بيان
في الآية شبه اتصال بما سبقتها حيث إنها تتضمن النهي عن أكل المال بالباطل و كانت الآيات السابقة متضمنة للنهي عن أكل مهور النساء بالعضل و التعدي ففي الآية انتقال من الخصوص إلى العموم.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم» إلى قوله: «منكم» الأكل معروف و هو إنفاد ما يمكن أن يتغذى به بالتقامه و بلعه مثلا، و لما فيه من معنى التسلط و الإنفاد يقال: أكلت النار الحطب شبه فيه إعدام النار الحطب بإحراقه بإنفاد الأكل الغذاء بالتناول و البلع، و يقال أيضا: أكل فلان المال أي تصرف فيه بالتسلط عليه، و ذلك بعناية أن العمدة في تصرف الإنسان في الأشياء هو التغذي بها لأنه أشد ما يحتاج إليه الإنسان في بقائه و أمسه منه، و لذلك سمي التصرف أكلا لكن لا كل تصرف بل التصرف عن تسلط يقطع تسلط الغير على المال بالتملك و نحوه كأنه ينفده ببسط سلطته عليه و التصرف فيه كما ينفد الأكل الغذاء بالأكل.
و الباطل من الأفعال ما لا يشتمل على غرض صحيح عقلائي، و التجارة هي التصرف في رأس المال طلبا للربح على ما ذكره الراغب في مفرداته قال: و ليس في كلامهم تاء بعدها جيم غير هذا اللفظ انتهى، فتنطبق على المعاملة بالبيع و الشرى.
و في تقييد قوله: «لا تأكلوا أموالكم» بقوله: «بينكم» الدال على نوع تجمع منهم على المال و وقوعه في وسطهم إشعار أو دلالة بكون الأكل المنهي عنه بنحو إدارته فيما بينهم و نقله من واحد إلى آخر بالتعاور و التداول، فتفيد الجملة أعني قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم، بعد تقييدها بقوله: بالباطل النهي عن المعاملات الناقلة التي لا تسوق المجتمع إلى سعادته و نجاحه بل تضرها و تجرها إلى الفساد و الهلاك، و هي المعاملات الباطلة في نظر الدين كالربا و القمار و البيوع الغررية كالبيع بالحصاة و النواة و ما أشبه ذلك.
و على هذا فالاستثناء الواقع في قوله: إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم، استثناء منقطع جيء به لدفع الدخل فإنه لما نهى عن أكل المال بالباطل - و نوع المعاملات الدائرة في المجتمع الفاسد التي يتحقق بها النقل و الانتقال المالي كالربويات و الغرريات و القمار و أضرابها باطلة بنظر الشرع - كان من الجائز أن يتوهم أن ذلك يوجب انهدام أركان المجتمع و تلاشي أجزائها و فيه هلاك الناس فأجيب عن ذلك بذكر نوع معاملة في وسعها أن تنظم شتات المجتمع، و تقيم صلبه، و تحفظه على استقامته، و هي التجارة عن تراض و معاملة صحيحة رافعة لحاجة المجتمع، و ذلك نظير قوله تعالى: يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم: «الشعراء: 89» فإنه لما نفي النفع عن المال و البنين يوم القيامة أمكن أن يتوهم أن لا نجاح يومئذ و لا فلاح فإن معظم ما ينتفع به الإنسان إنما هو المال و البنون فإذا سقطا عن التأثير لم يبق إلا اليأس و الخيبة فأجيب أن هناك أمرا آخر نافعا كل النفع و إن لم يكن من جنس المال و البنين و هو القلب السليم.
و هذا الذي ذكرناه من انقطاع الاستثناء هو الأوفق بسياق الآية و كون قوله: بالباطل قيدا أصليا في الكلام نظير قوله تعالى: و لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل و تدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقا من أموال الناس الآية: «البقرة: 188» و على هذا لا تخصص الآية بسائر المعاملات الصحيحة و الأمور المشروعة غير التجارة مما يوجب التملك و يبيح التصرف في المال كالهبة و الصلح و الجعالة و كالأمهار و الإرث و نحوها.
