بيان
السورة ترغب المؤمنين و تحرضهم على أن يجاهدوا في سبيل الله و يقاتلوا أعداء دينه، و تنبئهم أن هذا الدين نور ساطع لله سبحانه يريد الكفار من أهل الكتاب أن يطفئوه بأفواههم و الله متمه و لو كره الكافرون، و مظهره على الدين كله و لو كره المشركون.
و أن هذا النبي الذي آمنوا به رسول من الله أرسله بالهدى و دين الحق، و بشر به عيسى بن مريم (عليهما السلام) بني إسرائيل.
فعلى المؤمنين أن يشدوا العزم على طاعته و امتثال ما يأمرهم به من الجهاد و نصرة الله في دينه حتى يسعدهم الله في آخرتهم و ينصرهم و يفتح لهم في دنياهم و يؤيدهم على أعدائهم.
و عليهم أن لا يقولوا ما لا يفعلون و لا ينكصوا فيما يعدون فإن ذلك يستوجب مقتا من الله تعالى و إيذاء الرسول و فيه خطر أن يزيغ الله قلوبهم كما فعل بقوم موسى (عليه السلام) لما آذوه و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم و الله لا يهدي القوم الظالمين.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «سبح لله ما في السماوات و ما في الأرض و هو العزيز الحكيم» تقدم تفسيره، و افتتاح الكلام بالتسبيح لما فيها من توبيخ المؤمنين بقولهم ما لا يفعلون و إنذارهم بمقت الله و إزاغته قلوب الفاسقين.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون» «لم» مخفف لما، و «ما» استفهامية، و اللام للتعليل، و الكلام مسوق للتوبيخ ففيه توبيخ المؤمنين على قولهم ما لا يفعلون و لا يصغى إلى قول بعض المفسرين: أن المراد بالذين آمنوا هم المنافقون و التوبيخ لهم دون المؤمنين لجلالة قدرهم.
و ذلك لوفور الآيات المتضمنة لتوبيخهم و معاتبتهم و خاصة في الآيات النازلة في الغزوات و ما يلحق بها كأحد و الأحزاب و حنين و صلح الحديبية و تبوك و الإنفاق في سبيل الله و غير ذلك، و الصالحون من هؤلاء المؤمنين إنما صلحوا نفسا و جلوا قدرا بالتربية الإلهية التي تتضمنها أمثال هذه التوبيخات و العتابات المتوجهة إليهم تدريجا و لم يتصفوا بذلك من عند أنفسهم.
و مورد التوبيخ و إن كان بحسب ظاهر لفظ الآية مطلق تخلف الفعل عن القول و خلف الوعد و نقض العهد و هو كذلك لكونه من آثار مخالفة الظاهر للباطن و هو النفاق لكن سياق الآيات و فيها قوله: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا» و ما سيأتي من قوله: «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة» إلخ، و غير ذلك يفيد أن متعلق التوبيخ كان هو تخلف بعضهم عما وعده من الثبات في القتال و عدم الانهزام و الفرار أو تثاقلهم أو تخلفهم عن الخروج أو عدم الإنفاق في تجهز أنفسهم أو تجهيز غيرهم.
قوله تعالى: «كبر مقتا عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون» المقت البغض الشديد، و الآية في مقام التعليل لمضمون الآية السابقة فهو تعالى يبغض من الإنسان أن يقول ما لا يفعله لأنه من النفاق، و أن يقول الإنسان ما لا يفعله غير أن لا يفعل ما يقوله فالأول من النفاق و الثاني من ضعف الإرادة و وهن العزم و هو رذيلة منافية لسعادة النفس الإنسانية فإن الله بنى سعادة النفس الإنسانية على فعل الخير و اكتساب الحسنة من طريق الاختيار و مفتاحه العزم و الإرادة، و لا تأثير إلا للراسخ من العزم و الإرادة، و تخلف الفعل عن القول معلول وهن العزم و ضعف الإرادة و لا يرجى للإنسان مع ذلك خير و لا سعادة.
قوله تعالى: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا كأنهم بنيان مرصوص» الصف جعل الأشياء على خط مستو كالناس و الأشجار.
كذا قاله الراغب، و هو مصدر بمعنى اسم الفاعل و لذا لم يجمع، و هو حال من ضمير الفاعل في «يقاتلون»، و المعنى: يقاتلون في سبيله حال كونهم صافين.
