بيان
معنى الآية في نفسها ظاهر فإنها تتضمن أمر الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتبليغ في صورة التهديد، و وعده (صلى الله عليه وآله وسلم) بالعصمة من الناس، غير أن التدبر في الآية من حيث وقوعها موقعها الذي وقعت فيه، و قد حففتها الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب و ذمهم و توبيخهم بما كانوا يتعاورونه من أقسام التعدي إلى محارم الله و الكفر بآياته.
و قد اتصلت بها من جانبيها الآيتان، أعني قوله: «و لو أنهم أقاموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليهم من ربهم لأكلوا من فوقهم و من تحت أرجلهم» الآية، و قوله تعالى: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم» الآية.
ثم الإمعان في التدبر في نفس الآية و ارتباط الجمل المنضودة فيها يزيد الإنسان عجبا على عجب.
فلو كانت الآية متصلة بما قبلها و ما بعدها في سياق واحد في أمر أهل الكتاب لكان محصلها أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أشد الأمر بتبليغ ما أنزله الله سبحانه في أمر أهل الكتاب، و تعين بحسب السياق أن المراد بما أنزل إليه من ربه هو ما يأمره بتبليغه في قوله: «قل يا أهل الكتاب لستم على شيء حتى تقيموا التوراة و الإنجيل و ما أنزل إليكم من ربكم» الآية.
و سياق الآية يأباه فإن قوله: «و الله يعصمك من الناس» يدل على أن هذا الحكم المنزل المأمور بتبليغه أمر مهم فيه مخافة الخطر على نفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو على دين الله تعالى من حيث نجاح تبليغه، و لم يكن من شأن اليهود و لا النصارى في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتوجه إليه من ناحيتهم خطر يسوغ له (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمسك عن التبليغ أو يؤخره إلى حين فيبلغ الأمر إلى حيث يحتاج إلى أن يعده الله بالعصمة منهم إن بلغ ما أمر به فيهم حتى في أوائل هجرته (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و عنده حدة اليهود و شدتهم حتى انتهى إلى وقائع خيبر و غيرها.
على أن الآية لا تتضمن أمرا شديدا و لا قولا حادا، و قد تقدم عليه تبليغ ما هو أشد و أحد و أمر من ذلك على اليهود، و قد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتبليغ ما هو أشد من ذلك كتبليغ التوحيد و نفي الوثنية إلى كفار قريش و مشركي العرب و هم أغلظ جانبا و أشد بطشا و أسفك للدماء، و أفتك من اليهود و سائر أهل الكتاب، و لم يهدده الله في أمر تبليغهم و لا آمنه بالعصمة منهم.
على أن الآيات المتعرضة لحال أهل الكتاب معظم أجزاء سورة المائدة فهي نازلة فيها قطعا، و اليهود كانت عند نزول هذه السورة قد كسرت سورتهم، و خمدت نيرانهم، و شملتهم السخطة و اللعنة كلما أوقدوا نارا للحرب أطفأها الله فلا معنى لخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم في دين الله، و قد دخلوا يومئذ في السلم في حظيرة الإسلام و قبلوا هم و النصارى الجزية، و لا معنى لتقريره تعالى له خوفه منهم و اضطرابه في تبليغ أمر الله إليهم، و هو أمر قد بلغ إليهم ما هو أعظم منه، و قد وقف قبل هذا الموقف فيما هو أهول منه و أوحش.
فلا ينبغي الارتياب في أن الآية لا تشارك الآيات السابقة عليها و اللاحقة لها في سياقها، و لا تتصل بها في سردها، و إنما هي آية مفردة نزلت وحدها.
و الآية تكشف عن أمر قد أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إما مجموع الدين أو بعض أجزائه و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف الناس من تبليغه و يؤخره إلى حين يناسبه، و لو لا مخافته و إمساكه لم يحتج إلى تهديده بقوله: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» كما وقع في آيات أول البعثة الخالية عن التهديد كقوله تعالى: «اقرأ باسم ربك الذي خلق» إلى آخر سورة العلق، و قوله: «يا أيها المدثر قم فأنذر»: «المدثر: 2»، و قوله: فاستقيموا إليه و استغفروه و ويل للمشركين»: «حم السجدة: 6»، إلى غير ذلك.
فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخافهم و لم يكن مخافته من نفسه في جنب الله سبحانه فهو أجل من أن يستنكف عن تفدية نفسه أو يبخل في شيء من أمر الله بمهجته فهذا شيء تكذبه سيرته الشريفة و مظاهر حياته، على أن الله شهد في رسله على خلاف ذلك كما قال تعالى: «ما كان على النبي من حرج فيما فرض الله له سنة الله في الذين خلوا من قبل و كان أمر الله قدرا مقدورا الذين يبلغون رسالات الله و يخشونه و لا يخشون أحدا إلا الله و كفى بالله حسيبا»: «الأحزاب: 39» و قد قال تعالى في أمثال هذه الفروض: «فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين»: «آل عمران - 157»، و قد مدح الله سبحانه طائفة من عباده بأنهم لم يخشوا الناس في عين أن الناس خوفوهم فقال: «الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل»: «آل عمران: 137».
و ليس من الجائز أن يقال: إنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاف على نفسه أن يقتلوه فيبطل بذلك أثر الدعوة و ينقطع دابرها فكان يعوقه إلى حين ليس فيه هذه المفسدة فإن الله سبحانه يقول له (صلى الله عليه وآله وسلم): «ليس لك من الأمر شيء»: «آل عمران: 182»، لم يكن الله سبحانه يعجزه لو قتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحيي دعوته بأي وسيلة من الوسائل شاء، و بأي سبب أراد.
نعم من الممكن أن يقدر لمعنى قوله: «و الله يعصمك من الناس» أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف الناس في أمر تبليغه أن يتهموه بما يفسد به الدعوة فسادا لا تنجح معه أبدا فقد كان أمثال هذا الرأي و الاجتهاد جائزا له مأذونا فيه من دون أن يرجع معنى الخوف إلى نفسه بشيء.