و ربما يقال: إن الاستثناء متصل و قوله: بالباطل قيد توضيحي جيء به لبيان حال المستثنى منه بعد خروج المستثنى و تعلق النهي، و التقدير: لا تأكلوا أموالكم بينكم إلا أن تكون تجارة عن تراض منكم فإنكم إن أكلتموها من غير طريق التجارة كان أكلا بالباطل منهيا عنه كقولك: لا تضرب اليتيم ظلما إلا تأديبا، و هذا النحو من الاستعمال و إن كان جائزا معروفا عند أهل اللسان إلا أنك قد عرفت أن الأوفق لسياق الآية هو انقطاع الاستثناء.
و ربما قيل: إن المراد بالنهي المنع عن صرف المال فيما لا يرضاه الله، و بالتجارة صرفه فيما يرضاه.
و ربما قيل: إن الآية كانت تنهى عن مطلق أكل مال الغير بغير عوض، و أنه كان الرجل منهم يتحرج عن أن يأكل عند أحد من الناس بعد ما نزلت هذه الآية حتى نسخ ذلك بقوله في سورة النور: و لا على أنفسكم أن تأكلوا من بيوتكم - إلى قوله - أن تأكلوا جميعا أو أشتاتا: «النور: 61» و قد عرفت أن الآية بمعزل عن الدلالة على أمثال هذه المعاني.
و من غريب التفسير ما رام به بعضهم توجيه اتصال الاستثناء مع أخذ قوله: بالباطل قيدا احترازيا فقال ما حاصله: أن المراد بالباطل أكل المال بغير عوض يعادله فالجملة المستثنى منها تدل على تحريم أخذ المال من الغير بالباطل و من غير عوض ثم استثنى من ذلك التجارة مع كون غالب مصاديقها غير خالية عن الباطل فإن تقدير العوض بالقسطاس المستقيم بحيث يعادل المعوض عنه في القيمة حقيقة متعسر جدا لو لم يكن متعذرا.
فالمراد بالاستثناء التسامح بما يكون فيه أحد العوضين أكبر من الآخر، و ما يكون سبب التعاوض فيه براعة التاجر في تزيين سلعته و ترويجها بزخرف القول من غير غش و لا خداع و لا تغرير كما يقع ذلك كثيرا إلى غير ذلك من الأسباب.
و كل ذلك من باطل التجارة أباحته الشريعة مسامحة و تسهيلا لأهلها، و لو لم يجز ذلك في الدين بالاستثناء لما رغب أحد من أهله في التجارة و اختل نظام المجتمع الديني.
انتهى ملخصا.
و فساده ظاهر مما قدمناه فإن الباطل على ما يعرفه أهل اللغة ما لا يترتب عليه أثره المطلوب منه، و أثر البيع و التجارة تبدل المالين و تغير محل الملكين لرفع حاجة كل واحد من البيعين إلى مال الآخر بأن يحصل كل منهما على ما يرغب فيه و ينال إربه بالمعادلة، و ذلك كما يحصل بالتعادل في القيمتين كذلك يحصل بمقابلة القليل الكثير إذا انضم إلى القليل شيء من رغبة الطالب أو رهبته أو مصلحة أخرى يعادل بانضمامها الكثير، و الكاشف عن جميع ذلك وقوع الرضا من الطرفين، و مع وقوع التراضي لا تعد المبادلة باطلة البتة.
على أن المستأنس بأسلوب القرآن الكريم في بياناته لا يرتاب في أن من المحال أن يعد القرآن أمرا من الأمور باطلا ثم يأمر به و يهدي إليه و قد قال تعالى في وصفه: يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم: - الأحقاف: 30، و كيف يهدي إلى الحق ما يهدي إلى الباطل؟.
على أن لازم هذا التوجيه أن يهتدي الإنسان اهتداء حقا فطريا إلى حاجته إلى المبادلة في الأموال ثم يهتدي اهتداء حقا فطريا إلى المبادلة بالموازنة ثم لا يكون ما يهتدي إليه وافيا لرفع حاجته حقا حتى ينضم إليه شيء من الباطل و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى أمر لا يكفي في رفع حاجتها، و لا يفي إلا ببعض شأنها؟ و كيف يمكن أن تهتدي الفطرة إلى باطل و هل الفارق بين الحق و الباطل في الأعمال إلا اهتداء الفطرة و عدم اهتدائها؟ فلا مفر لمن يجعل الاستثناء متصلا من أن يجعل قوله: بالباطل قيدا توضيحيا.