و البنيان هو البناء، و المرصوص من الرصاص، و المراد به ما أحكم من البناء بالرصاص فيقاوم ما يصادمه من أسباب الانهدام.
و الآية تعلل خصوص المورد - و هو أن يعدوا الثبات في القتال ثم ينهزموا - بالالتزام كما أن الآية السابقة تعلل التوبيخ على مطلق أن يقولوا ما لا يفعلون، و ذلك أن الله سبحانه إذا أحب الذين يقاتلون فيلزمون مكانهم و لا يزولون كان لازمه أن يبغض الذين يعدون أن يثبتوا ثم ينهزمون إذا حضروا معركة القتال.
قوله تعالى: «و إذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم» إلخ، في الآية إشارة إلى إيذاء بني إسرائيل رسولهم موسى (عليه السلام) و لجاجهم حتى آل إلى إزاغة الله قلوبهم.
و في ذلك نهي التزامي للمؤمنين عن أن يؤذوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فيئول أمرهم إلى ما آل إليه أمر قوم موسى من إزاغة القلوب و قد قال تعالى: «إن الذين يؤذون الله و رسوله لعنهم الله في الدنيا و الآخرة و أعد لهم عذابا مهينا»: الأحزاب: 57.
و الآية بما فيها من النهي الالتزامي في معنى قوله: «يا أيها الذين آمنوا لا تكونوا كالذين آذوا موسى فبرأه الله مما قالوا و كان عند الله وجيها يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و قولوا قولا سديدا»: الأحزاب: 70.
و سياق الآيتين و ذكر تبرئة موسى (عليه السلام) يدل على أن المراد بإيذائه بما برأه الله منه ليس معصيتهم لأوامره و خروجهم عن طاعته إذ لا معنى حينئذ لتبرئته بل هو أنهم وقعوا فيه (عليه السلام) و قالوا فيه ما فيه عار و شين فتأذى فبرأه الله مما قالوا و نسبوا إليه، و قوله في الآية التالية: «اتقوا الله و قولوا قولا سديدا» يؤيد هذا الذي ذكرناه.
و يؤيد ذلك إشارته تعالى إلى بعض مصاديق إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول أو فعل في قوله: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه و لكن إذا دعيتم فادخلوا فإذا طعمتم فانتشروا و لا مستأنسين لحديث إن ذلكم كان يؤذي النبي - إلى أن قال - و إذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب - إلى أن قال - و ما كان لكم أن تؤذوا رسول الله و لا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما»: الأحزاب: 53.
فتحصل أن في قوله: «و إذ قال موسى لقومه» إلخ، تلويحا إلى النهي عن إيذاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقول أو فعل على علم بذلك كما أن في ذيل الآية تخويفا و إنذارا أنه فسق ربما أدى إلى إزاغته تعالى قلب من تلبس به.
و قوله: «فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين» الزيغ الميل عن الاستقامة و لازمه الانحراف عن الحق إلى الباطل.
و إزاغته تعالى إمساك رحمته و قطع هدايته عنهم كما يفيده التعليل بقوله: «و الله لا يهدي القوم الفاسقين» حيث علل الإزاغة بعدم الهداية، و هي إزاغة على سبيل المجازاة و تثبيت للزيغ الذي تلبسوا به أولا بسبب فسقهم المستدعي للمجازاة كما قال تعالى: «يضل به كثيرا و يهدي به كثيرا و ما يضل به إلا الفاسقين»: البقرة: 26، و ليس بإزاغة بدئية و إضلال ابتدائي لا يليق بساحة قدسه تعالى.
و من هنا يظهر فساد ما قيل: إنه لا يجوز أن يكون المراد بقوله: «أزاغ الله قلوبهم» الإزاغة عن الإيمان لأن الله تعالى لا يجوز أن يزيغ أحدا عن الإيمان، و أيضا كون المراد به الإزاغة عن الإيمان يخرج الكلام عن الفائدة لأنهم إذا زاغوا عن الإيمان فقد صاروا كفارا فلا معنى لقوله: أزاغهم الله عن الإيمان.
