبة أو كراهة و غيرها، و مع اختلال أمر هذه القوى لا تعمل قوة الإدراك النظرية عملها عملا مرضيا.
و البيانات القرآنية تجري في بث المعارف الدينية و تعليم الناس العلم النافع هذا المجرى، و تراعي الطرق المتقدمة التي عينتها للحصول على المعلومات، فما كان من الجزئيات التي لها خواص تقبل الإحساس فإنها تصريح فيها إلى الحواس كالآيات المشتملة على قوله: «أ لم تر أ فلا يرون أ فرأيتم، أ فلا تبصرون» و غير ذلك و ما كان من الكليات العقلية مما يتعلق بالأمور الكلية المادية أو التي هي وراء عالم الشهادة فإنها تعتبر فيها العقل اعتبارا جازما و إن كانت غائبة عن الحس خارجة عن محيط المادة و الماديات، كغالب الآيات الراجعة إلى المبدأ و المعاد المشتملة على أمثال قوله: «لقوم يعقلون، لقوم يتفكرون، لقوم يتذكرون، يفقهون، و غيرها، و ما كان من القضايا العملية التي لها مساس بالخير و الشر و النافع و الضار في العمل و التقوى و الفجور فإنها تستند فيها إلى الإلهام الإلهي بذكر ما بتذكره يشعر الإنسان بإلهامه الباطني كالآيات المشتملة على مثل قوله: «ذلكم خير لكم، فإنه آثم قلبه، فيهما إثم، و الإثم و البغي بغير الحق، إن الله لا يهدي» و غيرها، و عليك بالتدبر فيها.
و من هنا يظهر أولا: أن القرآن الكريم يخطىء طريق الحسيين و هم المعتمدون على الحس و التجربة، النافون للأحكام العقلية الصرفة في الأبحاث العلمية، و ذلك أن أول ما يهتم القرآن به في بيانه هو أمر توحيد الله عز اسمه، ثم يرجع إليه و يبتنى عليه جميع المعارف الحقيقية التي يبينها و يدعو إليها.
و من المعلوم أن التوحيد أشد المسائل ابتعادا من الحس، و بينونة للمادة و ارتباطا بالأحكام العقلية الصرفة.
و القرآن يبين أن هذه المعارف الحقيقية من الفطرة قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله»: الروم: 30 أي إن الخلقة الإنسانية نوع من الإيجاد يستتبع هذه العلوم و الإدراكات، و لا معنى لتبديل خلق إلا أن يكون نفس التبديل أيضا من الخلق و الإيجاد، و أما تبديل الإيجاد المطلق أي إبطال حكم الواقع فلا يتصور له معنى فلن يستطيع الإنسان، و حاشا ذلك أن يبطل علومه الفطرية، و يسلك في الحياة سبيلا آخر غير سبيلها البتة، و أما الانحراف المشهود عن أحكام الفطرة فليس إبطالا لحكمها بل استعمالا لها في غير ما ينبغي من نحو الاستعمال نظير ما ربما يتفق أن الرامي لا يصيب الهدف في رميته فإن آلة الرمي و سائر شرائطه موضوعة بالطبع للإصابة إلا أن الاستعمال يوقعها في الغلط، و السكاكين و المناشير و المثاقب و الإبر و أمثالها إذا عبئت في الماكينات تعبئة معوجة تعمل عملها الذي فطرت عليه بعينه من قطع أو نشر أو ثقب و غير ذلك لكن لا على الوجه المقصود، و أما الانحراف عن العمل الفطري كان يخاط بنشر المنشار، بأن يعوض المنشار فعل الإبرة من فعل نفسه، فيضع الخياطة موضع النشر، فمن المحال ذلك.
و هذا ظاهر لمن تأمل عامة ما استدل به القوم على صحة طريقهم كقولهم: إن الأبحاث العقلية المحضة، و القياسات المؤلفة من مقدمات بعيدة من الحس يكثر وقوع الخطإ فيها كما يدل عليه كثرة الاختلافات في المسائل العقلية المحضة فلا ينبغي الاعتماد عليها لعدم اطمينان النفس إليها.
و قولهم في الاستدلال على صحة طريق الحس و التجربة: أن الحس آلة لنيل خواص الأشياء بالضرورة و إذا أحس بأثر في موضوع من الموضوعات على شرائط مخصوصة ثم تكرر مشاهدة الأثر معه مع حفظ تلك الشرائط بعينها من غير تخلف و اختلاف كشف ذلك عن أن هذا الأثر خاصة الموضوع من غير اتفاق لأن الاتفاق لا يدوم البتة.
