بيان
تصف السورة المنافقين و تسمهم بشدة العداوة و تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يحذرهم و تعظ المؤمنين أن يتحرزوا من خصائص النفاق فلا يقعوا في مهلكته و لا يجرهم إلى النار، و السورة مدنية.
قوله تعالى: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله و الله يعلم إنك لرسوله و الله يشهد إن المنافقين لكاذبون» المنافق اسم فاعل من النفاق و هو في عرف القرآن إظهار الإيمان و إبطان الكفر.
و الكذب خلاف الصدق و هو عدم مطابقة الخبر للخارج فهو وصف الخبر كالصدق و ربما اعتبرت مطابقة الخبر و لا مطابقته بالنسبة إلى اعتقاد المخبر فيكون مطابقته لاعتقاد المخبر صدقا منه و عدم مطابقته له كذبا فيقال: فلان كاذب إذا لم يطابق خبره الخارج و فلان كاذب إذا أخبر بما يخالف اعتقاده و يسمى النوع الأول صدقا و كذبا خبريين، و الثاني صدقا و كذبا مخبريين.
فقوله: «إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله» حكاية لإظهارهم الإيمان بالشهادة على الرسالة فإن في الشهادة على الرسالة إيمانا بما جاء به الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتضمن الإيمان بوحدانيته تعالى و بالمعاد، و هو الإيمان الكامل.
و قوله: «و الله يعلم إنك لرسوله» تثبيت منه تعالى لرسالته (صلى الله عليه وآله وسلم)، و إنما أورده مع أن وحي القرآن و مخاطبته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان كافيا في تثبيت رسالته، ليكون قرينة مصرحة بأنهم كاذبون من حيث عدم اعتقادهم بما يقولون و إن كان قولهم في نفسه صادقا فهم كاذبون في قولهم كذبا مخبريا لا خبريا فقوله: «و الله يشهد أن المنافقين لكاذبون» أريد به الكذب المخبري لا الخبري.
قوله تعالى: «اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله» إلخ، الأيمان جمع يمين بمعنى القسم، و الجنة الترس و المراد بها ما يتقى به من باب الاستعارة، و الصد يجيء بمعنى الإعراض و عليه فالمراد إعراضهم أنفسهم عن سبيل الله و هو الدين و بمعنى الصرف و عليه فالمراد صرفهم العامة من الناس عن الدين و هم في وقاية من إيمانهم الكاذبة.
و المعنى: اتخذوا أيمانهم الكاذبة التي يحلفون وقاية لأنفسهم فأعرضوا عن سبيل الله و دينه - أو فصرفوا العامة من الناس عن دين الله بما يستطيعونه من الصرف بتقليب الأمور و إفساد العزائم.
و قوله: «إنهم ساء ما كانوا يعملون» تقبيح لأعمالهم التي استمروا عليها منذ نافقوا إلى حين نزول السورة.
قوله تعالى: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون» الظاهر أن الإشارة بذلك إلى سوء ما عملوا كما قيل، و قيل: الإشارة إلى جميع ما تقدم من كذبهم و استجنانهم بالأيمان الفاجرة و صدهم عن سبيل الله و مساءة أعمالهم.
و المراد بإيمانهم - على ما قيل - إيمانهم بألسنتهم ظاهرا بشهادة أن لا إله إلا الله و أن محمدا رسوله ثم كفرهم بخلو باطنهم عن الإيمان كما قال تعالى فيهم: «و إذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنا معكم إنما نحن مستهزءون»: البقرة: 14.
و لا يبعد أن يكون فيهم من آمن حقيقة ثم ارتد و كتم ارتداده فلحق بالمنافقين يتربص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بالمؤمنين الدوائر كما يظهر من بعض آيات سورة التوبة كقوله: «فأعقبهم نفاقا في قلوبهم إلى يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه»: التوبة: 77، و قد عبر تعالى عمن لم يدخل الإيمان في قلبه منهم بمثل قوله: «و كفروا بعد إسلامهم»: التوبة: 74.
