بيان
غرض السورة هو الحث البالغ على الاهتمام بأمر صلاة الجمعة و القيام بواجب أمرها فهي من شعائر الله المعظمة التي في تعظيمها و الاهتمام بأمرها صلاح أخراهم و دنياهم، و قد سلك تعالى إلى بيان أمره بافتتاح الكلام بتسبيحه و الثناء عليه بما من على قوم أميين برسول منهم أمي يتلو عليهم آياته و يزكيهم بصالحات الأعمال و الزاكيات من الأخلاق و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيحملهم كتاب الله و معارف دينه أحسن التحميل هم و من يلحق بهم أو يخلفهم من بعدهم من المؤمنين فليحملوا ذلك أحسن الحمل، و ليحذروا أن يكونوا كاليهود حملوا التوراة ثم لم يحملوا معارفها و أحكامها فكانوا مثل الحمار يحمل أسفارا.
ثم تخلص إلى الأمر بترك البيع و السعي إلى ذكر الله إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة، و قرعهم على ترك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائما يخطب و الانفضاض و الانسلال إلى التجارة و اللهو، و ذلك آية عدم تحملهم ما حملوا من معارف كتاب الله و أحكام، و السورة مدنية.
قوله تعالى: «يسبح لله ما في السماوات و ما في الأرض الملك القدوس العزيز الحكيم» التسبيح تنزيه الشيء و نسبته إلى الطهارة و النزاهة من العيوب و النقائص، و التعبير بالمضارع للدلالة على الاستمرار، و الملك هو الاختصاص بالحكم في نظام المجتمع، و القدوس مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و العزيز هو الذي لا يغلبه غالب، و الحكيم هو المتقن فعله فلا يفعل عن جهل أو جزاف.
و في الآية توطئة و تمهيد برهاني لما يتضمنه قوله: «هو الذي بعث» إلخ، من بعثة الرسول لتكميل الناس و إسعادهم و هدايتهم بعد إذ كانوا في ضلال مبين.
و ذلك أنه تعالى يسبحه و ينزهه الموجودات السماوية و الأرضية بما عندهم من النقص الذي هو متممه و الحاجة التي هو قاضيها فما من نقيصة أو حاجة إلا و هو المرجو في تمامها و قضائها فهو المسبح المنزهعن كل نقص و حاجة فله أن يحكم في نظام التكوين بين خلقه بما شاء، و في نظام التشريع في عباده بما أراد، كيف لا؟ و هو ملك له أن يحكم في أهل مملكته و عليهم أن يطيعوه.
و إذا حكم و شرع بينهم دينا لم يكن ذلك منه لحاجة إلى تعبيدهم و نقص فيه يتممه بعبادتهم لأنه قدوس منزه عن كل نقص و حاجة.
ثم إذا حكم و شرع و بلغه إياهم عن غنى منه و دعاهم إليه بوساطة رسله فلم يستجيبوا دعوته و تمردوا عن طاعته لم يكن ذلك تعجيزا منهم له تعالى لأنه العزيز لا يغلبه فيما يريده غالب.
ثم إن الذي حكم و شرعه من الدين بما أنه الملك القدوس العزيز ليس يذهب لغى لا أثر له لأنه حكيم على الإطلاق لا يفعل ما يفعل إلا لمصلحة و لا يريد منهم ما يريد إلا لنفع يعود إليهم و خير ينالونه فيستقيم به حالهم في دنياهم و أخراهم.
و بالجملة فتشريعه الدين و إنزاله الكتاب ببعث رسول يبلغهم ذلك بتلاوة آياته، و يزكيهم و يعلمهم من منه تعالى و فضل كما قال: «هو الذي بعث» إلخ.
قوله تعالى: «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم» إلخ، الأميون جمع أمي و هو الذي لا يقرأ و لا يكتب، و المراد بهم - كما قيل - العرب لقلة من كان منهم يقرأ و يكتب و قد كان الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم أي من جنسهم و هو غير كونه مرسلا إليهم فقد كان منهم و كان مرسلا إلى الناس كافة.