و الدليلان كما ترى سيقا لإثبات وجوب الاعتماد على الحس و التجربة و رفض السلوك العقلي المحض مع كون المقدمات المأخوذة فيهما جميعا مقدمات عقلية خارجة عن الحس و التجربة ثم أريد بالأخذ بهذه المقدمات العقلية إبطال الأخذ بها، و هذا هو الذي تقدم أن الفطرة لن تبطل البتة و إنما يغلط الإنسان في كيفية استعمالها!.
و أفحش من ذلك استعمال التجربة في تشخيص الأحكام المشرعة و القوانين الموضوعة كأن يوضع حكم ثم يجري بين الناس يختبر بذلك حسن أثره بإحصاء و نحوه فإن غلب على موارد جريانه حسن النتيجة أخذ حكما ثابتا جاريا و إلا ألقى في جانب و أخذ آخر كذلك و هكذا، و نظيره فيه جعل الحكم بقياس أو استحسان.
و القرآن يبطل ذلك كله بإثبات أن الأحكام المشرعة فطرية بينة، و التقوى و الفجور العامين إلهاميان علميان، و أن تفاصيلها مما يجب أخذه من ناحية الوحي، قال تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم»: إسراء: 36 و قال: «و لا تتبعوا خطوات الشيطان»: البقرة: 186 و القرآن يسمى الشريعة المشرعة حقا قال تعالى: «أنزل معهم الكتاب بالحق ليحكم بين الناس فيما اختلفوا فيه»: البقرة: 231 و قال: «و إن الظن لا يغني من الحق شيئا»: النجم: 28 و كيف يغني و في اتباعه مخافة الوقوع في خطر الباطل و هو الضلال؟ قال: «فما ذا بعد الحق إلا الضلال»: يونس: 32 و قال: «فإن الله لا يهدي من يضل»: النحل: 37 أي إن الضلال لا يصلح طريقا يوصل الإنسان إلى خير و سعادة فمن أراد أن يتوسل بباطل إلى حق أو بظلم إلى عدل أو بسيئة إلى حسنة أو بفجور إلى تقوى فقد أخطأ الطريق، و طمع من الصنع و الإيجاد الذي هو الأصل للشرائع و القوانين فيما لا يسمح له بذلك البتة، و لو أمكن ذلك لجرى في خواص الأشياء المتضادة، و تكفل أحد الضدين ما هو من شأن الآخر من العمل و الأثر.
و كذلك القرآن يبطل طريق التذكر الذي فيه إبطال السلوك العلمي الفكري و عزل منطق الفطرة، و قد تقدم الكلام في ذلك.
و كذلك القرآن يحظر على الناس التفكر من غير مصاحبة تقوى الله سبحانه، و قد تقدم الكلام فيه أيضا في الجملة، و لذلك ترى القرآن فيما يعلم من شرائع الدين يشفع الحكم الذي يبينه بفضائل أخلاقية و خصال حميدة تستيقظ بتذكرها في الإنسان غريزة تقواه، فيقوى على فهم الحكم و فقهه، و اعتبر ذلك في أمثال قوله تعالى: «و إذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله و اليوم الآخر ذلكم أزكى لكم و أطهر و الله يعلم و أنتم لا تعلمون»: البقرة: 223 و قوله تعالى: «و قاتلوهم حتى لا تكون فتنة و يكون الدين لله فإن انتهوا فلا عدوان إلا على الظالمين»: البقرة: 139 و قوله تعالى: «و أقم الصلوة إن الصلوة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر و الله يعلم ما تصنعون»: العنكبوت: 45.
قوله تعالى: «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» في المجمع:، الأجل في اللغة الجناية، انتهى.
و قال الراغب في المفردات:، الأجل الجناية التي يخاف منها آجلا، فكل أجل جناية و ليس كل جناية أجلا.
يقال: فعلت ذلك من أجله، انتهى.
ثم استعمل للتعليل، يقال: فعلته من أجل كذا أي إن كذا سبب فعلي، و لعل استعمال الكلمة في التعليل ابتدأ أولا في مورد الجناية و الجريرة كقولنا: أساء فلان و من أجل ذلك أدبته بالضرب أي إن ضربي ناش من جنايته و جريرته التي هي إساءته أو من جناية هي إساءته، ثم أرسلت كلمة تعليل فقيل: أزورك من أجل حبي لك و لأجل حبي لك.
