بيان
شطر من آيات الفصل الثاني من الفصول الثلاثة في السورة تتعرض لأمر الأوثان و عبادتها بدعوى أنها ستشفع لهم و الرد عليهم أبلغ الرد، و فيها إشارة إلى أمر المعاد و هو مقصد الفصل الثالث.
قوله تعالى: «أ فرأيتم اللات و العزى و مناة الثالثة الأخرى» لما سجل في الآيات السابقة صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنه وحي يوحى إليه و ترتب عليه حقية النبوة المبنية على التوحيد و نفي الشركاء، فرع عليه الكلام في الأوثان: اللات و العزى و مناة و هي عند المشركين تماثيل للملائكة بدعوى أنهم إناث أو بعضها للملائكة و بعضها للإنسان كما قاله بعضهم و نفي ربوبيتها و ألوهيتها و استقلال الملائكة الذين هم أرباب الأصنام في الشفاعة و أنوثيتهم و أشار إلى حقائق أخرى تنتج المعاد و جزاء الأعمال.
و اللات و العزى و مناة أصنام ثلاث كانت معبودة لعرب الجاهلية، و قد اختلفوا في وصف صورها، و في موضعها الذي كانت منصوبة عليه، و في من يعبدها من العرب، و في الأسباب التي أوجبت عبادتهم لها، و هي أقوال متدافعة لا سبيل إلى الاعتماد على شيء منها، و المتيقن منها ما أوردناه.
و المعنى: إذا كان الأمر على ما ذكرناه من حقية الدعوة و صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في دعوى الوحي و الرسالة من عند الله سبحانه فأخبروني عن اللات و العزى و مناة التي هي ثالثة الصنمين و غيرهما - و هي التي تدعون أنها أصنام الملائكة الذين هم بنات الله على زعمكم -.
قوله تعالى: «أ لكم الذكر و له الأنثى تلك إذا قسمة ضيزى» استفهام إنكاري مشوب بالاستهزاء، و قسمة ضيزى أي جائرة غير عادلة.
و المعنى: إذا كان كذلك و كانت أرباب هذه الأصنام من الملائكة بنات الله، و أنتم لا ترضون لأنفسكم إلا الذكر من الأولاد فهل لكم الذكر و لله سبحانه الأنثى من الأولاد؟ تلك القسمة إذا قسمة جائرة غير عادلة - استهزاء -.
قوله تعالى: «إن هي إلا أسماء سميتموها أنتم و آباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان» إلخ، ضمير «هي» للات و العزى و مناة أو لها بما هي أصنام، و ضمير «سميتموها» للأسماء و تسمية الأسماء جعلها أسماء، و المراد بالسلطان البرهان.
و المعنى: ليست هذه الأصنام الآلهة إلا أسماء جعلتموها أسماء لها أنتم و آباؤكم ليست لهذه الأسماء وراءها مصاديق و مسميات ما أنزل الله معها برهانا يستدل به على ربوبيتها و ألوهيتها.
و محصل الآية الرد على المشركين بعدم الدليل على ألوهية آلهتهم.
و قوله: «إن يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس» ما موصولة و الضمير العائد إليها محذوف أي الذي تهواه النفس، و قيل: مصدرية و التقدير هوى النفس و الهوى الميل الشهواني للنفس و الجملة مسوقة لذمهم في اتباع الباطل و تأكيد لما تقدم من أنه لا برهان لهم على ذلك.
و يؤكده قوله: «و لقد جاءهم من ربهم الهدى» و الجملة حالية.
و المعنى: إن يتبع هؤلاء المشركون في أمر آلهتهم إلا الظن و ما يميل إليه أنفسهم شهوة يتبعون ذلك و الحال أنه قد جاءهم من الله و هو ربهم الهدى و هي الدعوة الحقة أو القرآن الذي يهديهم إلى الحق.
و الالتفات في الآية من الخطاب إلى الغيبة للإشعار بأنهم أحط فهما من أن يخاطبوا بهذا الكلام على أنهم غير مستعدين لأن يخاطبوا بكلام برهاني و هم أتباع الظن و الهوى.