و احتمل أن يكون المراد بالأميين غير أهل الكتاب كما قال اليهود - على ما حكى الله عنهم -: «ليس علينا في الأميين سبيل»: آل عمران: 75.
و فيه أنه لا يناسب قوله في ذيل الآية: «يتلوا عليهم آياته» إلخ، فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم يخص غير العرب و غير أهل الكتاب بشيء من الدعوة لم يلقه إليهم.
و احتمل أن يكون المراد بالأميين أهل مكة لكونهم يسمونها أم القرى.
و فيه أنه لا يناسب كون السورة مدنية لإيهامه كون ضمير «يزكيهم و يعلمهم» راجعا إلى المهاجرين و من أسلم من أهل مكة بعد الفتح و أخلافهم و هو بعيد من مذاق القرآن.
و لا منافاة بين كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) من الأميين مبعوثا فيهم و بين كونه مبعوثا إليهم و إلى غيرهم و هو ظاهر، و تلاوته عليهم آياته و تزكيته و تعليمه لهم الكتاب و الحكمة لنزوله بلغتهم و هو أول مراحل دعوته و لذا لما استقرت الدعوة بعض الاستقرار أخذ (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو اليهود و النصارى و المجوس و كاتب العظماء و الملوك.
و كذا دعوة إبراهيم و إسماعيل (عليهما السلام) على ما حكى الله تعالى: «ربنا و اجعلنا مسلمين لك و من ذريتنا أمة مسلمة لك - إلى أن قال - ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم»: البقرة: 129، تشمل جميع آل إسماعيل من عرب مضر أعم من أهل مكة و غيرهم، و لا ينافي كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) مبعوثا إليهم و إلى غيرهم.
و قوله: «يتلوا عليهم آياته» أي آيات كتابه مع كونه أميا.
صفة للرسول.
و قوله: «و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة» التزكية تفعيل من الزكاة بمعنى النمو الصالح الذي يلازم الخير و البركة فتزكيته لهم تنميته لهم نماء صالحا بتعويدهم الأخلاق الفاضلة و الأعمال الصالحة فيكملون بذلك في إنسانيتهم فيستقيم حالهم في دنياهم و آخرتهم يعيشون سعداء و يموتون سعداء.
و تعليم الكتاب بيان ألفاظ آياته و تفسير ما أشكل من ذلك، و يقابله تعليم الحكمة و هي المعارف الحقيقية التي يتضمنها القرآن، و التعبير عن القرآن تارة بالآيات و تارة بالكتاب للدلالة على أنه بكل من هذه العناوين نعمة يمتن بها - كما قيل -.
و قد قدم التزكية هاهنا على تعليم الكتاب و الحكمة بخلاف ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) لأن هذه الآية تصف تربيته (صلى الله عليه وآله وسلم) لمؤمني أمته، و التزكية مقدمة في مقام التربية على تعليم العلوم الحقة و المعارف الحقيقية و أما ما في دعوة إبراهيم (عليه السلام) فإنها دعاء و سؤال أن يتحقق في ذريته هذه الزكاة و العلم بالكتاب و الحكمة، و العلوم و المعارف أقدم مرتبة و أرفع درجة في مرحلة التحقق و الاتصاف من الزكاة الراجعة إلى الأعمال و الأخلاق.
و قوله: «و إن كانوا من قبل لفي ضلال مبين» «إن» مخففة من الثقيلة و المراد أنهم كانوا من قبل بعثة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في ضلال مبين، و الآية تحميد بعد تسبيح و مسوقة للامتنان كما سيأتي.
