بيان
لما أخبر عن العذاب الواقع يوم القيامة و أنه سيصيب المكذبين، و المتقون في جنات و نعيم قريرة العيون أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يمضي في دعوته و تذكرته مشيرا إلى أنه صالح لإقامة الدعوة الحقة، و لا عذر لهؤلاء المكذبين في تكذيبه و رد دعوته.
فنفى جميع الأعذار المتصورة لهم و هي ستة عشر أمرا شطر منها راجع إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو تحقق شيء منه فيه سلب صلاحيته للاتباع و كان مانعا عن قبول قوله ككونه كاهنا أو مجنونا أو شاعرا أو متقولا مفتريا على الله و كسؤاله الأجر على دعوته و شطر منها راجع إلى المكذبين أنفسهم مثل كونهم خلقوا من غير شيء أو كونهم الخالقين أو أمر عقولهم بالتكذيب إلى غير ذلك و لا تخلو الآيات مع ذلك عن توبيخهم الشديد على التكذيب.
قوله تعالى: «فذكر فما أنت بنعمة ربك بكاهن و لا مجنون» تفريع على ما مر من الإخبار المؤكد بوقوع العذاب الإلهي يوم القيامة، و أنه سيغشى المكذبين و المتقون في وقاية منه متلذذون بنعيم الجنة.
فالآية في معنى أن يقال: إذا كان هذا حقا فذكر فإنما تذكر و تنذر بالحق و لست كما يرمونك كاهنا أو مجنونا.
و تقييد النفي بقوله: «بنعمة ربك» يفيد معنى الامتنان على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) خاصة و ليس هذا الامتنان الخاص من جهة مجرد انتفاء الكهانة و الجنون فأكثر الناس على هذه الصفة بل من وجهه تلبسه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالنعمة الخاصة به المانع من عروض هذه الصفات عليه من كهانة أو جنون و غير ذلك.
قوله تعالى: «أم يقولون شاعر نتربص به ريب المنون» أم منقطعة، و التربص الانتظار، و في مجمع البيان،: التربص الانتظار بالشيء من انقلاب حال له إلى خلافها و المنون المنية و الموت، و الريب القلق و الاضطراب.
فريب المنون قلق الموت.
و محصل المعنى: بل يقولون هو أي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شاعر ننتظر به الموت حتى يموت و يخمد ذكره و ينسى رسمه فنستريح منه.
قوله تعالى: «قل تربصوا فإني معكم من المتربصين» أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يأمرهم بالتربص كما رضوا لأنفسهم ذلك، و هو أمر تهديدي أي تربصوا كما ترون لأنفسكم ذلك فإن هناك أمر من حقه أن ينتظر وقوعه، و أنا أنتظره مثلكم لكنه عليكم لا لكم و هو هلاككم و وقوع العذاب عليكم.
قوله تعالى: «أم تأمرهم أحلامهم بهذا» الأحلام جمع حلم و هو العقل، و أم منقطعة و الكلام بتقدير الاستفهام و الإشارة بهذا إلى ما يقولونه للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتربصون به.
و المعنى: بل أ تأمرهم عقولهم أن يقولوا هذا الذي يقولونه و يتربصوا به الموت؟ فأي عقل يدفع الحق بمثل هذه الأباطيل؟.
قوله تعالى: «أم هم قوم طاغون» أي إن عقولهم لم تأمرهم بهذا بل هم طاغون حملهم على هذا طغيانهم.
قوله تعالى: «أم يقولون تقوله بل لا يؤمنون» قال في المجمع،: التقول تكلف القول و لا يقال ذلك إلا في الكذب، و المعنى بل يقولون: افتعل القرآن و نسبه إلى الله كذبا و افتراء.
لا بل لا يؤمنون فيرمونه بهذه الفرية.
قوله تعالى: «فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين» جواب عن قولهم: «تقوله» بأنه لو كان كلاما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كلاما بشريا مماثلا لسائر الكلام و يماثله سائر الكلام فكان يمكنهم أن يأتوا بحديث مثله فليأتوا بحديث مثله إن كانوا صادقين في دعواهم التقول بل هو كلام إلهي لائحة عليه دلائل الإعجاز يعجز البشر عن إتيان مثله، و قد تقدم الكلام في وجوه إعجاز القرآن في تفسير سورة البقرة الآية 23 تفصيلا.
و يمكن أن تؤخذ الآية ردا لجميع ما تقدم من قولهم المحكي إنه كاهن أو مجنون أو شاعر أو متقول لأن عجز البشر عن الإتيان بمثله يأبى إلا أن يكون كلام الله سبحانه لكن الأظهر ما تقدم.
قوله تعالى: «أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون» إتيان «شيء» منكرا بتقدير صفة تناسب المقام و التقدير من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر.
و المعنى: بل أ خلق هؤلاء المكذبون من غير شيء خلق منه غيرهم من البشر فصلح لإرسال الرسول و الدعوة إلى الحق و التلبس بعبوديته تعالى فهؤلاء لا يتعلق بهم تكليف و لا يتوجه إليهم أمر و لا نهي و لا تستتبع أعمالهم ثوابا و لا عقابا لكونهم مخلوقين من غير ما خلق منه غيرهم.
و في معنى الجملة أقوال أخر.
فقيل: المراد أم أحدثوا و قدروا هذا التقدير البديع من غير مقدر و خالق فلا حاجة لهم إلى خالق يدبر أمرهم.
و قيل: المراد أم خلقوا من غير شيء حي فهم لا يؤمرون و لا ينهون كالجمادات.
