بيان
السورة تعزى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إثر ما رماه المشركون بالجنون و تطيب نفسه بالوعد الجميل و الشكر على خلقه العظيم و تنهاه نهيا بالغا عن طاعتهم و مداهنتهم، و تأمره أمرا أكيدا بالصبر لحكم ربه.
و سياق آياتها على الجملة سياق مكي، و نقل عن ابن عباس و قتادة أن صدرها إلى قوله: سنسمه على الخرطوم - ست عشرة آية - مكي، و ما بعده إلى قوله: «لو كانوا يعلمون - سبع عشرة آية - مدني، و ما بعده إلى قوله: «يكتبون - خمس عشرة آية - مكي، و ما بعده إلى آخر السورة - أربع آيات مدني.
و لا يخلو من وجه بالنسبة إلى الآيات السبع عشرة «إنا بلوناهم - إلى قوله - لو كانوا يعلمون» فإنها أشبه بالمدنية منها بالمكية.
قوله تعالى: «ن» تقدم الكلام في الحروف المقطعة التي في أوائل السور في تفسير سورة الشورى.
قوله تعالى: «و القلم و ما يسطرون» القلم معروف، و السطر بالفتح فالسكون و ربما يستعمل بفتحتين - كما في المفردات - الصف من الكتابة، و من الشجر المغروس و من القوم الوقوف و سطر فلان كذا كتب سطرا سطرا.
أقسم سبحانه بالقلم و ما يسطرون به و ظاهر السياق أن المراد بذلك مطلق القلم و مطلق ما يسطرون به و هو المكتوب فإن القلم و ما يسطر به من الكتابة من أعظم النعم الإلهية التي اهتدى إليها الإنسان يتلو الكلام في ضبط الحوادث الغائبة عن الأنظار و المعاني المستكنة في الضمائر، و به يتيسر للإنسان أن يستحضر كل ما ضرب مرور الزمان أو بعد المكان دونه حجابا.
و قد امتن الله سبحانه على الإنسان بهدايته إليهما و تعليمهما له فقال في الكلام «خلق الإنسان علمه البيان»: الرحمن: 4 و قال في القلم: «علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم: العلق: 5.
فإقسامه تعالى بالقلم و ما يسطرون إقسام بالنعمة، و قد أقسم تعالى في كلامه بكثير من خلقه بما أنه رحمة و نعمة كالسماء و الأرض و الشمس و القمر و الليل و النهار إلى غير ذلك حتى التين و الزيتون.
و قيل: «ما» في قوله: «و ما يسطرون» مصدرية و المراد به الكتابة.
و قيل: المراد بالقلم القلم الأعلى الذي في الحديث أنه أول ما خلق الله و بما يسطرون ما يسطره الحفظة و الكرام الكاتبون و احتمل أيضا أن يكون الجمع في «يسطرون» للتعظيم لا للتكثير و هو كما ترى، و احتمل أن يكون المراد ما يسطرون فيه و هو اللوح المحفوظ و احتمل أن يكون المراد بالقلم و ما يسطرون أصحاب القلم و مسطوراتهم و هي احتمالات واهية.
قوله تعالى: «ما أنت بنعمة ربك بمجنون» مقسم عليه و الخطاب للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الباء في «بنعمة» للسببية أو المصاحبة أي ما أنت بمجنون بسبب النعمة - أو مع النعمة - التي أنعمها عليك ربك.
و السياق يؤيد أن المراد بهذه النعمة النبوة فإن دليل النبوة يدفع عن النبي كل اختلال عقلي حتى تستقيم الهداية الإلهية اللازمة في نظام الحياة الإنسانية، و الآية ترد ما رموه به من الجنون كما يحكي عنهم في آخر السورة «و يقولون إنه لمجنون».
و قيل: المراد بالنعمة فصاحته (صلى الله عليه وآله وسلم) و عقله الكامل و سيرته المرضية و براءته من كل عيب و اتصافه بكل مكرمة فظهور هذه الصفات فيه (صلى الله عليه وآله وسلم) ينافي حصول الجنون فيه و ما قدمناه أقطع حجة و الآية و ما يتلوها كما ترى تعزية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب لنفسه الشريفة و تأييد له كما أن فيها تكذيبا لقولهم.