و أعجب من هذا التوجيه ما نقل عن بعضهم أن النكتة في هذا الاستثناء المنقطع هي الإشارة إلى أن جميع ما في الدنيا من التجارة و ما في معناها من قبيل الباطل لأنه لا ثبات له و لا بقاء فينبغي أن لا يشتغل به العاقل عن الاستعداد للدار الآخرة التي هي خير و أبقى انتهى.
و هو خطأ فإنه على تقدير صحته نكتة للاستثناء المتصل لا الاستثناء المنقطع، على أن هذه المعنويات من الحقائق إنما يصح أن يذكر لمثل قوله تعالى: «و ما هذه الحياة الدنيا إلا لهو و لعب و إن الدار الآخرة لهي الحيوان: - العنكبوت: 64» و قوله تعالى: ما عندكم ينفد و ما عند الله باق: - النحل: 96، و قوله تعالى: قل ما عند الله خير من اللهو و من التجارة: - الجمعة: 11، و أما ما نحن فيه فجريان هذه النكتة توجب تشريع الباطل، و يجل القرآن عن الترخيص في الباطل بأي وجه كان.
قوله تعالى: «و لا تقتلوا أنفسكم» ظاهر الجملة أنها نهي عن قتل الإنسان نفسه لكن مقارنتها قوله: لا تأكلوا أموالكم بينكم، حيث إن ظاهره أخذ مجموع المؤمنين كنفس واحدة لها مال يجب أن تأكلها من غير طريق الباطل ربما أشعرت أو دلت على أن المراد بالأنفس جميع نفوس المجتمع الديني المأخوذة كنفس واحدة نفس كل بعض هي نفس الآخر فيكون في مثل هذا المجتمع نفس الإنسان نفسه و نفس غيره أيضا نفسه فلو قتل نفسه أو غيره فقد قتل نفسه، و بهذه العناية تكون الجملة أعني قوله: و لا تقتلوا أنفسكم مطلقة تشمل الانتحار - الذي هو قتل الإنسان نفسه - و قتل الإنسان غيره من المؤمنين.
و ربما أمكن أن يستفاد من ذيل الآية أعني قوله: إن الله كان بكم رحيما أن المراد من قتل النفس المنهي عنه ما يشمل إلقاء الإنسان نفسه في مخاطرة القتل و التسبيب إلى هلاك نفسه المؤدي إلى قتله، و ذلك أن تعليل النهي عن قتل النفس بالرحمة لهذا المعنى أوفق و أنسب كما لا يخفى، و يزيد على هذا معنى الآية عموما و اتساعا، و هذه الملاءمة بعينها تؤيد كون قوله: إن الله كان بكم رحيما تعليلا لقوله: و لا تقتلوا أنفسكم فقط.
قوله تعالى: «و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما» الآية العدوان مطلق التجاوز سواء كان جائزا ممدوحا أو محظورا مذموما قال تعالى: فلا عدوان إلا على الظالمين: - البقرة: 193، و قال تعالى: «و تعاونوا على البر و التقوى و لا تعاونوا على الإثم و العدوان: - المائدة: 2، فهو أعم موردا من الظلم، و معناه في الآية تعدي الحدود التي حدها الله تعالى، و الإصلاء بالنار الإحراق بها.
و في الآية من حيث اشتمالها على قوله: «ذلك» التفات عن خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تلويحا إلى أن من فعل ذلك منهم - و هم نفس واحدة و النفس الواحدة لا ينبغي لها أن تريد هلاك نفسها - فليس من المؤمنين، فلا يخاطب في مجازاته المؤمنون، و إنما يخاطب فيها الرسول المخاطب في شأن المؤمنين و غيرهم، و لذلك بني الكلام على العموم فقيل: و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما فسوف نصليه، و لم يقل: و من يفعل ذلك منكم.
و ذيل الآية أعني قوله.