قوله تعالى: «أم للإنسان ما تمنى» أم منقطعة و الاستفهام إنكاري، و الكلام مسوق لنفي أن يملك الإنسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه أي ليس يملك الإنسان ما يتمناه بمجرد أنه يتمناه حتى يملك المشركون ما يتمنونه بهوى أنفسهم من شفاعة الملائكة الذين هم أرباب أصنامهم و بنات لله بزعمهم أو يملكوا ألوهية آلهتهم بمجرد التمني.
و في الكلام تلويح إلى أنهم ليس لهم للدلالة على صحة ألوهية آلهتهم أو شفاعتهم إلا التمني، و لا يملك شيء بالتمني.
قوله تعالى: «فلله الآخرة و الأولى» تفريعه على سابقه من تفريع العلة للمعلول للدلالة على التعلق و الارتباط ففيه تعليل للجملة السابقة، و المعنى: ليس يملك الإنسان ما تمناه بمجرد التمني لأن الآخرة و الأولى لله سبحانه و لا شريك له في ملكه.
قوله تعالى: «و كم من ملك في السماوات لا تغني شفاعتهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء و يرضى» الفرق بين الإذن و الرضا أن الإذن إعلام ارتفاع المانع من قبل الآذن، و الرضا ملاءمة نفس الراضي للشيء و عدم امتناعها فربما تحقق الإذن بشيء مع عدم الرضا و لا يتحقق رضا إلا مع الإذن بالفعل أو بالقوة.
و الآية مسوقة لنفي أن يملك الملائكة من أنفسهم الشفاعة مستغنين في ذلك عن الله سبحانه كما يروم إليه عبدة الأصنام فإن الأمر مطلقا إلى الله تعالى فإنما يشفع من يشفع منهم بعد إذنه تعالى له في الشفاعة و رضاه بها.
و على هذا فالمراد بقوله: «لمن يشاء» الملائكة، و معنى الآية: و كثير من الملائكة في السماوات لا تؤثر شفاعتهم أثرا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء منهم أي من الملائكة و يرضى بشفاعته.
و قيل: المراد بمن يشاء و يرضى الإنسان، و المعنى: إلا من بعد أن يأذن الله في شفاعة من يشاء أن يشفع له من الإنسان و يرضى، و كيف يأذن و يرضى بشفاعة من كفر به و عبد غيره؟.
و الآية تثبت الشفاعة للملائكة في الجملة، و تقيد شفاعتهم بالإذن و الرضا من الله سبحانه.
قوله تعالى: «إن الذين لا يؤمنون بالآخرة ليسمون الملائكة تسمية الأنثى» رد لقولهم بأنوثية الملائكة بعد رد قولهم بشفاعتهم.
و المراد بتسميتهم الملائكة تسمية الأنثى قولهم: إن الملائكة بنات الله فالمراد بالأنثى الجنس أعم من الواحد و الكثير.
و قيل: إن الملائكة في معنى استغراق المفرد فيكون التقدير ليسمون كل واحد من الملائكة تسمية الأنثى أي يسمونه بنتا فالكلام على وزان كسانا الأمير حلة أي كسا كل واحد منا حلة.
قال بعضهم: في تعليق التسمية بعدم الإيمان بالآخرة إشعار بأنها في الشناعة و الفظاعة و استتباع العقوبة في الآخرة بحيث لا يجترىء عليها إلا من لا يؤمن بها رأسا.
انتهى.
قوله تعالى: «و ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغني من الحق شيئا» العلم هو التصديق المانع من النقيض، و الظن هو التصديق الراجح و يسمى المرجوح وهما، و قولهم بأنوثية الملائكة كما لم يكن معلوما لهم كذلك لم يكن مظنونا إذ لا سبيل إلى ترجيح القول به على خلافه لكنه لما كان عن هوى أنفسهم أثبته الهوى في أنفسهم و زينه لهم فلم يلتفتوا إلى خلافه، و كلما لاح لهم لائح خلافه أعرضوا عنه و تعلقوا بما يهوونه، و بهذه العناية سمي ظنا و هو في الحقيقة تصور فقط.
