بيان
فيها تذييل لما تقدم من الوعيد لمكذبي النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تسجيل العذاب عليهم في الآخرة إذ المتقون في جنات النعيم، و تثبيت أنهم و المتقون لا يستوون بحجة قاطعة فليس لهم أن يرجوا كرامة من الله و هم مجرمون فما يجدونه من نعم الدنيا استدراج و إملاء.
و فيها تأكيد أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر لحكم ربه.
قوله تعالى: «إن للمتقين عند ربهم جنات النعيم» بشرى و بيان لحال المتقين في الآخرة قبال ما بين من حال المكذبين فيها.
و في قوله: «عند ربهم» دون أن يقال: عند الله إشارة إلى رابطة التدبير و الرحمة بينهم و بينه سبحانه و أن لهم ذلك قبال قصرهم الربوبية فيه تعالى و إخلاصهم العبودية له.
و إضافة الجنات إلى النعيم و هو النعمة للإشارة إلى أن ما فيها من شيء نعمة لا تشوبها نقمة و لذة لا يخالطها ألم، و سيجيء إن شاء الله في تفسير قوله تعالى: «ثم لتسألن يومئذ عن النعيم»: التكاثر: 8، أن المراد بالنعيم الولاية.
قوله تعالى: «أ فنجعل المسلمين كالمجرمين» تحتمل الآية في بادىء النظر أن تكون مسوقة حجة على المعاد كقوله تعالى: «أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28، و قد تقدم تفسيره.
و أن تكون ردا على قول من قال منهم للمؤمنين: لو كان هناك بعث و إعادة لكنا منعمين كما في الدنيا و قد حكى سبحانه ذلك عن قائلهم: «و ما أظن الساعة قائمة و لئن رجعت إلى ربي إن لي عنده للحسنى»: حم السجدة: 50.
ظاهر سياق الآيات التالية التي ترد عليهم الحكم بالتساوي هو الاحتمال الثاني، و هو الذي رووه أن المشركين لما سمعوا حديث البعث و المعاد قالوا: إن صح ما يقوله محمد و الذين آمنوا معه لم تكن حالنا إلا أفضل من حالهم كما في الدنيا و لا أقل من أن تتساوى حالنا و حالهم.
غير أنه يرد عليه أن الآية لو سيقت لرد قولهم، سنساويهم في الآخرة أو نزيد عليهم كما في الدنيا، كان مقتضى التطابق بين الرد و المردود أن يقال: أ فنجعل المجرمين كالمسلمين و قد عكس.
و التدبر في السياق يعطي أن الآية مسوقة لرد دعواهم التساوي لكن لا من جهة نفي مساواتهم على إجرامهم للمسلمين بل تزيد على ذلك بالإشارة إلى أن كرامة المسلمين تأبى أن يساويهم المجرمون كأنه قيل: إن قولكم: سنتساوى نحن و المسلمون باطل فإن الله لا يرضى أن يجعل المسلمين بما لهم من الكرامة عنده كالمجرمين و أنتم مجرمون.
فالآية تقيم الحجة على عدم تساوي الفريقين من جهة منافاته لكرامة المسلمين عليه تعالى لا من جهة منافاة مساواة المجرمين للمسلمين عدله تعالى.
و المراد بالإسلام تسليم الأمر لله فلا يتبع إلا ما أراده سبحانه من فعل أو ترك يقابله الإجرام و هو اكتساب السيئة و عدم التسليم.
و الآية و ما بعدها إلى قوله: «أم عندهم الغيب فهم يكتبون» في مقام الرد لحكمهم بتساوي المجرمين و المسلمين حالا يوم القيامة تورد محتملات هذا الحكم من حيث منشئه في صور استفهامات إنكارية و تردها.
و تقرير الحجة: أن كون المجرمين كالمسلمين يوم القيامة على ما حكموا به إما أن يكون من الله تعالى موهبة و رحمة و إما أن لا يكون منه.
و الأول إما أن يدل عليه دليل العقل و لا دليل عليه كذلك و ذلك قوله: «ما لكم كيف تحكمون».