و ظاهر السياق أن الإشارة بقوله: «من أجل ذلك» إلى نبأ ابني آدم المذكور في الآيات السابقة أي إن وقوع تلك الحادثة الفجيعة كان سببا لكتابتنا على بني إسرائيل كذا و كذا، و ربما قيل: إن قوله: «من أجل ذلك» متعلق بقوله في الآية السابقة: «فأصبح من النادمين» أي كان ذلك سببا لندامته، و هذا القول و إن كان في نفسه غير بعيد كما في قوله تعالى: «كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تتفكرون في الدنيا و الآخرة و يسألونك عن اليتامى» الآية: البقرة: 202 إلا أن لازم ذلك كون قوله: «كتبنا على بني إسرائيل» إلخ مفتتح الكلام و المعهود من السياقات القرآنية أن يؤتى في مثل ذلك بواو الاستيناف كما في آية البقرة المذكورة آنفا و غيرها.
و أما وجه الإشارة في قوله: «من أجل ذلك» إلى قصة ابني آدم فهو أن القصة تدل على أن من طباع هذا النوع الإنساني أن يحمله اتباع الهوى و الحسد الذي هو الحنق للناس بما ليس في اختيارهم أن يحمله أوهن شيء على منازعة الربوبية و إبطال غرض الخلقة بقتل أحدهم أخاه من نوعه و حتى شقيقه لأبيه و أمه.
فأشخاص الإنسان إنما هم أفراد نوع واحد و أشخاص حقيقة فاردة، يحمل الواحد منهم من الإنسانية ما يحمله الكثيرون، و يحمل الكل ما يحمله البعض و إنما أراد الله سبحانه بخلق الأفراد و تكثير النسل أن تبقى هذه الحقيقة التي ليس من شأنها أن تعيش إلا زمانا يسيرا، و يدوم بقاؤها فيخلف اللاحق السابق و يعبد الله سبحانه في أرضه، فإفناء الفرد بالقتل إفساد في الخلقة و إبطال لغرض الله سبحانه في الإنسانية المستبقاة بتكثير الأفراد بطريق الاستخلاف كما أشار إليه ابن آدم المقتول فيما خاطب أخاه: «ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين» فأشار إلى أن القتل بغير الحق منازعة الربوبية.
فلأجل أن من طباع الإنسان أن يحمله أي سبب واه على ارتكاب ظلم يئول بحسب الحقيقة إلى إبطال حكم الربوبية و غرض الخلقة في الإنسانية العامة، و كان من شأن بني إسرائيل ما ذكره الله سبحانه قبل هذه الآيات من الحسد و الكبر و اتباع الهوى و إدحاض الحق و قد قص قصصهم بين الله لهم حقيقة هذا الظلم الفجيع و منزلته بحسب الدقة، و أخبرهم بأن قتل الواحد عنده بمنزلة قتل الجميع، و بالمقابلة إحياء نفس واحدة عنده بمنزلة إحياء الجميع.
و هذه الكتابة و إن لم تشتمل على حكم تكليفي لكنها مع ذلك لا تخلو عن تشديد بحسب المنزلة و الاعتبار، و له تأثير في إثارة الغضب و السخط الإلهي في دنيا أو آخرة.
و بعبارة مختصرة: معنى الجملة أنه لما كان من طباع الإنسان أن يندفع بأي سبب واه إلى ارتكاب هذا الظلم العظيم، و كان من أمر بني إسرائيل ما كان، بينا لهم منزلة قتل النفس لعلهم يكفون عن الإسراف و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات ثم إنهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون.
و أما قوله: «إنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا» استثنى سبحانه قتل النفس بالنفس و هو القود و القصاص و هو قوله تعالى: «كتب عليكم القصاص في القتلى»: البقرة: 187 و قتل النفس بالفساد في الأرض، و ذلك قوله في الآية التالية: «إنما جزاء الذين يحاربون الله و رسوله و يسعون في الأرض فسادا» الآية.
و أما المنزلة التي يدل عليها قوله: «فكأنما» إلخ فقد تقدم بيانه أن الفرد من الإنسان من حيث حقيقته المحمولة له التي تحيا و تموت إنما يحمل الإنسانية التي هي حقيقة واحدة في جميع الأفراد و البعض و الكل، و الفرد الواحد و الأفراد الكثيرون فيه واحد، و لازم هذا المعنى أن يكون قتل النفس الواحدة بمنزلة قتل نوع الإنسان و بالعكس إحياء النفس الواحدة بمنزلة إحياء الناس جميعا، و هو الذي تفيده الآية الشريفة.
