بيان
الآيات متصلة الأجزاء يرتبط بعضها ببعض ذات سياق واحد يلوح منه أنها نزلت في طائفة من أهل الكتاب حكموا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في بعض أحكام التوراة و هم يرجون أن يحكم فيهم بخلاف ما حكمت به التوراة فيستريحوا إليه فرارا من حكمها قائلين بعضهم لبعض: «إن أوتيتم هذا - أي ما يوافق هواهم - فخذوه و إن لم تؤتوه - أي أوتيتم حكم التوراة - فاحذروا».
و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) أرجعهم إلى حكم التوراة فتولوا عنه، و أنه كان هناك طائفة من المنافقين يميلون إلى مثل ما يميل إليه أولئك المحكمون المستفتون من أهل الكتاب يريدون أن يفتنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيحكم بينهم على الهوى و رعاية جانب الأقوياء و هو حكم الجاهلية، و من أحسن حكما من الله لقوم يوقنون؟ و بذلك يتأيد ما ورد في أسباب النزول أن الآيات نزلت في اليهود حين زنا منهم محصنان من أشرافهم، و أراد أحبارهم أن يبدلوا حكم الرجم الذي في التوراة الجلد، فبعثوا من يسأل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم زنا المحصن، و وصوهم إن هو حكم بالجلد أن يقبلوه، و إن حكم بالرجم أن يردوه فحكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرجم فتولوا عنه فسأل (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن صوريا عن حكم التوراة في ذلك و أقسمه بالله و آياته أن لا يكتم ما يعلمه من الحق فصدق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن حكم الرجم موجود في التوراة القصة و سيجيء في البحث الروائي الآتي إن شاء الله تعالى.
و الآيات مع ذلك مستقلة في بيانها غير مقيدة فيما أفادها بسبب النزول، و هذا شأن الآيات القرآنية مما نزلت لأسباب خاصة من الحوادث الواقعة، ليس لأسباب نزولها منها إلا ما لواحد من مصاديقها الكثيرة من السهم، و ليس إلا لأن القرآن كتاب عام دائم لا يتقيد بزمان أو مكان، و لا يختص بقوم أو حادثة خاصة، و قال تعالى: «إن هو إلا ذكر للعالمين»: يوسف: 140 و قال تعالى: «تبارك الذي نزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرا»: الفرقان: 1 و قال تعالى: «و إنه لكتاب عزيز لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه»: فصلت: 42.
قوله تعالى: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر»، تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه مما لقي من هؤلاء المذكورين في الآية، و هم الذين يسارعون في الكفر أي يمشون فيه المشية السريعة، و يسيرون فيه السير الحثيث، تظهر من أفعالهم و أقوالهم موجبات الكفر واحدة بعد أخرى فهم كافرون مسارعون في كفرهم، و المسارعة في الكفر غير المسارعة إلى الكفر.
و قوله: «من الذين قالوا ءامنا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم» بيان لهؤلاء الذين يسارعون في الفكر أي من المنافقين، و في وضع هذا الوصف موضع الموصوف إشارة إلى علة النهي كما أن الأخذ بالوصف السابق أعني قوله: «الذين يسارعون في الكفر» للإشارة إلى علة المنهي عنه، و المعنى - و الله أعلم -: لا يحزنك هؤلاء بسبب مسارعتهم في الكفر فإنهم إنما آمنوا بألسنتهم لا بقلوبهم و ما أولئك بالمؤمنين، و كذلك اليهود الذين جاءوك و قالوا ما قالوا.
و قوله: «و من الذين هادوا» عطف على قوله: «من الذين قالوا ءامنا» إلخ على ما يفيده السياق، و ليس من الاستيناف في شيء، و على هذا فقوله: «سماعون للكذب سماعون لقوم آخرين لم يأتوك» خبر لمبتدء محذوف أي هم سماعون إلخ.
و هذه الجمل المتسقة بيان حال الذين هادوا، و أما المنافقون المذكورون في صدر الآية فحالهم لا يوافق هذه الأوصاف كما هو ظاهر.
فهؤلاء المذكورون من اليهود هم سماعون للكذب أي يكثرون من سماع الكذب مع العلم بأنه كذب، و إلا لم يكن صفة ذم، و هم كثير السمع لقوم آخرين لم يأتوك، يقبلون منهم كل ما ألقوه إليهم و يطيعونهم في كل ما أرادوه منهم، و اختلاف معنى السمع هو الذي أوجب تكرار قوله: «سماعون» فإن الأول يفيد معنى الإصغاء و الثانية معنى القبول.
و قوله: «يحرفون الكلم من بعد مواضعه» أي بعد استقرارها في مستقرها و الجملة صفة لقوله: «لقوم آخرين» و كذا قوله: «يقولون إن أوتيتم هذا فخذوه و إن لم تؤتوه فاحذروا».
و يتحصل من المجموع أن عدة من اليهود ابتلوا بواقعة دينية فيما بينهم، لها حكم إلهي عندهم لكن علماءهم غيروا الحكم بعد ثبوته ثم بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أمروهم أن يحكموه في الواقعة فإن حكم بما أنبأهم علماؤهم من الحكم المحرف فليأخذوه و إن حكم بغير ذلك فليحذروا.
و قوله: «و من يرد الله فتنته فلن تملك له من الله شيئا» الظاهر أنها معترضة يبين بها أنهم في أمرهم هذا مفتونون بفتنة إلهية، فلتطب نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأن الأمر من الله و إليه و ليس يملك منه تعالى شيء في ذلك، و لا موجب للتحزن فيما لا سبيل إلى التخلص منه.
و قوله: «أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم» فقلوبهم باقية على قذارتها الأولية لما تكرر منهم من الفسق بعد الفسق فأضلهم الله به، و ما يضل به إلا الفاسقين.
و قوله: «لهم في الدنيا خزي و لهم في الآخرة عذاب عظيم» إيعاد لهم بالخزي في الدنيا و قد فعل بهم، و بالعذاب العظيم في الآخرة.
قوله تعالى: «سماعون للكذب أكالون للسحت» قال الراغب في المفردات:، السحت القشر الذي يستأصل، قال تعالى: «فيسحتكم بعذاب» و قرىء: فيسحتكم أي بفتح الياء يقال: سحته و أسحته، و منه السحت للمحظور الذي يلزم صاحبه العار كأنه يسحت دينه و مروءته، قال تعالى: «أكالون للسحت» أي لما يسحت دينهم، و قال (عليه السلام): كل لحم نبت من سحت فالنار أولى به، و سمي الرشوة سحتا.
انتهى.
فكل مال اكتسب من حرام فهو سحت، و السياق يدل على أن المراد بالسحت في الآية هو الرشا و يتبين من إيراد هذا الوصف في المقام أن علماءهم الذين بعثوا طائفة منهم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كانوا قد أخذوا في الواقعة رشوة لتحريف حكم الله فقد كان الحكم مما يمكن أن يتضرر به بعضه فسد الباب بالرشوة، فأخذوا الرشوة و غيروا حكم الله تعالى.
و من هنا يظهر أن قوله تعالى: «سماعون للكذب أكالون للسحت» باعتبار المجموع وصف لمجموع القوم، و أما بحسب التوزيع فقوله: «سماعون للكذب» وصف لقوله: «الذين هادوا» و هم المبعوثون إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من في حكمهم من التابعين، و قوله: «أكالون للسحت» وصف لقوم آخرين، و المحصل أن اليهود منهم علماء يأكلون الرشا، و عامة مقلدون سماعون لأكاذبيهم.
قوله تعالى: «فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» إلى آخر الآية تخيير للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بين أن يحكم بينهم إذا حكموه أو يعرض عنهم، و من المعلوم أن اختيار أحد الأمرين لم يكن يصدر منه (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا لمصلحة داعية فيئول إلى إرجاع الأمر إلى نظر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رأيه.
ثم قرر تعالى هذا التخيير بأنه ليس عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) ضرر لو ترك الحكم فيهم و أعرض عنهم، و بين له أنه لو حكم بينهم فليس له أن يحكم إلا بالقسط و العدل.
فيعود المضمون بالآخرة إلى أن الله سبحانه لا يرضى أن يجري بينهم إلا حكمه فإما أن يجري فيهم ذلك أو يهمل أمرهم فلا يجري من قبله (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم آخر.
قوله تعالى: «و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله ثم يتولون من بعد ذلك و ما أولئك بالمؤمنين» تعجيب من فعالهم أنهم أمة ذات كتاب و شريعة و هم منكرون لنبوتك و كتابك و شريعتك ثم يبتلون بواقعة في كتابهم حكم الله فيها، ثم يتولون بعد ما عندهم التوراة فيها حكم الله و الحال أن أولئك المبتعدين من الكتاب و حكمه ليسوا بالذين يؤمنون بذلك.
و على هذا المعنى فقوله: «ثم يتولون من بعد ذلك» أي عن حكم الواقعة مع كون التوراة عندهم و فيها حكم الله، و قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين» أي بالذين يؤمنون بالتوراة و حكمها، فهم تحولوا من الإيمان بها و بحكمها إلى الكفر.