قوله تعالى: «و إن لك لأجرا غير ممنون» الممنون من المن بمعنى القطع يقال: منه لسير منا إذا قطعه و أضعفه لا من المنة بمعنى تثقيل النعمة قولا.
و المراد بالأجر أجر الرسالة عند الله سبحانه، و فيه تطييب لنفس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و أن له على تحمل رسالة الله أجرا غير مقطوع و ليس يذهب سدى.
و ربما أخذ المن بمعنى ذكر المنعم إنعامه على المنعم عليه بحيث يثقل عليه و يكدر عيشه بتقريب أن ما يعطيه الله أجر في مقابل عمله فهو يستحقه عليه تعالى فلا منه عليه و هو غير سديد فإن كل عامل مملوك لله سبحانه بحقيقة معنى الملك بذاته و صفاته و أعماله فما يعطيه العبد من ذلك فهو موهبة و عطية و ما يملكه العبد من ذلك فإنما يملكه بتمليك الله و هو المالك لما ملكه من قبل و من بعد فهو تفضل منه تعالى و لئن سمى ما يعطيه بإزاء العمل أجرا و سمى ما بينه و بين عبده من مبادلة العمل و الأجر معاملة فذلك تفضل آخر فلله سبحانه المنة على جميع خلقه و الرسول و من دونه فيه سواء.
قوله تعالى: «و إنك لعلى خلق عظيم» الخلق هو الملكة النفسانية التي تصدر عنها الأفعال بسهولة و ينقسم إلى الفضيلة و هي الممدوحة كالعفة و الشجاعة، و الرذيلة و هي المذمومة كالشره و الجبن لكنه إذا أطلق فهم منه الخلق الحسن.
قال الراغب: و الخلق - بفتح الخاء - و الخلق - بضم الخاء - في الأصل واحد كالشرب و الشرب و الصرم و الصرم لكن خص الخلق - بالفتح - بالهيئات و الأشكال و الصور المدركة بالبصر، و خص الخلق - بالضم - بالقوى و السجايا المدركة بالبصيرة قال تعالى: «و إنك لعلى خلق عظيم» انتهى.
و الآية و إن كانت في نفسها تمدح حسن خلقه (صلى الله عليه وآله وسلم) و تعظمه غير أنها بالنظر إلى خصوص السياق ناظرة إلى أخلاقه الجميلة الاجتماعية المتعلقة بالمعاشرة كالثبات على الحق و الصبر على أذى الناس و جفاء أجلافهم و العفو و الإغماض و سعة البذل و الرفق و المداراة و التواضع و غير ذلك، و قد أوردنا في آخر الجزء السادس من الكتاب ما روي في جوامع أخلاقه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و مما تقدم يظهر أن ما قيل: إن المراد بالخلق الدين و هو الإسلام غير مستقيم إلا بالرجوع إلى ما تقدم.
قوله تعالى: «فستبصر و يبصرون بأيكم المفتون» تقريع على محصل ما تقدم أي فإذا لم تكن مجنونا بل متلبسا بالنبوة و متخلقا بالخلق و لك عظيم الأجر من ربك فسيظهر أمر دعوتك و ينكشف على الأبصار و البصائر من المفتون بالجنون أنت أو المكذبون الرامون لك بالجنون.
و قيل: المراد ظهور عاقبة أمر الدعوة له و لهم في الدنيا أو في الآخرة؟ الآية تقبل الحمل على كل منها.
و لكل قائل، و لا مانع من الجمع فإن الله تعالى أظهر نبيه عليهم و دينه على دينهم، و رفع ذكره (صلى الله عليه وآله وسلم) و محا أثرهم في الدنيا و سيذوقون وبال أمرهم غدا و يعلمون أن الله هو الحق المبين يوم هم على النار يفتنون ذوقوا فتنتكم هذا الذي كنتم به تستعجلون.
و قوله: «بأيكم المفتون» الباء زائدة للصلة، و المفتون اسم مفعول من الفتنة بمعنى الابتلاء يريد به المبتلى بالجنون و فقدان العقل، و المعنى: فستبصر و يبصرون أيكم المفتون المبتلى بالجنون؟ أنت أم هم؟.