قوله تعالى: «و آخرين منهم لما يلحقوا بهم و هو العزيز الحكيم» عطف على الأميين و ضمير «منهم» راجع إليهم و «من» للتبعيض و المعنى: بعث في الأميين و في آخرين منهم لم يلحقوا بهم بعد و هو العزيز الذي لا يغلب في إرادته الحكيم الذي لا يلغو و لا يجازف في فعله.
قوله تعالى: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم» الإشارة بذلك إلى بعث الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) - و قد فخم أمره بالإشارة البعيدة - فهو (صلى الله عليه وآله وسلم) المخصوص بالفضل، و المعنى: ذلك البعث و كونه يتلو آيات الله و يزكي الناس و يعلمهم الكتاب و الحكمة من فضل الله و عطائه يعطيه من تعلقت به مشيته و قد شاء أن يعطيه محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و الله ذو الفضل العظيم كذا قال المفسرون.
و من الممكن أن تكون الإشارة بذلك إلى البعث بما له من النسبة إلى أطرافه من المرسل و المرسل إليهم، و المعنى: ذلك البعث من فضل الله يؤتيه من يشاء و قد شاء أن يخص بهذا الفضل محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فاختاره رسولا، و أمته فاختارهم لذلك فجعله منهم و أرسله إليهم.
و الآية و الآيتان قبلها أعني قوله: «هو الذي بعث - إلى قوله - العظيم» مسوقة سوق الامتنان.
قوله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا» إلخ، قال الراغب: السفر - بالفتح فالسكون - كشف الغطاء و يختص ذلك بالأعيان نحو سفر العمامة عن الرأس و الخمار عن الوجه - إلى أن قال - و السفر - بالكسر فالسكون - الكتاب الذي يسفر عن الحقائق قال تعالى: «كمثل الحمار يحمل أسفارا» انتهى.
و المراد بتحميل التوراة تعليمها، و المراد بحملها العمل بها على ما يؤيده السياق و يشهد به ما في ذيل الآية من قوله: «بئس مثل القوم الذين كذبوا بآيات الله»، و المراد بالذين حملوا التوراة ثم لم يحملوها اليهود الذين أنزل الله التوراة على رسولهم موسى (عليه السلام) فعلمهم ما فيها من المعارف و الشرائع فتركوها و لم يعملوا بها فحملوها و لم يحملوها فضرب الله لهم مثل الحمار يحمل أسفارا و هو لا يعرف ما فيها من المعارف و الحقائق فلا يبقى له من حملها إلا التعب بتحمل ثقلها.
و وجه اتصال الآية بما قبلها أنه تعالى لما افتتح الكلام بما من به على المسلمين من بعث نبي أمي من بين الأميين يتلو عليهم آيات كتابه و يزكيهم و يعلمهم الكتاب و الحكمة فيخرجهم من ظلمات الضلال إلى نور الهدى و من حضيض الجهل إلى أوج العلم و الحكمة و سيشير تعالى في آخر السورة إشارة عتاب و توبيخ إلى ما صنعوه من الانفضاض و الانسلال إلى اللهو و التجارة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قائم يخطبهم يوم الجمعة و هو من الاستهانة بما هو من أعظم المناسك الدينية و يكشف أنهم لم يقدروها حق قدرها و لا نزلوها منزلتها.
فاعترض الله سبحانه بهذا المثل و ذكرهم بحال اليهود حيث حملوا التوراة ثم لم يحملوها فكانوا كالحمار يحمل أسفارا و لا ينتفع بما فيها من المعرفة و الحكمة، فعليهم أن يهتموا بأمر الدين و يراقبوا الله في حركاتهم و سكناتهم و يعظموا رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يوقروه و لا يستهينوا بما جاء به، و ليحذروا أن يحل بهم من سخطه تعالى ما حل باليهود حيث لم يعملوا بما علموا فعدهم الله جهلة ظالمين و شبههم بالحمار يحمل أسفارا.