و يمكن أن يفهم من قوله: «ثم يتولون»، التولي عما حكم به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و من قوله: «و ما أولئك بالمؤمنين» نفي الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما كان يظهر من رجوعهم إليه و تحكيمهم إياه، أو نفي الإيمان بالتوراة و بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جميعا، لكن ما تقدم من المعنى أنسب لسياق الآيات.
و في الآية تصديق ما للتوراة التي عند اليهود اليوم، و هي التي جمعها لهم عزراء بإذن «كورش» ملك إيران بعد ما فتح بابل، و أطلق بني إسرائيل من أسر البابليين و أذن لهم في الرجوع إلى فلسطين و تعمير الهيكل، و هي التي كانت بيدهم في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و هي التي بيدهم اليوم، فالقرآن يصدق أن فيها حكم الله، و هو أيضا يذكر أن فيها تحريفا و تغييرا.
و يستنتج من الجميع: أن التوراة الموجودة الدائرة بينهم اليوم فيها شيء من التوراة الأصلية النازلة على موسى (عليه السلام) و أمور حرفت و غيرت إما بزيادة أو نقصان أو تغيير لفظ أو محل أو غير ذلك، و هذا هو الذي يراه القرآن في أمر التوراة، و البحث الوافي عنها أيضا يهدي إلى ذلك.
قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها النبيون» إلخ بمنزلة التعليل لما ذكر في الآية السابقة، و هي و ما بعدها من الآيات تبين أن الله سبحانه شرع لهذه الأمم على اختلاف عهودهم شرائع، و أودعها في كتب أنزلها إليهم ليهتدوا بها و يتبصروا بسببها، و يرجعوا إليها فيما اختلفوا فيه، و أمر الأنبياء و العلماء منهم أن يحكموا بها، و يتحفظوا عليها و يقوها من التغيير و التحريف، و لا يطلبوا في الحكم ثمنا ليس إلا قليلا، و لا يخافوا فيها إلا الله سبحانه و لا يخشوا غيره.
و أكد ذلك عليهم و حذرهم اتباع الهوى، و تفتين أبناء الدنيا، و إنما شرع من الأحكام مختلفا باختلاف الأمم و الأزمان ليتم الامتحان الإلهي فإن استعداد الأزمان مختلف بمرور الدهور، و لا يستكمل المختلفان في الاستعداد شدة و ضعفا بمكمل واحد من التربية العلمية و العملية على وتيرة واحدة.
فقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور» أي شيء من الهداية يهتدي بها، و شيء من النور يتبصر به من المعارف و الأحكام على حسب حال بني إسرائيل، و مبلغ استعدادهم، و قد بين الله سبحانه في كتابه عامة أخلاقهم، و خصوصيات أحوال شعبهم و مبلغ فهمهم، فلم ينزل إليهم من الهداية إلا بعضها و من النور إلا بعضه لسبق عهدهم و قدمة أمتهم، و قلة استعدادهم، قال تعالى: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء»: الأعراف: 154.
و قوله: «يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا» إنما وصف النبيين بالإسلام و هو التسليم لله، الذي هو الدين عند الله سبحانه للإشارة إلى أن الدين واحد، و هو الإسلام لله و عدم الاستنكاف عن عبادته، و ليس لمؤمن بالله - و هو مسلم له - أن يستكبر عن قبول شيء من أحكامه و شرائعه.
و قوله: «و الربانيون و الأحبار بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» أي و يحكم بها الربانيون و هم العلماء المنقطعون إلى الله علما و عملا، أو الذين إليهم تربية الناس بعلومهم بناء على اشتقاق اللفظ من الرب أو التربية، و الأحبار و هم الخبراء من علمائهم يحكمون بما أمرهم الله به و أراده منهم أن يحفظوه من كتاب الله، و كانوا من جهة حفظهم له و تحملهم إياه شهداء عليه لا يتطرق إليه تغيير و تحريف لحفظهم له في قلوبهم، فقوله: «و كانوا عليه شهداء» بمنزلة النتيجة لقوله: «بما استحفظوا» إلخ أي أمروا بحفظه فكانوا حافظين له بشهادتهم عليه.
و ما ذكرناه من معنى الشهادة هو الذي يلوح من سياق الآية، و ربما قيل: إن المراد بها الشهادة على حكم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في الرجم أنه ثابت في التوراة، و قيل: إن المراد الشهادة على الكتاب أنه من عند الله وحده لا شريك له، و لا شاهد من جهة السياق يشهد على شيء من هذين المعنيين.
و أما قوله تعالى: «فلا تخشوا الناس و اخشون و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا» فهو متفرع على قوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور يحكم بها»، أي لما كانت التوراة منزلة من عندنا مشتملة على شريعة يقضي بها النبيون و الربانيون و الأحبار بينكم فلا تكتموا شيئا منها و لا تغيروها خوفا أو طمعا، أما خوفا فبأن تخشوا الناس و تنسوا ربكم بل الله فاخشوا حتى لا تخشوا الناس، و أما طمعا فبأن تشتروا بآيات الله ثمنا قليلا هو مال أو جاه دنيوي زائل باطل.
و يمكن أن يكون متفرعا على قوله: «بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» بحسب المعنى لأنه في معنى أخذ الميثاق على الحفظ أي أخذنا منهم الميثاق على حفظ الكتاب و أشهدناهم عليه أن لا يغيروه و لا يخشوا في إظهاره غيري، و لا يشتروا بآياتي ثمنا قليلا، قال تعالى: «و إذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس و لا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم و اشتروا به ثمنا قليلا»: آل عمران: 178 و قال تعالى: «فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى و يقولون سيغفر لنا و إن يأتهم عرض مثله يأخذوه أ لم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا على الله إلا الحق و درسوا ما فيه و الدار الآخرة خير للذين يتقون أ فلا تعقلون و الذين يمسكون بالكتاب و أقاموا الصلاة إنا لا نضيع أجر المصلحين»: الأعراف: 107.
و هذا المعنى الثاني لعله أنسب و أوفق لما يتلوه من التأكيد و التشديد بقوله: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون».
قوله تعالى: «و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس - إلى قوله و الجروح قصاص» السياق و خاصة بالنظر إلى قوله: «و الجروح قصاص» يدل على أن المراد به بيان حكم القصاص في أقسام الجنايات من القتل و القطع و الجرح، فالمقابلة الواقعة في قوله: «النفس بالنفس» و غيره إنما وقعت بين المقتص له و المقتص به و المراد به أن النفس تعادل النفس في باب القصاص، و العين تقابل العين و الأنف الأنف و هكذا و الباء للمقابلة كما في قولك: بعت هذا بهذا.
فيئول معنى الجمل المتسقة إلى أن النفس تقتل بالنفس، و العين تفقأ بالعين و الأنف تجدع بالأنف، و الأذن تصلم بالأذن، و السن تقلع بالسن و الجروح ذوات قصاص، و بالجملة أن كلا من النفس و أعضاء الإنسان مقتص بمثله.
و لعل هذا هو مراد من قدر في قوله: «النفس بالنفس» إن النفس مقتصة أو مقتولة بالنفس و هكذا و إلا فالتقدير بمعزل عن الحاجة، و الجمل تامة من دونه و الظرف لغو.
و الآية لا تخلو من إشعار بأن هذا الحكم غير الحكم الذي حكموا فيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تذكره الآيات السابقة فإن السياق قد تجدد بقوله: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور».
و الحكم موجود في التوراة الدائرة على ما سيجيء نقله في البحث الروائي التالي إن شاء الله تعالى.
قوله تعالى: «فمن تصدق به فهو كفارة له» أي فمن عفا من أولياء القصاص كولي المقتول أو نفس المجني عليه و المجروح عن الجاني، و وهبه ما يملكه من القصاص فهو أي العفو كفارة لذنوب المتصدق أو كفارة عن الجاني في جنايته.
و الظاهر من السياق أن الكلام في تقدير قولنا: فإن تصدق به من له القصاص فهو كفارة له، و إن لم يتصدق فليحكم صاحب الحكم بما أنزله الله من القصاص، و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
و بذلك يظهر أولا: أن الواو في قوله: «و من لم يحكم» للعطف على قوله: «من تصدق» لا للاستيناف كما أن الفاء في قوله: «فمن تصدق» للتفريع: تفريع المفصل على المجمل، نظير قوله تعالى في آية القصاص: «فمن عفي له من أخيه شيء فاتباع بالمعروف و أداء إليه بإحسان»: البقرة: 187.
و ثانيا: أن قوله: «و من لم يحكم»، من قبيل وضع العلة موضع معلولها و التقدير: و إن لم يتصدق فليحكم بما أنزل الله فإن من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الظالمون.
قوله تعالى: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم مصدقا لما بين يديه من التوراة» التقفية جعل الشيء خلف الشيء و هو مأخوذ من القفا، و الآثار جمع أثر و هو ما يحصل من الشيء مما يدل عليه، و يغلب استعماله في الشكل الحاصل من القدم ممن يضرب في الأرض، و الضمير في «آثارهم» للأنبياء.
فقوله: «و قفينا على آثارهم بعيسى بن مريم» استعارة بالكناية أريد بها الدلالة على أنه سلك به (عليه السلام) المسلك الذي سلكه من قبله من الأنبياء، و هو طريق الدعوة إلى التوحيد و الإسلام لله.