و من هنا يظهر أن الآية لم تنزل في بدء البعثة كما يراه بعض المفسرين إذ لا معنى حينئذ لقوله تعالى: «و الله يعصمك من الناس» إلا أن يكون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يماطل في إنجاز التبليغ خوفا من الناس على نفسه أن يقتلوه فيحرم الحياة أو أن يقتلوه و يذهب التبليغ باطلا لا أثر له فإن ذلك كله لا سبيل إلى احتماله.
على أن المراد بما أنزل إليه من ربه لو كان أصل الدين أو مجموعة في الآية عاد معنى قوله: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» إلى نحو قولنا: يا أيها الرسول بلغ الدين و إن لم تبلغ الدين فما بلغت الدين.
و أما جعله من قبيل قول أبي النجم: أنا أبو النجم و شعري شعري.
كما ذكره بعضهم أن معنى الآية: و إن لم تبلغ الرسالة فقد لزمك شناعة القصور في التبليغ و الإهمال في المسارعة إلى ايتمار ما أمرك به الله سبحانه، و أكده عليك كما أن معنى قول أبي النجم: إني أنا أبو النجم و شعري شعري المعروف بالبلاغة المشهور بالبراعة.
فإن ذلك فاسد لأن هذه الصناعة الكلامية إنما تصح في موارد العام و الخاص و المطلق و المقيد و نظائر ذلك فيفاد بهذا السياق اتحادهما كقول أبي النجم: شعري شعري أي لا ينبغي أن يتوهم على متوهم أن قريحتي كلت أو أن الحوادث أعيتني أن أقول من الشعر ما كنت أقوله فشعري الذي أقول اليوم هو شعري الذي كنت أقوله بالأمس.
و أما قوله تعالى: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» فليس يجري فيه مثل هذه العناية فإن الرسالة التي هي مجموع الدين أو أصله على تقدير نزول الآية في أول البعثة أمر واحد غير مختلف و لا متغير حتى يصح أن يقال: إن لم تبلغ هذه الرسالة فما بلغت تلك الرسالة أو لم تبلغ أصل الرسالة فإن المفروض أنه أصل الرسالة التي هي مجموع المعارف الدينية.
فقد تبين أن الآية بسياقها لا تصلح أن تكون نازلة في بدء البعثة و يكون المراد فيها بما أنزل إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) مجموع الدين أو أصله، و يتبين بذلك أنها لا تصلح أن تكون نازلة في خصوص تبليغ مجموع الدين أو أصله في أي وقت آخر غير بدء البعثة فإن الإشكال إنما ينشأ من جهة لزوم اللغو في قوله تعالى: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» كما مر.
على أن قوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» لا يلائم النزول في أي وقت آخر غير بدء البعثة على تقدير إرادة الرسالة بمجموع الدين أو أصله، و هو ظاهر.
على أن محذور دلالة قوله: «و الله يعصمك من الناس» على أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يخاف الناس في تبليغه على حاله.
فظهر أن ليس هذا الأمر الذي أنزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أكدت الآية تبليغه هو مجموع الدين أو أصله على جميع تقاديره المفروضة، فلنضع أنه بعض الدين، و المعنى: بلغ الحكم الذي أنزل إليك من ربك و إن لم تفعل فما بلغت رسالته «إلخ»، و لازم هذا التقدير أن يكون المراد بالرسالة مجموع ما حمله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) من الدين و رسالته، و إلا فالمحذور السابق و هو لزوم اللغو في الكلام على حاله إذ لو كان المراد بقوله: «رسالته» الرسالة الخاصة بهذا الحكم كان المعنى: بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغته، و هو لغو ظاهر.
فالمراد أن بلغ هذا الحكم و إن لم تبلغه فما بلغت أصل رسالته أو مجموعها، و هو معنى صحيح معقول، و حينئذ يرد الكلام نظير المورد الذي ورده قول أبي النجم: «أنا أبو النجم و شعري شعري».
و أما كون هذا الحكم بحيث لو لم يبلغ فكأنما لم تبلغ الرسالة فإنما ذلك لكون المعارف و الأحكام الدينية مرتبطة بعضها ببعض بحيث لو أخل بأمر واحد منها أخل بجميعها و خاصة في التبليغ لكمال الارتباط، و هذا التقدير و إن كان في نفسه مما لا بأس به لكن ذيل الآية و هو قوله: «و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين» لا يلائمه فإن هذا الذيل يكشف عن أن قوما كافرين من الناس هموا بمخالفة هذا الحكم النازل أو كان المترقب من حالهم أنهم سيخالفونه مخالفة شديدة، و يتخذون أي تدبير يستطيعونه لإبطال هذه الدعوة و تركه سدى لا يؤثر أثرا و لا ينفع شيئا و قد وعد الله رسوله أن يعصمه منهم، و يبطل مكرهم، و لا يهديهم في كيدهم.
و لا يستقيم هذا المعنى مع أي حكم نازل فرض فإن المعارف و الأحكام الدينية في الإسلام ليست جميعا في درجة واحدة ففيها التي هي عمود الدين، و فيها الدعاء عند رؤية الهلال، و فيها زنى المحصن و فيها النظر إلى الأجنبية، و لا يصح فرض هذه المخافة من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الوعد بالعصمة من الله مع كل حكم حكم منها كيفما كان بل في بعض الأحكام.
فليس استلزام عدم تبليغ هذا الحكم لعدم تبليغ غيره من الأحكام إلا لمكان أهميته و وقوعه من الأحكام في موقع لو أهمل أمره كان ذلك في الحقيقة إهمالا لأمر سائر الأحكام، و صيرورتها كالجسد العادم للروح التي بها الحياة الباقية و الحس و الحركة، و تكون الآية حينئذ كاشفة عن أن الله سبحانه كان قد أمر رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بحكم يتم به أمر الدين و يستوي به على عريشة القرار، و كان من المترقب أن يخالفه الناس و يقلبوا الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث تنهدم أركان ما بناه من بنيان الدين و تتلاشى أجزاؤه، و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يتفرس ذلك و يخافهم على دعوته فيؤخر تبليغه إلى حين بعد حين ليجد له ظرفا صالحا و جوا آمنا عسى أن تنجح فيه دعوته، و لا يخيب مسعاه فأمره الله تعالى بتبليغ عاجل، و بين له أهمية الحكم، و وعده أن يعصمه من الناس، و لا يهديهم في كيدهم، و لا يدعهم يقلبوا له أمر الدعوة.