وجه الفساد أن قوله: لا يجوز له تعالى أن يزيغ أحدا عن الإيمان ممنوع بإطلاقه فإن الملاك فيه لزوم الظلم و إنما يلزم فيما كان من الإزاغة و الإضلال ابتدائيا و أما ما كان على سبيل المجازاة و حقيقته إمساك الرحمة و قطع الهداية لتسبيب العبد لذلك بفسقه و إعراضه عن الرحمة و الهداية فلا دليل على منعه لا عقلا و لا نقلا.
و أما قوله: إن الكلام يخرج بذلك عن الفائدة فيدفعه أن الذي ينسب من الزيغ إلى العبد و يحصل معه الكفر تحقق ما له بالفسق و الذي ينسب إليه تعالى تثبيت الزيغ في قلب العبد و الطبع عليه به فزيغ العبد عن الإيمان بسبب فسقه و حصول الكفر بذلك لا يغني عن تثبيت الله الزيغ و الكفر في قلبه على سبيل المجازاة.
قوله تعالى: «و إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» تقدم في صدر الكلام أن هذه الآية و التي قبلها و الآيات الثلاث بعدها مسوقة لتسجيل أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسول معلوم الرسالة عند المؤمنين أرسله الله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره الكافرون من أهل الكتاب، و ما جاء به من الدين نور ساطع من عند الله يريد المشركون ليطفئوه بأفواههم و الله متم نوره و لو كره المشركون.
فعلى المؤمنين أن لا يؤذوه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم يعلمون أنه رسول الله إليهم، و أن ينصروه و يجاهدوا في سبيل ربهم لإحياء دينه و نشر كلمته.
و من ذلك يعلم أن قوله: «و إذ قال عيسى بن مريم يا بني إسرائيل» إلخ، كالتوطئة لما سيذكر من كون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) رسولا مبشرا به من قبل أرسله الله بالهدى و دين الحق و دينه نوره تعالى يهتدي به الناس.
و الذي حكاه تعالى عن عيسى بن مريم (عليهما السلام) أعني قوله: «يا بني إسرائيل إني رسول الله إليكم مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» ملخص دعوته و قد آذن بأصل دعوته بقوله: «إني رسول الله إليكم» فأشار إلى أنه لا شأن له إلا أنه حامل رسالة من الله إليهم، ثم بين متن ما أرسل إليهم لأجل تبليغه في رسالته بقوله: «مصدقا لما بين يدي من التوراة و مبشرا برسول» إلخ.
فقوله: «مصدقا لما بين يدي من التوراة» بيان أن دعوته لا تغاير دين التوراة و لا تناقض شريعتها بل تصدقها و لم تنسخ من أحكامها إلا يسيرا و النسخ بيان انتهاء أمد الحكم و ليس بإبطال، و لذا جمع (عليه السلام) بين تصديق التوراة و نسخ بعض أحكامها فيما حكاه الله تعالى من قوله: «و مصدقا لما بين يدي من التوراة و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم»: آل عمران: 50، و لم يبين لهم إلا بعض ما يختلفون فيه كما في قوله المحكي: «قد جئتكم بالحكمة و لأبين لكم بعض الذي تختلفون فيه فاتقوا الله و أطيعون»: الزخرف: 63.
و قوله: «و مبشرا برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد» إشارة إلى الشطر الثاني من رسالته (عليه السلام) و قد أشار إلى الشطر الأول بقوله: «مصدقا لما بين يدي من التوراة».
و من المعلوم أن البشرى هي الخبر الذي يسر المبشر و يفرحه و لا يكون إلا بشيء من الخير يوافيه و يعود إليه، و الخير المترقب من بعثة النبي و دعوته هو انفتاح باب من الرحمة الإلهية على الناس فيه سعادة دنياهم و عقباهم من عقيدة حقة أو عمل صالح أو كليهما، و البشرى بالنبي بعد النبي و بالدعوة الجديدة بعد حلول دعوة سابقة و استقرارها و الدعوة الإلهية واحدة لا تبطل بمرور الدهور و تقضي الأزمنة و اختلاف الأيام و الليالي - إنما تتصور إذا كانت الدعوة الجديدة أرقى فيما تشتمل عليه من العقائد الحقة و الشرائع المعدلة لأعمال المجتمع و أشمل لسعادة الإنسان في دنياه و عقباه.