و قوله: «مصدقا لما بين يديه من التوراة» تبيين لما تقدمه من الجملة و إشارة إلى أن دعوة عيسى هي دعوة موسى (عليه السلام) من غير بينونة بينهما أصلا.
قوله تعالى: «و آتيناه الإنجيل فيه هدى و نور و مصدقا لما بين يديه من التوراة» إلخ سياق الآيات من جهة تعرضها لحال شريعة موسى و عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزولها في حق كتبهم يقضي بانطباق بعضها على بعض و لازم ذلك: أولا: أن الإنجيل المذكور في الآية - و معناها البشارة - كان كتابا نازلا على المسيح (عليه السلام) لا مجرد البشارة من غير كتاب غير أن الله سبحانه لم يفصل القول في كلامه في كيفية نزوله على عيسى كما فصله في خصوص التوراة و القرآن قال تعالى في حق التوراة: «قال يا موسى إني اصطفيتك على الناس برسالاتي و بكلامي فخذ ما ءاتيتك و كن من الشاكرين و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء»: الأعراف: 154 و قال: «أخذ الألواح و في نسختها هدى و رحمة للذين هم لربهم يرهبون»: الأعراف: 145.
و قال في خصوص القرآن: «نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»: الشعراء: 159 و قال: «نزل به الروح الأمين على قلبك لتكون من المنذرين بلسان عربي مبين»: الشعراء: 159 و قال: «إنه لقول رسول كريم ذي قوة عند ذي العرش مكين مطاع ثم أمين»: التكوير: 21 و قال: «في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة»: عبس: 16 و هو سبحانه لم يذكر في تفصيل نزول الإنجيل و مشخصاته شيئا، لكن ذكره نزوله على عيسى في الآية محاذيا لذكر نزول التوراة على موسى في الآية السابقة، و نزول القرآن على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على كونه كتابا في عرض الكتابين.
و ثانيا: أن قوله تعالى في وصف الإنجيل: «فيه هدى و نور» محاذاة لقوله في وصف التوراة: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور» يراد به ما يشتمل عليه الكتاب من المعارف و الأحكام غير أن قوله تعالى في هذه الآية ثانيا: «و هدى و موعظة للمتقين» يدل على أن الهدى المذكور أولا غير الهدى الذي تفسيره الموعظة فالهدى المذكور أولا هو نوع المعارف التي يحصل بها الاهتداء في باب الاعتقادات، و أما ما يهدي من المعارف إلى التقوى في الدين فهو الذي يراد بالهدى المذكور ثانيا.
و على هذا لا يبقى لقوله: «و نور» من المصداق إلا الأحكام و الشرائع، و التدبر ربما ساعد على ذلك فإنها أمور يستضاء بها و يسلك في ضوئها و تنورها مسلك الحياة، و قد قال تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس»: الأنعام: 122.
و قد ظهر بذلك: أن المراد بالهدى في وصف التوراة و في وصف الإنجيل أولا هو نوع المعارف الاعتقادية كالتوحيد و المعاد، و بالنور في الموضعين نوع الشرائع و الأحكام، و بالهدى ثانيا في وصف الإنجيل هو نوع المواعظ و النصائح، و الله أعلم.
و ظهر أيضا وجه تكرار الهدى في الآية فالهدى المذكور ثانيا غير الهدى المذكور أولا و أن قوله «و موعظة» من قبيل عطف التفسير و الله أعلم.
و ثالثا: أن قوله ثانيا في وصف الإنجيل: «و مصدقا لما بين يديه من التوراة» ليس من قبيل التكرار لتأكيد و نحوه بل المراد به تبعية الإنجيل لشريعة التوراة فلم يكن في الإنجيل إلا الإمضاء لشريعة التوراة و الدعوة إليها إلا ما استثناه عيسى المسيح على ما حكاه الله تعالى من قوله: «و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم»: آل عمران: 50.
و الدليل على ذلك قوله تعالى في الآية الآتية في وصف القرآن: «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه» على ما سيجيء من البيان.
قوله تعالى: «و هدى و موعظة للمتقين» قد مر توضيحه، و الآية تدل على أن في الإنجيل النازل على المسيح عناية خاصة بالتقوى في الدين مضافا إلى ما يشتمل عليه التوراة من المعارف الاعتقادية و الأحكام العملية، و التوراة الدائرة بينهم اليوم و إن لم يصدقها القرآن كل التصديق، و كذا الأناجيل الأربعة المنسوبة إلى متى و مرقس و لوقا و يوحنا و إن كانت غير ما يذكره القرآن من الإنجيل النازل على المسيح نفسه لكنها مع ذلك كله تصدق هذا المعنى كما سيجيء إن شاء الله الإشارة إليه.
قوله تعالى: «و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل الله فيه» إلخ و قد أنزل فيه تصديق التوراة في شرائعها إلا ما استثني من الأحكام المنسوخة التي ذكرت في الإنجيل النازل على عيسى (عليه السلام)، فإن الإنجيل لما صدق التوراة فيما شرعته، و أحل بعض ما حرم فيها كان العمل بما في التوراة في غير ما أحلها الإنجيل من المحرمات عملا بما أنزل الله في الإنجيل و هو ظاهر.
و من هنا يظهر ضعف ما استدل بعض المفسرين بالآية على أن الإنجيل مشتمل على صرائع مفصلة كما اشتملت عليه التوراة، و وجه الضعف ظاهر.
و أما قوله: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» فهو تشديد في الأمر المدلول عليه بقوله: «و ليحكم»، و قد كرر الله سبحانه هذه الكلمة للتشديد ثلاث مرات: مرتين في أمر اليهود و مرة في أمر النصارى باختلاف يسير فقال: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون» فسجل عليهم الكفر و الظلم و الفسق.
و لعل الوجه في ذكر الفسق عند التعرض لما يرجع إلى النصارى، و الكفر و الظلم فيما يعود إلى اليهود أن النصارى بدلوا التوحيد تثليثا و رفضوا أحكام التوراة بأخذ بولس دين المسيح دينا مستقلا منفصلا عن دين موسى مرفوعا فيه الأحكام بالتفدية فخرجت النصارى بذلك عن التوحيد و شريعته بتأول ففسقوا عن دين الله الحق، و الفسق خروج الشيء من مستقره كخروج لب التمرة عن قشرها.
و أما اليهود فلم يشتبه عليهم الأمر فيما عندهم من دين موسى (عليه السلام) و إنما ردوا الأحكام و المعارف التي كانوا على علم منها و هو الكفر بآيات الله و الظلم لها.
و الآيات الثلاث أعني قوله: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، فأولئك هم الظالمون، فأولئك هم الفاسقون» آيات مطلقة لا تختص بقوم دون قوم، و إن انطبقت على أهل الكتاب في هذا المقام.
و قد اختلف المفسرون في معنى كفر من لم يحكم بما أنزل الله كالقاضي يقضي بغير ما أنزل الله، و الحاكم يحكم على خلاف ما أنزل الله، و المبتدع يستن بغير السنة و هي مسألة فقهية الحق فيها أن المخالفة لحكم شرعي أو لأي أمر ثابت في الدين في صورة العلم بثبوته و الرد له توجب الكفر، و في صورة العلم بثبوته مع عدم الرد له توجب الفسق، و في صورة عدم العلم بثبوته مع الرد له لا توجب كفرا و لا فسقا لكونه قصورا يعذر فيه إلا أن يكون قصر في شيء من مقدماته و ليراجع في ذلك كتب الفقه.
قوله تعالى: «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق مصدقا لما بين يديه من الكتاب و مهيمنا عليه» هيمنة الشيء على الشيء - على ما يتحصل من معناها - كون الشيء ذا سلطة على الشيء في حفظه و مراقبته و أنواع التصرف فيه، و هذا حال القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه تبيان كل شيء بالنسبة إلى ما بين يديه من الكتب السماوية: يحفظ منها الأصول الثابتة غير المتغيرة و ينسخ منها ما ينبغي أن ينسخ من الفروع التي يمكن أن يتطرق إليها التغير و التبدل حتى يناسب حال الإنسان بحسب سلوكه صراط الترقي و التكامل بمرور الزمان قال تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»: إسراء: 9 و قال: «ما ننسخ من آية أو ننسها نأت بخير منها أو مثلها»: البقرة: 160 و قال: «الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم فالذين ءامنوا به و عزروه و نصروه و اتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون»: الأعراف: 175.
فهذه الجملة أعني قوله: «و مهيمنا عليه» متممة لقول: «و مصدقا لما بين يديه من الكتاب» تتميم إيضاح إذ لولاها لأمكن أن يتوهم من تصديق القرآن للتوراة و الإنجيل أنه يصدق ما فيهما من الشرائع و الأحكام تصديق إبقاء من غير تغيير و تبديل لكن توصيفه بالهيمنة يبين أن تصديقه لها تصديق أنها معارف و شرائع حقة من عند الله و لله أن يتصرف منها فيما يشاء بالنسخ و التكميل كما يشير إليه قوله ذيلا: «و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم».
