بيان
الآيات تفصل ما ينتهي إليه حال كل واحد من الأزواج الثلاثة يوم القيامة.
قوله تعالى: «أولئك المقربون في جنات النعيم» الإشارة بأولئك إلى السابقين، و «أولئك المقربون» مبتدأ و خبر، و الجملة استئنافية، و قيل: خبر لقوله: «و السابقون»، و قيل: مبتدأ خبره في جنات النعيم، و أول الوجوه الثلاثة أوجه بالنظر إلى سياق تقسيم الناس إلى ثلاثة أزواج أولا ثم تفصيل ما ينتهي إليه أمر كل منهم.
و القرب و البعد معنيان متضائفان تتصف بهما الأجسام بحسب النسبة المكانية ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير المكان من الزمان و نحوه، يقال: الغد قريب من اليوم و الأربعة أقرب إلى الثلاثة من الخمسة، و الخضرة أقرب إلى السواد من البياض ثم توسع فيهما فاعتبرا في غير الأجسام و الجسمانيات من الحقائق.
و قد اعتبر القرب وصفا له تعالى بما له من الإحاطة بكل شيء، قال تعالى: «و إذا سألك عبادي عني فإني قريب»: البقرة: 186، و قال: «و نحن أقرب إليه منكم»: الواقعة: 85، و قال: «و نحن أقرب إليه من حبل الوريد»: ق: 16.
و هذا المعنى أعني كونه تعالى أقرب إلى الشيء من نفسه أعجب ما يتصور من معنى القرب، و قد أشرنا إلى تصويره في تفسير الآية.
و اعتبر القرب أيضا وصفا للعباد في مرحلة العبودية و لما كان أمرا اكتسابيا يستعمل فيه لفظ التقرب فالعبد يتقرب بصالح العمل إلى الله سبحانه و هو وقوعه في معرض شمول الرحمة الإلهية بزوال أسباب الشقاء و الحرمان، و الله سبحانه يقرب العبد بمعنى إنزاله منزلة يختص بنيل ما لا يناله من دونه من إكرامه تعالى و مغفرته و رحمته، قال تعالى: «كتاب مرقوم يشهده المقربون»: المطففين: 21، و قال: «و مزاجه من تسنيم عينا يشرب بها المقربون»: المطففين: 28.
فالمقربون هم النمط الأعلى من أهل السعادة كما يشير إليه قوله: «و السابقون السابقون أولئك المقربون» و لا يتم ذلك إلا بكمال العبودية كما قال: «لن يستنكف المسيح أن يكون عبدا لله و لا الملائكة المقربون»: النساء: 172، و لا تكمل العبودية إلا بأن يكون العبد تبعا محضا في إرادته و عمله لمولاه لا يريد و لا يعمل إلا ما يريده و هذا هو الدخول تحت ولاية الله فهؤلاء هم أولياء الله.
و قوله: «في جنات النعيم» أي كل واحد منهم في جنة النعيم فالكل في جنات النعيم، و يمكن أن يراد به أن كلا منهم في جنات النعيم لكن يبعده قوله في آخر السورة: «فأما إن كان من المقربين فروح و ريحان و جنة نعيم».
و قد تقدم غير مرة أن النعيم هي الولاية و أن جنة النعيم هي جنة الولاية و هو المناسب لما تقدم آنفا أن المقربين هم أهل ولاية الله.
قوله تعالى: «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» الثلة - على ما قيل - الجماعة الكثيرة، و المراد بالأولين الأمم الماضون للأنبياء السابقين، و بالآخرين هذه الأمة على ما هو المعهود من كلامه تعالى في كل موضع ذكر فيه الأولين و الآخرين معا و منها ما سيأتي من قوله: «أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» فمعنى الآيتين: هم أي المقربون جماعة كثيرة من الأمم الماضين و قليل من هذه الأمة.
و بما تقدم يظهر أن قول بعضهم: إن المراد بالأولين و الآخرين أولوا هذه الأمة و آخروها غير سديد.
قوله تعالى: «على سرر موضونة متكئين عليها متقابلين» الوضن النسج و قيل: نسج الدرع و إطلاقه على نسج السرر استعارة يراد بها إحكام نسجها.