فالظاهر أن المراد بقوله: «آمنوا ثم كفروا» إظهارهم للشهادتين أعم من أن يكون عن ظهر القلب أو بظاهر من القول ثم كفرهم بإتيان أعمال تستصحب الكفر كالاستهزاء بالدين و رد بعض الأحكام.
و قوله: «فطبع على قلوبهم فهم لا يفقهون» تفريع عدم الفقه على طبع القلوب دليل على أن الطبع ختم على القلب يستتبع عدم قبوله لورود كلمة الحق فيه فهو آيس من الإيمان محروم من الحق.
و الطبع على القلب جعله بحيث لا يقبل الحق و لا يتبعه فلا محالة يتبع الهوى كما قال تعالى: «طبع الله على قلوبهم و اتبعوا أهواءهم»: سورة محمد: 16، فلا يفقه و لا يسمع و لا يعلم كما قال تعالى: «و طبع على قلوبهم فهم لا يفقهون»: التوبة: 87، و قال: «و نطبع على قلوبهم فهم لا يسمعون»: الأعراف: 100، و قال: «و طبع الله على قلوبهم فهم لا يعلمون»: التوبة: 93، و الطبع على أي حال لا يكون منه تعالى إلا مجازاة لأنه إضلال و الذي ينسب إليه تعالى من الإضلال إنما هو الإضلال على سبيل المجازاة دون الإضلال الابتدائي و قد مر مرارا.
قوله تعالى: «و إذا رأيتهم تعجبك أجسامهم و إن يقولوا تسمع لقولهم» إلخ، الظاهر أن الخطاب في «رأيتهم» و «تسمع» خطاب عام يشمل كل من رآهم و سمع كلامهم لكونهم في أزياء حسنة و بلاغة من الكلام، و ليس خطابا خاصا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المراد أنهم على صباحة من المنظر و تناسب من الأعضاء إذا رآهم الرائي أعجبته أجسامهم، و فصاحة و بلاغة من القول إذا سمع السامع كلامهم مال إلى الإصغاء إلى قولهم لحلاوة ظاهره و حسن نظمه.
و قوله: «كأنهم خشب مسندة» ذم لهم بحسب باطنهم و الخشب بضمتين جمع خشبة، و التسنيد نصب الشيء معتمدا على شيء آخر كحائط و نحوه.
و الجملة مسوقة لذمهم و هي متممة لسابقتها، و المراد أن لهم أجساما حسنة معجبة و قولا رائعا ذا حلاوة لكنهم كالخشب المسندة أشباح بلا أرواح لا خير فيها و لا فائدة تعتريها لكونهم لا يفقهون.
و قوله: «يحسبون كل صيحة عليهم» ذم آخر لهم أي إنهم لإبطانهم الكفر و كتمانهم ذلك من المؤمنين يعيشون على خوف و وجل و وحشة يخافون ظهور أمرهم و اطلاع الناس على باطنهم و يظنون أن كل صيحة سمعوها فهي كائنة عليهم و أنهم المقصودون بها.
و قوله: «هم العدو فاحذرهم» أي هم كاملون في العداوة بالغون فيها فإن أعدى أعدائك من يعاديك و أنت تحسبه صديقك.
و قوله: «قاتلهم الله أنى يؤفكون» دعاء عليهم بالقتل و هو أشد شدائد الدنيا و كان استعمال المقاتلة دون القتل للدلالة على الشدة.
و قيل: المراد به الطرد و الإبعاد من الرحمة، و قيل: المراد به الإخبار دون الدعاء، و المعنى: أن شمول اللعن و الطرد لهم مقرر ثابت، و قيل: الكلمة مفيدة للتعجب كما يقال: قاتله الله ما أشعره، و الظاهر من السياق ما تقدم من الوجه.
و قوله: «أنى يؤفكون» مسوق للتعجب أي كيف يصرفون عن الحق؟ و قيل: هو توبيخ و تقريع و ليس باستفهام.
قوله تعالى: «و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله لووا رءوسهم» إلخ، التلوية تفعيل من لوى يلوي ليا بمعنى مال.