فقول: «مصدقا لما بين يديه» معناه تقرير ما فيها من المعارف و الأحكام بما يناسب حال هذه الأمة فلا ينافيه ما تطرق إليها من النسخ و التكميل و الزيادة كما كان المسيح (عليه السلام) أو إنجيله مصدقا للتوراة مع إحلاله بعض ما فيها من المحرمات كما حكاه الله عنه في قوله: «و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم»: آل عمران: 50.
قوله تعالى: «فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق» أي إذا كانت الشريعة النازلة إليك المودعة في الكتاب حقا و هو حق فيما وافق ما بين يديه من الكتب و حق فيما خالفه لكونه مهيمنا عليه فليس لك إلا أن تحكم بين أهل الكتاب - كما يؤيده ظاهر الآيات السابقة - أو بين الناس - كما تؤيده الآيات اللاحقة - بما أنزل الله إليك و لا تتبع أهواءهم بالإعراض و العدول عما جاءك من الحق.
و من هنا يظهر جواز أن يراد بقوله: «فاحكم بينهم» الحكم بين أهل الكتاب أو الحكم بين الناس لكن تبعد المعنى الأول حاجته إلى تقدير كقولنا فاحكم بينهم إن حكمت، فإن الله سبحانه لم يوجب عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) الحكم بينهم بل خيره بين الحكم و الإعراض بقوله: «فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» الآية على أن الله سبحانه ذكر المنافقين مع اليهود في أول الآيات فلا موجب لاختصاص اليهود برجوع الضمير إليهم لسبق الذكر و قد ذكر معهم غيرهم، فالأنسب أن يرجع الضمير إلى الناس لدلالة المقام.
و يظهر أيضا أن قوله: «عما جاءك» متعلق بقوله: «و لا تتبع» بإشرابه معنى العدول أو الإعراض.
قوله تعالى: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا» قال الراغب في المفردات:، الشرع نهج الطريق الواضح يقال: شرعت له طريقا و الشرع مصدر ثم جعل اسما للطريق النهج فقيل له: شرع و شرع و شريعة، و استعير ذلك للطريقة الإلهية قال: «شرعة و منهاجا» - إلى أن قال - قال بعضهم: سميت الشريعة شريعة تشبيها بشريعة الماء انتهى.
و لعل الشريعة بالمعنى الثاني مأخوذ من المعنى الأول لوضوح طريق الماء عندهم بكثرة الورود و الصدور و قال: النهج بالفتح فالسكون: الطريق الواضح، و نهج الأمر و أنهج وضح، و منهج الطريق و منهاجه.
كلام في معنى الشريعة و الفرق بينها و بين الدين و الملة في عرف القرآن
معنى الشريعة كما عرفت هو الطريقة، و الدين و كذلك الملة طريقة متخذة لكن الظاهر من القرآن أنه يستعمل الشريعة في معنى أخص من الدين كما يدل عليه قوله تعالى: «إن الدين عند الله الإسلام»: آل عمران: 19، و قوله تعالى: «و من يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين»: آل عمران: 85 إذا انضما إلى قوله: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا» الآية و قوله: «ثم جعلناك على شريعة من الأمر فاتبعها»: الجاثية: 18.
فكان الشريعة هي الطريقة الممهدة لأمة من الأمم أو لنبي من الأنبياء الذين بعثوا بها كشريعة نوح و شريعة إبراهيم و شريعة موسى و شريعة عيسى و شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الدين هو السنة و الطريقة الإلهية العامة لجميع الأمم فالشريعة تقبل النسخ دون الدين بمعناه الوسيع.
و هناك فرق آخر و هو أن الدين ينسب إلى الواحد و الجماعة كيفما كانا، و لكن الشريعة لا تنسب إلى الواحد إلا إذا كان واضعها أو القائم بأمرها يقال: دين المسلمين و دين اليهود و شريعتهم، و يقال: دين الله و شريعته و دين محمد و شريعته، و يقال: دين زيد و عمرو، و لا يقال: شريعة زيد و عمرو، و لعل ذلك لما في لفظ الشريعة من التلميح إلى المعنى الحدثي و هو تمهيد الطريق و نصبه فمن الجائز أن يقال: الطريقة التي مهدها الله أو الطريقة التي مهدت للنبي أو للأمة الفلانية دون أن يقال: الطريقة التي مهدت لزيد إذ لا اختصاص له بشيء.
و كيف كان فالمستفاد منها أن الشريعة أخص معنى من الدين و أما قوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى»: الشورى: 13 فلا ينافي ذلك إذ الآية إنما تدل على أن شريعة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) المشروعة لأمته هي مجموع وصايا الله سبحانه لنوح و إبراهيم و موسى و عيسى مضافا إليها ما أوحاه إلى محمد صلى الله عليه و آله و عليهم، و هو كناية إما عن كون الإسلام جامعا لمزايا جميع الشرائع السابقة و زيادة، أو عن كون الشرائع جميعا ذات حقيقة واحدة بحسب اللب و إن كانت مختلفة بحسب اختلاف الأمم في الاستعداد كما يشعر به أو يدل عليه قوله بعده: «أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: الشورى: 13.
فنسبة الشرائع الخاصة إلى الدين - و هو واحد و الشرائع تنسخ بعضها بعضا - كنسبة الأحكام الجزئية في الإسلام فيها ناسخ و منسوخ إلى أصل الدين، فالله سبحانه لم يتعبد عباده إلا لدين واحد و هو الإسلام له إلا أنه سلك بهم لنيل ذلك مسالك مختلفة و سن لهم سننا متنوعة على حسب اختلاف استعداداتهم و تنوعها، و هي شرائع نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم كما أنه تعالى ربما نسخ في شريعة واحدة بعض الأحكام ببعض لانقضاء مصلحة الحكم المنسوخ و ظهور مصلحة الحكم الناسخ كنسخ الحبس المخلد في زنا النساء بالجلد و الرجم و غير ذلك، و يدل على ذلك قوله تعالى: «و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما آتاكم» الآية.
و أما الملة فكان المراد بها السنة الحيوية المسلوكة بين الناس، و كان فيها معنى الإملال و الإملاء فيكون هي الطريقة المأخوذة من الغير، و ليس الأصل في معناه واضحا ذاك الوضوح، فالأشبه أن تكون مرادفة للشريعة بمعنى أن الملة كالشريعة هي الطريقة الخاصة بخلاف الدين، و إن كان بينهما فرق من حيث إن الشريعة تستعمل فيها بعناية أنها سبيل مهده الله تعالى لسلوك الناس إليه، و الملة إنما تطلق عليها لكونها مأخوذة عن الغير بالإتباع العملي، و لعله لذلك لا تضاف إلى الله سبحانه كما يضاف الدين و الشريعة، يقال: دين الله و شريعة الله، و لا يقال: ملة الله.
بل إنما تضاف إلى النبي مثلا من حيث إنها سيرته و سنته أو إلى الأمة من جهة أنهم سائرون مستنون به، قال تعالى: «ملة إبراهيم حنيفا و ما كان من المشركين»: البقرة: 153 و قال تعالى حكاية عن يوسف (عليه السلام): «إني تركت ملة قوم لا يؤمنون بالله و هم بالآخرة هم كافرون و اتبعت ملة ءابائي إبراهيم و إسحاق و يعقوب»: يوسف: 38 و قال تعالى حكاية عن الكفار في قولهم لأنبيائهم: «لنخرجنكم من أرضنا أو لتعودن في ملتنا»: إبراهيم: 13.
فقد تلخص أن الدين في عرف القرآن أعم من الشريعة و الملة و هما كالمترادفين مع فرق ما من حيث العناية اللفظية.
قوله تعالى: «و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما ءاتاكم» بيان لسبب اختلاف الشرائع، و ليس المراد بجعلهم أمة واحدة الجعل التكويني بمعنى النوعية الواحدة فإن الناس أفراد نوع واحد يعيشون على نسق واحد كما يدل عليه قوله تعالى: «و لو لا أن يكون الناس أمة واحدة لجعلنا لمن يكفر بالرحمن لبيوتهم سقفا من فضة و معارج عليها يظهرون»: الزخرف: 33.
بل المراد أخذهم بحسب الاعتبار أمة واحدة على مستوى واحد من الاستعداد و التهيؤ حتى تشرع لهم شريعة واحدة لتقارب درجاتهم الملحوظة فقوله: «و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة» من قبيل وضع علة الشرط موضع الشرط ليتضح باستحضارها معنى الجزاء أعني قوله: «و لكن ليبلوكم فيما ءاتاكم» أي ليمتحنكم فيما أعطاكم و أنعم عليكم، و لا محالة هذه العطايا المشار إليها في الآية مختلفة في الأمم، و ليست هي الاختلافات بحسب المساكن و الألسنة و الألوان فإن الله لم يشرع شريعتين أو أكثر في زمان واحد قط بل هي الاختلافات بحسب مرور الزمان، و ارتقاء الإنسان في مدارج الاستعداد و التهيؤ و ليست التكاليف الإلهية و الأحكام المشرعة إلا امتحانا إلهيا للإنسان في مختلف مواقف الحياة و إن شئت فقل: إخراجا له من القوة إلى الفعل في جانبي السعادة و الشقاوة، و إن شئت فقل: تمييزا لحزب الرحمن و عباده من حزب الشيطان فقد اختلف التعبير عنه في الكتاب العزيز، و مآل الجميع إلى معنى واحد، قال تعالى جريا على مسلك الامتحان: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين ءامنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين و ليمحص الله الذين ءامنوا و يمحق الكافرين أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين»: آل عمران: 124 إلى غير ذلك من الآيات.