و قيل: المفتون مصدر على زنة مفعول كمعقول و ميسور و معسور في قولهم: ليس له معقول، و خذ ميسوره، و دع معسوره، و الباء في «بأيكم» بمعنى في و المعنى: فستبصر و يبصرون في أي الفريقين الفتنة.
قوله تعالى: «إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» لما أفيد بما تقدم من القول إن هناك ضلالا و اهتداء، و أشير إلى أن الرامين للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالجنون هم المفتونون الضالون و سيظهر أمرهم و أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) مهتد و كان ذلك ببيان من الله سبحانه أكد ذلك بأن الله أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين لأن السبيل سبيله و هو أعلم بمن هو في سبيله و من ليس فيه و إليه أمر الهداية.
قوله تعالى: «فلا تطع المكذبين» تفريع على المحصل من معنى الآيات السابقة و في المكذبين معنى العهد و المراد بالطاعة مطلق الموافقة عملا أو قولا، و المعنى: فإذا كان هؤلاء المكذبون لك مفتونين ضالين فلا تطعهم.
قوله تعالى: «ودوا لو تدهن فيدهنون» الإدهان من الدهن يراد به التليين أي ود و أحب هؤلاء المكذبون أن تلينهم بالاقتراب منهم في دينك فيلينوك بالاقتراب منك في دينهم، و محصله أنهم ودوا أن تصالحهم و يصالحوك على أن يتسامح كل منكم بعض المسامحة في دين الآخر كما قيل: إنهم عرضوا عليه أن يكف عن ذكر آلهتهم فيكفوا عنه و عن ربه.
و بما تقدم ظهر أن متعلق مودتهم مجموع «لو تدهن فيدهنون» و أن الفاء في «فيدهنون» للتفريع لا للسببية.
قوله تعالى: «و لا تطع كل حلاف مهين - إلى قوله - زنيم» الحلاف كثير الحلف، و لازم كثرة الحلف و الإقسام في كل يسير و خطير و حق و باطل أن لا يحترم الحالف شيئا مما يقسم به، و إذا كان حلفه بالله فهو لا يستشعر عظمة الله عز اسمه و كفى به رذيلة.
و المهين من المهانة بمعنى الحقارة و المراد به حقارة الرأي، و قيل: هو المكثار في الشر، و قيل: هو الكذاب.
و الهماز مبالغة من الهمز و المراد به العياب و الطعان، و قيل: الطعان بالعين و الإشارة و قيل: كثير الاغتياب.
و المشاء بنميم النميم: السعاية و الإفساد، و المشاء به هو نقال الحديث من قوم إلى قوم على وجه الإفساد بينهم.
و المناع للخير كثير المنع لفعل الخير أو للخير الذي ينال أهله.
و المعتدي من الاعتداء و هو المجاوزة للحد ظلما.
و الأثيم هو الذي كثر إثمه حتى استقر فيه من غير زوال و الإثم هو العمل السيىء الذي يبطيء الخير.
و العتل بضمتين هو الفظ الغليظ الطبع، و فسر بالفاحش السيىء الخلق، و بالجافي الشديد الخصومة بالباطل، و بالأكول المنوع للغير، و بالذي يعتل الناس و يجرهم إلى حبس أو عذاب.
و الزنيم هو الذي لا أصل له، و قيل: هو الدعي الملحق بقوم و ليس منهم، و قيل: هو المعروف باللؤم، و قيل: هو الذي له علامة في الشر يعرف بها و إذا ذكر الشر سبق هو إلى الذهن، و المعاني متقاربة.
فهذه صفات تسع رذيلة وصف الله بها بعض أعداء الدين ممن كان يدعو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى الطاعة و المداهنة، و هي جماع الرذائل.
و قوله: «عتل بعد ذلك زنيم» معناه أنه بعد ما ذكر من مثالبه و رذائله عتل زنيم قيل: و فيه دلالة على أن هاتين الرذيلتين أشد معايبه.
و الظاهر أن فيه إشارة إلى أن له خبائث من الصفات لا ينبغي معها أن يطاع في أمر الحق و لو أغمض عن تلك الصفات فإنه فظ خشن الطبع لا أصل له لا ينبغي أن يعبأ بمثله في مجتمع بشري فليطرد و لا يطع في قول و لا يتبع في فعل.