و إنما يتصور تقليب أمر الدعوة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و إبطال عمله بعد انتشار الدعوة الإسلامية لا من جانب المشركين و وثنية العرب أو غيرهم كأن تكون الآية نازلة في مكة قبل الهجرة، و تكون مخافة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الناس من جهة افترائهم عليه و اتهامهم إياه في أمره كما حكاه الله سبحانه من قولهم: «معلم مجنون»: الدخان: 14».
و قولهم: «شاعر نتربص به ريب المنون»: «الطور: 30»: و قولهم: «ساحر أو مجنون»: «الذاريات: 52» و قولهم: «إن تتبعون إلا رجلا مسحورا»: «الإسراء: 47» و قولهم: «إن هذا إلا سحر يؤثر»: «المدثر: 24» و قولهم: «أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة و أصيلا»: «الفرقان: 5» و قولهم: «إنما يعلمه بشر»: «النحل: 130» و قولهم: «أن امشوا و اصبروا على آلهتكم إن هذا لشيء يراد»: «ص: 6» إلى غير ذلك من أقاويلهم فيه (صلى الله عليه وآله وسلم).
فهذه كلها ليست مما يوجب وهن قاعدة الدين، و إنما تدل - إذا دلت - على اضطراب القوم في أمرهم، و عدم استقامتهم فيه على أن هذه الافتراءات و المرامي لا تختص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يضطرب عند تفرسها و يخاف وقوعها فسائر الأنبياء و الرسل يشاركونه في الابتلاء بهذه البلايا و المحن، و مواجهة هذه المكاره من جملة أممهم كما حكاه الله تعالى عن نوح و من بعده من الأنبياء المذكورين في القرآن.
بل إن كان شيء - و لا بد - فإنما يتصور بعد الهجرة و استقرار أمر الدين في المجتمع الإسلامي و المسلمون كالمعجون الخليط من صلحاء مؤمنين و قوم منافقين أولي قوة لا يستهان بأمرهم، و آخرين في قلوبهم مرض و هم سماعون - كما نص عليه الكتاب العزيز - و هؤلاء كانوا يعاملون مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - في عين أنهم آمنوا به واقعا أو ظاهرا - معاملة الملوك، و مع دين الله معاملة القوانين الوضعية القومية كما يشعر بذلك طوائف من آيات الكتاب قد تقدم تفسير بعضها في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب.
فكان من الممكن أن يكون تبليغ بعض الأحكام مما يوقع في الوهم انتفاع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتشريعه و إجرائه يستوجب أن يقع في قلوبهم أنه ملك في صورة النبوة و قانون ملكي في هيئة الدين كما ربما وجد بعض شواهد ذلك في مطاوي كلمات بعضهم.
و هذه شبهة لو كانت وقعت هي أو ما يماثلها في قلوبهم ألقت إلى الدين من الفساد و الضيعة ما لا يدفعه أي قوة دافعة، و لا يصلحه أي تدبير مصلح فليس هذا الحكم النازل المأمور بتبليغه إلا حكما فيه توهم انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اختصاص له بمزية من المزايا الحيوية لا يشاركه فيها غيره من سائر المسلمين، نظير ما في قصة زيد و تعدد الأزواج و الاختصاص بخمس الغنائم و نظائر ذلك.
غير أن الخصائص إذا كانت مما لا تمس فيه عامة المسلمين لم يكن من طبعها إثارة الشبهة في القلوب فإن الإزدواج بزوجة المدعو ابنا مثلا لم يكن يختص به و الإزدواج بأكثر من أربع نسوة لو كان تجويزه لنفسه عن هوى بغير إذن الله سبحانه لم يكن يمنعه أن يجوز مثل ذلك لسائر المسلمين، و سيرته في إيثار المسلمين على نفسه في ما كان يأخذه لله و لنفسه من الأموال و نظائر هذه الأمور لا تدع ريبا لمرتاب و لا يشتبه أمرها لمشتبه دون أن تزول الشبهة.
فقد ظهر من جميع ما تقدم أن الآية تكشف عن حكم نازل فيه شوب انتفاع للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و اختصاصه بمزية حيوية مطلوبة لغيره أيضا يوجب تبليغه و العمل به حرمان الناس عنه فكان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف إظهاره فأمره الله بتبليغه و شدد فيه، و وعده العصمة من الناس و عدم هدايتهم في كيدهم إن كادوا فيه.
و هذا يؤيد ما وردت به النصوص من طرق الفريقين أن الآية نزلت في أمر ولاية علي (عليه السلام)، و أن الله أمر بتبليغها و كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخاف أن يتهموه في ابن عمه، و يؤخر تبليغها وقتا إلى وقت حتى نزلت الآية فبلغها بغدير خم، و قال فيه: من كنت مولاه فهذا علي مولاه.
و كون ولاية أمر الأمة مما لا غنى للدين عنه ظاهر لا ستر عليه، و كيف يسوغ لمتوهم أن يتوهم أن الدين الذي يقرر بسعته لعامة البشر في عامة الأعصار و الأقطار جميع ما يتعلق بالمعارف الأصلية، و الأصول الخلقية، و الأحكام الفرعية العامة لجميع حركات الإنسان و سكناته، فرادى و مجتمعين على خلاف جميع القوانين العامة لا يحتاج إلى حافظ يحفظه حق الحفظ؟ أو أن الأمة الإسلامية و المجتمع الديني مستثنى من بين جميع المجتمعات الإنسانية مستغنية عن وال يتولى أمرها و مدبر يدبرها و مجر يجريها؟ و بأي عذر يمكن أن يعتذر إلى الباحث عن سيرة النبي الاجتماعية؟ حيث يرى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان إذا خرج إلى غزوة خلف مكانه رجلا يدير رحى المجتمع،: و قد خلف عليا مكانه على المدينة عند مسيره إلى تبوك فقال: يا رسول الله أ تخلفني على النساء و الصبيان؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي؟ و كان (صلى الله عليه وآله وسلم) ينصب الولاة الحكام في ما بيد المسلمين من البلاد كمكة و الطائف و اليمن و غيرها، و يؤمر رجالا على السرايا و الجيوش التي يبعثها إلى الأطراف، و أي فرق بين زمان حياته و ما بعد مماته دون أن الحاجة إلى ذلك بعد غيبته بالموت أشد، و الضرورة إليه أمس ثم أمس.
قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» خاطبه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرسالة لكونها أنسب الصفات إلى ما تتضمنه الآية من الأمر بالتبليغ لحكم الله النازل فهو كالبرهان على وجوب التبليغ الذي تظهره الآية و تقرعه سمع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فإن الرسول لا شأن له إلا تبليغ ما حمل من الرسالة فتحمل الرسالة يفرض عليه القيام بالتبليغ.
و لم يصرح باسم هذا الذي أنزل إليه من ربه بل عبر عنه بالنعت و أنه شيء أنزل إليه، إشعارا بتعظيمه و دلالة على أنه أمر ليس فيه لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صنع، و لا له من أمره شيء ليكون كبرهان آخر على عدم خيرة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتمانه و تأخير تبليغه، و يكون له عذرا في إظهاره على الناس، و تلويحا إلى أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مصيب في ما تفرسه منهم و تخوف عليه، و إيماء إلى أنه مما يجب أن يظهر من ناحيته (صلى الله عليه وآله وسلم) و بلسانه و بيانه.
قوله تعالى: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» المراد بقوله: «رسالته» و قرىء «رسالاته» كما تقدم مجموع رسالات الله سبحانه التي حملها رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد تقدم أن الكلام يفيد أهمية هذا الحكم المرموز إليه، و أن له من المكانة ما لو لم يبلغه كأن لم يبلغ شيئا من الرسالات التي حملها.
فالكلام موضوع في صورة التهديد، و حقيقته بيان أهمية الحكم، و أنه بحيث لو لم يصل إلى الناس، و لم يراع حقه كان كأن لم يراع حق شيء من أجزاء الدين فقوله: «و إن لم تفعل فما بلغت» جملة شرطية سيقت لبيان أهمية الشرط وجودا و عدما لترتب الجزاء الأهم عليه وجودا و عدما.
و ليست شرطية مسوقة على طبع الشرطيات الدائرة عندنا فإنا نستعمل «إن» الشرطية طبعا فيما نجهل تحقق الجزاء للجهل بتحقق الشرط، و حاشا ساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يقدر القرآن في حقه احتمال أن يبلغ الحكم النازل عليه من ربه و أن لا يبلغ، و قد قال تعالى: «الله أعلم حيث يجعل رسالته»: «الأنعام - 142».
فالجملة أعني قوله: «و إن لم تفعل فما بلغت» إلخ، إنما تفيد التهديد بظاهرها و تفيد إعلامه (عليه السلام) و إعلام غيره ما لهذا الحكم من الأهمية، و أن الرسول معذور في تبليغه.
قوله تعالى: «و الله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين» قال الراغب: العصم بالفتح فالسكون الإمساك و الاعتصام الاستمساك - إلى أن قال - و العصام بالكسر ما يعتصم به أي يشد، و عصمة الأنبياء حفظه إياهم أولا بما خصهم به من صفاء الجوهر، ثم بما أولاهم من الفضائل الجسمية و النفسية، ثم بالنصرة و بتثبيت أقدامهم، ثم بإنزال السكينة عليهم و بحفظ قلوبهم و بالتوفيق قال تعالى: «و الله يعصمك من الناس».
و العصمة شبه السوار، و المعصم موضعها من اليد، و قيل للبياض بالرسغ عصمة تشبيها بالسوار، و ذلك كتسمية البياض بالرجل تحجيلا، و على هذا قيل: غراب أعصم، انتهى.
و ما ذكره من معنى عصمة الأنبياء حسن لا بأس به غير أنه لا ينطبق على الآية «و الله يعصمك من الناس» بل لو انطبق فإنما ينطبق على مثل قوله: «و ما يغرونك من شيء و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة و علمك ما لم تكن تعلم و كان فضل الله عليك عظيما»: «النساء: 131».
و أما قوله: «و الله يعصمك من الناس» فإن ظاهره أنها عصمة بمعنى الحفظ و الوقاية من شر الناس المتوجه إلى نفس النبي الشريفة أو مقاصده الدينية أو نجاح تبليغه و فلاح سعيه، و بالجملة المعنى المناسب لساحته المقدسة.
و كيف كان فالمتحصل من موارد استعمال الكلمة أنها بمعنى الإمساك و القبض فاستعماله في معنى الحفظ من قبيل استعارة اللازم لملزومه فإن الحفظ يلزمه القبض.
و كان تعليق العصمة بالناس من دون بيان أن العصمة من أي شأن من شئون الناس كتعدياتهم بالإيذاء في الجسم من قتل أو سم أو أي اغتيال، أو بالقول كالسب و الافتراء، أو بغير ذلك كتقليب الأمور بنوع من المكر و الخديعة و المكيدة و بالجملة السكوت عن تشخيص ما يعصم منه لإفادة نوع من التعميم، و لكن الذي لا يعدو عنه السياق هو شرهم الذي يوجب انقلاب الأمر على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بحيث يسقط بذلك ما رفعه من أعلام الدين.
و الناس مطلق من وجد فيه معنى الإنسانية من دون أن يعتبر شيء من خصوصياته الطبيعية التكوينية كالذكورة و الأنوثة أو غير الطبيعية كالعلم و الفضل و الغنى و غير ذلك.
و لذلك قل ما ينطبق على غير الجماعة، و لذلك أيضا ربما دل على الفضلاء من الإنسان إذا كان الفضل روعي فيه وجود معنى الإنسانية كقوله تعالى: «إذا قيل لهم آمنوا كما آمن الناس» أي الذين وجد فيهم معنى الإنسانية، و هو ملاك درك الحق و تمييزه من الباطل.
و ربما كان دالا على نوع من الخسة و سقوط الحال، و ذلك إذا كان الأمر الذي يتكلم فيه مما يحتاج إلى اعتبار شيء من الفضائل الإنسانية التي اعتبرت زائدة على أصل معنى النوع كقوله: «و لكن أكثر الناس لا يعلمون»: «الروم: 30» و كقولك: لا تثق بمواعيد الناس، و لا تستظهر بسوادهم نظرا منك إلى أن الوثوق و الاستظهار يجب أن يتعلقا بالفضلاء من الإنسان ذوي ملكة الوفاء بالعهد و الثبات على العزيمة لا على من ليس له إلا مجرد صدق اسم الإنسانية، و ربما لم يفد شيئا من مدح أو ذم إذا تعلق الغرض بما لا يزيد على أصل معنى الإنسانية كقوله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»: «الحجرات: 13».