و بهذا البيان يظهر أن معنى قوله (عليه السلام): «و مبشرا برسول يأتي من بعدي» إلخ، يفيد كون ما أتى به النبي أحمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أرقى و أكمل مما تضمنته التوراة و بعث به عيسى (عليه السلام) و هو (عليه السلام) متوسط رابط بين الدعوتين.
و يعود معنى كلامه: «إني رسول الله إليكم مصدقا» إلخ، إلى أني رسول من الله إليكم أدعو إلى شريعة التوراة و منهاجها - و لأحل لكم بعض الذي حرم عليكم - و هي شريعة سيكملها الله ببعث نبي يأتي من بعدي اسمه أحمد.
و هو كذلك فإمعان التأمل في المعارف الإلهية التي يدعو إليها الإسلام يعطي أنها أدق مما في غيره من الشرائع السماوية السابقة و خاصة ما يندب إليه من التوحيد الذي هو أصل الأصول الذي يبتنى عليه كل حكم و يعود إليه كل من المعارف الحقيقية و قد تقدم شطر من الكلام فيه في المباحث السابقة من الكتاب.
و كذا الشرائع و القوانين العملية التي لم تدع شيئا مما دق و جل من أعمال الإنسان الفردية و الاجتماعية إلا عدلته و حدت حدوده و قررته على أساس التوحيد و وجهته إلى غرض السعادة.
و إلى ذلك الإشارة بقوله تعالى: «الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل يأمرهم بالمعروف و ينهاهم عن المنكر و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث و يضع عنهم إصرهم و الأغلال التي كانت عليهم»: الأعراف: 157، و آيات أخرى يصف القرآن.
و الآية أعني قوله: «و مبشرا برسول يأتي من بعدي» و إن كانت مصرحة بالبشارة لكنها لا تدل على كونها مذكورة في كتابه (عليه السلام) غير أن آية الأعراف المنقولة آنفا: «يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل» و كذا قوله في صفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل» الآية: الفتح: 29، يدلان على ذلك.
و قوله: «اسمه أحمد» دلالة السياق على تعبير عيسى (عليه السلام) عنه (صلى الله عليه وآله وسلم) بأحمد و على كونه اسما له يعرف به عند الناس كما كان يسمى بمحمد ظاهرة لا سترة عليها.
و يدل عليه قول حسان: صلى الإله و من يحف بعرشه.
و الطيبون على المبارك أحمد.
و من أشعار أبي طالب قوله: و قالوا لأحمد أنت امرؤ.
خلوف اللسان ضعيف السبب.
ألا إن أحمد قد جاءهم.
بحق و لم يأتهم بالكذب.
و قوله مخاطبا للعباس و حمزة و جعفر و علي يوصيهم بنصر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): كونوا فدى لكم أمي و ما ولدت.
في نصر أحمد دون الناس أتراسا.
و من شعره فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و قد سماه باسمه الآخر محمد: أ لم تعلموا أنا وجدنا محمدا.
نبيا كموسى خط في أول الكتب.
و يستفاد من البيت أنهم عثروا على وجود البشارة به (صلى الله عليه وآله وسلم) في الكتب السماوية التي كانت عند أهل الكتاب يومئذ ذاك.
و يؤيده أيضا إيمان جماعة من أهل الكتاب من اليهود و النصارى و فيهم قوم من علمائهم كعبد الله بن سلام و غيره و قد كانوا يسمعون هذه الآيات القرآنية التي تذكر البشارة به (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذكره في التوراة و الإنجيل فتلقوه بالقبول و لم يكذبوه و لا أظهروا فيه شيئا من الشك و الترديد.
و أما خلو الأناجيل الدائرة اليوم عن بشارة عيسى بما فيها من الصراحة فالقرآن - و هو آية معجزة باقية - في غنى عن تصديقها، و قد تقدم البحث عن سندها و اعتبارها في الجزء الثالث من الكتاب.
و قوله: «فلما جاءهم بالبينات قالوا هذا سحر مبين» ضمير «جاء» لأحمد (صلى الله عليه وآله وسلم)، و ضمير «هم» لبني إسرائيل أو لهم و لغيرهم، و المراد بالبينات البشارة و معجزة القرآن و سائر آيات النبوة.