و ربما أشكل على الآية أولا: بأن هذا التنزيل يفضي إلى نقض الغرض فإن الغرض بيان أهمية قتل النفس و عظمته من حيث الإثم و الأثر، و لازمه أن تزيد الأهمية كلما زاد عدد القتل، و تنزيل الواحد منزلة الجميع يوجب أن لا يقع بإزاء الزائد على الواحد شيء فإن من قتل عشرا كان الواحدة من هذه المقاتل تعد قتل الجميع، و تبقى الباقي و ليس بإزائه شيء.
و لا يندفع الإشكال بأن يقال: إن قتل العشرة يعدل عشرة أضعاف قتل الجميع و إن قتل الجميع يعدل قتل الجميع بعدد الجميع لأن مرجعه إلى المضاعفة في عدد العقاب، و اللفظ لا يفي ببيان ذلك.
على أن الجميع مؤلف من آحاد كل واحد منها يعدل الجميع المؤلف من الآحاد كذلك، و يذهب إلى ما لا نهاية له، و لا معنى للجميع بهذا المعنى، إذ لا فرد واحد له فلا جميع من غير آحاد.
على أن الله تعالى يقول: «من جاء بالسيئة فلا يجزى إلا مثلها»: الأنعام: 106 و ثانيا: بأن كون قتل الواحد يعدل قتل الجميع إن أريد به قتل الجميع الذي يشتمل على هذا الواحد كان لازمه مساواة الواحد مجموع نفسه و غيره و هو محال بالبداهة، و إن أريد به قتل الجميع باستثناء هذا الواحد كان معناه من قتل نفسا فكأنما قتل غيرها من النفوس، و هو معنى رديء مفسد للغرض من الكلام و هو بيان غاية أهمية هذا الظلم.
على أن إطلاق قوله: «فكأنما قتل الناس جميعا» من غير استثناء يدفع هذا الاحتمال.
و لا يندفع هذا الإشكال بمثل قولهم: إن المراد هو المعادلة من حيث العقوبة أو مضاعفة العذاب و نحو ذلك و هو ظاهر.
و الجواب عن الإشكالين: أن قوله: «من قتل نفسا - إلى قوله - فكأنما قتل الناس جميعا» كناية عن كون الناس جميعا ذوي حقيقة واحدة إنسانية متحدة فيها، الواحد منهم و الجميع فيها سواء، فمن قصد الإنسانية التي في الواحد منهم فقد قصد الإنسانية التي في الجميع كالماء إذا وزع بين أواني كثيرة فمن شرب من أحد الآنية فقد شرب الماء، و قد قصد الماء من حيث إنه ماء - و ما في جميع الآنية لا يزيد على الماء من حيث إنه ماء - فكأنه شرب الجميع، فجملة: «من قتل، إلخ» كناية في صورة التشبيه، و الإشكالان مندفعان، فإن بناءهما على كون التشبيه بسيطا يزيد فيه وجه الشبه على حسب زيادة المشبه عددا إذ لو سوي حينئذ بين الواحد و الجميع فسد المعنى و عرض الإشكال كما لو قيل: الواحد من القوم كالواحد من الأسد و الواحد منهم كالجميع في البطش و البسالة.
و أما قوله تعالى: «و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» فالكلام فيه كالكلام في الجملة السابقة، و المراد بالإحياء ما يعد في عرف العقلاء إحياء كإنقاذ الغريق و إطلاق الأسير، و قد عد الله تعالى في كلامه الهداية إلى الحق إحياء قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122 فمن دل نفسا إلى الإيمان فقد أحياها.
و أما قوله تعالى: «و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات» فهو معطوف على صدر الآية أي و لقد جاءتهم رسلنا بالبينات يحذرونهم القتل و كل ما يلحق به من وجوه الفساد في الأرض.
و أما قوله تعالى: «ثم إن كثيرا منهم بعد ذلك في الأرض لمسرفون» فهو متمم للكلام، بانضمامه إليه يستنتج الغرض المطلوب من البيان، و هو ظهور أنهم قوم مفسدون مصرون على استكبارهم و عتوهم فلقد بينا لهم منزلة القتل و جاءتهم رسلنا فيها و في غيرها بالبينات، و بينوا لهم و حذروهم و هم مع ذلك لم ينتهوا عن إصرارهم على العتو و الاستكبار فأسرفوا في الأرض قديما و لا يزالون يسرفون.
