بيان
السورة تذكر الدعوة و تشير إلى ما فيها من الإنذار بالمعاد و جحد المشركين به و استعجابهم ذلك بأن الموت يستعقب بطلان الشخصية الإنسانية بصيرورته ترابا لا يبقى معه أثر مما كان عليه فكيف يرجع ثانيا إلى ما كان عليه قبل الموت فتدفع ما أظهروه من الاستعجاب و الاستبعاد بأن العلم الإلهي محيط بهم و عنده الكتاب الحفيظ الذي لا يعزب عنه شيء مما دق و جل من أحوال خلقه ثم توعدهم بإصابة مثل ما أصاب الأمم الماضية الهالكة.
و تنبه ثانيا على علمه و قدرته تعالى بالإشارة إلى ما جرى من تدبيره تعالى في خلق السماوات و ما زينها به من الكواكب و النجوم و غير ذلك، و في خلق الأرض من حيث مدها و إلقاء الرواسي عليها و إنبات الأزواج النباتية فيها ثم بإنزال الماء و تهيئة أرزاق العباد و إحياء الأرض به.
ثم بيان حال الإنسان من أول ما خلق و أنه تحت المراقبة الشديدة الدقيقة حتى ما يلفظ به من لفظ و حتى ما يخطر بباله و توسوس به نفسه ما دام حيا ثم إذا أدركه الموت ثم إذا بعث لفصل القضاء ثم إذا فرغ من حسابه فأدخل النار إن كان من المكذبين أو الجنة المزيفة إن كان من المتقين.
و بالجملة مصب الكلام في السورة هو المعاد، و من غرر الآيات فيها قوله: «لقد كنت في غفلة من هذا فكشفنا عنك غطاءك فبصرك اليوم حديد»، و قوله: «يوم نقول لجهنم هل امتلأت و تقول هل من مزيد» و قوله: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد».
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها إلا ما قيل في قوله: «و لقد خلقنا السماوات و الأرض» الآية أو الآيتين، و لا شاهد عليه من اللفظ.
و ما أوردناه من الآيات فيه إجمال الإشارة إلى المعاد و استبعادهم له، و إجمال الجواب و التهديد أولا ثم الإشارة إلى تفصيل الجواب و التهديد ثانيا.
قوله تعالى: «ق و القرآن المجيد»، قال في المجمع،: المجد في كلامهم الشرف الواسع يقال: مجد الرجل و مجد - بضم العين و فتحها - مجدا إذا عظم و كرم، و أصله من قولهم: مجدت الإبل مجودا إذا عظمت بطونها من كثرة أكلها من كلاء الربيع.
انتهى.
و قوله: «و القرآن المجيد» قسم و جوابه محذوف يدل عليه الجمل التالية و التقدير و القرآن المجيد أن البعث حق أو إنك لمن المنذرين أو الإنذار حق، و قيل: جواب القسم مذكور و هو قوله: «بل عجبوا» إلخ، و قيل: هو قوله: «قد علمنا ما تنقص» إلخ، و قيل: قوله: «ما يلفظ من قول» إلخ، و قيل: قوله: «إن في ذلك لذكرى» إلخ، و قيل: قوله: «ما يبدل القول لدي» إلخ، و هذه أقوال سخيفة لا يصار إليها.
قوله تعالى: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم فقال الكافرون هذا شيء عجيب» إضراب عن مضمون جواب القسم المحذوف فكأنه قيل: إنا أرسلناك نذيرا فلم يؤمنوا بك بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم، أو قيل إن البعث الذي أنذرتهم به حق و لم يؤمنوا به بل عجبوا منه و استبعدوه.
و ضمير «منهم» في قوله: «بل عجبوا أن جاءهم منذر منهم» راجع إليهم بما هم بشر أي من جنسهم و ذلك أن الوثنيين ينكرون نبوة البشر كما تقدمت الإشارة إليه مرارا أو راجع إليهم بما هم عرب و المعنى: بل عجبوا أن جاءهم منذر من قومهم و بلسانهم يبين لهم الحق أوفى بيان فيكون أبلغ في تقريعهم.