و المعنى: و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - و ذلك عند ما ظهر منهم بعض خياناتهم و فسوقهم - أمالوا رءوسهم إعراضا و استكبارا و رآهم الرائي يعرضون عن القائل و هم مستكبرون عن إجابة قوله.
قوله تعالى: «سواء عليهم أستغفرت لهم أم لم تستغفر لهم لن يغفر الله لهم» إلخ، أي يتساوى الاستغفار و عدمه في حقهم و تساوي الشيء و عدمه كناية عن أنه لا يفيد الفائدة المطلوبة منه، فالمعنى: لا يفيدهم استغفارك و لا ينفعهم.
و قوله: «لن يغفر الله لهم» دفع دخل كان سائلا يسأل: لما ذا يتساوى الاستغفار لهم و عدمه؟ فأجيب: لن يغفر الله لهم.
و قوله: «إن الله لا يهدي القوم الفاسقين» تعليل لقوله: «لن يغفر الله لهم»، و المعنى: لن يغفر الله لهم لأن مغفرته لهم هداية لهم إلى السعادة و الجنة و هم فاسقون خارجون عن زي العبودية لإبطانهم الكفر و الطبع على قلوبهم و الله لا يهدي القوم الفاسقين.
قوله تعالى: «هم الذين يقولون لا تنفقوا على من عند رسول الله حتى ينفضوا» إلخ، الانفضاض التفرق، و المعنى: المنافقون هم الذين يقولون: لا تنفقوا أموالكم على المؤمنين الفقراء الذين لازموا رسول الله و اجتمعوا عنده لنصرته و إنفاذ أمره و إجراء مقاصده حتى يتفرقوا عنه فلا يتحكم علينا.
و قوله: «و لله خزائن السماوات و الأرض» جواب عن قولهم: لا تنفقوا إلخ، أي إن الدين دين الله و لا حاجة له إلى إنفاقهم فله خزائن السماوات و الأرض ينفق منها و يرزق من يشاء كيف يشاء فلو شاء لأغنى الفقراء من المؤمنين لكنه تعالى يختار ما هو الأصلح فيمتحنهم بالفقر و يتعبدهم بالصبر ليوجرهم أجرا كريما و يهديهم صراطا مستقيما و المنافقون في جهل من ذلك.
و هذا معنى قوله: «و لكن المنافقين لا يفقهون» أي لا يفقهون وجه الحكمة في ذلك و احتمل أن يكون المعنى أن المنافقين لا يفقهون أن خزائن العالم بيد الله و هو الرازق لا رازق غيره فلو شاء لأغناهم لكنهم يحسبون أن الغنى و الفقر بيد الأسباب فلو لم ينفقوا على أولئك الفقراء من المؤمنين لم يجدوا رازقا يرزقهم.
قوله تعالى: «يقولون لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين و لكن المنافقين لا يعلمون» القائل هو عبد الله بن أبي بن سلول، و كذا قائل الجملة السابقة: لا تنفقوا إلخ، و إنما عبر بصيغة الجمع تشريكا لأصحابه الراضين بقوله معه.
و مراده بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و يريد بهذا القول تهديد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإخراجه من المدينة بعد المراجعة إليها و قد رد الله عليه و على من يشاركه في نفاقه بقوله: «و لله العزة و لرسوله و للمؤمنين و لكن المنافقين لا يعلمون» فقصر العزة في نفسه و رسوله و المؤمنين فلا يبقى لغيرهم إلا الذلة و نفى عن المنافقين العلم فلم يبق لهم إلا الذلة و الجهالة.