و قال جريا على المسلك الثاني: «فإما يأتينكم مني هدى فمن اتبع هداي فلا يضل و لا يشقى و من أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا و نحشره يوم القيامة أعمى»: طه: 142.
و قال جريا على المسلك الثالث: «و إذ قال ربك للملائكة إني خالق بشرا - إلى أن قال - قال رب بما أغويتني لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين إلا عبادك منهم المخلصين قال هذا صراط علي مستقيم إن عبادي ليس لك عليهم سلطان إلا من اتبعك من الغاوين و إن جهنم لموعدهم أجمعين»: الحجر: 43 إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة لما كانت العطايا الإلهية لنوع الإنسان من الاستعداد و التهيؤ مختلفة باختلاف الأزمان، و كانت الشريعة و السنة الإلهية الواجب إجراؤها بينهم لتتميم سعادة حياتهم و هي الامتحانات الإلهية تختلف لا محالة باختلاف مراتب الاستعدادات و تنوعها أنتج ذلك لزوم اختلاف الشرائع، و لذلك علل تعالى ما ذكره من اختلاف الشرعة و المنهاج بأن إرادته تعلقت ببلائكم و امتحانكم فيما أنعم عليكم فقال: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا و لو شاء الله لجعلكم أمة واحدة و لكن ليبلوكم فيما ءاتاكم».
فمعنى الآية - و الله أعلم -: لكل أمة جعلنا منكم جعلا تشريعيا شرعة و منهاجا و لو شاء الله لأخذكم أمة واحدة و شرع لكم شريعة واحدة، و لكن جعل لكم شرائع مختلفة ليمتحنكم فيما ءاتاكم من النعم المختلفة، و اختلاف النعم كان يستدعي اختلاف الامتحان الذي هو عنوان التكاليف و الأحكام المجعولة فلا محالة ألقي الاختلاف بين الشرائع.
و هذه الأمم المختلفة هي أمم نوح و إبراهيم و موسى و عيسى و محمد صلى الله عليه و آله و عليهم كما يدل عليه ما يمتن الله به على هذه الأمة بقوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى: الشورى: 13.
قوله تعالى: «فاستبقوا الخيرات إلى الله مرجعكم جميعا» إلخ الاستباق أخذ السبق، و المرجع مصدر ميمي من الرجوع، و الكلام متفرع على قوله: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا» بما له من لازم المعنى أي و جعلنا هذه الشريعة الحقة المهيمنة على سائر الشرائع شريعة لكم، و فيه خيركم و صلاحكم لا محالة فاستبقوا الخيرات و هي الأحكام و التكاليف، و لا تشتغلوا بأمر هذه الاختلافات التي بينكم و بين غيركم فإن مرجعكم جميعا إلى ربكم تعالى فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون و يحكم بينكم حكما فصلا، و يقضي قضاء عدلا.
قوله تعالى: «و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع»، هذا الصدر يتحد مع ما في الآية السابقة من قوله: «فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم»، ثم يختلفان فيما فرع على كل منهما، و يعلم منه أن التكرار لحيازة هذه الفائدة فالآية الأولى تأمر بالحكم بما أنزل الله و تحذر اتباع أهواء الناس لأن هذا الذي أنزله الله هي الشريعة المجعولة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لأمته فالواجب عليهم أن يستبقوا هذه الخيرات، و الآية الثانية تأمر بالحكم بما أنزل الله، و تحذر اتباع أهواء الناس و تبين أن توليهم إن تولوا عما أنزل الله كاشف عن إضلال إلهي لهم لفسقهم و قد قال الله تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26.
فيتحصل مما تقدم أن هذه الآية بمنزلة البيان لبعض ما تتضمنه الآية السابقة من المعاني المفتقرة إلى البيان، و هو أن إعراض أرباب الأهواء عن اتباع ما أنزل الله بالحق إنما هو لكونهم فاسقين، و قد أراد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم الموجبة لفسقهم، و الإصابة هو الإضلال ظاهرا، فقوله: «و أن احكم بينهم بما أنزل الله» عطف على الكتاب في قوله: «و أنزلنا إليك الكتاب» كما قيل، و الأنسب حينئذ أن يكون اللام فيه مشعرة بالتلميح إلى المعنى الحدثي، و يصير المعنى: و أنزلنا إليك ما كتب عليهم من الأحكام و أن احكم بينهم بما أنزل الله إلخ.
و قوله: «و احذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك» أمره تعالى نبيه بالحذر عن فتنتهم مع كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) معصوما بعصمة الله إنما هو من جهة أن قوة العصمة لا توجب بطلان الاختيار و سقوط التكاليف المبنية عليه فإنها من سنخ الملكات العلمية، و العلوم و الإدراكات لا تخرج القوى العاملة و المحركة في الأعضاء و الأعضاء الحاملة لها عن استواء نسبة الفعل و الترك إليها.
كما أن العلم الجازم بكون الغذاء مسموما يعصم الإنسان عن تناوله و أكله، لكن الأعضاء المستخدمة للتغذي كاليد و الفم و اللسان و الأسنان من شأنها أن تعمل عملها في هذا الأكل و تتغذى به، و من شأنها أن تسكن فلا تعمل شيئا مع إمكان العمل لها فالفعل اختياري و إن كان كالمستحيل صدوره ما دام هذا العلم.
و قد تقدم شطر من الكلام في ذلك في الكلام على قوله تعالى: «و ما يضرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما»: النساء: 131.
و قوله: «فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم» بيان لأمر إضلالهم إثر فسقهم كما تقدم، و فيه رجوع إلى بدء الكلام في هذه الآيات: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» إلخ ففيه تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و تطييب لنفسه، و تعليم له ما لا يدب معه الحزن في قلبه، و هكذا فعل الله سبحانه في جل الموارد التي نهى فيها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يحزن على توليهم عن الدعوة الحقة و استنكافهم عن قبول ما يرشدهم إلى سبيل الرشاد و الفلاح فبين له (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم ليسوا بمعجزين لله في ملكه و لا غالبين عليه بل الله غالب على أمره، و هو الذي يضلهم بسبب فسقهم، و يزيغ قلوبهم عن زيغ منهم، و يجعل الرجس عليهم بسلب توفيقه عنهم و استدراجه إياهم، قال تعالى: «و لا يحسبن الذين كفروا سبقوا إنهم لا يعجزون»: الأنفال: 59 و إذا كان الأمر إلى الله سبحانه، و هو الذي يذب عن ساحة دينه الطاهرة كل رجس نجس فلم يفته شيء مما أراده و لا وجه للحزن إذا لم يكن فائت.
و لعله إلى ذلك الإشارة بقوله: «فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله» إلخ دون أن يقال: فإن تولوا فإنما يريد الله إلخ أو ما يؤدي معناه فيئول المعنى إلى تعليم أن توليهم أنما هو بتسخير إلهي فلا ينبغي أن يحزن ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه رسول داع إلى سبيل ربه إن أحزنه شيء فإنما ينبغي أن يحزنه لغلبته إرادة الله في أمر الدعوة الدينية، و إذا كان الله سبحانه لا يعجزه شيء بل هو الذي يسوقهم إلى هنا و هناك بتسخير إلهي و توفيق و مكر فلا موجب للحزن.
و قد بين تعالى هذه الحقيقة بلسان آخر في قوله: «و لعلك باخع نفسك على آثارهم إن لم يؤمنوا بهذا الحديث أسفا إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا و إنا لجاعلون ما عليها صعيدا جرزا»: الكهف: 8 فبين أن الله تعالى لم يرد بإرسال الرسل و الإنذار و التبشير الديني إيمان الناس جميعا على حد ما يريده الإنسان في حوائجه و مآربه، و إنما ذلك كله امتحان و ابتلاء يبتلى به الناس ليمتاز به من هو أحسن عملا، و إلا فالدنيا و ما فيها ستبطل و تفنى فلا يبقى إلا الصعيد العاري من هؤلاء الكفار المعرضين عن الحديث الحق، و من كل ما يتعلق به قلوبهم فلا موجب للأسف إذ لا يجر ذلك خيبة إلى سعينا و لا بطلانا لقدرتنا و كلالا لإرادتنا.
و قوله: «و إن كثيرا من الناس لفاسقون» في محل التعليل لقوله: «إنما يريد الله أن يصيبهم» إلخ على ما تقدم بيانه.
قوله تعالى: «أ فحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما لقوم يوقنون» تفريع بنحو الاستفهام على ما بين في الآية السابقة من توليهم مع كون ما يتولون عنه هو حكم الله النازل إليهم و الحق الذي علموا أنه حق، و يمكن أن يكون في مقام النتيجة اللازمة لما بين في جميع الآيات السابقة.
و المعنى: و إذا كانت هذه الأحكام و الشرائع حقة نازلة من عند الله و لم يكن وراءها حكم حق لا يكون دونها إلا حكم الجاهلية الناشئة عن اتباع الهوى فهؤلاء الذين يتولون عن الحكم الحق ما ذا يريدون بتوليهم و ليس هناك إلا حكم الجاهلية؟ أ فحكم الجاهلية يبغون و الحال أنه ليس أحد أحسن حكما من الله لهؤلاء المدعين للإيمان؟.