و المعنى: فلما جاء أحمد المبشر به بني إسرائيل أو أتاهم و غيرهم بالآيات البينة التي منها بشارة عيسى (عليه السلام) قالوا هذا سحر مبين، و قرىء هذا ساحر مبين.
و قيل: ضمير «جاء» لعيسى (عليه السلام)، و السياق لا يلائمه.
قوله تعالى: «و من أظلم ممن افترى على الله الكذب و هو يدعى إلى الإسلام» إلخ، الاستفهام للإنكار و هو رد لقولهم: «هذا سحر مبين» فإن معناه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليس برسول و أن ما بلغه من دين الله ليس منه تعالى.
و المراد بالإسلام الدين الذي يدعو إليه رسول الله بما أنه تسليم لله فيما يريده و يأمر به من اعتقاد و عمل، و لا ريب أن مقتضى ربوبيته و ألوهيته تعالى تسليم عباده له تسليما مطلقا فلا ريب أن الدين الذي هو الإسلام لله دينه الحق الذي يجب أن يدان به فدعوى أنه باطل ليس من الله افتراء على الله.
و من هنا يظهر أن قوله: «و هو يدعى إلى الإسلام» يتضمن الحجة على كون قولهم: «هذا سحر مبين» افتراء على الله.
و الافتراء ظلم لا يرتاب العقل في كونه ظلما و ينهى عنه الشرع و يعظم الظلم بعظمة من وقع عليه فإذا كان هو الله سبحانه كان أعظم الظلم فلا أظلم ممن افترى على الله الكذب.
و المعنى: و لا أظلم ممن افترى على الله الكذب - بنفي نسبة دين الله إليه - و الحال أنه يدعى إلى دين الإسلام الذي لا يتضمن إلا التسليم لله فيما أراد و لا ريب أنه من الله، و الله لا يهدي القوم الظالمين.
قوله تعالى: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم» إلخ، إطفاء النور إبطاله و إذهاب شروقه، و إطفاء النور بالأفواه إنما هو بالنفخ بها.
و قد وقعت الآية في سورة التوبة و فيها: «يريدون أن يطفئوا نور الله بأفواههم» قال الراغب: قال تعالى: «يريدون أن يطفئوا نور الله» «يريدون ليطفئوا نور الله» و الفرق بين الموضعين أن في قوله: «يريدون أن يطفئوا» يقصدون إطفاء نور الله، و في قوله: «ليطفئوا» يقصدون أمرا يتوصلون به إلى إطفاء نور الله.
انتهى و محصله أن متعلق الإرادة في قوله: «يريدون أن يطفئوا نور الله» نفس الإطفاء، و في قوله: «يريدون ليطفئوا نور الله» السبب الموصل إلى الإطفاء و هو النفخ بالأفواه و الإطفاء غرض و غاية.
و الآية و ما يتلوها كالشارح لمعنى ما تقدم في الآية السابقة من ظلمهم برمي الدعوة بالسحر و عدم هدايته تعالى لهم بما أنهم ظالمون، و المحصل أنهم يريدون إطفاء نور الله بنفخة أفواههم لكن الله لا يهديهم إلى مقصدهم بل يتم نوره و يظهر دينه على الدين كله.
فقوله: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم» أي بالنفخ بالأفواه كما يطفأ الشمعة بالنفخة كناية عن أنهم زعموا أن نور الله و هو دينه نور ضعيف كنور الشمعة يطفأ بأدنى نفخة فرموه بالسحر و انقطاع نسبته إلى الله.
و قد اخطئوا في مزعمتهم فهو نور الله الذي لا يطفأ و قد شاء أن يتمه و لو كره الكافرون و الله بالغ أمره، و هو قوله: «و الله متم نوره و لو كره الكافرون».
قوله تعالى: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون» الإضافة في «دين الحق» بيانية كما قيل، و الظاهر أنها في الأصل إضافة لامية بعناية لطيفة هي أن لكل من الحق و الباطل دينا يقتضيه و يختص به، و قد ارتضى الله تعالى الدين الذي للحق - و هو الحق تعالى - فأرسل رسوله.
و إظهار شيء على غيره نصرته و تغليبه عليه، و المراد بالدين كله كل سبيل مسلوك غير سبيل الله الذي هو الإسلام و الآية في مقام تعليل قوله في الآية السابقة: «و الله متم نوره»، و المعنى: و الله متم نوره لأنه هو الذي أرسل رسوله بنوره الذي هو الهدى و دين الحق ليجعله غالبا على جميع الأديان و لو كره المشركون من أهل الأوثان.