قوله تعالى: «أن كان ذا مال و بنين» الظاهر أنه بتقدير لام التعليل و هو متعلق بفعل محصل من مجموع الصفات الرذيلة المذكورة أي هو يفعل كذا و كذا لأن كان ذا مال و بنين فبطر بذلك و كفر بنعمة الله و تلبس بكل رذيلة خبيثة بدل أن يشكر الله على نعمته و يصلح نفسه، فالآية في إفادة الذم و التهكم تجري مجرى قوله: «أ لم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك».
و قيل: إنه متعلق بقوله السابق «لا تطع»، و المعنى: لا تطعه لكونه ذا مال و بنين أي لا يحملك كونه ذا مال و بنين على طاعته، و المعنى المتقدم أقرب و أوسع.
قيل: و لا يجوز تعلقه بقوله: «قال» في الشرطية التالية لأن ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله عند النحاة.
قوله تعالى: «إذا تتلى عليه آياتنا قال أساطير الأولين» الأساطير جمع أسطورة و هي القصة الخرافية، و الآية تجري مجرى التعليل لقوله السابق: «لا تطع».
قوله تعالى: «سنسمه على الخرطوم» الوسم و السمة وضع العلامة، و الخرطوم الأنف، و قيل: إن في إطلاق الخرطوم على أنفه و إنما يطلق في الفيل و الخنزير تهكما، و في الآية وعيد على عداوته الشديدة لله و رسوله و ما نزله على رسوله.
و الظاهر أن الوسم على الأنف أريد به نهاية إذلاله بذلة ظاهرة يعرفه بها كل من رآه فإن الأنف مما يظهر فيه العزة و الذلة كما يقال: شمخ فلان بأنفه و حمي فلان أنفه و أرغمت أنفه و جدع أنفه.
و الظاهر أن الوسم على الخرطوم مما سيقع يوم القيامة لا في الدنيا و إن تكلف بعضهم في توجيه حمله على فضاحته في الدنيا.
قوله تعالى: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إلى قوله - كالصريم البلاء الاختبار و إصابة المصيبة، و الصرم قطع الثمار من الأشجار، و الاستثناء عزل البعض من حكم الكل و أيضا الاستثناء قول إن شاء الله عند القطع بقول و ذلك أن الأصل فيه الاستثناء فالأصل في قولك: أخرج غدا إن شاء الله هو أخرج غدا إلا أن يشاء الله أن لا أخرج، و الطائف العذاب الذي يأتي بالليل، و الصريم الشجر المقطوع ثمره، و قيل: الليل الأسود، و قيل: الرمل المقطوع من سائر الرمل و هو لا ينبت شيئا و لا يفيد فائدة.
الآيات أعني قوله: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة» إلى تمام سبع عشرة آية وعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الرامين له بالجنون، و في التشبيه و التنظير دلالة على أن هؤلاء المكذبين معذبون لا محالة و العذاب الواقع عليهم قائم على ساقه، غير أنهم غافلون و سيعلمون، فهم مولعون اليوم بجمع المال و تكثير البنين مستكبرون بها معتمدون عليها و على سائر الأسباب الظاهرية التي توافقهم و تشايع أهواءهم من غير أن يشكروا ربهم على هذه النعم و يسلكوا سبيل الحق و يعبدوا ربهم حتى يأتيهم الأجل و يفاجئهم عذاب الآخرة أو عذاب دنيوي من عنده كما فاجأهم يوم بدر فيروا انقطاع الأسباب عنهم و أن المال و البنين سدى لا ينفعهم شيئا كما شاهد نظير ذلك أصحاب الجنة من جنتهم و سيندمون على صنيعهم و يرغبون إلى ربهم و لا يرد ذلك عذاب الله كما ندم أصحاب الجنة و تلاوموا و رغبوا إلى ربهم فلم ينفعهم ذلك شيئا كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون، هذا على تقدير اتصال الآيات بما قبلها و نزولها معها.