و بهذا يظهر استقامة قول من قال: إن الظن في هذه الآية و في قوله السابق: «إن يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس» بمعنى التوهم دون الاعتقاد الراجح و أيد بما يظهر من كلام الراغب: إن الظن ربما يطلق على التوهم.
و قوله: «إن الظن لا يغني من الحق شيئا» الحق ما هو عليه الشيء و ظاهر أنه لا يدرك إلا بالعلم الذي هو الاعتقاد المانع من النقيض لا غير و أما غير العلم مما فيه احتمال الخلاف فلا يتعين فيه المدرك على ما هو عليه في الواقع فلا مجوز لأن يعتمد عليه في الحقائق قال تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم»: إسراء: 36.
و أما العمل بالظن في الأحكام العملية فإنما هو لقيام دليل عليه يقيد به إطلاق الآية، و تبقى الأمور الاعتقادية تحت إطلاق الآية.
قال بعضهم: وضع الظاهر موضع المضمر في قوله: «إن الظن لا يغني» ليجري الكلام مجرى المثل.
قوله تعالى: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا» تفريع على اتباعهم الظن و هوى الأنفس، فقوله: «فأعرض عمن» إلخ، أمر بالإعراض عنهم و إنما لم يقل: فأعرض عنهم، و وضع قوله: «من تولى عن ذكرنا» إلخ، موضع الضمير للدلالة على علة الأمر بالإعراض كأنه قيل: إن هؤلاء يتركون العلم و يتبعون الظن و ما تهوى الأنفس و إنما فعلوا ذلك لأنهم تولوا عن الذكر و أرادوا الحياة الدنيا فلا هم لهم إلا الدنيا فهي مبلغهم من العلم، و إذا كان كذلك فأعرض عنهم لأنهم في ضلال.
و المراد بالذكر إما القرآن الذي يهدي متبعيه إلى الحق الصريح و يرشدهم إلى سعادة الدار الآخرة التي وراء الدنيا بالحجج القاطعة و البراهين الساطعة التي لا تبقى معها وصمة شك.
و أما ذكر الله بالمعنى المقابل للغفلة فإن ذكره تعالى بما يليق بذاته المتعالية من الأسماء و الصفات يهدي إلى سائر الحقائق العلمية في المبدأ و المعاد هداية علمية لا ريب معها.
قوله تعالى: «ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدى» الإشارة بذلك إلى أمر الدنيا و هو معلوم من الآية السابقة و كونه مبلغ علمهم من قبيل الاستعارة كان العلم يسير إلى المعلوم و ينتهي إليه و علمهم انتهى في مسيره إلى الدنيا و بلغها و وقف عندها و لم يتجاوزها، و لازم ذلك أن تكون الدنيا متعلق إرادتهم و طلبهم، و موطن همهم، و غاية آمالهم لا يطمئنون إلى غيرها و لا يقبلون إلا عليها.
و قوله: «إن ربك هو أعلم» إلخ، تأكيد لمضمون الجملة السابقة و شهادة منه تعالى عليه.
قوله تعالى: «و لله ما في السماوات و ما في الأرض ليجزي الذين أساءوا بما عملوا و يجزي الذين أحسنوا بالحسنى» يمكن أن يكون صدر الآية حالا من فاعل «أعلم» في الآية السابقة و الواو للحال، و المعنى: أن ربك هو أعلم بالفريقين الضالين و المهتدين و الحال أنه يملك ما في السماوات و ما في الأرض فكيف يمكن أن لا يعلم بهم و هو مالكهم؟.
و على هذا فالظاهر تعلق قوله: «ليجزي» إلخ، بقوله السابق: «فأعرض عمن تولى» إلخ، و المعنى: أعرض عنهم و كل أمرهم إلى الله ليجزيهم كذا و كذا و يجزيك و يجزي المحسنين كذا و كذا.