بحث روائي
في المجمع،: نزلت الآيات في عبد الله بن أبي المنافق و أصحابه و ذلك أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بلغه أن بني المصطلق يجتمعون لحربه و قائدهم الحارث بن أبي ضرار أبو جويرية زوج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). فلما سمع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إليهم حتى لقيهم على ماء من مياههم يقال له المريسيع من ناحية قديد إلى الساحل فتزاحف الناس و اقتتلوا فهزم الله بني المصطلق و قتل منهم من قتل و نفل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبناءهم و نساءهم و أموالهم. فبينا الناس على ذلك الماء إذ وردت واردة الناس و مع عمر بن الخطاب أجير له من بني غفار يقال له جهجاه بن سعيد يقود له فرسه فازدحم جهجاه و سنان الجهني من بني عوف بن خزرج على الماء فاقتتلا فصرخ الجهني يا معشر الأنصار و صرخ الغفاري يا معشر المهاجرين فأعان الغفاري رجل من المهاجرين يقال له: جعال و كان فقيرا فقال عبد الله بن أبي لجعال: إنك لهتاك فقال: و ما يمنعني أن أفعل ذلك؟ و اشتد لسان جعال على عبد الله. فقال عبد الله: و الذي يحلف به لأزرنك و يهمك غير هذا. و غضب ابن أبي و عنده رهط من قومه فيهم زيد بن أرقم حديث السن فقال ابن أبي قد نافرونا و كاثرونا في بلادنا، و الله ما مثلنا و مثلهم إلا كما قال القائل: سمن كلبك يأكلك أما و الله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل يعني بالأعز نفسه و بالأذل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ثم أقبل على من حضره من قومه فقال: هذا ما جعلتم بأنفسكم أحللتموهم بلادكم و قاسمتموهم أموالكم أما و الله لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم و لأوشكوا أن يتحولوا من بلادكم و يلحقوا بعشائرهم و مواليهم. فقال زيد بن أرقم: أنت و الله الذليل القليل المبغض في قومك و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) في عز من الرحمن و مودة من المسلمين و الله لا أحبك بعد كلامك هذا فقال عبد الله: اسكت فإنما كنت ألعب. فمشى زيد بن أرقم إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك بعد فراغه من الغزو فأخبره الخبر فأمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحيل و أرسل إلى عبد الله فأتاه فقال: ما هذا الذي بلغني عنك؟ فقال عبد الله و الذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك قط و إن زيدا لكاذب، و قال من حضر من الأنصار: يا رسول الله شيخنا و كبيرنا لا تصدق عليه كلام غلام من غلمان الأنصار عسى أن يكون هذا الغلام وهم في حديثه. فعذره رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فشت الملامة من الأنصار لزيد. و لما استقل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسار لقيه أسيد بن الحضير فحياه بتحية النبوة ثم قال: يا رسول الله لقد رحت في ساعة منكرة ما كنت تروح فيها، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أ و ما بلغك ما قال صاحبكم؟ زعم أنه إن رجع إلى المدينة أخرج الأعز منها الأذل. فقال أسيد: فأنت و الله يا رسول الله تخرجه إن شئت. هو و الله الذليل و أنت العزيز. ثم قال: يا رسول الله ارفق به فو الله لقد جاء الله بك و إن قومه لينظمون له الخرز ليتوجوه و إنه ليرى أنك قد استلبته ملكا. و بلغ عبد الله بن عبد الله بن أبي ما كان من أمر أبيه فأتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله إنه قد بلغني أنك تريد قتل أبي فإن كنت لا بد فاعلا فمرني به فأنا أحمل إليك رأسه فو الله لقد علمت الخزرج ما كان بها رجل أبر بوالديه مني و إني أخشى أن تأمر به غيري فيقتله فلا تدعني نفسي أن أنظر إلى قاتل عبد الله بن أبي أن يمشي في الناس فأقتله فأقتل مؤمنا بكافر فأدخل النار، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): بل ترفق به و تحسن صحبته