و في روح المعاني،: وجه ارتباط الآية بما قبلها تضمنها الإشارة إلى أن ذلك الرسول المبعوث قد بعثه الله تعالى بما نعته به في التوراة و على السنة أنبياء بني إسرائيل كأنه قيل: هو الذي بعث المبشر به في التوراة المنعوت فيها بالنبي الأمي المبعوث إلى أمة أميين، مثل من جاءه نعته فيها و علمه ثم لم يؤمن به مثل الحمار.
انتهى.
و أنت خبير بأنه تحكم لا دليل عليه من جهة السياق.
قوله تعالى: «قل يا أيها الذين هادوا إن زعمتم أنكم أولياء لله من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين» احتجاج على اليهود يظهر به كذبهم في دعواهم أنهم أولياء الله و أحباؤه، و قد حكى الله تعالى ما يدل على ذلك عنهم بقوله: «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه»: المائدة: 18، و قوله: «قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس»: البقرة: 94، و قوله: «و قالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا»: البقرة: 111.
و محصل المعنى: قل لليهود مخاطبا لهم يا أيها الذين تهودوا إن كنتم اعتقدتم أنكم أولياء لله من دون الناس إن كنتم صادقين في دعواكم فتمنوا الموت لأن الولي يحب لقاء وليه و من أيقن أنه ولي لله وجبت له الجنة و لا حاجب بينه و بينها إلا الموت أحب الموت و تمنى أن يحل به فيدخل دار الكرامة و يتخلص من هذه الحياة الدنية التي ما فيها إلا الهم و الغم و المحنة و المصيبة.
قيل: و في قوله: «أولياء لله» من غير إضافة إشارة إلى أنه دعوى منهم من غير حقيقة.
قوله تعالى: «و لا يتمنونه أبدا بما قدمت أيديهم و الله عليم بالظالمين» أخبر تعالى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم لا يتمنونه أبدا بعد ما أمره أن يعرض عليهم تمني الموت.
و قد علل عدم تمنيهم الموت بما قدمت أيديهم و هو كناية عن الظلم و الفسوق، فمعنى الآية: و لا يتمنون الموت أبدا بسبب ما قدمته أيديهم من الظلم فكانوا ظالمين و الله عليم بالظالمين يعلم أنهم لا يحبون لقاءه لأنهم أعداؤه لا ولاية بينه و بينهم و لا محبة.
و الآيتان في معنى قوله تعالى: «قل إن كانت لكم الدار الآخرة عند الله خالصة من دون الناس فتمنوا الموت إن كنتم صادقين و لن يتمنوه أبدا بما قدمت أيديهم و الله عليم بالظالمين»: البقرة: 95.
قوله تعالى: «قل إن الموت الذي تفرون منه فإنه ملاقيكم ثم تردون إلى عالم الغيب و الشهادة فينبؤكم بما كنتم تعملون» الفاء في قوله: «فإنه ملاقيكم» في معنى جواب الشرط، و فيه وعيد لهم بأن الموت الذي يكرهونه كراهة أن يؤاخذوا بوبال أعمالهم فإنه سيلاقيهم لا محالة ثم يردون إلى ربهم الذي خرجوا من زي عبوديته بمظالمهم و عادوه بأعمالهم و هو عالم بحقيقة أعمالهم ظاهرها و باطنها فإنه عالم الغيب و الشهادة فينبؤهم بحقيقة أعمالهم و تبعاتها السيئة و هي أنواع العذاب.
ففي الآية إيذانهم أولا: أن فرارهم من الموت خطأ منهم فإنه سيدركهم و يلاقيهم، و ثانيا: أن كراهتهم لقاء الله خطأ آخر فإنهم مردودون إليه محاسبون على أعمالهم السيئة، و ثالثا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم ظاهرها و باطنها و لا يحيق به مكرهم فإنه عالم الغيب و الشهادة.
ففي الآية إشارة أولا: إلى أن الموت حق مقضي كما قال: «كل نفس ذائقة الموت»: الأنبياء: 35، و قال: «نحن قدرنا بينكم الموت و ما نحن بمسبوقين»: الواقعة: 60.