و يمكن أن يكون قوله: «و لله ما في السماوات» إلخ، كلاما مستأنفا للدلالة على أن الأمر بالإعراض عنهم لا لإهمالهم و تركهم سدى بل الله سبحانه يجزي كلا بعمله إن سيئا و إن حسنا، و وضع اسم الجلالة و هو ظاهر موضع الضمير للدلالة على كمال العظمة.
و قوله: «لله ما في السماوات و ما في الأرض» إشارة إلى ملكه تعالى للكل و معناه قيام الأشياء به تعالى لكونه خالقهم الموجد لهم فالملك ناشىء من الخلق و هو مع ذلك منشأ للتدبير فالجملة دالة على الخلق و التدبير كأنه قيل: و لله الخلق و التدبير.
و بهذا المعنى يتعلق قوله: «ليجزي» إلخ، و اللام للغاية، و المعنى: له الخلق و التدبير و غاية ذلك و الغرض منه أن يجزي الذين أساءوا إلخ، و المراد بالجزاء ما يخبر عنه الكتاب من شئون يوم القيامة، و المراد بالإساءة و الإحسان المعصية و الطاعة، و المراد بما عملوا جزاء ما عملوا أو نفس ما عملوا، و بالحسنى المثوبة الحسنى.
و المعنى: ليجزي الله الذين عصوا بمعصيتهم أو بجزاء معصيتهم و يجزي الذين أطاعوا بالمثوبة الحسنى، و قد أوردوا في الآية احتمالات أخرى و ما قدمناه هو أظهرها.
قوله تعالى: «الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش إلا اللمم إن ربك واسع المغفرة» إلخ، الإثم هو الذنب و أصله - كما ذكره الراغب - الفعل المبطىء عن الثواب و الخير، و كبائر الإثم المعاصي الكبيرة و هو على ما في الرواية ما أوعد الله عليه النار، و قد تقدم البحث عنها في تفسير قوله تعالى: «إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم» الآية،: النساء: 31.
و الفواحش الذنوب الشنيعة الفظيعة، و قد عد تعالى في كلامه الزنا و اللواط من الفواحش و لا يبعد أن يستظهر من الآية اتحادها مع الكبائر.
و أما اللمم فقد اختلفوا في معناه فقيل: هو الصغيرة من المعاصي، و عليه فالاستثناء منقطع، و قيل: هو أن يلم بالمعصية و يقصدها و لا يفعل و الاستثناء أيضا منقطع، و قيل: هو المعصية حينا بعد حين من غير عادة أي المعصية على سبيل الاتفاق فيكون أعم من الصغيرة و الكبيرة و ينطبق مضمون الآية على معنى قوله تعالى في وصف المتقين المحسنين: «و الذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم و من يغفر الذنوب إلا الله و لم يصروا على ما فعلوا و هم يعلمون»: آل عمران: 135.
و قد فسر في روايات أئمة أهل البيت (عليهم السلام) بثالث المعاني.
و الآية تفسر ما في الآية السابقة من قوله: «الذين أحسنوا» فهم الذين يجتنبون كبائر الإثم و الفواحش و من الجائز أن يقع منهم لمم.
و في قوله: «إن ربك واسع المغفرة» تطميعهم في التوبة رجاء المغفرة.
و قوله: «هو أعلم بكم إذ أنشأكم من الأرض» قال الراغب: النشء و النشأة إحداث الشيء و تربيته.
انتهى.
فأنشئوهم من الأرض ما جرى عليهم في بدء خلقهم طورا بعد طور من أخذهم من المواد العنصرية إلى أن يتكونوا في صورة المني و يردوا الأرحام.
و قوله: «و إذ أنتم أجنة في بطون أمهاتكم» الأجنة جمع جنين، و الكلام معطوف على «إذ» السابق أي و هو أعلم بكم إذ كنتم أجنة في أرحام أمهاتكم يعلم ما حقيقتكم و ما أنتم عليه من الحال و ما في سركم و إلى ما يئول أمركم.
و قوله: فلا تزكوا أنفسكم» تفريع على العلم أي إذا كان الله أعلم من أول أمر فلا تزكوا أنفسكم بنسبتها إلى الطهارة هو أعلم بمن اتقى.
|