و قوله: «متكئين عليها» حال من الضمير العائد إلى المقربين و الضمير للسرر، و قوله: «متقابلين» حال آخر منه أو من ضمير «متكئين» و تقابلهم كناية عن بلوغ أنسهم و حسن عشرتهم و صفاء باطنهم فلا ينظرون في قفاء صاحبهم و لا يعيبونه و لا يغتابونه.
و المعنى: هم أي المقربون مستقرون على سرر منسوجة حال كونهم متكئين عليها حال كونهم متقابلين.
قوله تعالى: «يطوف عليهم ولدان مخلدون» الولدان جمع ولد و هو الغلام، و طوافهم عليهم كناية عن خدمتهم لهم، و المخلدون من الخلود بمعنى الدوام أي باقون أبدا على هيئتهم من حداثة السن، و قيل من الخلد بفتحتين و هو القرط، و المراد أنهم مقرطون بالخلد.
قوله تعالى: «بأكواب و أباريق و كأس من معين» الأكواب جمع كوب و هو الإناء الذي لا عروة له و لا خرطوم، و الأباريق جمع إبريق و هو الإناء الذي له خرطوم، و قيل: عروة و خرطوم معا، و الكأس معروف، قيل: أفرد الكأس لأنها لا تسمى كأسا إلا إذا كانت ممتلئة، و المراد بالمعين الخمر المعين و هو الظاهر للبصر الجاري.
قوله تعالى: «لا يصدعون عنها و لا ينزفون» أي لا يأخذهم صداع لأجل خمار يحصل من الخمر كما في خمر الدنيا و لا يزول عقلهم بالسكر الحاصل منها.
قوله تعالى: «و فاكهة مما يتخيرون و لحم طير مما يشتهون» الفاكهة و الطير معطوفان على قوله: «بأكواب»، و المعنى: يطوف عليهم الولدان بفاكهة مما يختارون و بلحم طير مما يشتهون.
و لا يستشكل بما ورد في الروايات أن أهل الجنة إذا اشتهوا فاكهة تدلى إليهم غصن شجرتها بما لها من ثمرة فيتناولونها، و إذا اشتهوا لحم طير وقع مقليا مشويا في أيديهم فيأكلون منها ما أرادوا ثم حيي و طار.
و ذلك لأن لهم ما شاءوا و من فنون التنعم تناول ما يريدونه من أيدي خدمهم و خاصة حال اجتماعهم و احتفالهم كما أن من فنونه تناولهم أنفسهم من غير توسيط خدمهم فيه.
قوله تعالى: «و حور عين كأمثال اللؤلؤ المكنون» مبتدأ محذوف الخبر على ما يفيده السياق و التقدير و لهم حور عين أو و فيها حور عين و الحور العين نساء الجنة و قد تقدم معنى الحور العين في تفسير سورة الدخان.
و قوله: «كأمثال اللؤلؤ المكنون» أي اللؤلؤ المصون المخزون في الصدف لم تمسه الأيدي فهو منته في صفائه.
قوله تعالى: «جزاء بما كانوا يعملون» قيد لجميع ما تقدم و هو مفعول له، و المعنى: فعلنا بهم ما فعلنا ليكون جزاء لهم قبال ما كانوا يستمرون عليه من العمل الصالح.
قوله تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما» اللغو من القول ما لا فائدة فيه و لا أثر يترتب عليه، و التأثيم النسبة إلى الإثم أي لا يخاطب أحدهم صاحبه بما لا فائدة فيه و لا ينسبه إلى الإثم إذ لا إثم هناك، و فسر بعضهم التأثيم بالكذب.
قوله تعالى: «إلا قيلا سلاما سلاما» استثناء منقطع من اللغو و التأثيم، و القيل مصدر كالقول، و «سلاما» بيان لقوله: «قيلا» و تكراره يفيد تكرر الوقوع، و المعنى: إلا قولا هو السلام بعد السلام.
قيل: و يمكن أن يكون «سلاما» مصدرا بمعنى الوصف و صفة لقيلا، و المعنى: إلا قولا هو سالم.