فقوله: «أ فحكم الجاهلية يبغون» استفهام توبيخي، و قوله: «و من أحسن من الله حكما» استفهام إنكاري أي لا أحد أحسن حكما من الله، و إنما يتبع الحكم لحسنه، و قوله: «لقوم يوقنون» في أخذ وصف اليقين تعريض لهم بأنهم إن صدقوا في دعواهم الإيمان بالله فهم يوقنون بآياته، و الذين يوقنون بآيات الله ينكرون أن يكون أحد أحسن حكما من الله سبحانه.
و اعلم أن في الآيات موارد من الالتفات من التكلم وحده أو مع الغير إلى الغيبة و بالعكس كقوله: «إن الله يحب المقسطين» ثم قوله: «إنا أنزلنا التوراة» ثم قوله: «بما استحفظوا من كتاب الله» ثم قوله: «و اخشون» و هكذا، فما كان منها يختار فيه الغيبة بلفظ الجلالة فإنما يراد به تعظيم الأمر بتعظيم صاحبه.
و ما كان منها بلفظ المتكلم وحده فيراد به أن الأمر إلى الله وحده لا يداخله ولي و لا يشفع فيه شفيع، فإذا كان ترغيبا أو وعدا فإنما القائم به هو الله سبحانه، و هو أكرم من يفي بوعده، و إذا كان تحذيرا أو إيعادا فهو أشد و أشق و لا يصرف عن الإنسان بشفيع و لا ولي إذ الأمر إلى الله نفسه و قد نفي كل واسطة و رفع كل سبب متخلل فافهم ذلك، و قد مر بعض الكلام فيه في بعض المباحث السابقة.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «يا أيها الرسول - لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» الآية عن الباقر (عليه السلام): أن امرأة من خيبر ذات شرف بينهم زنت مع رجل من أشرافهم و هما محصنان، فكرهوا رجمهما، فأرسلوا إلى يهود المدينة و كتبوا إليهم أن يسألوا النبي عن ذلك طمعا في أن يأتي لهم برخصة فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف و كعب بن أسيد و شعبة بن عمرو و مالك بن الصيف و كنانة بن أبي الحقيق و غيرهم فقالوا: يا محمد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا ما حدهما؟ فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك؟ قالوا: نعم، فنزل جبرائيل بالرجم فأخبرهم بذلك فأبوا أن يأخذوا به فقال جبرائيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا و وصفه له. فقال النبي: هل تعرفون شابا أمرد أبيض أعور يسكن فدكا يقال له: ابن صوريا؟ قالوا: نعم، قال: فأي رجل هو فيكم؟ قالوا: أعلم يهودي بقي على ظهر الأرض بما أنزل الله على موسى، قال: فأرسلوا إليه ففعلوا فأتاهم عبد الله بن صوريا. فقال له النبي: إني أنشدك الله الذي لا إله إلا هو الذي أنزل التوراة على موسى، و فلق لكم البحر و أنجاكم و أغرق آل فرعون، و ظلل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المن و السلوى هل تجدون في كتابكم الرجم على من أحصن؟ قال ابن صوريا: نعم و الذي ذكرتني به لو لا خشية أن يحرقني رب التوراة إن كذبت أو غيرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هي في كتابك يا محمد؟ قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنه قد أدخله فيها كما يدخل الميل في المكحلة وجب عليه الرجم، قال ابن صوريا: هكذا أنزل الله في التوراة على موسى. فقال له النبي: فما ذا كان أول ما ترخصتم به أمر الله؟ قال: كنا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحد فكثر الزنا في أشرافنا حتى زنى ابن عم ملك لنا فلم نرجمه، ثم زنى رجل آخر فأراد الملك رجمه فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا يعنون ابن عمه فقلنا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم يكون على الشريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلدا أربعين جلدة ثم يسود وجوههما ثم يحملان على حمارين، و يجعل وجوههما من قبل دبر الحمار و يطاف بهما فجعلوا هذا مكان الرجم. فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به! و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنك كنت غائبا فكرهنا أن نغتابك فقال: إنه أنشدني بالتوراة، و لو لا ذلك لما أخبرته به، فأمر بهما النبي فرجما عند باب مسجده، و قال: أنا أول من أحيا أمرك إذا أماتوه فأنزل الله فيه: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب - و يعفوا عن كثير» فقام ابن صوريا فوضع يديه على ركبتي رسول الله ثم قال: هذا مقام العائذ بالله و بك أن تذكر لنا الكثير الذي أمرت أن تعفو عنه فأعرض النبي عن ذلك. ثم سأله ابن صوريا عن نومه فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي، فقال: صدقت، و أخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمه شيء أو بأمه ليس فيه من شبه أبيه شيء، فقال: أيهما علا و سبق ماء صاحبه كان الشبه له قال: قد صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد و ما للمرأة منه؟ قال: فأغمي على رسول الله طويلا ثم خلى عنه محمرا وجهه يفيض عرقا فقال: اللحم و الدم و الظفر و الشحم للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل قال له: صدقت، أمرك أمر نبي. فأسلم ابن صوريا عند ذلك و قال: يا محمد من يأتيك من الملائكة؟ قال: جبرائيل قال: صفه لي فوصفه النبي فقال: اشهد أنه في التوراة كما قلت: و أنك رسول الله حقا. فلما أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه، فلما أرادوا أن ينهضوا تعلقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمد إخواننا بنو النضير أبونا واحد، و ديننا واحد، و نبينا واحد إذا قتلوا منا قتيلا لم يقد، و أعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل و أخذوا منا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا به الرجل منا، و بالرجل منهم رجلين منا، و بالعبد الحر منا و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم فأنزل الله في الرجم و القصاص الآيات: أقول: و أسند الطبرسي في المجمع، إلى رواية جماعة من المفسرين مضافا إلى روايته عن الباقر (عليه السلام)، و روي ما يقرب من صدر القصة في جوامع أهل السنة و تفاسيرهم بعدة طرق عن أبي هريرة و براء بن عازب و عبد الله بن عمر و ابن عباس و غيرهم، و الروايات متقاربة، و روي ذيل القصة في الدر المنثور، عن عبد بن حميد و أبي الشيخ عن قتادة، و عن ابن جرير و ابن إسحاق و الطبراني و ابن أبي شيبة و ابن المنذر و غيرهم عن ابن عباس.
أما ما وقع في الرواية من تصديق ابن صوريا وجود حكم الرجم في التوراة و أنه المراد بقوله: «و كيف يحكمونك و عندهم التوراة فيها حكم الله» الآية فيؤيده أيضا وجود الحكم في التوراة الدائرة اليوم بنحو يقرب مما في الحديث.
ففي الإصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة ما هذا نصه: +" 22 إذا وجد رجل مضطجعا مع امرأة زوجة بعل يقتل الاثنان: الرجل المضطجع مع المرأة و المرأة فتنزع الشر من إسرائيل 23 إذا كانت فتاة عذراء مخطوبة لرجل فوجدها رجل في المدينة و اضطجع معها 24 فأخرجوهما كليهما إلى باب تلك المدينة و ارجموهما بالحجارة حتى يموتا: الفتاة من أجل أنها لم تصرخ في المدينة، و الرجل من أجل أنه أذل امرأة صاحبه فتنزع الشر من وسطك.
و هذا كما ترى يخص الرجم ببعض الصور.
و أما ما وقع في الرواية من سؤالهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الدية مضافا إلى سؤالهم عن حكم زنا المحصن فقد تقدم أن الآيات لا تخلو عن تأييد لذلك، و الذي ذكرته الآية في حكم القصاص في القتل و الجرح أنه مكتوب في التوراة فهو موجود في التوراة الدائرة اليوم: في الإصحاح الحادي و العشرين من سفر الخروج من التوراة ما نصه: " 12 من ضرب إنسانا فمات يقتل قتلا 13 و لكن الذي لم يتعمد بل أوقع الله في يد فأنا أجعل لك مكانا يهرب إليه... 23 و إن حصلت أذية تعطي نفسا بنفس 24 و عينا بعين و سنا بسن و يدا بيد و رجلا برجل 25 و كيا بكي و جرحا بجرح و رضا برض ". و في الإصحاح الرابع و العشرين من سفر اللاويين ما نصه: " 17 و إذا أمات أحد إنسانا فإنه يقتل 18 و من أمات بهيمة فإنه يعوض عنها نفسا بنفس 19 و إذا أحدث إنسان في قرينه عيبا فكما فعل كذلك يفعل به 20 كسر بكسر و عين بعين و سن بسن كما أحدث عيبا في الإنسان كذلك يحدث فيه ".