و قوله: «فقال الكافرون هذا شيء عجيب» وصفهم بالكفر و لم يقل: و قال المشركون و نحو ذلك للدلالة على سترهم للحق لما جاءهم، و الإشارة في قولهم: «هذا شيء عجيب»، إلى البعث و الرجوع إلى الله كما يفسره قوله بعد: «أ إذا متنا و كنا ترابا» إلخ.
قوله تعالى: «أ ءذا متنا و كنا ترابا ذلك رجع بعيد» الرجع و الرجوع بمعنى و المراد بالبعد البعد عن العقل.
و جواب إذا في قولهم: «أ ءذا متنا و كنا ترابا» محذوف يدل عليه قولهم: «ذلك رجع بعيد» و التقدير أ ءذا متنا و كنا ترابا نبعث و نرجع؟ و الاستفهام للتعجيب، و إنما حذف للإشارة إلى أنه عجيب بحيث لا ينبغي أن يذكر، إذ لا يقبله عقل ذي عقل و الآية في مساق قوله: «و قالوا أ ءذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد»: الم السجدة: 10.
و المعنى: أنهم يتعجبون و يقولون: أ ءذا متنا و كنا ترابا - و بطلت ذواتنا بطلانا لا أثر معه منها - نبعث و نرجع؟ ثم كان قائلا يقول لهم: مم تتعجبون؟ فقالوا: ذلك رجع بعيد يستبعده العقل و لا يسلمه.
قوله تعالى: «قد علمنا ما تنقص الأرض منهم و عندنا كتاب حفيظ» رد منه تعالى لاستبعادهم البعث و الرجوع مستندين في ذلك إلى أنهم ستتلاشى أبدانهم بالموت فتصير ترابا متشابه الأجزاء لا تمايز لجزء منها من جزء و الجواب أنا نعلم بما تأكله الأرض من أبدانهم و تنقصه منها فلا يفوت علمنا جزء من أجزائهم حتى يتعسر علينا إرجاعه أو يتعذر بالجهل.
أو أنا نعلم من يموت منهم فيدفن في الأرض فتنقصه الأرض من جمعهم، و «من» على أول الوجهين تبعيضية و على الثاني تبيينية.
و قوله: «و عندنا كتاب حفيظ» أي حافظ لكل شيء و لآثاره و أحواله، أو كتاب ضابط للحوادث محفوظ عن التغيير و التحريف، و هو اللوح المحفوظ الذي فيه كل ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة.
و قول بعضهم إن المراد به كتاب الأعمال غير سديد أولا من جهة أن الله ذكره حفيظا لما تنقص الأرض منهم و هو غير الأعمال التي يحفظه كتاب الأعمال.
و ثانيا: أنه سبحانه إنما وصف في كلامه بالحفظ اللوح المحفوظ دون كتب الأعمال فحمل الكتاب الحفيظ على كتاب الأعمال من غير شاهد.
و محصل جواب الآية أنهم زعموا أن موتهم و صيرورتهم ترابا متلاشي الذرات غير متمايز الأجزاء يصيرهم مجهولي الأجزاء عندنا فيمتنع علينا جمعها و إرجاعها لكنه زعم باطل فإنا نعلم بمن مات منهم و ما يتبدل إلى الأرض من أجزاء أبدانهم و كيف يتبدل و إلى أين يصير؟ و عندنا كتاب حفيظ فيه كل شيء و هو اللوح المحفوظ.
قوله تعالى: «بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج» المرج الاختلاط و الالتباس، و في الآية إضراب عما تلوح إليه الآية السابقة فإن اللائح منها أنهم إنما تعجبوا من أمر البعث و الرجوع و استبعدوه لجهلهم بأن الله سبحانه عليم لا يعزب عنه شيء من أحوال خلقه و آثارهم و أن جميع ذلك مستطر في اللوح المحفوظ عند الله بحيث لا يشذ عنه شاذ.