و لعل قوله: «و الله يعصمك من الناس» أخذ فيه لفظ الناس اعتبارا بسواد الأفراد الذي فيه المؤمن و المنافق و الذي في قلبه مرض، و قد اختلطوا من دون تمايز، فإذا خيف خيف من عامتهم، و ربما أشعر به قوله: «إن الله لا يهدي القوم الكافرين» فإن الجملة في مقام التعليل لقوله: «و الله يعصمك من الناس» و قد تقدم أيضا أن الآية نزلت بعد الهجرة و ظهور شوكة، الإسلام و كان السواد الأعظم من الناس مسلمين بحسب الظاهر و إن كان فيهم المنافقون و غيرهم.
فالمراد بالقوم الكافرين قوم هم في الناس مذكوري النعت ممحوي الاسم وعد الله سبحانه أن يبطل كيدهم و يعصم رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) من شرهم.
و الظاهر أيضا أن يكون المراد بالكفر الكفر بآية من آيات الله و هو الحكم المراد بقوله: «ما أنزل إليك من ربك»، كما في قوله في آية الحج: «و من كفر فإن الله غني عن العالمين»: آل عمران: 97»، و أما الكفر بمعنى الاستكبار عن أصل الشهادتين فإنه مما لا يناسب مورد الآية البتة إلا على القول بكون المراد بقوله: «ما أنزل إليك من ربك» مجموع رسالات الدين، و قد عرفت عدم استقامته.
و المراد بعدم هدايته تعالى هؤلاء القوم الكافرين عدم هدايته إياهم في كيدهم و مكرهم، و منعه الأسباب الجارية أن تنقاد لهم في سلوكهم إلى ما يرومونه من الشر و الفساد نظير قوله تعالى: «إن الله لا يهدي القوم الفاسقين»: المنافقون: 6»، و قوله تعالى: «و الله لا يهدي القوم الظالمين»: البقرة: 285»، و قد تقدم البحث عنه في الجزء الثاني من هذا الكتاب.
و أما كون المراد بعدم الهداية هو عدم الهداية إلى الإيمان فغير صحيح البتة لمنافاته أصل التبليغ و الدعوة فلا يستقيم أن يقال: ادعهم إلى الله أو إلى حكم الله و أنا لا أهديهم إليه إلا في مورد إتمام الحجة محضا.
على أن الله سبحانه قد هدى و لا يزال يهدي كثيرين من الكفار بدليل العيان، و قد قال أيضا: «و الله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم»: «البقرة: 231».
فتبين أن المراد بعدم هداية الكافرين عدم تخليتهم لينالوا ما يهمون به من إبطال كلمة الحق و إطفاء نور الحكم المنزل فإن الكافرين و كذا الظالمين و الفاسقين يريدون بشامة أنفسهم و ضلال رأيهم أن يبدلوا سنة الله الجارية في الخلقة و سياقة الأسباب السالكة إلى مسبباتها و يغيروا مجاري الأسباب الحقة الظاهرة عن سمة عصيان رب العالمين إلى غايتهم الفاسدة مقاصدهم الباطلة و الله رب العالمين لن يعجزه قواهم الصورية التي لم يودعها فيهم و لم يقدرها في بناهم إلا هو.
فهم ربما تقدموا في مساعيهم أحيانا و نالوا ما راموه أوينات و استعلوا و استقام أمرهم برهة لكنه لا يلبث دون أن يبطل أخيرا و ينقلب عليهم مكرهم و لا يحيق المكر السيىء إلا بأهله، و كذلك يضرب الله الحق و الباطل فأما الباطل فيذهب جفاء، و أما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض.
و على هذا فقوله: «إن الله لا يهدي القوم الكافرين» تفسير قوله: «و الله يعصمك من الناس» بالتصرف في سعة إطلاقه، و يكون المراد بالعصمة عصمته (صلى الله عليه وآله وسلم) من أن يناله الناس بسوء دون أن ينال بغيته في تبليغ هذا الحكم و تقريره بين الأمة كأن يقتلوه دون أن يبلغه أو يثوروا عليه و يقلبوا عليه الأمور أو يتهموه بما يرتد به المؤمنون عن دينه، أو يكيدوا كيدا يميت هذا الحكم و يقبره بل الله يظهر كلمة الحق و يقيم الدين على ما شاء و أينما شاء و متى ما شاء، و فيمن شاء قال تعالى: «إن يشأ يذهبكم أيها الناس و يأت بآخرين و كان الله على ذلك قديرا»: «النساء: 133».
و أما أخذ الآية أعني قوله: «و الله يعصمك من الناس» بإطلاقه على ما فيه من السعة و الشمول فمما ينافيه القرآن و المأثور من الحديث و التاريخ القطعي، و قد نال (صلى الله عليه وآله وسلم) من أمته أعم من كفارهم و مؤمنيهم و منافقيهم من المصائب و المحن و أنواع الزجر و الأذى ما ليس في وسع أحد أن يتحمله إلا نفسه الشريفة، و قد قال (صلى الله عليه وآله وسلم) كما في الحديث المشهور: ما أوذي نبي مثل ما أوذيت قط.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي صالح، عن ابن عباس و جابر بن عبد الله قالا: أمر الله تعالى نبيه محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) أن ينصب عليا علما في الناس ليخبرهم بولايته فتخوف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقولوا: خابى ابن عمه و أن يطعنوا في ذلك عليه. قال: فأوحى الله إليه هذه الآية: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس» فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بولايته يوم غدير خم.