و أما على ما رووا أن الآيات نزلت في القحط و السنة الذي أصاب أهل مكة و قريشا إثر دعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليهم بقوله: اللهم اشدد وطأتك على مضر و اجعلها عليهم سنين كسني يوسف، فالمراد بالبلاء إصابتهم بالقحط و تناظر قصتهم قصة أصحاب الجنة غير أن في انطباق ما في آخر قصتهم من قوله: «فأقبل بعضهم على بعض» إلخ، على قصة أهل مكة خفاء.
و كيف كان فالمعنى: «إنا بلوناهم» أصبناهم بالبلية «كما بلونا» و أصبنا بالبلية «أصحاب الجنة» و كانوا قوما من اليمن و جنتهم فيها و سيأتي إن شاء الله قصتهم في البحث الروائي الآتي «إذ» ظرف لبلونا «أقسموا» و حلفوا «ليصرمنها» أي ليقطعن و يقطفن ثمار جنتهم «مصبحين» داخلين في الصباح و كأنهم ائتمروا و تشاوروا ليلا فعزموا على الصرم صبيحة ليلتهم «و لا يستثنون» لم يقولوا إلا أن يشاء الله اعتمادا على أنفسهم و اتكاء على ظاهر الأسباب.
أو المعنى: قالوا و هم لا يعزلون نصيبا من ثمارهم للفقراء و المساكين.
«فطاف عليها» على الجنة «طائف» أي بلاء يطوف عليها و يحيط بها ليلا «من» ناحية «ربك، فأصبحت» و صارت الجنة «كالصريم» و هو الشجر المقطوع ثمره أو المعنى: فصارت الجنة كالليل الأسود لما اسودت بإحراق النار التي أرسلها الله إليها أو المعنى: فصارت الجنة كالقطعة من الرمل لا نبات بها و لا فائدة.
قوله تعالى: «فتنادوا مصبحين - إلى قوله - قادرين» التنادي نداء بعض القوم بعضا، و الإصباح الدخول في الصباح، و صارمين من الصرم بمعنى قطع الثمار من الشجرة، و المراد به في الآية القاصدون لقطع الثمار، و الحرث الزرع و الشجر، و الخفت الإخفاء و الكتمان، و الحرد المنع و قادرين من القدر بمعنى التقدير.
و المعنى: «فتنادوا» أي فنادى بعض القوم بعضا «مصبحين» أي و الحال أنهم داخلون في الصباح «أن اغدوا على حرثكم» تفسير للتنادي أي بكروا مقبلين على جنتكم - فاغدوا أمر بمعنى بكروا مضمن معنى أقبلوا و لذا عدي بعلى و لو كان غير مضمن عدي بإلى كما في الكشاف - «إن كنتم صارمين» أي قاصدين عازمين على الصرم و القطع.
«فانطلقوا» و ذهبوا إلى جنتهم «و هم يتخافتون» أي و الحال أنهم يأتمرون فيما بينهم بطريق المخافتة و المكاتمة «أن لا يدخلنها» أي الجنة «اليوم عليكم مسكين» أي أخفوا ورودكم الجنة للصرم من المساكين حتى لا يدخلوا عليكم فيحملكم ذلك على عزل نصيب من الثمر المصروم لهم «و غدوا» و بكروا إلى الجنة «على حرد» أي على منع للمساكين «قادرين» مقدرين في أنفسهم أنهم سيصرمونها و لا يساهمون المساكين بشيء منها.
قوله تعالى: «فلما رأوها قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون» أي فلما رأوا الجنة و شاهدوها و قد أصبحت كالصريم بطواف طائف من عند الله قالوا: إنا لضالون عن الصواب في غدونا إليها بقصد الصرم و منع المساكين.
و قيل: المراد إنا لضالون طريق جنتنا و ما هي بها.
و قوله: «بل نحن محرومون» إضراب عن سابقه أي ليس مجرد الضلال عن الصواب بل حرمنا الزرع.
قوله تعالى: «قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون - إلى قوله - راغبون» أي «قال أوسطهم» أي أعدلهم طريقا و ذلك أنه ذكرهم بالحق و إن تبعهم في العمل و قيل: المراد أوسطهم سنا و ليس بشيء «أ لم أقل لكم» و قد كان قال لهم ذلك و إنما لم يذكر قبل في القصة إيجازا بالتعويل على ذكره هاهنا.