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود بن جرير و ابن المنذر و الطبراني و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: إن الله أنزل: «و من لم يحكم بما أنزل الله - فأولئك هم الكافرون، الظالمون، الفاسقون»، أنزلها الله في طائفتين من اليهود قهرت إحداهما الأخرى في الجاهلية حتى ارتضوا و اصطلحوا على أن كل قتل قتلته العزيزة من الذليلة فديته خمسون وسقا، و كل قتيل قتلته الذليلة من العزيزة فديته مائة وسق فكانوا على ذلك حتى قدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فنزلت الطائفتان كلتاهما لمقدم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومئذ لم يظهر عليهم فقامت الذليلة فقالت: و هل كان هذا في حيين قط: دينهما واحد، و نسبهما واحد، و بلدهما واحد، و دية بعضهم نصف دية بعض؟ إنما أعطيناكم هذا ضيما منكم لنا و فرقا منكم فأما، إذ قدم محمد فلا نعطيكم ذلك فكادت الحرب تهيج بينهم ثم ارتضوا على أن يجعلوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم ففكرت العزيزة فقالت: و الله ما محمد بمعطيكم منهم ضعف ما يعطيهم منكم، و لقد صدقوا ما أعطونا هذا إلا ضيما و قهرا لهم، فدسوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبر الله رسوله بأمرهم كله و ما ذا أرادوا فأنزل الله: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر إلى قوله و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الفاسقون» ثم قال: فيهم و الله أنزلت.
أقول: و روى القصة القمي في تفسيره في حديث طويل و فيه: أن عبد الله بن أبي هو الذي كان يتكلم عن بني النضير و هي العزيزة و يخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أمرهم، و أنه كان هو القائل: «إن أوتيتم هذا فخذوه و إن لم تؤتوه فاحذروا».
و الرواية الأولى أصدق متنا من هذه لأن مضمونها أوفق و أكثر انطباقا على سياق الآيات فإن أوائل الآيات و خاصة الآيتين الأوليين لا تنطبق سياقا على ما ذكر من قصة الدية بين بني النضير و بني قريظة كما لا يخفى على العارف بأساليب الكلام، و ليس من البعيد أن يكون الرواية من قبيل تطبيق القصة على القرآن على حد كثير من روايات أسباب النزول، فكأن الراوي وجد القصة تنطبق على مثل قوله: «و كتبنا عليهم فيها أن النفس بالنفس» الآية و ما قبلها، ثم رأى اتصال الآيات بادئة من قوله: «يا أيها الرسول لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» الآية فأخذ جميع الآيات نازلة في هذه القصة، و قد غفل عن قصة الرجم.
و الله أعلم.
و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله إذا أراد بعبد خيرا نكت في قلبه نكتة بيضاء، و فتح مسامع قلبه، و وكل به ملكا يسدده، و إذا أراد الله بعبد سوءا نكت في قلبه نكتة سوداء، و سد مسامع قلبه و وكل به شيطانا يضله. ثم تلا هذه الآية: «فمن يرد الله أن يهديه يشرح صدره للإسلام - و من يرد أن يضله يجعل صدره ضيقا حرجا» الآية و قال: «إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون» و قال: «أولئك الذين لم يرد الله أن يطهر قلوبهم».
و في الكافي، بإسناده عن السكوني عن أبي عبد الله قال: السحت ثمن الميتة و ثمن الكلب و ثمن الخمر و مهر البغي و الرشوة في الحكم و أجر الكاهن.
أقول: ما ذكره في الرواية إنما هو تعداد من غير حصر، و أقسام السحت كثيرة كما في الروايات، و في هذا المعنى و ما يقرب منه روايات كثيرة من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد عن علي بن أبي طالب: أنه سئل عن السحت فقال: الرشا. فقيل له: في الحكم؟ قال: ذاك الكفر.
أقول: قوله: «ذاك الكفر» كأنه إشارة إلى ما وقع بين الآيات المبحوث عنها من قوله تعالى في سياق ذم السحت و الارتشاء في الحكم: «و لا تشتروا بآياتي ثمنا قليلا و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» و قد تكرر في الروايات عن الباقر و الصادق (عليهما السلام) أنهما قالا: و أما الرشا في الحكم فإن ذلك الكفر بالله و برسوله، و الروايات في تفسير السحت و حرمته كثيرة مروية من طرق الشيعة و أهل السنة مودعة في جوامعهم.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «فإن جاءوك فاحكم بينهم» الآية: أخرج ابن أبي حاتم و النحاس في ناسخه و الطبراني و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في سننه عن ابن عباس قال: آيتان نسختا من هذه السورة يعني من المائدة: آية القلائد و قوله: «فإن جاءوك فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» فكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مخيرا إن شاء حكم بينهم و إن شاء أعرض عنهم فردهم إلى أحكامهم، فنزلت: «و أن احكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم» قال: فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحكم بينهم بما في كتابنا.
و فيه، أخرج أبو عبيد و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «فاحكم بينهم أو أعرض عنهم» قال: نسختها هذه الآية و أن احكم بينهم بما أنزل الله»: أقول: و روي أيضا عن عبد الرزاق عن عكرمة مثله، و المتحصل من مضمون الآيات لا يوافق هذا النسخ فإن الاتصال الظاهر من سياق الآيات يقضي بنزولها دفعه واحدة و لا معنى حينئذ لنسخ بعضها بعضا، على أن قوله تعالى: «و أن احكم بينهم بما أنزل الله»، آية غير مستقلة في معناها بل مرتبطة بما تقدمها و لا وجه على هذا لكونها ناسخة، و لو صح النسخ مع ذلك كان ما قبلها أعني قوله: «فاحكم بينهم بما أنزل الله»، في الآية السابقة أحق بالنسخ منها.
على أنك قد عرفت أن الأظهر رجوع الضمير في قوله تعالى: «بينهم» إلى الناس مطلقا دون أهل الكتاب أو اليهود خاصة، على أنه قد تقدم في أوائل الكلام على السورة: أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور»: الآية عن أبي عمرو الزبيري عن أبي عبد الله (عليه السلام): أن مما استحقت به الإمامة: التطهير و الطهارة من الذنوب و المعاصي الموبقة التي توجب النار ثم العلم المنور و في نسخة: المكنون بجميع ما يحتاج إليه الأمة من حلالها و حرامها، و العلم بكتابها خاصه و عامه، و المحكم و المتشابه و دقائق علمه، و غرائب تأويله، و ناسخه و منسوخه. قلت: و ما الحجة بأن الإمام لا يكون إلا عالما بهذه الأشياء التي ذكرت؟ قال: قول الله فيمن أذن الله لهم في الحكومة و جعلهم أهلها: «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور - يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا و الربانيون و الأحبار» فهذه الأئمة دون الأنبياء الذين يربون الناس بعلمهم، و أما الأحبار فهم العلماء دون الربانيين، ثم أخبر فقال: «بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» و لم يقل بما حملوا منه.
أقول: و هذا استدلال لطيف منه (عليه السلام) يظهر به عجيب معنى الآية و هو معنى أدق مما تقدم بيانه و محصله: أن الترتيب الذي اتخذته الآية في العد فذكرت الأنبياء ثم الربانيين ثم الأحبار يدل على ترتبهم بحسب الفضل و الكمال: فالربانيون دون الأنبياء و فوق الأحبار، و الأحبار هم علماء الدين الذين حملوا علمه بالتعليم و التعلم.
و قد أخبر الله سبحانه عن نحو علم الربانيين بقوله: «بما استحفظوا من كتاب الله و كانوا عليه شهداء» و لو كان المراد بذلك نحو علم العلماء لقيل: بما حملوا كما قال: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها»: الآية الجمعة: 5. فإن الاستحفاظ هو سؤال الحفظ، و معناه التكليف بالحفظ نظير قوله: «ليسأل الصادقين عن صدقهم»: الأحزاب: 8 أي ليكلفهم بأن يظهروا ما كمن في نفوسهم من صفة الصدق، و هذا الحفظ ثم الشهادة على الكتاب لا يتمان إلا مع عصمة ليست من شأن غير الإمام المعصوم من قبل الله سبحانه فإن الله سبحانه بنى إذنه لهم في الحكم على حفظهم للكتاب، و اعتبر شهادتهم بانيا ذلك عليه، و من المحال أن يعتبر شهادتهم على الكتاب، و هي التي يثبت بها الكتاب مع جواز الخطإ و الغلط عليهم.
فهذا الحفظ و الشهادة غير الحفظ و الشهادة اللذين بيننا معاشر الناس، بل من قبيل حفظ الأعمال و الشهادة التي تقدم في قوله تعالى: «لتكونوا شهداء على الناس و يكون الرسول عليكم شهيدا»: البقرة: 134 و قد مر في الجزء الأول من الكتاب.
و نسبة هذا الحفظ و الشهادة إلى الجميع مع كون القائم بهما البعض كنسبة الشهادة على الأعمال إلى جميع الأمة مع كون القائم بها بعضهم، و هو استعمال شائع في القرآن نظير قوله تعالى: «و لقد آتينا بني إسرائيل الكتاب و الحكم و النبوة»: الجاثية: 16.
و هذا لا ينافي تكليف الأحبار بالحفظ و الشهادة و أخذ الميثاق منهم بذلك لأنه ثبوت شرعي اعتباري غير الثبوت الحقيقي الذي يتوقف على حفظ حقيقي خال عن الغلط و الخطإ، و الدين الإلهي كما لا يتم من دون هذا لا يتم من دون ذاك.