و فيه، عن حنان بن سدير، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما نزل جبرئيل على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في حجة الوداع بإعلان أمر علي بن أبي طالب (عليه السلام) «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» إلى آخر الآية قال: فمكث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثلاثا حتى أتى الجحفة فلم يأخذ بيده فرقا من الناس. فلما نزل الجحفة يوم غدير في مكان يقال له «مهيعة» فنادى: الصلاة جامعة، فاجتمع الناس فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): من أولى بكم من أنفسكم؟ فجهروا فقالوا: الله و رسوله ثم قال لهم الثانية، فقالوا: الله و رسوله، ثم قال لهم الثالثة، فقالوا: الله و رسوله. فأخذ بيد علي (عليه السلام) فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه، اللهم وال من والاه و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله فإنه مني و أنا منه، و هو مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي.
و فيه، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: لما أنزل الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «يا أيها الرسول - بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته و الله يعصمك من الناس - إن الله لا يهدي القوم الكافرين» قال: فأخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي (عليه السلام) فقال: يا أيها الناس إنه لم يكن نبي من الأنبياء ممن كان من قبلي إلا و قد عمر ثم دعاه فأجابه، و أوشك أن أدعى فأجيب، و أنا مسئول و أنتم مسئولون فما أنتم قائلون؟ قالوا: نشهد أنك قد بلغت و نصحت و أديت ما عليك فجزاك الله أفضل ما جزى المرسلين، فقال: اللهم اشهد. ثم قال: يا معشر المسلمين ليبلغ الشاهد الغائب أوصي من آمن بي و صدقني بولاية علي، ألا إن ولاية على ولايتي عهدا عهده إلي ربي و أمرني أن أبلغكموه، ثم قال: هل سمعتم؟ ثلاث مرات يقولها فقال قائل: قد سمعنا يا رسول الله.
و في البصائر، بإسناده عن الفضيل بن يسار عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» قال: هي الولاية.
أقول: و روى نزول الآية في أمر الولاية و قصة الغدير معه الكليني في الكافي، بإسناده، عن أبي الجارود، عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و روى هذا المعنى الصدوق في المعاني، بإسناده عن محمد بن الفيض بن المختار، عن أبيه عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث طويل، و رواه العياشي أيضا عن أبي الجارود في حديث طويل، و بإسناده عن عمرو بن يزيد عن أبي عبد الله (عليه السلام) مختصرا.
و عن تفسير الثعلبي، قال: قال جعفر بن محمد: معنى قوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» في فضل علي،، فلما نزلت هذه أخذ النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه و عنه، بإسناده عن الكلبي عن أبي صالح عن ابن عباس: في هذه الآية قال: نزلت في علي بن أبي طالب، أمر الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبلغ فيه فأخذ بيد علي فقال: من كنت مولاه فعلي مولاه اللهم وال من والاه، و عاد من عاداه.
و في تفسير البرهان، عن إبراهيم الثقفي بإسناده عن الخدري، و بريدة الأسلمي و محمد بن علي: نزلت يوم الغدير في علي.
و من تفسير الثعلبي، في معنى الآية قال: قال أبو جعفر محمد بن علي: معناه بلغ ما أنزل إليك من ربك في علي.
و في تفسير المنار، عن تفسير الثعلبي: أن هذا القول من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في موالاة علي شاع و طار في البلاد فبلغ الحارث بن النعمان الفهري فأتى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ناقته، و كان بالأبطح فنزل و عقل ناقته، و قال للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو في ملإ من أصحابه يا: محمد أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله فقبلنا منك ثم ذكر سائر أركان الإسلام ثم لم ترض بهذا حتى مددت بضبعي ابن عمك، و فضلته علينا، و قلت: «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهذا منك أم من الله؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): و الله الذي لا إله إلا هو هو أمر الله، فولى الحارث يريد راحلته، و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم. فما وصل إلى راحلته حتى رماه الله بحجر فسقط على هامته و خرج من دبره، و أنزل الله تعالى: «سأل سائل بعذاب واقع - للكافرين ليس له دافع» الحديث.
أقول: قال في المنار بعد نقل هذا الحديث ما لفظه: و هذه الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكية، و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك كان تذكيرا بقول قالوه قبل الهجرة، و هذا التذكير في سورة الأنفال، و قد نزلت بعد غزوة بدر قبل نزول المائدة ببضع سنين، و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم يعرف في الصحابة، و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة بل نزل فيه منصرفة من حجة الوداع إلى المدينة، انتهى.
و أنت ترى ما في كلامه من التحكم: أما قوله: " إن الرواية موضوعة، و سورة المعارج هذه مكية " فيعول في ذلك على ما في بعض الروايات عن ابن عباس و ابن الزبير أن سورة المعارج نزلت بمكة، و ليت شعري ما هو المرجح لهذه الرواية على تلك الرواية، و الجميع آحاد؟ سلمنا أن سورة المعارج مكية كما ربما تؤيده مضامين معظم آياته فما هو الدليل على أن جميع آياتها مكية؟ فلتكن السورة مكية، و الآيتان خاصة غير مكيتين كما أن سورتنا هذه أعني سورة المائدة مدنية نازلة في آخر عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد وضعت فيها الآية المبحوث عنها أعني قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» الآية، و هو كعدة من المفسرين مصرون على أنها نزلت بمكة في أول البعثة، فإذا جاز وضع آية مكية آية: يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك في سورة مدنية المائدة فليجز وضع آية مدنية آية: سأل سائل في سورة مكية سورة المعارج.
و أما قوله: " و ما حكاه الله من قول بعض كفار قريش " إلى آخره، فهو في التحكم كسابقه فهب إن سورة الأنفال نزلت قبل المائدة ببضع سنين فهل يمنع ذلك أن يوضع عند التأليف بعض الآيات النازلة بعدها فيها كما وضعت آيات الربا و آية: «و اتقوا يوما ترجعون فيه إلى الله»: «البقرة: 218»، و هي آخر ما نزل على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عندهم في سورة البقرة النازلة في أوائل الهجرة و قد نزلت قبلها ببضع سنين.