«لو لا تسبحون» المراد بتسبيحهم له تعالى تنزيههم له من الشركاء حيث اعتمدوا على أنفسهم و على سائر الأسباب الظاهرية فأقسموا ليصرمنها مصبحين و لم يستثنوا لله مشية فعزلوه تعالى عن السببية و التأثير و نسبوا التأثير إلى أنفسهم و سائر الأسباب الظاهرية، و هو إثبات للشريك، و لو قالوا: لنصرمنها مصبحين إلا أن يشاء الله كان معنى ذلك نفي الشركاء و أنهم إن لم يصرموا كان لمشية من الله و إن صرموا كان ذلك بإذن من الله فلله الأمر وحده لا شريك له.
و قيل: المراد بتسبيحهم لله ذكر الله تعالى و توبتهم إليه حيث نووا أن يصرموها و يحرموا المساكين منها، و له وجه على تقدير أن يراد بالاستثناء عزل نصيب من الثمار للمساكين.
قوله تعالى: «قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين» تسبيح منهم لله سبحانه إثر توبيخ أوسطهم لهم، أي ننزه الله تنزيها من الشركاء الذين أثبتناهم فيما حلفنا عليه فهو ربنا الذي يدبر بمشيته أمورنا لأنا كنا ظالمين في إثباتنا الشركاء فهو تسبيح و اعتراف بظلمهم على أنفسهم في إثبات الشركاء.
و على القول الآخر توبة و اعتراف بظلمهم على أنفسهم و على المساكين.
قوله تعالى: «فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون» أي يلوم بعضهم بعضا على ما ارتكبوه من الظلم.
قوله تعالى: «قالوا يا ويلنا - إلى قوله - راغبون» الطغيان تجاوز الحد و ضمير «منها» للجنة باعتبار ثمارها و المعنى: قالوا يا ويلنا إنا كنا متجاوزين حد العبودية إذ أثبتنا شركاء لربنا و لم نوحده، و نرجو من ربنا أن يبدلنا خيرا من هذه الجنة التي طاف عليها طائف منه لأنا راغبون إليه معرضون عن غيره.
قوله تعالى: «كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون» العذاب مبتدأ مؤخر، و كذلك خبر مقدم أي إنما يكون العذاب على ما وصفناه في قصة أصحاب الجنة و هو أن الإنسان يمتحن بالمال و البنين فيطغى مغترا بذلك فيستغني بنفسه و ينسى ربه و يشرك بالأسباب الظاهرية و بنفسه و يجترىء على المعصية و هو غافل عما يحيط به من وبال عمله و يهيىء له من العذاب كذلك حتى إذا فاجأه العذاب و برز له بأهول وجوهه و أمرها انتبه من نومة الغفلة و تذكر ما جاءه من النصح قبلا و ندم على ما فرط بالطغيان و الظلم و سأل الله أن يعيد عليه النعمة فيشكر كما انتهى إليه أمر أصحاب الجنة، ففي ذلك إعطاء الضابط بالمثال.
و قوله: «و لعذاب الآخرة أكبر لو كانوا يعلمون» لأنه ناش عن قهر إلهي لا يقوم له شيء لا رجاء للتخلص منه و لو بالموت و الفناء كما في شدائد الدنيا، محيط بالإنسان من جميع أقطار وجوده لا كعذاب الدنيا دائم لا انتهاء لأمده كما في الابتلاءات الدنيوية.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن سفيان بن سعيد الثوري عن الصادق (عليه السلام) في تفسير الحروف المقطعة في القرآن قال: و أما ن فهو نهر في الجنة قال الله عز و جل: اجمد فجمد فصار مدادا ثم قال للقلم: اكتب فسطر القلم في اللوح المحفوظ ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة فالمداد مداد من نور و القلم قلم من نور و اللوح لوح من نور. قال سفيان: فقلت له: يا بن رسول الله بين أمر اللوح و القلم و المداد فضل بيان و علمني مما علمك الله فقال: يا ابن سعيد لو لا أنك أهل للجواب ما أجبتك فنون ملك يؤدي إلى القلم و هو ملك، و القلم يؤدي إلى اللوح و هو ملك، و اللوح يؤدي إلى إسرافيل و إسرافيل يؤدي إلى ميكائيل و ميكائيل يؤدي إلى جبرائيل و جبرائيل يؤدي إلى الأنبياء و الرسل. قال: ثم قال: قم يا سفيان فلا آمن عليك.