و ثانيا: أن الرجوع إلى الله لحساب الأعمال حق لا ريب فيه.
و ثالثا: أنهم سيوقفون على حقيقة أعمالهم فيوفونها.
و رابعا: أنه تعالى لا يخفى عليه شيء من أعمالهم و للإشارة إلى ذلك بدل اسم الجلالة من قوله: «عالم الغيب و الشهادة».
بحث روائي
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم»: عن أبيه عن ابن أبي عمير عن معاوية بن عمار عن أبي عبد الله (عليه السلام): في الآية قال: كانوا يكتبون و لكن لم يكن معهم كتاب من عند الله و لا بعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين.
و فيه،: في قوله تعالى: «و آخرين منهم لما يلحقوا بهم» قال: دخلوا الإسلام بعدهم.
و في المجمع، و روي: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قرأ هذه الآية فقيل له: من هؤلاء؟ فوضع يده على كتف سلمان و قال: لو كان الإيمان بالثريا لنالته رجال من هؤلاء.
أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من جوامع الحديث منها صحيح البخاري و مسلم و الترمذي و النسائي عن أبي هريرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و فيه: فوضع يده على رأس سلمان الفارسي و قال: و الذي نفسي بيده لو كان العلم بالثريا لناله رجال من هؤلاء.
و روي أيضا عن سعيد بن منصور و ابن مردويه عن قيس بن سعد بن عبادة: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو أن الإيمان بالثريا لناله رجال من أهل فارس.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «مثل الذين حملوا التوراة - ثم لم يحملوها كمثل الحمار» قال: الحمار يحمل الكتب و لا يعلم ما فيها و لا يعمل به كذلك بنو إسرائيل قد حملوا مثل الحمار لا يعلمون ما فيه و لا يعملون.
و في الدر المنثور، أخرج ابن أبي شيبة و الطبراني عن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): من تكلم يوم الجمعة و الإمام يخطب فهو كالحمار يحمل أسفارا و الذي يقول له: أنصت ليس له جمعة.
أقول: و فيه تأييد لما قدمناه في وجه اتصال الآية بما قبلها.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «قل يا أيها الذين هادوا» الآية، قال: إن في التوراة مكتوب: أولياء الله يتمنون الموت.
و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: جاء رجل إلى أبي ذر فقال: يا أبا ذر ما لنا نكره الموت؟ فقال: لأنكم عمرتم الدنيا و خربتم الآخرة فتكرهون أن تنقلوا من عمران إلى خراب
كلام في معنى تعليم الحكمة
لا محيص للإنسان في حياته المحدودة التي يعمرها في هذه النشأة من سنة يستن بها فيما يريد و يكره، و يجري عليها في حركاته و سكناته و بالجملة جميع مساعيه في الحياة.
و تتبع هذه السنة في نوعها ما عند الإنسان من الرأي في حقيقة الكون العام و حقيقة نفسه و ما بينهما من الربط، و يدل على ذلك ما نجد من اختلاف السنن و الطرائق في الأمم باختلاف آرائهم في حقيقة نشأة الوجود و الإنسان الذي هو جزء منها.
فمن لا يرى لما وراء المادة وجودا، و يقصر الوجود في المادي، و ينهي الوجود إلى الاتفاق، و يرى الإنسان مركبا ماديا محدود الحياة بين التولد و الموت لا يرى لنفسه من السعادة إلا سعادة المادة و لا غاية له في أعماله إلا المزايا المادية من مال و ولد و جاه و غير ذلك، و لا بغية له إلا التمتع بأمتعة الدنيا و الظفر بلذائذها المادية أو ما يرجع إليها و تنتهي جميعا إلى الموت الذي هو عنده انحلال للتركيب و بطلان.