و يستفاد من الآيتين أن دين الحق نور الله في الأرض كما يستفاد ذلك من قوله: «مثل نوره كمشكاة فيها مصباح» الآية: النور: 35، و قد تقدم في تفسير الآية.
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفا - كأنهم بنيان مرصوص» قال: يصطفون كالبنيان الذي لا يزول.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و إذ قال موسى لقومه - يا قوم لم تؤذونني و قد تعلمون أني رسول الله إليكم» روي في قصة قارون أنه دس إليه امرأة و زعم أنه زنى بها، و رموه بقتل هارون.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و مبشرا برسول - يأتي من بعدي اسمه أحمد» الآية قال: و سأل بعض اليهود لعنهم الله رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لم سميت أحمد و محمدا و بشيرا و نذيرا؟ فقال: أما محمد فإني في الأرض محمود، و أما أحمد فإني في السماء أحمد مني في الأرض، و أما البشير فأبشر من أطاع الله بالجنة، و أما النذير فأنذر من عصى الله بالنار.
و في الدر المنثور، في الآية أخرج ابن مردويه عن العرياض بن سارية سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: إني عبد الله في أم الكتاب و خاتم النبيين و إن آدم لمنجدل في طينته و سوف أنبئكم تأويل ذلك، أنا دعوة إبراهيم، و بشارة عيسى قومه و رؤيا أمي التي رأت أنه خرج منها نور أضاء له قصور الشام.
و في العيون، بإسناده إلى صفوان بن يحيى صاحب السابري قال: سألني أبو قرة صاحب الجاثليق أن أوصله إلى الرضا (عليه السلام) فاستأذنته في ذلك، قال: أدخله علي فلما دخل عليه قبل بساطه و قال: هكذا علينا في ديننا أن نفعل بأشراف أهل زماننا. ثم قال: أصلحك الله ما تقول في فرقة ادعت دعوى فشهدت لهم فرقة أخرى معدلون؟ قال: الدعوى لهم، قال: فادعت فرقة أخرى دعوى فلم يجدوا شهودا من غيرهم؟ قال: لا شيء لهم. قال: فإنا نحن ادعينا أن عيسى روح الله و كلمته فوافقنا على ذلك المسلمون، و ادعى المسلمون أن محمدا نبي فلم نتابعهم عليه، و ما أجمعنا عليه خير مما افترقنا فيه. فقال أبو الحسن (عليه السلام) ما اسمك؟ قال: يوحنا، قال: يا يوحنا إنا آمنا بعيسى روح الله و كلمته الذي كان يؤمن بمحمد و يبشر به و يقر على نفسه أنه عبد مربوب فإن كان عيسى الذي هو عندك روح الله و كلمته ليس هو الذي آمن بمحمد و بشر به و لا هو الذي أقر لله بالعبودية فنحن منه براء فأين اجتمعنا؟ فقام و قال لصفوان بن يحيى: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس.
أقول: كأنه يريد بقوله: قم فما كان أغنانا عن هذا المجلس، أن دخوله (عليه السلام) لم يفده فائدة حيث لم ينجح ما أتى به من الحجة.
و في كمال الدين، بإسناده إلى يعقوب بن شعيب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: كان بين عيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس مائة عام منها مائتان و خمسون عاما ليس فيها نبي و لا عالم ظاهر، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا متمسكين بدين عيسى (عليه السلام)، قلت: فما كانوا؟ قال: كانوا مؤمنين. ثم قال: و لا يكون إلا و فيها عالم.
أقول: المراد بالعالم الإمام الذي هو الحجة، و هناك روايات واردة في قوله تعالى: «يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم»، و قوله: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق» تذكر أن النور و الهدى و دين الحق ولاية أمير المؤمنين (عليه السلام) و هي من الجري و التطبيق أو من البطن و ليست بمفسرة، و عد الفصل بين المسيح و بين محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) خمس مائة عام يخالف ما عليه مشهور التاريخ لكن المحققين ذكروا أن في التاريخ الميلاد اختلالا و قد مرت إشارة ما إلى ذلك في الجزء الثالث من الكتاب.
|