و قيل: المعنى أم خلقوا من غير علة و لا لغاية ثواب و عقاب فهم لذلك لا يسمعون.
و قيل: المعنى أم خلقوا باطلا لا يحاسبون و لا يؤمرون و لا ينهون.
و ما قدمناه من المعنى أقرب إلى لفظ الآية و أشمل.
و قوله: «أم هم الخالقون» أي لأنفسهم فليسوا مخلوقين لله سبحانه حتى يربهم و يدبر أمرهم بالأمر و النهي.
قوله تعالى: «أم خلقوا السماوات و الأرض بل لا يوقنون» أي أم أخلقوا العالم حتى يكونوا أربابا آلهة و يجلوا من أن يستعبدوا و يكلفوا بتكليف العبودية بل هم قوم لا يوقنون.
قوله تعالى: «أم عندهم خزائن ربك أم هم المصيطرون» أي بل أ عندهم خزائن ربك حتى يرزقوا النبوة من شاءوا و يمسكوها عمن شاءوا فيمنعوك النبوة و الرسالة.
و قوله: «أم هم المصيطرون» السيطرة - و ربما يقلب سينها صادا - الغلبة و القهر و المعنى: بل أ هم الغالبون القاهرون على الله سبحانه حتى يسلبوا عنك ما رزقك الله من النبوة و الرسالة.
قوله تعالى: «أم لهم سلم يستمعون فيه فليأت مستمعهم بسلطان مبين» السلم المرقاة ذات الدرج التي يتوسل بالصعود فيه إلى الأمكنة العالية، و الاستماع مضمن معنى الصعود، و السلطان الحجة و البرهان.
و المعنى: بل أ عندهم سلم يصعدون فيه إلى السماء فيستمعون بالصعود فيه الوحي فيأخذون ما يوحى إليهم و يردون غيره؟ فليأت مستمعهم أي المدعي للاستماع منهم بحجة ظاهرة.
قوله تعالى: «أم له البنات و لكم البنون» قيل: فيه تسفيه لعقولهم حيث نسبوا إليه تعالى ما أنفوا منه.
قوله تعالى: «أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون» قال الراغب: الغرم - بالضم فالسكون - ما ينوب الإنسان في ماله من ضرر لغير جناية منه أو خيانة انتهى و الإثقال تحميل الثقل و هو كناية عن المشقة.
و المعنى: بل أ تسألهم أجرا على تبليغ رسالتك فهم يتحرجون عن تحمل الغرم الذي ينوبهم بتأدية الأجر؟.
قوله تعالى: «أم عندهم الغيب فهم يكتبون» ذكر بعضهم أن المراد بالغيب اللوح المحفوظ المكتوب فيه الغيوب و المعنى: بل أ عندهم اللوح المحفوظ يكتبون منه و يخبرون به الناس فما أخبروا به عنك من الغيب الذي لا ريب فيه.
و قيل: المراد بالغيب علم الغيب، و بالكتابة الإثبات و المعنى: بل أ عندهم علم الغيب فهم يثبتون ما علموه شرعا للناس عليهم أن يطيعوهم فيما أثبتوا، و قيل: يكتبون بمعنى يحكمون.
قوله تعالى: «أم يريدون كيدا فالذين كفروا هم المكيدون» الكيد ضرب من الاحتيال على ما ذكره الراغب، و في المجمع،: الكيد هو المكر، و قيل: هو فعل ما يوجب الغيظ في خفية.
انتهى.
ظاهر السياق أن المراد بكيدهم هو مكرهم بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما رموه به من الكهانة و الجنون و الشعر و التقول ليعرض عنه الناس و يبتعدوا عنه فتبطل بذلك دعوته و ينطفىء نوره، و هذا كيد منهم و مكر بأنفسهم حيث يحرمون لها السعادة الخالدة و الركوب على صراط الحق بذلك بل كيد من الله بقطع التوفيق عنهم و الطبع على قلوبهم.
و قيل: المراد بالكيد الذي يريدونه هو ما كان منهم في حقه (صلى الله عليه وآله وسلم) في دار الندوة و المراد بالذين كفروا المذكورون من المكذبين و هم أصحاب دار الندوة، و قد قلب الله كيدهم إلى أنفسهم فقتلهم يوم بدر، و الكلام على هذا من الإخبار بالغيب لنزول السورة قبل ذلك بكثير، و هو بعيد من السياق.
قوله تعالى: «أم لهم إله غير الله سبحان الله عما يشركون» فإنهم إذا كان لهم إله غير الله كان هو الخالق لهم و المدبر لأمرهم فاستغنوا بذلك عن الله سبحانه و استجابة دعوة رسوله و نصرهم إلههم و دفع عنهم عذاب الله الذي أوعد به المكذبين و أنذرهم به رسوله.
و قوله: «سبحان الله عما يشركون» تنزيه له تعالى أن يكون له شريك كما يدعون، و ما في قوله: «عما يشركون» مصدرية أي سبحانه عن شركهم.
قوله تعالى: «و إن يروا كسفا من السماء ساقطا يقولوا سحاب مركوم» الكسف بالكسر فالسكون القطعة، و المركوم المتراكم الواقع بعضه على بعض.
و المعنى: أن كفرهم و إصرارهم على تكذيب الدعوة الحقة بلغ إلى حيث لو رأوا قطعة من السماء ساقطا عليهم لقالوا سحاب متراكم ليست من آية العذاب في شيء فهو كقوله: «و لو فتحنا عليهم بابا من السماء فظلوا فيه يعرجون لقالوا إنما سكرت أبصارنا»: الحجر: 15.
|