و فيه، بإسناده عن إبراهيم الكرخي قال: سألت جعفر بن محمد (عليهما السلام) عن اللوح و القلم قال: هما ملكان.
و فيه، بإسناده عن الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين (عليه السلام): «ن و القلم و ما يسطرون» القلم قلم من نور و كتاب من نور في لوح محفوظ يشهده المقربون و كفى بالله شهيدا.
أقول: و في المعاني المتقدمة روايات أخرى عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام)، و قد تقدم في ذيل قوله تعالى: «هذا كتابنا ينطق عليكم بالحق»: الجاثية: 29، حديث القمي عن عبد الرحيم القصير عن الصادق (عليه السلام) في اللوح و القلم و فيه: ثم ختم على فم القلم فلم ينطق بعد ذلك و لا ينطق أبدا و هو الكتاب المكنون الذي منه النسخ كلها.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن معاوية بن قرة عن أبيه قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «ن و القلم و ما يسطرون» قال: لوح من نور و قلم من نور يجري بما هو كائن إلى يوم القيامة.
أقول: و في معناه روايات أخر، و قوله: يجري بما هو كائن إلخ، أي منطبق على متن الكائنات من دون أن يتخلف شيء منها عما كتب هناك و نظيره ما في رواية أبي هريرة: ثم ختم علي في القلم فلم ينطق و لا ينطق إلى يوم القيامة.
و في المعاني، بإسناده عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «و إنك لعلى خلق عظيم» قال: هو الإسلام.
و في تفسير القمي، عن أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «و إنك لعلى خلق عظيم» قال: على دين عظيم.
أقول: يريد اشتمال الدين و الإسلام على كمال الخلق و استنانه (صلى الله عليه وآله وسلم) به، و في الرواية المعروفة عنه (صلى الله عليه وآله وسلم): بعثت لأتمم مكارم الأخلاق.
و في المجمع، بإسناده عن الحاكم بإسناده عن الضحاك قال: لما رأت قريش تقديم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و إعظامه له نالوا من علي و قالوا: قد افتتن به محمد فأنزل الله تعالى: «ن و القلم و ما يسطرون» قسم أقسم الله به «ما أنت بنعمة ربك بمجنون - و إن لك لأجرا غير ممنون - و إنك لعلى خلق عظيم يعني القرآن إلى قوله بمن ضل عن سبيله» وهم النفر الذين قالوا ما قالوا «و هو أعلم بالمهتدين» يعني علي بن أبي طالب.
أقول: و رواه في تفسير البرهان، عن محمد بن العباس بإسناده إلى الضحاك و ساق نحوا مما مر و في آخره: و سبيله علي بن أبي طالب.
و فيه،: في قوله تعالى: «و لا تطع كل حلاف» إلخ، قيل: يعني الوليد بن المغيرة عرض على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المال ليرجع عن دينه، و قيل: يعني الأخنس بن شريق عن عطاء، و قيل: يعني الأسود بن عبد يغوث: عن مجاهد.
أقول: و في ذلك روايات في الدر المنثور و غيره تركنا إيرادها من أرادها فليراجع جوامع الروايات.
و فيه، عن شداد بن أوس قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): لا يدخل الجنة جواظ و لا جعظري و لا عتل زنيم. قلت: فما الجواظ؟ قال: كل جماع مناع. قلت: فما الجعظري؟ قال: الفظ الغليظ. قلت: فما العتل الزنيم؟ قال: كل رحيب الجوف سيء الخلق أكول شروب غشوم ظلوم زنيم.
و فيه، في معنى الزنيم: قيل: هو الذي لا أصل له.
و فيه، في تفسير القمي،: في قوله: «عتل بعد ذلك زنيم» قال: العتل العظيم الكفر الزنيم الدعي.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة» إن أهل مكة ابتلوا بالجوع كما ابتلي أصحاب الجنة و هي كانت في الدنيا و كانت باليمن يقال له الرضوان على تسعة أميال من صنعاء.