و الإسراف الخروج عن القصد و تجاوز الحد في كل فعل يفعله الإنسان، و إن كان يغلب عليه الاستعمال في مورد الإنفاق كقوله تعالى: «و الذين إذا أنفقوا لم يسرفوا و لم يقتروا و كان بين ذلك قواما»: الفرقان: 67 على ما ذكره الراغب في المفردات،.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم، عن حبيب السجستاني، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما قرب ابنا آدم القربان فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال: تقبل من هابيل و لم يتقبل من قابيل دخله من ذلك حسد شديد، و بغى على هابيل، و لم يزل يرصده و يتبع خلوته حتى ظفر به متنحيا من آدم فوثب عليه و قتله، فكان من قصتهما ما قد أنبأ الله في كتابه مما كان بينهما من المحاورة قبل أن يقتله، الحديث.
أقول: و الرواية من أحسن الروايات الواردة في القصة و هي رواية طويلة يذكر (عليه السلام) فيها: تولد هبة الله شيث لآدم بعد ذلك و وصيته له و جريان أمر الوصية بين الأنبياء، و سننقلها إن شاء الله في موضع يناسبها، و ظاهرها أن قابيل إنما قتل هابيل غيلة من غير أن يمكنه من نفسه، كما هو المناسب للاعتبار، و قد تقدم في البيان المتقدم.
و اعلم: أن الذي ضبطته الروايات من اسم الابنين: هابيل و قابيل، و الذي في التوراة الدائرة: هابيل و قايين.
و لا حجة في ذلك لانتهاء سند التوراة إلى واحد مجهول الحال مع ما هي عليه من التحريف الظاهر.
و في تفسير القمي، قال: حدثنا أبي عن الحسن بن محبوب، عن هشام بن سالم، عن أبي حمزة الثمالي، عن ثوير بن أبي فاختة قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يحدث رجالا من قريش قال: لما قربا ابنا آدم القربان قرب أحدهما أسمن كبش كان في صيانته، و قرب الآخر ضغثا من سنبل فتقبل من صاحب الكبش و هو هابيل، و لم يتقبل من الآخر، فغضب قابيل، فقال لهابيل: و الله لأقتلنك، فقال هابيل: إنما يتقبل الله من المتقين لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين. فطوعت له نفسه قتل أخيه فلم يدر كيف يقتله حتى جاء إبليس فعلمه فقال: ضع رأسه بين حجرين ثم اشدخه فلما قتله لم يدر ما يصنع به، فجاء غرابان فأقبلا يتضاربان حتى اقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثم حفر الذي بقي في الأرض بمخالبه، و دفن فيه صاحبه، قال قابيل: يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين، فحفر له حفيرة و دفنه فيها فصارت سنة يدفنون الموتى. فرجع قابيل إلى أبيه فلم ير معه هابيل فقال له آدم: أين تركت ابني؟ قال له قابيل: أرسلتني عليه راعيا؟ فقال آدم: انطلق معي إلى مكان القربان، و أوجس نفس آدم بالذي فعل قابيل، فلما بلغ مكان القربان استبان له قتله، فلعن آدم الأرض التي قبلت دم هابيل، و أمر آدم أن يلعن قابيل، و نودي قابيل من السماء لعنت كما قتلت أخاك، و لذلك لا تشرب الأرض الدم. فانصرف آدم يبكي على هابيل أربعين يوما و ليلة فلما جزع عليه شكى ذلك إلى الله فأوحى الله إليه أني واهب لك ذكرا يكون خلفا عن هابيل فولدت حواء غلاما زكيا مباركا فلما كان في اليوم السابع أوحى الله إليه: يا آدم إن هذا الغلام هبة مني لك فسمه هبة الله فسماه آدم هبة الله.
أقول: الرواية من أوسط الروايات الواردة في القصة و ما يلحق بها و هي مع ذلك لا تخلو عن تشويش في متنها حيث إن ظاهرها أن قابيل أوعد هابيل بالقتل ثم لم يدر كيف يقتل؟ و هو معنى غير معقول إلا أن يراد أنه تحير في أنه أي سبب من أسباب القتل؟ يختاره لقتله فأشار إليه إبليس - لعنه الله - أن يشدخ رأسه بالحجارة، و هناك روايات أخر مروية من طرق أهل السنة و الشيعة يقرب مضمونها من مضمون هذه الرواية.