فأضرب في هذه الآية أن ذلك ليس من جهلهم و إن تجاهلوا بل كذبوا بالحق لما جاءهم فاستبان لهم أنه حق فهم جاحدون للحق معاندون له و ليسوا بجاهلين به قاصرين عن إدراكه فهم في أمر مريج مختلط غير منتظم يدركون الحق و يكذبون به مع أن لازم العلم بشيء تصديقه و الإيمان به.
و قيل: المراد بكونهم في أمر مريج أنهم متحيرون بعد إنكار الحق لا يدرون ما يقولون فتارة يقولون: افتراء على الله، و تارة: سحر، و تارة: شعر، و تارة: كهانة و تارة: زجر.
و لذلك عقب الكلام بذكر آيات علمه و قدرته توبيخا لهم ثم بالإشارة إلى تكذيب الأمم الماضية الهالكة الذي ساقهم إلى عذاب الاستئصال، تهديدا لهم.
قوله تعالى: «أ فلم ينظروا إلى السماء فوقهم كيف بنيناها و زيناها و ما لها من فروج» الفروج جمع فرجة: الشقوق و الفتوق، و تقييد السماء بكونها فوقهم للدلالة على أنها بمرأى منهم لا تغيب عن أنظارهم، و المراد بتزيينها خلق النجوم اللامعة فيها بما لها من الجمال البديع، فبناء هذا الخلق البديع بما لها من الجمال الرائع من غير شقوق و فتوق أصدق شاهد على قدرته القاهرة و علمه المحيط بما خلق.
قوله تعالى: «و الأرض مددناها و ألقينا فيها رواسي و أنبتنا فيها من كل زوج بهيج» مد الأرض بسطها لتلائم عيشة الإنسان، و الرواسي جمع الراسية بمعنى الثابتة صفة محذوفة الموصوف و هو الجبال، و المراد جعل الجبال الثابتة على ظهرها، و البهيج من البهجة، قال في المجمع،: البهجة الحسن الذي له روعة عند الرؤية كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة.
انتهى.
و قيل: المراد بالبهيج الذي من رآه بهج و سر به فهو بمعنى المبهوج به.
و المراد بإنبات كل زوج بهيج إنبات كل صنف حسن المنظر من النبات.
فخلق الأرض و ما جرى فيها من التدبير الإلهي العجيب أحسن دليل يدل العقل على كمال القدرة و العلم.
قوله تعالى: «تبصرة و ذكرى لكل عبد منيب» مفعول له أي فعلنا ما فعلنا من بناء السماء و مد الأرض و عجائب التدبير التي أجريناها فيهما ليكون تبصرة يتبصر بها و ذكرى يتذكر بها كل عبد راجع إلى الله سبحانه.
قوله تعالى: «و أنزلنا من السماء ماء مباركا فأنبتنا به جنات و حب الحصيد» السماء جهة العلو و الماء المبارك المطر، وصف بالمباركة لكثرة خيراته العائدة إلى الأرض و أهلها، و حب الحصيد المحصود من الحب و هو من إضافة الموصوف إلى الصفة، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و النخل باسقات لها طلع نضيد» الباسقات جمع باسقة و هي الطويلة العالية، و الطلع أول ما يطلع من ثمر النخيل، و النضيد بمعنى المنضود بعضه على بعض و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «رزقا للعباد و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج» الرزق ما يمد به البقاء، و «رزقا للعباد» مفعول له أي أنبتنا هذه الجنات و حب الحصيد و النخل باسقات بما لها من الطلع النضيد ليكون رزقا للعباد فمن خلق هذه النباتات ليرزق به العباد بما في ذلك من التدبير الوسيع الذي يدهش اللب و يحير العقل هو ذو علم لا يتناهى و قدرة لا تعيى لا يشق عليه إحياء الإنسان بعد موته و إن تلاشت ذرات جسمه و ضلت في الأرض أجزاء بدنه.