و من يرى كينونة العالم عن سبب فوقه منزه عن المادة، و أن وراء الدار دارا و بعد الدنيا آخرة نجده يخالف في سنته و طريقته الطائفة المتقدم ذكرها فيتوخى في أعماله وراء سعادة الدنيا سعادة الأخرى و يختلف صور أعمالهم و غاياتهم و آراؤهم مع الطائفة الأولى.
و يختلف سنن هؤلاء باختلافهم أنفسهم فيما بينهم كاختلاف سنن الوثنيين من البرهميين و البوذيين و غيرهم و المليين من المجوسية و الكليمية و المسيحية و المسلمين فلكل وجهة هو موليها.
و بالجملة الملي يراعي في مساعيه جانب ما يراه لنفسه من الحياة الخالدة المؤبدة و يذعن من الآراء بما يناسب ذلك كادعائه أنه يجب على الإنسان أن يمهد لعالم البقاء و أن يتوجه إلى ربه، و أن لا يفرط في الاشتغال بعرض الحياة الدنيا الفانية و غير الملي الخاضع للمادة يلوي إلى خلاف ذلك، هذا كله مما لا ريب فيه.
غير أن الإنسان لما كان بحسب طبعه المادي رهينا للمادة مترددا بين الأسباب الظاهرية فاعلا بها منفعلا عنها لا يزال يدفعه سبب إلى سبب لا فراغ له من ذلك، يرى - بحسب ما يخيل إليه - أن الأصالة لحياته الدنيوية المنقطعة، و أنها و ما تنتهي إليه من المقاصد و المزايا هي الغاية الأخيرة و الغرض الأقصى من وجوده الذي يجب عليه أن يسعى لتحصيل سعادته.
فالحياة الدنيا هي الحياة و ما عند أهلها من القنية و النعمة و المنية و القوة و العزة هي هي بحقيقة معنى الكلمة، و ما يعدونه فقرا و نقمة و حرمانا و ضعفا و ذلة و رزية و مصيبة و خسرانا هي هي و بالجملة كل ما تهواه النفس من خير معجل أو نفع مقطوع فهو عندهم خير مطلق و نفع مطلق، و كل ما لا تهواه فهو شر أو ضر.
فمن كان منهم من غير أهل الملة جرى على هذه الآراء و لا خبر عنده عما وراء ذلك، و من كان منهم من أهل الملة جرى عليها عملا و هو معترف بخلافها قولا فلا يزال في تدافع بين قوله و فعله قال تعالى: «كلما أضاء لهم مشوا فيه و إذا أظلم عليهم قاموا»: البقرة: 20.
و الذي تندب إليه الدعوة الإسلامية من الاعتقاد و العمل هو ما يطابق مقتضى الفطرة الإنسانية التي فطر عليها الإنسان و تثبت عليه خلقته كما قال: «فأقم وجهك للدين حنيفا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم»: الروم: 30.
و من المعلوم أن الفطرة لا تهتدي علما و لا تميل عملا إلا إلى ما فيه كمالها الواقعي و سعادتها الحقيقية فما تهتدي إليه من الاعتقادات الأصلية في المبدأ و المعاد و ما يتفرع عليها من الآراء و العقائد الفرعية علوم و آراء حقة لا تتعدى سعادة الإنسان و كذا ما تميل إليه من الأعمال.
و لذا سمى الله تعالى هذا الدين المبني على الفطرة بدين الحق في مواضع من كلامه كقوله: «هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق»: الصف: 9.
و قال في القرآن المتضمن لدعوته: «يهدي إلى الحق»: الأحقاف: 30.
و ليس الحق إلا الرأي و الاعتقاد الذي يطابقه الواقع و يلازمه الرشد من غير غي، و هذا هو الحكمة - الرأي الذي أحكم في صدقه فلا يتخلله كذب، و في نفعه فلا يعقبه ضرر - و قد أشار تعالى إلى اشتمال الدعوة على الحكمة بقوله: «و أنزل الله عليك الكتاب و الحكمة»: النساء: 113، و وصف كلامه المنزل بها فقال: «و القرآن الحكيم»: يس: 2، و عد رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) معلما للحكمة في مواضع من كلامه كقوله: «و يعلمهم الكتاب و الحكمة»: الجمعة: 2.