قوله تعالى: «و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين» شروع في تفصيل ما انتهى إليه حال أصحاب الميمنة و في تبديله من أصحاب اليمين يعلم أن أصحاب اليمين و أصحاب الميمنة واحد و هم الذين يؤتون كتابهم بيمينهم.
و الجملة استفهامية مسوقة لتفخيم أمرهم و التعجيب من حالهم و هي خبر لقوله: «و أصحاب اليمين».
قوله تعالى: «في سدر مخضود» السدر شجرة النبق، و المخضود ما قطع شوكه فلا شوك له.
قوله تعالى: «و طلح منضود» الطلح شجر الموز، و قيل: ليس بالموز بل شجر له ظل بارد رطب، و قيل: شجرة أم غيلان لها أنوار طيبة الرائحة، و نضد الأشياء جعل بعضها على بعض، و المعنى: و في شجر موز منضود الثمر بعضه على بعض من أسفله إلى أعلاه.
قوله تعالى: «و ظل ممدود و ماء مسكوب» قيل: الممدود من الظل هو الدائم الذي لا تنسخه شمس فهو باق لا يزول، و الماء المسكوب هو المصبوب الجاري من غير انقطاع.
قوله تعالى: «و فاكهة كثيرة لا مقطوعة و لا ممنوعة» أي لا مقطوعة في بعض الأزمان كانقطاع الفواكه في شتاء و نحوه في الدنيا، و لا ممنوعة التناول لمانع من قبل أنفسهم كسأمة أو شبع أو من خارج كبعد المكان أو شوكة تمنع القطف أو غير ذلك.
قوله تعالى: «و فرش مرفوعة» الفرش جمع فراش و هو البساط، و المرفوعة العالية، و قيل: المراد بالفرش المرفوعة النساء المرتفعات قدرا في عقولهن و جمالهن و كمالهن و المرأة تسمى فراشا، و يناسب هذا المعنى قوله بعد: «إنا أنشأناهن إنشاء» إلخ.
قوله تعالى: «إنا أنشأناهن إنشاء فجعلناهن أبكارا عربا أترابا» أي إنا أوجدناهن و أحدثناهن و ربيناهن أحداثا و تربية خاصة، و فيه تلويح إلى أنهن لا يختلف حالهن بالشباب و الشيب و صباحة المنظر و خلافها، و قوله: «فجعلناهن أبكارا» أي خلقناهن عذارى كلما أتاهن أزواجهن وجدوهن أبكارا.
و قوله: «عربا أترابا» العرب جمع عروب و هي المتحننة إلى زوجها أو الغنجة أو العاشقة لزوجها، و الأتراب جمع ترب بالكسر فالسكون بمعنى المثل أي أنهن أمثال أو أمثال في السن لأزواجهن.
قوله تعالى: «لأصحاب اليمين ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» يتضح معناه بما تقدم، و يستفاد من الآيات أن أصحاب اليمين في الآخرين جمع كثير كالأولين لكن السابقين المقربين في الآخرين أقل جمعا منهم في الأولين.
قوله تعالى: «و أصحاب الشمال ما أصحاب الشمال» مبتدأ و خبر، و الاستفهام للتعجيب و التهويل، و قد بدل أصحاب المشأمة من أصحاب الشمال إشارة إلى أنهم الذين يؤتون كتابهم بشمالهم كما مر نظيره في أصحاب اليمين.
قوله تعالى: «في سموم و حميم و ظل من يحموم لا بارد و لا كريم» السموم - على ما في الكشاف، - حر نار ينفذ في المسام، و الحميم الماء الشديد الحرارة، و التنوين فيهما لتعظيم الأمر، و اليحموم الدخان الأسود، و قوله: «لا بارد و لا كريم» الظاهر أنهما صفتان للظل لا ليحموم، و ذلك أن الظل هو الذي يتوقع منه أن يتبرد بالاستظلال به و يستراح فيه دون الدخان.