فثبت أن هناك منزلة بين منزلتي الأنبياء و الأحبار، و هي منزلة الأئمة و قد أخبر به الله سبحانه في قوله: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: السجدة: 24 و لا ينافيه قوله: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب نافلة و كلا جعلنا صالحين و جعلناهم أئمة يهدون بأمرنا»: الأنبياء: 73 فإن اجتماع النبوة و الإمامة في جماعة لا ينافي افتراقهما في غيرهم، و قد تقدم شطر من الكلام في الإمامة في قوله تعالى: «و إذ ابتلى إبراهيم ربه بكلمات» الآية: البقرة: 142 في الجزء الأول من الكتاب.
و بالجملة للربانيين و الأئمة و هم البرازخ بين الأنبياء و الأحبار العلم بحق الكتاب و الشهادة عليه بحق الشهادة.
و هذا في الربانيين و الأئمة من بني إسرائيل لكن الآية تدل على أن ذلك لكون التوراة كتابا منزلا من عند الله سبحانه مشتملا على هدى و نور أي المعارف الاعتقادية و العملية التي تحتاج إليها الأمة، و إذا كان ذلك هو المستدعي لهذا الاستحفاظ و الشهادة للذين لا يقوم بهما إلا الربانيون و الأئمة كان هذا حال كل كتاب منزل من عند الله مشتمل على معارف إلهية و أحكام عملية و بذلك يثبت المطلوب.
فقوله (عليه السلام): «فهذه الأئمة دون الأنبياء» أي هم أخفض منزلة من الأنبياء بحسب الترتيب المأخوذ في الآية كما أن الأحبار - و هم العلماء - دون الربانيين، و قوله: «يربون الناس بعلمهم» ظاهر في أنه (عليه السلام) أخذ لفظ الرباني من مادة التربية دون الربوبية، و قد اتضح معاني بقية فقرات الرواية بما قدمناه من محصل المعنى.
و لعل هذا المعنى هو مراده (عليه السلام) فيما رواه العياشي أيضا عن مالك الجهني قال: قال أبو جعفر (عليه السلام): «إنا أنزلنا التوراة فيها هدى و نور إلى قوله بما استحفظوا من كتاب الله» قال: فينا نزلت.
و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون»: عن الكافي، بإسناده عن عبد الله بن مسكان رفعه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من حكم في درهمين بحكم جور ثم جبر عليه كان من أهل هذه الآية: «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون» فقلت: و كيف يجبر عليه؟ فقال: يكون له سوط و سجن فيحكم عليه فإن رضي بحكمه و إلا ضربه بسوطه و حبسه في سجنه: أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، بإسناده عن ابن مسكان مرفوعا عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و رواه العياشي في تفسيره مرسلا عنه.
و معنى صدر الحديث مروي بطرق أخرى أيضا عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام).
و المراد بتقييد الحكم بالجبر إفادة أن يكون الحكم مما يترتب عليه الأثر فيكون حكما فصلا بحسب نفسه بالطبع و إلا فمجرد الإنشاء لا يسمى حكما.
و في الدر المنثور، أخرج سعيد بن منصور و أبو الشيخ و ابن مردويه عن ابن عباس قال: إنما أنزل الله «و من لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون، و الظالمون، و الفاسقون في اليهود خاصة.
أقول: فيه: أن الآيات الثلاث مطلقة لا دليل على تقييدها، و المورد لا يوجب التصرف في إطلاق اللفظ، على أن مورد الآية الثالثة النصارى دون اليهود، على أن ابن عباس قد روي عنه ما يناقض ذلك.
و فيه، أخرج عبد بن حميد عن حكيم بن جبير قال: سألت سعيد بن جبير عن هذه الآيات في المائدة، قلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل و لم تنزل علينا قال: اقرأ ما قبلها و ما بعدها فقرأت عليه فقال: لا، بل نزلت علينا، ثم لقيت مقسما مولى ابن عباس فسألته عن هؤلاء الآيات التي في المائدة قلت: زعم قوم أنها نزلت على بني إسرائيل و لم ينزل علينا قال: إنه نزل على بني إسرائيل و نزل علينا، و ما نزل علينا و عليهم فهو لنا و لهم. ثم دخلت على علي بن الحسين فسألته عن هذه الآيات التي في المائدة و حدثته أني سألت عنها سعيد بن جبير و مقسما قال: فما قال مقسم؟ فأخبرته بها، قال: قال: صدق و لكنه كفر ليس ككفر الشرك، و فسق ليس كفسق الشرك، و ظلم ليس كظلم الشرك. فلقيت سعيد بن جبير فأخبرته بما قال فقال سعيد بن جبير لابنه: كيف رأيته؟ لقد وجدت له فضلا عليك و على مقسم.
أقول: قد ظهر انطباق الرواية على ما يظهر من الآية فيما تقدم من البيان.
و في الكافي، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) و في تفسير العياشي، عن أبي بصير عنه (عليه السلام): في قوله تعالى: «فمن تصدق به فهو كفارة له» الآية قال: يكفر عنه من ذنوبه بقدر ما عفا من جراح أو غيره.
و في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه عن رجل من الأنصار عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «فمن تصدق به فهو كفارة له» قال: الرجل تكسر سنه أو تقطع يده أو يقطع الشيء أو يجرح في بدنه فيعفو عن ذلك فيحط عنه قدر خطاياه فإن كان ربع الدية فربع خطاياه، و إن كان الثلث فثلث خطاياه، و إن كانت الدية حطت عنه خطاياه كذلك: أقول: و روي مثله أيضا عن الديلمي عن ابن عمر، و لعل ما وقع في هذه الرواية و الرواية السابقة عليها من انقسام التكفير بحسب انقسام العفو مستفاد من تنزيل الدية شرعا - و هي منقسمة - منزلة القصاص ثم توزين القصاص و الدية جميعا بمغفرة الذنوب و هي أيضا منقسمة فينطبق البعض على البعض كما انطبق الكل على الكل.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لكل جعلنا منكم شرعة و منهاجا» قال: لكل نبي شريعة و طريق.
و في تفسير البرهان،: في قوله تعالى: «أ فحكم الجاهلية يبغون»،: عن الكافي بإسناده عن أحمد بن محمد بن خالد عن أبيه رفعه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القضاة أربعة: ثلاثة في النار و واحد في الجنة: رجل يقضي بجور و هو يعلم فهو في النار، و رجل قضى بجور و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو لا يعلم فهو في النار، و رجل قضى بالحق و هو يعلم فهو في الجنة.
و قال (عليه السلام): الحكم حكمان: حكم الله و حكم الجاهلية فمن أخطأ حكم الله حكم بحكم الجاهلية.
أقول: و في المعنيين جميعا أخبار كثيرة من طرق الشيعة و أهل السنة مودعة في أخبار القضاء و الشهادات، و الآية تشعر بل تدل على المعنيين جميعا: أما بالنسبة إلى المعنى الأول فلأن الحكم بالجور سواء علم به أو حكم بغير علم فكان جورا بالمصادفة و كذا الحكم بالحق من غير علم كل ذلك من اتباع الهوى و قد نهى الله عنه بقوله: «فاحكم بينهم بما أنزل الله و لا تتبع أهواءهم عما جاءك من الحق» فحذر اتباع الهوى في الحكم و قابل به الحكم بالحق فعلم بذلك أن العلم بالحق شرط في جواز الحكم و إلا لم يجز لأن فيه اتباع الهوى.
على أنه يصدق عليه حكم الجاهلية المقابل لحكم الله تعالى.
و أما المعنى الثاني و هو كون الحكم منقسما إلى حكم الجاهلية و حكم الله فهو مستفاد من ظاهر قوله تعالى: «أ فحكم الجاهلية يبغون و من أحسن من الله حكما» من حيث المقابلة الواقعة بين الحكمين، و الله أعلم.
و في تفسير الطبري، عن قتادة: في قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة - فيها هدى و نور يحكم بها النبيون الذين أسلموا للذين هادوا و الربانيون و الأحبار» قال: أما الربانيون ففقهاء اليهود و أما الأحبار فعلماؤهم، قال: و ذكر لنا أن نبي الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال لما أنزلت هذه الآية: نحن نحكم على اليهود و على من سواهم من أهل الأديان.
أقول: و رواه السيوطي، أيضا في قوله تعالى: «إنا أنزلنا التوراة» الآية عن عبد بن حميد و عن ابن جرير عن قتادة.
و ظاهر الرواية أن المنقول من قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) متعلق بالآية أي أن الآية هي الحجة في ذلك فيشكل بأن الآية لا تدل إلا على الحكم بالتوراة على اليهود لقوله تعالى: «للذين هادوا» لا على غير اليهود و لا على الحكم بغير التوراة كما هو ظاهر الرواية إلا أن يراد بقوله: «نحن نحكم»، أن الأنبياء يحكمون كذا و كذا، و هو مع كونه معنى سخيفا لا يرتبط بالآية.
و الظاهر أن بعض الرواة غلط في نقل الآية، و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إنما قاله بعد نزول قوله تعالى: «و أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاحكم بينهم بما أنزل الله» الآيات و ينطبق على ما تقدم أن ظاهر الآية رجوع الضمير في قوله: «بينهم» إلى الناس دون اليهود خاصة.
فأخذ الراوي الآية مكان الآية
|