و كان ذلك على الله يسيرا يؤيد أن يكون المشار إليه بقوله: ذلك هو النهي عن قتل الأنفس بناء على كون قوله: إن الله كان بكم رحيما ناظرا إلى تعليل النهي عن القتل فقط لما من المناسبة التامة بين الذيلين، فإن الظاهر أن المعنى هو أن الله تعالى إنما ينهاكم عن قتل أنفسكم رحمة بكم و رأفة، و إلا فمجازاته لمن قتل النفس بإصلائه النار عليه يسير غير عسير، و مع ذلك فعود التعليل و كذا التهديد إلى مجموع الفقرتين في الآية الأولى أعني النهي عن أكل المال بالباطل و النهي عن قتل النفس لا ضير فيه.
و أما قول بعضهم: إن التعليل و التهديد أو التهديد فقط راجع إلى جميع ما ذكر من المناهي من أول السورة إلى هذه الآية، و كذا قول آخرين: إن ذلك إشارة إلى جميع ما ذكر من المناهي من قوله: يا أيها الذين آمنوا لا يحل لكم أن ترثوا النساء كرها الآية: آية 19 من السورة إلى هنا لعدم ذكر جزاء للمناهي الواقعة في هذه الآيات فمما لا دليل على اعتباره.
و تغيير السياق في قوله: فسوف نصليه نارا بالخصوص عن سياق الغيبة الواقع في قوله: إن الله كان بكم رحيما إلى سياق التكلم تابع للالتفات الواقع في قوله: «ذلك» عن خطاب المؤمنين إلى خطاب الرسول، ثم الرجوع إلى الغيبة في قوله: و كان ذلك على الله يسيرا إشعار بالتعليل، أي و ذلك عليه يسير لأنه هو الله عز اسمه.
بحث روائي
في المجمع، في قوله تعالى: بالباطل قولان: أحدهما أنه الربا و القمار و البخس و الظلم، قال: و هو المروي عن الباقر (عليه السلام).
و في نهج البيان، عن الباقر و الصادق (عليهما السلام): أنه القمار و السحت و الربا و الأيمان.
و في تفسير العياشي، عن أسباط بن سالم قال: كنت عند أبي عبد الله (عليه السلام) فجاءه رجل فقال له: أخبرني عن قول الله: يا أيها الذين آمنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل، قال: عنى بذلك القمار، و أما قوله: و لا تقتلوا أنفسكم عنى بذلك الرجل من المسلمين يشد على المشركين وحده يجيء في منازلهم فيقتل فنهاهم الله عن ذلك أقول: الآية عامة في الأكل بالباطل، و ذكر القمار و ما أشبهه من قبيل عد المصاديق و كذا تفسير قتل النفس بما ذكر في الرواية تعميم للآية لا تخصيص بما ذكر.
و فيه، عن إسحاق بن عبد الله بن محمد بن علي بن الحسين قال: حدثني الحسن بن زيد عن أبيه عن علي بن أبي طالب (عليه السلام) قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن الجبائر تكون على الكسير كيف يتوضأ صاحبها؟ و كيف يغتسل إذا أجنب؟ قال: يجزيه المسح بالماء عليها في الجنابة و الوضوء، قلت: فإن كان في برد يخاف على نفسه إذا أفرغ الماء على جسده؟ فقرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما.
و في الفقيه، قال الصادق (عليه السلام): من قتل نفسه متعمدا فهو في نار جهنم خالدا فيها، قال الله تعالى: و لا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما - و من يفعل ذلك عدوانا و ظلما - فسوف نصليه نارا و كان ذلك على الله يسيرا.
أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى قوله: و لا تقتلوا أنفسكم الآية كما استفدناه فيما تقدم، و في معنى ما تقدم روايات أخر.
و في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن المنذر عن ابن سعيد قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إنما البيع عن تراض.
و فيه، أخرج ابن جرير عن ابن عباس: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) باع رجلا ثم قال له: اختر فقال: قد اخترت فقال: هكذا البيع.
و فيه، أخرج البخاري و الترمذي و النسائي عن ابن عمر قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): البيعان بالخيار ما لم يفترقا أو يقول أحدهما للآخر: اختر.
أقول: قوله: البيعان بالخيار ما لم يتفرقا مروي من طرق الشيعة أيضا، و قوله: أو يقول أحدهما للآخر: اختر لتحقيق معنى التراضي
|