قوله تعالى: «إنهم كانوا قبل ذلك مترفين» تعليل لاستقرار أصحاب الشمال في العذاب، و الإشارة بذلك إلى ما ذكر من عذابهم يوم القيامة، و إتراف النعمة الإنسان إبطارها و إطغاؤها له، و ذلك إشغالها نفسه بحيث يغفل عما وراءها فكون الإنسان مترفا تعلقه بما عنده من نعم الدنيا و ما يطلبه منها سواء كانت كثيرة أو قليلة.
فلا يرد ما استشكل من أن كثيرا من أصحاب الشمال ليسوا من المترفين بمعنى المتوسعين في التنعم و ذلك أن الإنسان محفوف بنعم ربه و ليست النعمة هي المال فحسب فاشتغاله بنعم ربه عن ربه ترفه منه، و المعنى: أنا إنما نعذبهم بما ذكر لأنهم كانوا قبل ذلك في الدنيا بطرين طاغين بالنعم.
قوله تعالى: «و كانوا يصرون على الحنث العظيم» في المجمع،: الحنث نقض العهد المؤكد بالحلف، و الإصرار أن يقيم عليه فلا يقلع عنه.
انتهى.
و لعل المستفاد من السياق أن إصرارهم على الحنث العظيم هو استكبارهم عن عبودية ربهم التي عاهدوا الله عليها بحسب فطرتهم و أخذ منهم الميثاق عليها في عالم الذر فيطيعون غير ربهم و هو الشرك المطلق.
و قيل: الحنث الذنب العظيم فتوصيفه بالعظيم مبالغة و الحنث العظيم الشرك بالله، و قيل: الحنث العظيم جنس المعاصي الكبيرة، و قيل: هو القسم على إنكار البعث المشار إليه بقوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت»: النحل: 38، و لفظ الآية مطلق.
قوله تعالى: «و كانوا يقولون أ إذا متنا و كنا ترابا و عظاما أ إنا لمبعوثون أ و آباؤنا الأولون» قول منهم مبني على الاستبعاد و لذا أكدوا استبعاد بعث أنفسهم ببعث آبائهم لأن الاستبعاد في موردهم آكد، و التقدير أ و آباؤنا الأولون مبعوثون.
قوله تعالى: «قل إن الأولين و الآخرين لمجموعون إلى ميقات يوم معلوم» أمر منه تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجيب عن استبعادهم البعث بتقريره ثم إخبارهم عما يعيشون به يوم البعث من طعام و شراب و هما الزقوم و الحميم.
و محصل القول إن الأولين و الآخرين - من غير فرق بينهم لا كما فرقوا فجعلوا بعث أنفسهم مستبعدا و بعث آبائهم الأولين أشد استبعادا و آكد - لمجموعون محشورين إلى ميقات يوم معلوم.
و الميقات ما وقت به الشيء و هو وقته المعين، و المراد بيوم معلوم يوم القيامة المعلوم عند الله فإضافة الميقات إلى يوم معلوم بيانية.
قوله تعالى: «ثم إنكم أيها الضالون المكذبون لآكلون من شجر من زقوم فمالئون منها البطون» من تمام كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يخبرهم عما ينتهي إليه حالهم يوم القيامة و يعيشون به من طعام و شراب.
و في خطابهم بالضالين المكذبين إشارة إلى ملاك شقائهم و خسرانهم يوم البعث و هو ضلالهم عن طريق الحق و استقرار ذلك في نفوسهم باستمرارهم على تكذيبهم و إصرارهم على الحنث، و لو كانوا ضالين فحسب من غير تكذيب لكان من المرجو أن ينجوا و لا يهلكوا.
و «من» في قوله: «من شجر» للابتداء، و في قوله: «من زقوم» بيانية و يحتمل أن يكون «من زقوم» بدلا من «من شجر»، و ضمير «منها» للشجر أو الثمر و كل منهما يؤنث و يذكر و لذا جيء هاهنا بضمير التأنيث و في الآية التالية في قوله: «فشاربون عليه» بضمير التذكير، و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «فشاربون عليه من الحميم فشاربون شرب الهيم» كلمة «على» للاستعلاء و تفيد في المورد كون الشرب عقيب الأكل من غير ريث، و الهيم جمع هيماء الإبل التي أصابها الهيام بضم الهاء و هو داء شبه الاستسقاء يصيب الإبل فتشرب الماء حتى تموت أو تسقم سقما شديدا، و قيل: الهيم الرمال التي لا تروى بالماء.