ثم قوله: " إن آية: «و إذا قالوا اللهم إن كان هذا هو الحق»،» الآية تذكير لما قالوه قبل الهجرة " تحكم آخر من غير حجة لو لم يكن سياق الآية حجة على خلافه فإن العارف بأساليب الكلام لا يكاد يرتاب في أن هذا أعني قوله: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم» لاشتماله على قوله: «إن كان هذا هو الحق من عندك» بما فيه من اسم الإشارة و ضمير الفصل و الحق المحلى باللام و قوله: «من عندك» ليس كلام وثني مشرك يستهزىء بالحق و يسخر منه، و إنما هو كلام من أذعن بمقام الربوبية، و يرى أن الأمور الحقة تتعين من لدنه، و أن الشرائع مثلا تنزل من عنده، ثم إنه يتوقف في أمر منسوب إلى الله تعالى يدعي مدع أنه الحق لا غيره، و هو لا يتحمل ذلك و يتحرج منه فيدعو على نفسه دعاء منزجر ملول سئم الحياة.
و أما قوله: " و ظاهر الرواية أن الحارث بن النعمان هذا كان مسلما فارتد و لم يعرف في الصحابة " تحكم آخر فهل يسع أحدا أن يدعي أنهم ضبطوا أسماء كل من رأى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و آمن به أو آمن به فارتد؟ و إن يكن شيء من ذلك فليكن هذا الخبر من ذلك القبيل.
و أما قوله: " و الأبطح بمكة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يرجع من غدير خم إلى مكة " فهو يشهد على أنه أخذ لفظ الأبطح اسما للمكان الخاص بمكة و لم يحمله على معناه العام و هو كل مكان ذي رمل، و لا دليل على ما حمله عليه بل الدليل على خلافه و هو القصة المسرودة في الرواية و غيرها، و ربما استفيد من مثل قوله: نجوت و قد بل المرادي سيفه.
من ابن أبي شيخ الأباطح طالب.
إن مكة و ما والاها كانت تسمى الأباطح.
قال في مراصد الاطلاع: أبطح بالفتح ثم السكون و فتح الطاء و الحاء المهملة كل مسيل فيه رقاق الحصى فهو أبطح، و قال ابن دريد: الأبطح و البطحاء السهل المنبسط على وجه الأرض، و قال أبو زيد: الأبطح أثر المسيل ضيقا كان أو واسعا، و الأبطح يضاف إلى مكة و إلى منى لأن مسافته منهما واحدة، و ربما كان إلى منى أقرب و هو المحصب، و هي خيف بني كنانة، و قد قيل: إنه ذو طوى، و ليس به، انتهى.
على أن الرواية بعينها رواها غير الثعلبي و ليس فيه ذكر من الأبطح و هي ما يأتي من رواية المجمع من طريق الجمهور و غيرها.
و بعد هذا كله فالرواية من الآحاد، و ليست من المتواترات و لا مما قامت على صحتها قرينة قطعية، و قد عرفت من أبحاثنا المتقدمة أنا لا نعول على الآحاد في غير الأحكام الفرعية على طبق الميزان العام العقلائي الذي عليه بناء الإنسان في حياته، و إنما المراد بالبحث الآنف بيان فساد ما استظهر به من الوجوه التي استنتج منها أنها موضوعة.
و في المجمع،: أخبرنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني قال: أخبرنا أبو عبد الله الشيرازي قال أخبرنا أبو بكر الجرجاني قال: أخبرنا أبو أحمد البصري قال: حدثنا محمد بن سهل قال: حدثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار قال: حدثنا محمد بن أيوب الواسطي قال: حدثنا سفيان بن عيينة عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا يوم غدير خم قال: من كنت مولاه فهذا علي مولاه، فقال فطار، ذلك في البلاد فقدم على النبي النعمان بن الحارث الفهري فقال: أمرتنا من الله أن نشهد أن لا إله إلا الله، و أنك رسول الله، و أمرتنا بالجهاد و بالحج و بالصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها، ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه فهذا شيء منك أو أمر من الله تعالى؟ فقال: بلى و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله، فأنزل الله: «سأل سائل بعذاب واقع».
أقول: و هذا المعنى مروي في الكافي، أيضا.
و عن كتاب نزول القرآن، للحافظ أبي نعيم يرفعه إلى علي بن عامر عن أبي الحجاف، عن الأعمش، عن عطية قال: نزلت هذه الآية على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في علي بن أبي طالب «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» و قد قال الله تعالى: «اليوم أكملت لكم دينكم - و أتممت عليكم نعمتي و رضيت لكم الإسلام دينا».
و عن الفصول المهمة، للمالكي قال: روى الإمام أبو الحسن الواحدي في كتابه المسمى بأسباب النزول رفعه بسنده إلى أبي سعيد الخدري رضي الله عنه قال: نزلت هذه الآية: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» يوم غدير خم في علي بن أبي طالب:. أقول: و رواه في فتح القدير، عن ابن أبي حاتم و ابن مردويه و ابن عساكر عن أبي سعيد الخدري و كذلك في الدر المنثور.
و قوله: «بغدير خم» هو بضم الخاء المعجمة و تشديد الميم مع التنوين اسم لغيطة على ثلاثة أميال من الجحفة عندها غدير مشهور يضاف إلى الغيطة، هكذا ذكره الشيخ محيي الدين النووي.
و في فتح القدير، أخرج ابن مردويه عن ابن مسعود قال: كنا نقرأ على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك إن عليا مولى المؤمنين و إن لم تفعل فما بلغت رسالته - و الله يعصمك من الناس.
أقول: و هذه نبذة من الأخبار الدالة على نزول قوله تعالى: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» إلخ، في حق علي (عليه السلام) يوم غدير خم، و أما حديث الغدير أعني قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «من كنت مولاه فعلي مولاه» فهو حديث متواتر منقول من طرق الشيعة و أهل السنة بما يزيد على مائة طريق.
و قد روي عن جمع كثير من الصحابة منهم البراء بن عازب، و زيد بن أرقم، و أبو أيوب الأنصاري، و عمر بن الخطاب، و علي بن أبي طالب، و سلمان الفارسي، و أبو ذر الغفاري، و عمار بن ياسر، و بريدة، و سعد بن أبي وقاص، و عبد الله بن عباس، و أبو، هريرة و جابر بن عبد، الله و أبو سعيد الخدري، و أنس بن مالك، و عمران بن الحصين، و ابن أبي أوفى، و سعدانة، و امرأة زيد بن أرقم.
و قد أجمع عليه أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد ناشد علي (عليه السلام) الناس بالرحبة في الحديث فقام جماعة من الصحابة حضروا المجلس، فشهدوا أنهم سمعوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقوله يوم الغدير.