ما بقي معنا. قالوا: و سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالناس يومهم ذلك حتى أمسى و ليلتهم حتى أصبح و صدر يومهم ذلك حتى آذتهم الشمس ثم نزل بالناس فلم يكن إلا أن وجدوا مس الأرض وقعوا نياما، إنما فعل ذلك ليشغل الناس عن الحديث الذي خرج من عبد الله بن أبي. ثم راح بالناس حتى نزل على ماء بالحجاز فويق البقيع يقال له: بقعاء فهاجت ريح شديدة آذتهم و تخوفوها و ضلت ناقة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و ذلك ليلا فقال: مات اليوم منافق عظيم النفاق بالمدينة قيل: من هو؟ قال: رفاعة. فقال رجل من المنافقين: كيف يزعم أنه يعلم الغيب و لا يعلم مكان ناقته؟ أ لا يخبره الذي يأتيه بالوحي؟ فأتاه جبريل فأخبره بقول المنافق و بمكان الناقة، و أخبر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك أصحابه و قال: ما أزعم أني أعلم الغيب و ما أعلمه و لكن الله تعالى أخبرني بقول المنافق و بمكان ناقتي. هي في الشعب فإذا هي كما قال فجاءوا بها و آمن ذلك المنافق. فلما قدموا المدينة وجدوا رفاعة بن زيد في التابوت أحد بني قينقاع و كان من عظماء اليهود مات ذلك اليوم. قال زيد بن أرقم: فلما وافى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة جلست في البيت لما بي من الهم و الحياء فنزلت سورة المنافقون في تصديق زيد و تكذيب عبد الله بن أبي. ثم أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بأذن زيد فرفعه عن الرحل ثم قال: يا غلام صدق فوك، و وعت أذناك، و وعى قلبك، و قد أنزل الله فيما قلت قرآنا. و كان عبد الله بن أبي بقرب المدينة فلما أراد أن يدخلها جاء ابنه عبد الله بن عبد الله بن أبي حتى أناخ على مجامع طرق المدينة فقال: ما لك ويلك؟ فقال: و الله لا تدخلها إلا بإذن رسول الله و لتعلمن اليوم من الأعز؟ و من الأذل؟ فشكا عبد الله ابنه إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأرسل إليه أن خل عنه يدخل فقال: أما إذا جاء أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فنعم فدخل فلم يلبث إلا أياما قلائل حتى اشتكى و مات. فلما نزلت هذه الآيات و بان كذب عبد الله قيل له: نزل فيك آي شداد فاذهب إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يستغفر لك فلوى رأسه ثم قال: أمرتموني أن أؤمن فقد آمنت و أمرتموني أن أعطي زكاة مالي فقد أعطيت فما بقي إلا أن أسجد لمحمد فنزل: «و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - لووا رءوسهم إلى قوله لا يعلمون».
أقول: ما أورده من القصة مأخوذ من روايات مختلفة مروية عن زيد بن أرقم و ابن عباس و عكرمة و محمد بن سيرين و ابن إسحاق و غيرهم دخل حديث بعضهم في بعض.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إذا جاءك المنافقون» الآية قال: قال: نزلت في غزوة المريسيع و هي غزوة بني المصطلق في سنة خمس من الهجرة، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خرج إليها فلما رجع منها نزل على بئر و كان الماء قليلا فيها. و كان أنس بن سيار حليف الأنصار، و كان جهجاه بن سعيد الغفاري أجيرا لعمر بن الخطاب فاجتمعوا على البئر فتعلق دلو سيار بدلو جهجاه فقال سيار: دلوي و قال جهجاه: دلوي فضرب جهجاه على وجه سيار فسال منه الدم فنادى سيار بالخزرج و نادى جهجاه بقريش و أخذ الناس السلاح و كاد أن تقع الفتنة. فسمع عبد الله بن أبي النداء فقال: ما هذا؟ فأخبروه بالخبر فغضب غضبا شديدا ثم قال: قد كنت كارها لهذا المسير إني لأذل العرب ما ظننت أني أبقى إلى أن أسمع مثل هذا فلا يكن عندي تغيير. ثم أقبل على أصحابه فقال: هذا عملكم أنزلتموهم منازلكم و واسيتموهم بأموالكم و وقيتموهم بأنفسكم و أبرزتم نحوركم للقتل فأرمل نساؤكم و أيتم صبيانكم و لو أخرجتموهم لكانوا عيالا على غيركم. ثم قال: لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل. و كان في القوم زيد بن أرقم و كان غلاما قد راهق، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ظل شجرة في وقت الهاجرة و عنده قوم من أصحابه من المهاجرين و الأنصار فجاء زيد فأخبره بما قال عبد الله بن أبي فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لعلك وهمت يا غلام، قال: لا و الله ما وهمت. قال: فلعلك غضبت عليه؟ قال: لا و الله ما غضبت عليه، قال: فلعله سفه عليك، فقال: لا و الله. فقال رسول الله لشقران مولاه: أحدج فأحدج راحلته و ركب و تسامع الناس بذلك فقالوا: ما كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليرحل في مثل هذا الوقت، فرحل الناس و لحقه سعد بن عبادة فقال: السلام عليك يا رسول الله و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك السلام، فقال: ما كنت لترحل في مثل هذا الوقت، فقال: أ و ما سمعت قولا قال صاحبكم؟ قال: و أي صاحب لنا غيرك يا رسول الله؟ قال: عبد الله بن أبي زعم أنه إن رجع إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: يا رسول الله فإنك و أصحابك الأعز و هو و أصحابه الأذل. فسار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يومه كله لا يكلمه أحد فأقبلت الخزرج على عبد الله بن أبي يعذلونه فحلف عبد الله أنه لم يقل شيئا من ذلك فقالوا: فقم بنا إلى رسول الله حتى نعتذر إليه فلوى عنقه. فلما جن الليل سار رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ليله كله فلم ينزلوا إلا للصلاة فلما كان من الغد نزل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزل أصحابه و قد أمهدهم الأرض من السفر الذي أصابهم فجاء عبد الله بن أبي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فحلف عبد الله له أنه لم يقل ذلك، و أنه يشهد أن لا إله إلا الله و أنك لرسول الله و إن زيدا قد كذب علي، فقبل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) منه و أقبلت الخزرج على زيد بن أرقم يشتمونه و يقولون له: كذبت على عبد الله سيدنا. فلما رحل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان زيد معه يقول: اللهم إنك لتعلم أني لم أكذب على عبد الله بن أبي فما سار إلا قليلا حتى أخذ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما كان يأخذه من البرحاء عند نزول الوحي فثقل حتى كادت ناقته أن تبرك من ثقل الوحي فسري عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو يسكب العرق عن جبهته ثم أخذ بأذن زيد بن أرقم فرفعه من الرحل ثم قال: يا غلام صدق قولك و وعى قلبك و أنزل الله فيما قلت قرآنا. فلما نزل جمع أصحابه و قرأ عليهم سورة المنافقين: «بسم الله الرحمن الرحيم إذا جاءك المنافقون إلى قوله و لكن المنافقين لا يعلمون» ففضح الله عبد الله بن أبي.
و في تفسير القمي أيضا، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «كأنهم خشب مسندة» يقول: لا يسمعون و لا يعقلون «يحسبون كل صيحة عليهم» يعني كل صوت «هم العدو فاحذرهم قاتلهم الله أنى يؤفكون». فلما أنبأ الله رسوله خبرهم مشى إليهم عشائرهم و قالوا افتضحتم ويلكم فأتوا رسول الله يستغفر لكم فلووا رءوسهم و زهدوا في الاستغفار، يقول الله: «و إذا قيل لهم تعالوا يستغفر لكم رسول الله - لووا رءوسهم و رأيتهم يصدون و هم مستكبرون».
و في الكافي، بإسناده إلى سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إن الله تبارك و تعالى فوض إلى المؤمن أموره كلها، و لم يفوض إليه أن يذل نفسه أ لم تر قول الله سبحانه و تعالى هاهنا «لله العزة و لرسوله و للمؤمنين» و المؤمن ينبغي أن يكون عزيزا و لا يكون ذليلا:. أقول: و روي هذا المعنى بإسناده عن داود الرقي و الحسن الأحمسي و بطريق آخر عن سماعة.
و فيه، بإسناده عن مفضل بن عمر قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): لا ينبغي للمؤمن أن يذل نفسه. قلت: بما يذل نفسه؟ قال: يدخل فيما يعتذر منه.