و المعنى: فشاربون عقيب ما أكلتم من الزقوم من الماء الشديد الحرارة فشاربون كشرب الإبل الهيم أو كشرب الرمال الهيم و هذا آخر ما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقوله لهم.
قوله تعالى: «هذا نزلهم يوم الدين» أي يوم الجزاء و النزل ما يقدم للضيف النازل من طعام و شراب إكراما له، و المعنى: هذا الذي ذكر من طعامهم و شرابهم هو نزل الضالين المكذبين ففي تسمية ما أعد لهم بالنزل نوع تهكم، و الآية من كلامه تعالى خطابا للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لو كان من كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خطابا لهم لقيل: هذا نزلكم.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن مردويه و ابن عساكر من طريق عروة بن رويم عن جابر بن عبد الله قال: لما نزلت إذا وقعت الواقعة ذكر فيها «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» قال عمر: يا رسول الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): تعال و استمع ما قد أنزل الله ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين». ألا و إن من آدم إلى ثلة و أمتي ثلة و لن نستكمل ثلتنا حتى نستعين بالسودان رعاة الإبل ممن يشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له:. قال السيوطي و أخرجه ابن أبي حاتم من وجه آخر عن عروة بن رويم مرسلا و فيه، أخرج ابن مردويه عن أبي هريرة قال: لما نزلت «ثلة من الأولين و قليل من الآخرين» حزن أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: إذن لا يكون من أمة محمد إلا قليل فنزلت نصف النهار «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» تقابلون الناس فنسخت الآية «و قليل من الآخرين».
أقول: قال في الكشاف، في تفسير الآية: فإن قلت: فقد روي أنها لما نزلت شق ذلك على المسلمين فما زال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يراجع ربه حتى نزلت «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين».
قلت: هذا لا يصح لأمرين: أحدهما: أن هذه الآية واردة في السابقين ورودا ظاهرا و كذلك الثانية في أصحاب اليمين، أ لا ترى كيف عطف أصحاب اليمين و وعدهم على السابقين و وعدهم؟ الثاني: أن النسخ في الأخبار غير جائز.
انتهى.
و أجيب عنه بأنه يمكن أن يحمل الحديث على أن الصحابة لما سمعوا الآية الأولى حسبوا أن الأمر في هذه الأمة يذهب على هذا النهج فيكون أصحاب اليمين ثلة من الأولين و قليلا منهم فيكون الفائزون بالجنة في هذه الأمة أقل منهم في الأمم السالفة فنزلت «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» فزال حزنهم، و معنى نسخ الآية السابقة إزالة حسبانهم المذكور.
و أنت خبير بأنه حمل على ما لا دليل عليه من جهة اللفظ و اللفظ يأباه و خاصة حمل نسخ الآية على إزالة الحسبان، و حال الرواية الأولى و خاصة من جهة ذيلها كحال هذه الرواية.
و في المجمع، في قوله تعالى: «يطوف عليهم ولدان مخلدون» اختلف في هذه الولدان فقيل: إنهم أولاد أهل الدنيا لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها و لا سيئات فيعاقبوا عليها فأنزلوا هذه المنزلة.
قال: و قد روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): أنه سئل عن أطفال المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنة:. أقول: و رواه في الدر المنثور عن الحسن، و الرواية ضعيفة لا تعويل عليها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي الدنيا في صفة الجنة و البزار و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود قال: قال لي رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لتنظر إلى الطير في الجنة فتشتهيه فيخر بين يديك مشويا.
أقول: و في هذا المعنى روايات كثيرة و في بعضها أن المؤمن يأكل ما يشتهيه ثم يعود الباقي إلى ما كان عليه و يحيا فيطير إلى مكانه و يباهي بذلك.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما» قال: الفحش و الكذب و الغنا.
أقول: لعل المراد بالغنا ما يكون منه لهوا أو الغنا مصحف الخنا.
و فيه،: في قوله تعالى: «و أصحاب اليمين ما أصحاب اليمين» قال: علي بن أبي طالب (عليه السلام) و أصحابه و شيعته.