و في كثير من هذه الروايات أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: أيها الناس أ لستم تعلمون أني أولى بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فعلي مولاه كما في عدة من الأخبار التي رواها أحمد بن حنبل في مسنده أو رواها غيره، و قد أفردت لإحصاء طرقها و البحث في متنها تأليف من أهل السنة و الشيعة بحثوا فيها بما لا مزيد عليه.
و عن كتاب السمطين، للحمويني بإسناده عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ليلة أسري بي إلى السماء السابعة سمعت نداء من تحت العرش: أن عليا آية الهدى، و حبيب من يؤمن بي، بلغ عليا (عليه السلام)، فلما نزل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من السماء أنسي ذلك فأنزل الله عز و جل: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك - فإن لم تفعل فما بلغت رسالته - و الله يعصمك من الناس - إن الله لا يهدي القوم الكافرين».
و في فتح القدير،: أخرج ابن أبي حاتم عن جابر بن عبد الله قال: لما غزا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بني أنمار نزل ذات الرقيع بأعلى نخل فبينما هو جالس على رأس بئر قد دلى رجليه فقال الوارث من بني النجار: لأقتلن محمدا، فقال له أصحابه: كيف تقتله؟ قال: أقول له: أعطني سيفك فإذا أعطانيه قتلته به، فأتاه فقال: يا محمد أعطني سيفك أشمه فأعطاه إياه فرعدت يده حتى سقط السيف من يده فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): حال الله بينك و بين ما تريد، فأنزل الله سبحانه: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك» الآية.
أقول: ثم ذكر في فتح القدير، أن ابن حبان أخرجه في صحيحه و أخرجه أيضا ابن مردويه عن أبي هريرة نحو هذه القصة و لم يسم الرجل، و أخرج ابن جرير من حديث محمد بن كعب القرظي نحوه، و قصة غورث بن الحارث ثابتة في الصحيح، و هي معروفة مشهورة انتهى، و لكن الشأن تطبيق القصة على المحصل من معنى الآية، و لن تنطبق أبدا.
و في الدر المنثور، و فتح القدير، و غيرهما عن ابن مردويه و الضياء في المختارة عن ابن عباس: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل: أي آية أنزلت من السماء أشد عليك؟ فقال: كنت بمنى أيام موسم فاجتمع مشركوا العرب و إفناء الناس في الموسم فأنزل علي جبرئيل فقال: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك» الآية. قال: فقمت عند العقبة فناديت: يا أيها الناس من ينصرني على أن أبلغ رسالة ربي و له الجنة؟ أيها الناس قولوا: لا إله إلا الله و أنا رسول الله إليكم تفلحوا و تنجحوا و لكم الجنة. قال: فما بقي رجل و لا امرأة و لا صبي إلا يرمون بالتراب و الحجارة، و يبزقون في وجهي و يقولون: كذاب صابىء فعرض علي عارض فقال: يا محمد إن كنت رسول الله فقد آن لك أن تدعو عليهم كما دعا نوح على قومه بالهلاك، فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فجاء العباس عمه فأنقذه منهم و جردهم عنه.
أقول: الآية بتمامها لا ينطبق على هذه القصة على ما عرفت تفصيل القول فيه.
اللهم إلا أن تحمل الرواية على نزول قطعة من الآية - و هي قوله: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك» - في ذلك اليوم، و ظاهر الرواية يأباه، و نظيرها ما يأتي.
و في الدر المنثور، و فتح القدير،: أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ عن مجاهد قال: لما نزلت «بلغ ما أنزل إليك من ربك» قال: يا رب إنما أنا واحد كيف أصنع؟ يجتمع علي الناس فنزلت «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته».
و فيها عن الحسن: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: إن الله بعثني برسالته فضقت بها ذرعا، و عرفت أن الناس مكذبي فوعدني لأبلغن أو ليعذبني فأنزل: «يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك».
أقول: الروايتان على ما فيهما من القطع و الإرسال فيهما ما في سابقتهما، و نظيرتهما في هذا التشويش بعض ما ورد: في أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحترس برجال فلما نزلت الآية فرقهم و قال (عليه السلام) إن ربي وعدني أن يعصمني.
و في تفسير المنار،: روى أهل التفسير المأثور و الترمذي و أبو الشيخ و الحاكم و أبو نعيم و البيهقي و الطبراني عن بضعة رجال من الصحابة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحرس في مكة قبل نزول هذه الآية فلما نزلت ترك الحرس، و كان أبو طالب أول الناس اهتماما بحراسته، و حرسه العباس أيضا.
و فيه،: و مما روي في ذلك عن جابر و ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يحرس، و كان يرسل معه عمه أبو طالب كل يوم رجالا من بني هاشم حتى نزلت الآية فقال: يا عم إن الله قد عصمني لا حاجة لي إلى من يبعث.
أقول: و الروايتان - كما ترى - تدلان على أن الآية نزلت في أواسط إقامة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة و أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغ رسالته زمانا و اشتد عليه أمر إيذاء الناس و تكذيبهم حتى خاف على نفسه منهم فترك التبليغ و الدعوة فأمر ثانيا بالتبليغ، و هدد من جانب الله سبحانه، و وعد بالعصمة، فاشتغل ثانيا بما كان يشتغل به أولا، و هذا شيء يجل عنه ساحة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الدر المنثور، و فتح القدير،: أخرج عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و الحاكم و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي كلاهما في الدلائل عن عائشة قالت: كان رسول الله يحرس حتى نزلت: «و الله يعصمك من الناس» فأخرج رأسه من القبة فقال: أيها الناس انصرفوا فقد عصمني الله.
أقول: و الرواية - كما ترى - ظاهرة في نزولها بالمدينة.
و في تفسير الطبري، عن ابن عباس: في قوله: «و إن لم تفعل فما بلغت رسالته» يعني إن كتمت آية أنزل إليك لم تبلغ رسالته.
أقول: إن كان المراد به آية معينة أي حكم معين مما أنزل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فله وجه صحة، و إن كان المراد به التهديد في أي آية فرضت أو حكم قدر فقد عرفت فيما تقدم أن الآية لا تلائمه بمضمونها.
|