و فيه، بإسناده إلى ابن عباس: أنه قيل له إن قوما من هذه الأمة يزعمون أن العبد يذنب فيحرم به الرزق، فقال ابن عباس: فو الله الذي لا إله إلا هو هذا أنور في كتاب الله من الشمس الضاحية ذكره الله في سورة ن و القلم. إنه كان شيخ و كان له جنة و كان لا يدخل إلى بيته ثمرة منها و لا إلى منزله حتى يعطي كل ذي حق حقه فلما قبض الشيخ ورثه بنوه و كان له خمس من البنين فحملت جنتهم في تلك السنة التي هلك فيها أبوهم حملا لم يكن حملته قبل ذلك فراحوا الفتية إلى جنتهم بعد صلاة العصر فأشرفوا على ثمرة و رزق فاضل لم يعاينوا مثله في حياة أبيهم. فلما نظروا إلى الفضل طغوا و بغوا و قال بعضهم لبعض: إن أبانا كان شيخا كبيرا قد ذهب عقله و خرف فهلموا نتعاقد فيما بيننا أن لا نعطي أحدا من فقراء المسلمين في عامنا شيئا حتى نستغني و يكثر أموالنا ثم نستأنف الصنيعة فيما استقبل من السنين المقبلة فرضي بذلك منهم أربعة و سخط الخامس و هو الذي قال الله: «قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون». فقال الرجل: يا ابن عباس كان أوسطهم في السن؟ فقال: لا بل كان أصغرهم سنا و أكبرهم عقلا و أوسط القوم خير القوم، و الدليل عليه في القرآن قوله: إنكم يا أمة محمد أصغر الأمم و خير الأمم قوله عز و جل: «و كذلك جعلناكم أمة وسطا». قال لهم أوسطهم: اتقوا و كونوا على منهاج أبيكم تسلموا و تغنموا فبطشوا به و ضربوه ضربا مبرحا فلما أيقن الأخ منهم أنهم يريدون قتله دخل معهم في مشورتهم كارها لأمرهم غير طائع. فراحوا إلى منازلهم ثم حلفوا بالله ليصرمن إذا أصبحوا و لم يقولوا إن شاء الله فابتلاهم الله بذلك الذنب و حال بينهم و بين ذلك الرزق الذي كانوا أشرفوا عليه فأخبر عنهم في الكتاب فقال: «إنا بلوناهم كما بلونا أصحاب الجنة - إذ أقسموا ليصرمنها مصبحين و لا يستثنون - فطاف عليها طائف من ربك و هم نائمون - فأصبحت كالصريم» قال: كالمحترق. فقال الرجل: يا ابن عباس ما الصريم؟ قال: الليل المظلم، ثم قال: لا ضوء له و لا نور. فلما أصبح القوم «فتنادوا مصبحين - أن اغدوا على حرثكم إن كنتم صارمين» قال: «فانطلقوا و هم يتخافتون» قال الرجل: و ما التخافت يا ابن عباس؟ قال: يتشاورون فيشاور بعضهم بعضا لكيلا يسمع أحد غيرهم فقالوا: «لا يدخلنها اليوم عليكم مسكين - و غدوا على حرد قادرين» في أنفسهم أن يصرموها و لا يعلمون ما قد حل بهم من سطوات الله و نقمته. «فلما رأوها» و ما قد حل بهم «قالوا إنا لضالون بل نحن محرومون» فحرمهم الله ذلك الرزق بذنب كان منهم و لم يظلمهم شيئا. «قال أوسطهم أ لم أقل لكم لو لا تسبحون - قالوا سبحان ربنا إنا كنا ظالمين - فأقبل بعضهم على بعض يتلاومون» قال: يلومون أنفسهم فيما عزموا عليه «قالوا يا ويلنا إنا كنا طاغين عسى ربنا - أن يبدلنا خيرا منها إنا إلى ربنا راغبون» فقال الله: «كذلك العذاب و لعذاب الآخرة أكبر - لو كانوا يعلمون».
أقول: و قد ورد ما يقرب من مضمون هذا الحديث و الذي قبله في روايات أخر و في بعض الروايات أن الجنة كانت لرجل من بني إسرائيل ثم مات و ورثه بنوه فكان من أمرهم ما كان.
|