كلام حول النفاق في صدر الإسلام
يهتم القرآن بأمر المنافقين اهتماما بالغا و يكر عليهم كرة عنيفة بذكر مساوي أخلاقهم و أكاذيبهم و خدائعهم و دسائسهم و الفتن التي أقاموها على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و على المسلمين، و قد تكرر ذكرهم في السور القرآنية كسورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأنفال و التوبة و العنكبوت و الأحزاب و الفتح و الحديد و الحشر و المنافقون و التحريم.
و قد أوعدهم الله في كلامه أشد الوعيد ففي الدنيا بالطبع على قلوبهم و جعل الغشاوة على سمعهم و على أبصارهم و إذهاب نورهم و تركهم في ظلمات لا يبصرون و في الآخرة بجعلهم في الدرك الأسفل من النار.
و ليس ذلك إلا لشدة المصائب التي أصابت الإسلام و المسلمين من كيدهم و مكرهم و أنواع دسائسهم فلم ينل المشركون و اليهود و النصارى من دين الله ما نالوه، و ناهيك فيهم قوله تعالى لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) يشير إليهم: «هم العدو فاحذرهم»: المنافقون: 4.
و قد ظهر آثار دسائسهم و مكائدهم أوائل ما هاجر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة فورد ذكرهم في سورة البقرة و قد نزلت - على ما قيل - على رأس ستة أشهر من الهجرة ثم في السور الأخرى النازلة بعد بالإشارة إلى أمور من دسائسهم و فنون من مكائدهم كانسلالهم من الجند الإسلامي يوم أحد و هم ثلثهم تقريبا، و عقدهم الحلف مع اليهود و استنهاضهم على المسلمين و بنائهم مسجد الضرار و إشاعتهم حديث الإفك، و إثارتهم الفتنة في قصة السقاية و قصة العقبة إلى غير ذلك مما تشير إليه الآيات حتى بلغ أمرهم في الإفساد و تقليب الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى حيث هددهم الله بمثل قوله: «لئن لم ينته المنافقون و الذين في قلوبهم مرض و المرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا و قتلوا تقتيلا»: الأحزاب: 61.
و قد استفاضت الأخبار و تكاثرت في أن عبد الله بن أبي بن سلول و أصحابه من المنافقين و هم الذين كانوا يقلبون الأمور على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يتربصون به الدوائر و كانوا معروفين عند المؤمنين يقربون من ثلث القوم و هم الذين خذلوا المؤمنين يوم أحد فانمازوا منهم و رجعوا إلى المدينة قائلين لو نعلم قتالا لاتبعناكم و هم عبد الله بن أبي و أصحابه.
و من هنا ذكر بعضهم أن حركة النفاق بدأت بدخول الإسلام المدينة و استمرت إلى قرب وفاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
هذا ما ذكره جمع منهم لكن التدبر في حوادث زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الإمعان في الفتن الواقعة بعد الرحلة و الاعتناء بطبيعة الاجتماع الفعالة يقضي عليه بالنظر: أما أولا: فلا دليل مقنعا على عدم تسرب النفاق في متبعي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المؤمنين بمكة قبل الهجرة، و قول القائل: إن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المسلمين بمكة قبل الهجرة لم يكونوا من القوة و نفوذ الأمر و سعة الطول بحيث يهابهم الناس و يتقوهم أو يرجوا منهم خيرا حتى يظهروا لهم الإيمان ظاهرا و يتقربوا منهم بالإسلام، و هم مضطهدون مفتنون معذبون بأيدي صناديد قريش و مشركي مكة المعادين لهم المعاندين للحق بخلاف حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعد الهجرة فإنه (صلى الله عليه وآله وسلم) هاجر إليها و قد كسب أنصارا من الأوس و الخزرج و استوثق من أقوياء رجالهم أن يدفعوا عنه كما يدفعون عن أنفسهم و أهليهم، و قد دخل الإسلام في بيوت عامتهم فكان مستظهرا بهم على العدة القليلة الذين لم يؤمنوا به و بقوا على شركهم و لم يكن يسعهم أن يعلنوا مخالفتهم و يظهروا شركهم فتوقوا الشر بإظهار الإسلام فآمنوا به ظاهرا و هم على كفرهم باطنا فدسوا الدسائس و مكروا ما مكروا.