أقول: الرواية مبنية على ما ورد في ذيل قوله تعالى: «يوم ندعوا كل أناس بإمامهم فمن أوتي كتابه بيمينه»: إسراء: 71، إن اليمين هو الإمام الحق و معناها أن اليمين هو علي (عليه السلام) و أصحاب اليمين شيعته، و الرواية من الجري.
و فيه،: في قوله تعالى: «في سدر مخضود» شجر لا يكون له ورق و لا شوك فيه، و قرأ أبو عبد الله (عليه السلام): «و طلع منضود» قال: بعضه على بعض.
و في الدر المنثور، أخرج الحاكم و صححه و البيهقي في البعث عن أبي أمامة قال: كان أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقولون: إن الله ينفعنا بالأعراب و مسائلهم. أقبل أعرابي يوما فقال: يا رسول الله لقد ذكر الله في القرآن شجرة مؤذية. و ما كنت أرى أن في الجنة شجرة تؤذي صاحبها. فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و ما هي؟ قال: السدر فإن لها شوكا، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ ليس يقول الله: «في سدر مخضود» يخضده الله من شوكه فيجعل مكان كل شوكة ثمرة أنها تنبت ثمرا تفتق الثمر منها عن اثنين و سبعين لونا من الطعام ما فيها لون يشبه الآخر.
و في المجمع،: و روت العامة عن علي (عليه السلام): أنه قرأ رجل عنده «و طلح منضود» فقال: ما شأن الطلح إنما هو «و طلع» كقوله: «و نخل طلعها هضيم» فقيل له: أ لا تغيره؟ قال: إن القرآن لا يهاج اليوم و لا يحرك:، رواه عنه ابنه الحسن (عليه السلام) و قيس بن سعد.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و الفاريابي و هناد و عبد بن حميد و ابن جرير و ابن مردويه عن علي بن أبي طالب: في قوله: «و طلح منضود» قال: هو الموز.
و في المجمع، ورد في الخبر: أن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة سنة لا يقطعها اقرءوا إن شئتم «و ظل ممدود» و روي أيضا: أن أوقات الجنة كغدوات الصيف لا يكون فيها حر و لا برد.
أقول: و روي الأول في الدر المنثور عن أبي سعيد و أنس و غيرهما عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في روضة الكافي، بإسناده عن علي بن إبراهيم عن ابن محبوب عن محمد بن إسحاق المدني عن أبي جعفر (عليه السلام) عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في حديث يصف فيه الجنة و أهلها: و يزور بعضهم بعضا و يتنعمون في جناتهم في ظل ممدود في مثل ما بين طلوع الفجر إلى طلوع الشمس و أطيب من ذلك.
و في تفسير القمي،: و قوله: «إنا أنشأناهن إنشاء» قال: الحور العين في الجنة «فجعلناهن أبكارا عربا» قال: لا يتكلمون إلا بالعربية.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن جعفر بن محمد عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «عربا» قال: كلامهن عربي.
أقول: و فيه روايات أخر أن عربا جمع عروب و هي الغنجة.
و فيه، أخرج مسدد في مسنده و ابن المنذر و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن أبي بكرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله تعالى: «ثلة من الأولين و ثلة من الآخرين» قال: هما جميعا من هذه الأمة.
أقول: و هذا المعنى مروي في غير واحد من الروايات لكن ظاهر آيات السورة أن القسمة لكافة البشر لا لهذه الأمة خاصة، و لعل المراد من هذه الروايات بيان بعض المصاديق و إن كان بعيدا، و كذا المراد مما ورد أن أصحاب اليمين أصحاب أمير المؤمنين (عليه السلام)، و ما ورد أن أصحاب الشمال أعداء آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في المحاسن، بإسناده عن معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن الشرب بنفس واحد فكرهه و قال: ذلك شرب الهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال: الإبل.
و فيه، بإسناده عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام): أنه كان يكره أن يتشبه بالهيم. قلت: و ما الهيم؟ قال الرمل.
أقول: و المعنيان جميعا واردان في روايات أخر.
|