فالتعليم القرآني الذي تصداه الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) المبين لما نزل من عند الله من تعليم الحكمة و شأنه بيان ما هو الحق في أصول الاعتقادات الباطلة الخرافية التي دبت في أفهام الناس من تصور عالم الوجود و حقيقة الإنسان الذي هو جزء منه - كما تقدمت الإشارة إليه - و ما هو الحق في الاعتقادات الفرعية المترتبة على تلك الأصول مما كان مبدأ للأعمال الإنسانية و عناوين لغاياتها و مقاصدها.
فالناس - مثلا - يرون أن الأصالة لحياتهم المادية حتى قال قائلهم: «ما هي إلا حياتنا الدنيا»: الجاثية: 24، و القرآن ينبههم بقوله: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان»: العنكبوت: 64، و يرون أن العلل و الأسباب هي المولدة للحوادث الحاكمة فيها من حياة و موت و صحة و مرض و غنى و فقر و نعمة و نقمة و رزق و حرمان «بل مكر الليل و النهار»: سبأ: 33، و القرآن يذكرهم بقوله: «ألا له الخلق و الأمر»: الأعراف: 54، و قوله: «إن الحكم إلا لله»: يوسف: 67، و غير ذلك من آيات الحكمة، و يرون أن لهم الاستقلال في المشية يفعلون ما يشاءون و القرآن يخطئهم بقوله: «و ما تشاءون إلا أن يشاء الله»: الإنسان: 30، و يرون أن لهم أن يطيعوا و يعصوا و يهدوا و يهتدوا و القرآن ينبئهم بقوله: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56.
و يرون أن لهم قوة و القرآن ينكر ذلك بقوله: «إن القوة لله جميعا»: البقرة: 165.
و يرون أن لهم عزة بمال و بنين و أنصار و القرآن يحكم بخلافه بقوله: «أ يبتغون عندهم العزة إن العزة لله جميعا»: النساء: 139.
و قوله: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين»: المنافقون: 8.
و يرون أن القتل في سبيل الله موت و انعدام و القرآن يعده حياة إذ يقول: «و لا تقولوا لمن يقتل في سبيل الله أموات بل أحياء و لكن لا تشعرون»: البقرة: 154، إلى غير ذلك من التعاليم القرآنية التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يدعو بها الناس قال: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة»: النحل: 125.
و هي علوم و آراء جمة صورت الحياة الدنيا خلافها في نفوس الناس و زينة فنبه تعالى لها في كتابه و أمر بتعليمها رسوله و ندب المؤمنين أن يتواصوا بها كما قال: «إن الإنسان لفي خسر إلا الذين آمنوا و عملوا الصالحات و تواصوا بالحق»: العصر: 3، و قال: «يؤتي الحكمة من يشاء و من يؤت الحكمة فقد أوتي خيرا كثيرا و ما يذكر إلا أولوا الألباب»: البقرة: 269.
فالقرآن بالحقيقة يقلب الإنسان في قالب من حيث العلم و العمل حديث و يصوغه صوغا جديدا فيحيي حياة لا يتعقبها موت أبدا، و إليه الإشارة بقوله تعالى: «استجيبوا لله و للرسول إذا دعاكم لما يحييكم»: الأنفال: 24، و قوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122.
و قد بينا وجه الحكمة في كل من آياتها عند التعرض لتفسيرها على قدر مجال البحث في الكتاب.
و مما تقدم يتبين فساد قول من قال: إن تفسير القرآن تلاوته، و إن التعمق في مداليل آيات القرآن من التأويل الممنوع فما أبعده من قول.
|