و اعلم أن في القصة روايات كثيرة مختلفة المضامين عجيبتها كالقائلة إن الله أخذ كبش هابيل فخزنه في الجنة أربعين خريفا ثم فدى به إسماعيل فذبحه إبراهيم، و القائلة: إن هابيل مكن قابيل من نفسه و أنه تحرج أن يبسط يده إلى أخيه، و القائلة إن قابيل لما قتل أخاه عقل الله إحدى رجليه إلى فخذها من يوم قتله إلى يوم القيامة و جعل وجهه إلى اليمين حيث دار دارت عليه حظيرة من ثلج في الشتاء، و عليه في الصيف حظيرة من نار و معه سبعة أملاك كلما ذهب ملك جاء الآخر، و القائلة: إنه معذب في جزيرة من جزائر البحر علقه الله منكوسا و هو كذلك إلى يوم القيامة، و القائلة: إن قابيل بن آدم معلق بقرونه في عين الشمس تدور به حيث دارت في زمهريرها و حميمها إلى يوم القيامة فإذا كان يوم القيامة صيره الله إلى النار، و القائلة: إن ابن آدم الذي قتل أخاه كان قابيل الذي ولد في الجنة، و القائلة: إن آدم لما بان له قتل هابيل رثاه بعدة أبيات بالعربية، و القائلة: إنه كان من شريعتهم أن الإنسان إذا قصده آخر تركه و ما يريد من غير أن يمتنع منه، إلى غير ذلك من الروايات.
فهذه و أمثالها روايات من طرق جلها أو كلها ضعيفة، و هي لا توافق الاعتبار الصحيح و لا الكتاب يوافقها فهي بين موضوعة بينة الوضع و بين محرفة أو مما غلط فيه الرواة من جهة النقل بالمعنى.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة عن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يعجز أحدكم أتاه الرجل أن يقتله أن يقول هكذا؟ و قال: بإحدى يديه على الأخرى فيكون كالخير من ابني آدم، و إذا هو في الجنة و إذا قاتله في النار.
أقول: و هي من روايات الفتن، و هي كثيرة روى أكثرها السيوطي في الدر المنثور، كالذي رواه عن البيهقي عن أبي موسى عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: اكسروا سيفكم يعني في الفتنة و اقطعوا أوتاركم و الزموا أجواف البيوت، و كونوا فيها كالخير من ابني آدم، و ما رواه عن ابن جرير و عبد الرزاق عن الحسن قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إن ابني آدم ضربا مثلا لهذه الأمة فخذوا بالخير منهما، إلى غير ذلك.
و هذه روايات لا تلائم بظاهرها الاعتبار الصحيح المؤيد بالآثار الصحيحة الآمرة بالدفاع عن النفس و الانتصار للحق، و قد قال تعالى: «و إن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله»: الحجرات: 9.
على أنها جميعا تفسر قوله تعالى في القصة حكاية عن هابيل: «لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك» بأن المراد تمكين هابيل لأخيه في قتله و تركه الدفاع، و قد عرفت ما فيه.
و مما يوجب سوء الظن بها أنها مروية عن أناس قعدوا في فتنة الدار و في حروب علي (عليه السلام) مع معاوية و الخوارج و طلحة و الزبير، فالواجب توجيهها بوجه إن أمكن و إلا فالطرح.
و في الدر المنثور، أخرج ابن عساكر عن علي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: بدمشق جبل يقال له: «قاسيون» فيه قتل ابن آدم أخاه.
أقول: و الرواية لا بأس بها غير أن ابن عساكر روى بطريق عن كعب الأحبار أنه قال: إن الدم الذي على جبل قاسيون هو دم ابن آدم، و بطريق آخر عن عمرو بن خبير الشعباني قال: كنت مع كعب الأحبار على جبل دير المران فرأى لجة سائلة في الجبل فقال: هاهنا قتل ابن آدم أخاه، و هذا أثر دمه جعله الله آية للعالمين.
و الروايتان تدلان على أنه كان هناك أثر ثابت يدعى أنه دم هابيل المقتول، و يشبه أن يكون ذلك من الأمور الخرافية التي ربما وضعوها لصرف وجوه الناس إليها بالزيارة و إيتاء النذور و إهداء الهدايا نظير آثار الأكف و الأقدام المعمولة على الأحجار و قبر الجدة و غير ذلك.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي و ابن ماجة و ابن جرير و ابن المنذر عن ابن مسعود قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا تقتل نفس ظلما إلا كان على ابن آدم الأول كفل من دمها لأنه أول من سن القتل.
أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة و الشيعة بغير هذا الطريق.
و في الكافي، بإسناده عن حمران قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام)، ما معنى قول الله عز و جل «من أجل ذلك كتبنا على بني إسرائيل - أنه من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا»؟ قال: قلت: و كيف فكأنما قتل الناس جميعا و إنما قتل واحدة؟ قال: يوضع في موضع من جهنم إليه منتهى شدة عذاب أهلها، لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان، قلت: فإن قتل آخر؟ قال: يضاعف عليه: أقول: و رواه الصدوق في معاني الأخبار، عن حمران مثله.