غير تام، فما القدرة و القوة المخالفة المهيبة و رجاء الخير بالفعل و الاستدرار المعجل علة منحصرة للنفاق حتى يحكم بانتفاء النفاق لانتفائها فكثيرا ما نجد في المجتمعات رجالا يتبعون كل داع و يتجمعون إلى كل ناعق و لا يعبئون بمخالفة القوى المخالفة القاهرة الطاحنة، و يعيشون على خطر مصرين على ذلك رجاء أن يوفقوا يوما لإجراء مرامهم و يتحكموا على الناس باستقلالهم بإدارة رحى المجتمع و العلو في الأرض و قد كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يذكر في دعوته لقومه أن لو آمنوا به و اتبعوه كانوا ملوك الأرض.
فمن الجائز عقلا أن يكون بعض من آمن به يتبعه في ظاهر دينه طمعا في البلوغ بذلك إلى أمنيته و هي التقدم و الرئاسة و الاستعلاء، و الأثر المترتب على هذا النوع من النفاق ليس هو تقليب الأمور و تربص الدوائر على الإسلام و المسلمين و إفساد المجتمع الديني بل تقويته بما أمكن و تفديته بالمال و الجاه لينتظم بذلك الأمور و يتهيأ لاستفادته منه و استدراره لنفع شخصه.
نعم يمكر مثل هذا المنافق بالمخالفة و المضادة فيما إذا لاح من الدين مثلا ما يخالف أمنية تقدمه و تسلطه إرجاعا للأمر إلى سبيل ينتهي إلى غرضه الفاسد.
و أيضا من الممكن أن يكون بعض المسلمين يرتاب في دينه فيرتد و يكتم ارتداده كما مرت الإشارة إليه في قوله تعالى: «ذلك بأنهم آمنوا ثم كفروا» الآية، و كما يظهر من لحن مثل قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتي الله بقوم»: المائدة: 54.
و أيضا الذين آمنوا من مشركي مكة يوم الفتح لا يؤمن أكثرهم أن لا يؤمنوا إيمان صدق و إخلاص و من البديهي عند من تدبر في حوادث سني الدعوة أن كفار مكة و ما والاها و خاصة صناديد قريش ما كانوا ليؤمنوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لو لا سواد جنود غشيتهم و بريق سيوف مسلطة فوق رءوسهم يوم الفتح و كيف يمكن مع ذلك القضاء بأنه حدث في قلوبهم و الظرف هذا الظرف نور الإيمان و في نفوسهم الإخلاص و اليقين فآمنوا بالله طوعا عن آخرهم و لم يدب فيهم دبيب النفاق أصلا.
و أما ثانيا: فلأن استمرار النفاق إلى قرب رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و انقطاعه عند ذلك ممنوع نعم انقطع الخبر عن المنافقين بالرحلة و انعقاد الخلافة و انمحى أثرهم فلم يظهر منهم ما كان يظهر من الآثار المضادة و المكائد و الدسائس المشئومة.
فهل كان ذلك لأن المنافقين وفقوا للإسلام و أخلصوا الإيمان عن آخرهم برحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تأثرت قلوبهم من موته ما لم يتأثر بحياته؟ أو أنهم صالحوا أولياء الحكومة الإسلامية على ترك المزاحمة بأن يسمح لهم ما فيه أمنيتهم مصالحة سرية بعد الرحلة أو قبلها؟ أو أنه وقع هناك تصالح اتفاقي بينهم و بين المسلمين فوردوا جميعا في مشرعة سواء فارتفع التصاك و التصادم؟.
و لعل التدبر الكافي في حوادث آخر عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الفتن الواقعة بعد رحلته يهدي إلى الحصول على جواب شاف لهذه الأسئلة.
و الذي أوردناه في هذا الفصل إشارة إجمالية إلى سبيل البحث.
|