و قوله: «و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج» برهان آخر على البعث غير ما تقدم استنتج من طي الكلام فإن البيان السابق في رد استبعادهم للبعث مستندين إلى صيرورتهم ترابا غير متمايز الأجزاء كان برهانا من مسلك إثبات علمه بكل شيء و قدرته على كل شيء و هذا البرهان الذي يتضمنه قوله: «و أحيينا به بلدة ميتا كذلك الخروج» من مسلك إثبات إمكان الشيء بوقوع مثله فليس الخروج من القبور بالإحياء بعد الموت إلا مثل خروج النبات الميت من الأرض بعد موتها و وقوف قواه عن النماء و النشوء.
و قد قررنا هذا البرهان في ذيل الآيات المستدلة بإحياء الأرض بعد موتها على البعث غير مرة فيما تقدم من أجزاء الكتاب.
قوله تعالى: «كذبت قبلهم قوم نوح - إلى قوله - كل كذب الرسل فحق وعيد»، تهديد و إنذار لهم بما كذبوا بالحق لما جاءهم و تبين لهم عنادا كما أشرنا إليه قبل.
و قد تقدم ذكر أصحاب الرس في تفسير سورة الفرقان، و ذكر أصحاب الأيكة و هم قوم شعيب في سور الحجر و الشعراء و ص، و ذكر قوم تبع في سورة الدخان.
و في قوله: «كل كذب الرسل فحق وعيد» إشارة إلى أن هناك وعيدا بالهلاك ينجز عند تكذيب الرسل قال تعالى: «فسيروا في الأرض فانظروا كيف كان عاقبة المكذبين»: النحل: 36.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس قال: خلق الله تعالى من وراء هذه الأرض بحرا محيطا بها ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له: ق السماء الدنيا مترفرفة عليه، ثم خلق من وراء ذلك الجبل أرضا مثل تلك الأرض سبع مرات ثم خلق من وراء ذلك بحرا محيطا بها، ثم خلق من وراء ذلك جبلا يقال له ق السماء الثانية مترفرفة عليه حتى عد سبع أرضين و سبعة أبحر و سبعة أجبل و سبع سماوات. قال: و ذلك قوله: «و البحر يمده من بعده سبعة أبحر». و فيه، أخرج ابن المنذر و ابن مردويه و أبو الشيخ و الحاكم عن عبد الله بن بريدة في قوله تعالى: «ق» قال: جبل من زمرد محيط بالدنيا عليه كنفا السماء. و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في العقوبات، و أبو الشيخ في العظمة، عن ابن عباس قال: خلق الله جبلا يقال له ق محيط بالعالم و عروقه إلى الصخرة التي عليها الأرض فإذا أراد الله أن يزلزل قرية أمر ذلك الجبل فحرك العرق الذي يلي تلك القرية فيزلزلها و يحركها فمن ثم تحرك القرية دون القرية: أقول: و روى القمي بإسناده عن يحيى بن ميسرة الخثعمي عن الباقر (عليه السلام): مثل ما مر عن عبد الله بن بريدة، و روي ما في معناه مرسلا و مضمرا و لفظه: قال: جبل محيط بالدنيا وراء يأجوج و مأجوج.
و كيفما كان لا تعويل على هذه الروايات، و بطلان ما فيها يكاد يلحق اليوم بالبديهيات أو هو منها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فقال الكافرون هذا شيء عجيب» قال: نزلت في أبي بن خلف قال لأبي جهل: تعال إلي أعجبك من محمد ثم أخذ عظما ففته ثم قال: يا محمد تزعم أن هذا يحيا؟ فقال الله: بل كذبوا بالحق لما جاءهم فهم في أمر مريج».
|