و قوله: «قلت: فإن قتل آخر؟» إشارة إلى ما تقدم بيانه من إشكال لزوم تساوي القتل الواحد معه منضما إلى غيره، و قد أجاب (عليه السلام) عنه بقوله: «يضاعف عليه» و لا يرد عليه أنه رفع اليد عن التسوية التي يشير إليه حديث المنزلة: «من قتل نفسا بغير نفس» إلخ حيث إن لازم المضاعفة عدم تساوي الواحد و الكثير أو الجميع، وجه عدم الورود أن تساوي المنزلة راجع إلى سنخ العذاب و هو كون قاتل الواحد و الاثنين و الجميع في واد واحد من أودية جهنم، و يشير إليه قوله (عليه السلام) في الرواية: «لو قتل الناس جميعا كان إنما دخل ذلك المكان».
و يشهد على ما ذكرنا ما رواه العياشي في تفسيره عن حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال (عليه السلام) منزلة في النار إليها انتهاء شدة عذاب أهل النار جميعا فيجعل فيها، قلت: و إن كان قتل اثنين؟ قال: أ لا ترى أنه ليس في النار منزلة أشد عذابا منها؟ قال: يكون يضاعف عليه بقدر ما عمل، الحديث فإن الجمع بين النفي و الإثبات في جوابه (عليه السلام) ليس إلا لما وجهنا به الرواية، و هو أن الاتحاد و التساوي في سنخ العذاب، و إليه تشير المنزلة، و الاختلاف في شخصه و نفس ما يذوقه القاتل فيه.
و يشهد عليه أيضا في الجملة ما فيه أيضا عن حنان بن سدير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «من قتل نفسا فكأنما قتل الناس جميعا» قال: واد في جهنم لو قتل الناس جميعا كان فيه، و لو قتل نفس واحدة كان فيه.
أقول: و كان الآية منقولة فيها بالمعنى.
و في الكافي، بإسناده عن فضيل بن يسار قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) قول الله عز و جل في كتابه: «و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا» قال: من حرق أو غرق قلت: من أخرجها من ضلال إلى هدى؟ قال: ذلك تأويلها الأعظم: أقول: و رواه الشيخ في أماليه و البرقي في المحاسن، عن فضيل عنه (عليه السلام)، و روي الحديث عن سماعة و حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و المراد بكون الإنقاذ من الضلالة تأويلا أعظم للآية كونه تفسيرا أدق لها، و التأويل كثيرا ما كان يستعمل في صدر الإسلام مرادفا للتفسير.
و يؤيد ما ذكرناه ما في تفسير العياشي، عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله. «من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض - فكأنما قتل الناس جميعا» فقال: له في النار مقعد لو قتل الناس جميعا لم يزد على ذلك العذاب. قال: «و من أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا لم يقتلها أو أنجى من غرق أو حرق، و أعظم من ذلك كلها يخرجها من ضلالة إلى هدى.
أقول: و قوله «لم يقتلها» أي لم يقتلها بعد ثبوت القتل لها كما في مورد القصاص.
و فيه، عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته: «و من أحياها فقد أحيا الناس جميعا» قال: من استخرجها من الكفر إلى الإيمان.
أقول: و قد ورد هذا المعنى في كثير من الروايات الواردة من طرق أهل السنة.
و في المجمع:، روي عن أبي جعفر (عليه السلام): المسرفون الذين يستحلون المحارم و يسفكون الدماء.
بحث علمي و تطبيق
في الإصحاح الرابع من سفر التكوين من التوراة ما نصه: 1 و عرف آدم حواء امرأته فحبلت و ولدت قايين و قالت اقتنيت رجلا من عند الرب 2 ثم عادت فولدت أخاه هابيل و كان هابيل راعيا للغنم و كان قايين عاملا في الأرض 3 و حدث من بعد أيام أن قايين قدم من أثمار الأرض قربانا للرب 4 و قدم هابيل أيضا من أبكار غنمه و من سمانها فنظر الرب إلى هابيل و قربانه 5 و لكن إلى قايين و قربانه لم ينظر فاغتاظ قايين جدا و سقط وجهه 6 فقال الرب لقايين لما ذا اغتظت و لما ذا سقط وجهك 7 إن أحسنت أ فلا رفع و إن لم تحسن فعند الباب خطيئة رابضة و إليك اشتياقها و أنت تسود عليها. 8 و كلم قايين هابيل أخاه و حدث إذ كانا في الحقل أن قايين قام على هابيل أخيه و قتله 9 فقال الرب لقايين أين هابيل أخوك فقال لا أعلم أ حارس أنا لأخي 10 فقال ما ذا فعلت صوت دم أخيك صارخ إلي من الأرض 11 فالآن ملعون أنت من الأرض التي فتحت فاها لتقبل دم أخيك من يدك 12 متى عملت الأرض لا تعود تعطيك قوتها تائها و هاربا تكون في الأرض 13 فقال قايين للرب ذنبي أعظم من أن يتحمل 14 إنك قد طردتني اليوم عن وجه الأرض و من وجهك أختفي و أكون تائها و هاربا في الأرض فيكون كل من وجدني يقتلني 15 فقال له الرب لذلك كل من قتله قايين فسبعة أضعاف ينتقم منه و جعل الرب لقايين علامة لكي لا يقتله كل من وجده 16 فخرج قايين من لدن الرب و سكن في أرض نود شرقي عدن، انتهى.
و الذي في القرآن من قصتهما قوله تعالى: «و اتل عليهم نبأ ابني آدم بالحق إذ قربا قربانا فتقبل من أحدهما و لم يتقبل من الآخر قال لأقتلنك قال إنما يتقبل الله من المتقين 27 لئن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك إني أخاف الله رب العالمين 28 إني أريد أن تبوء بإثمي و إثمك فتكون من أصحاب النار و ذلك جزاء الظالمين 29 فطوعت له نفسه قتل أخيه فقتله فأصبح من الخاسرين 30 فبعث الله غرابا يبحث في الأرض ليريه كيف يواري سوأة أخيه قال يا ويلتا أ عجزت أن أكون مثل هذا الغراب فأواري سوأة أخي فأصبح من النادمين 31 آية: من المائدة - 27: 31.
و عليك أن تتدبر ما تشتمل عليه القصة على ما قصتها التوراة و على ما قصها القرآن ثم تطبق بينهما ثم تقضي ما أنت قاض.
فأول ما يبدو لك من التوراة أنها جعلت الرب تعالى موجودا أرضيا على صورة إنسان يعاشر الناس، يحكم لهم و عليهم كما يحكم أحد الناس فيهم، و يدنى و يقترب منه و يكلم كما يفعل ذلك أحدهم مع غيره ثم يختفي منه بالابتعاد و الغيبة فلا يرى البعيد الغائب كما يرى القريب الحاضر، و بالجملة فحاله حال إنسان أرضي من جميع الجهات غير أنه نافذ الإرادة إذا أراد، ماضي الحكم إذا حكم، و على هذا الأساس يبتنى جميع تعليمات التوراة و الإنجيل فيما يبثان من التعليم، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا.
و لازم القصة التي فيها: أن البشر كان يعيش يومئذ على حال المشافهة و الحضور عند الله سبحانه، ثم احتجب عن قايين أو عنه و عن أمثاله و بقي الباقون على حالهم مع أن البراهين القاطعة قائمة على أن الإنسان نوع واحد متماثل الأفراد عائش في الدنيا عيشة دنيوية مادية و أن الله جل شأنه متنزه عن الاتصاف بصفات المادة و أحوالها، متقدس عن لحوق عوارض الإمكان و طوارق النقص و الحدثان، و هو الذي يبينه القرآن.
و أما القرآن فإنه يقص القصة على أساس تماثل الأفراد غير أنه يذيل قصة القتل بقصة بعث الغراب فيكشف عن حقيقة كون الإنسان تدريجي الكمال بانيا استكماله في مدارج الكمال الحيوي على أساس الحس و الفكر.
ثم يذكر محاورة الأخوين فيقص عن المقتول من غرر المعارف الفطرية الإنسانية و أصول المعارف الدينية من التوحيد و النبوة و المعاد، ثم أمر التقوى و الظلم و هما الأصلان العاملان في جميع القوانين الإلهية و الأحكام الشرعية، ثم العدل الإلهي في مسألة القبول و الرد و المجازاة الأخروية.
ثم ندامة القاتل بعد صنعه و خسرانه في الدنيا و الآخرة، ثم يبين بعد ذلك كله أن القتل من شآمة أمره أن الذي يقع منه على نفس واحدة كالذي يقع منه على الناس جميعا و أن من أحيا نفسا فكأنما أحيا الناس جميعا.
|