و إما أن يدل عليه النقل و ليس كذلك و هو قوله: «أم لكم كتاب» إلخ، و إما أن يكون لا لدلالة عقل أو نقل بل عن مشافهة بينهم و بين الله سبحانه عاهدوه و واثقوه على أن يسوي بينهما و ليس كذلك فهذه ثلاثة احتمالات.
و إما أن لا يكون من الله فإما أن يكون حكمهم بالتساوي حكما جديا أو لا يكون فإن كان جديا فإما أن يكون التساوي الذي يحكمون به مستندا إلى أنفسهم بأن يكون لهم قدرة على أن يصيروا يوم القيامة كالمسلمين حالا و إن لم يشأ الله ذلك و ليس كذلك و هو قوله: «سلهم أيهم بذلك زعيم» أو يكون القائم بهذا الأمر المتصدي له شركاؤهم و لا شركاء و هو قوله: «أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم» إلخ.
و إما أن يكون ذلك لأن الغيب عندهم و الأمور التي ستستقبل الناس قدرها و قضاؤها منوطان بمشيتهم تكون و تقع كيف يكتبون فكتبوا لأنفسهم المساواة مع المسلمين، و ليس كذلك و لا سبيل لهم إلى الغيب و ذلك قوله: «أم عندهم الغيب فهم يكتبون» و هذه ثلاثة احتمالات.
و إن لم يكن حكمهم بالمساواة حكما جديا بل إنما تفوهوا بهذا القول تخلصا و فرارا من اتباعك على دعوتك لأنك تسألهم أجرا على رسالتك و هدايتك لهم إلى الحق فهم مثقلون من غرامته، و ليس كذلك، و هو قوله: «أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون» و هذا سابع الاحتمالات.
هذا ما يعطيه التدبر في الآيات في وجه ضبط ما فيها من الترديد و قد ذكروا في وجه الضبط غير ذلك من أراد الوقوف عليه فليراجع المطولات.
فقوله: «ما لكم كيف تحكمون» مسوق للتعجب من حكمهم بكون المجرمين يوم القيامة كالمسلمين، و هو إشارة إلى تأبي العقل عن تجويز التساوي، و محصله نفي حكم العقل بذلك إذ معناه: أي شيء حصل لكم من اختلال الفكر و فساد الرأي حتى حكمتم بذلك؟.
قوله تعالى: «أم لكم كتاب فيه تدرسون إن لكم فيه لما تخيرون» إشارة إلى انتفاء الحجة على حكمهم بالتساوي من جهة السمع كما أن الآية السابقة كانت إشارة إلى انتفائها من جهة العقل.
و المراد بالكتاب الكتاب السماوي النازل من عند الله و هو حجة، و درس الكتاب قراءته، و التخير الاختيار، و قوله: «إن لكم فيه لما تخيرون» في مقام المفعول لتدرسون و الاستفهام إنكاري.
و المعنى: بل أ لكم كتاب سماوي تقرءون فيه أن لكم في الآخرة - أو مطلقا - لما تختارونه فاخترتم السعادة و الجنة.
قوله تعالى: «أم لكم أيمان علينا بالغة إلى يوم القيامة إن لكم لما تحكمون» إشارة إلى انتفاء أن يملكوا الحكم بعهد و يمين شفاهي لهم على الله سبحانه.
و الأيمان جمع يمين و هو القسم، و البلوغ هو الانتهاء في الكمال فالأيمان البالغة هي المؤكدة نهاية التوكيد، و قوله: «إلى يوم القيامة» على هذا ظرف مستقر متعلق بمقدر و التقدير: أم لكم علينا أيمان كائنة إلى يوم القيامة مؤكدة نهاية التوكيد، إلخ.
و يمكن أن يكون «إلى يوم القيامة» متعلقا ببالغة و المراد ببلوغ الأيمان انطباقها على امتداد الزمان حتى ينتهي إلى يوم القيامة.
و قد فسروا الإيمان بالعهود و المواثيق فيكون من باب إطلاق اللازم و إرادة الملزوم كناية، و احتمل أن يكون من باب إطلاق الجزء و إرادة الكل.
و قوله: «إن لكم لما تحكمون» جواب القسم و هو المعاهد عليه، و الاستفهام للإنكار.
و المعنى: بل أ لكم علينا عهود أقسمنا فيها أقساما مؤكدا إلى يوم القيامة إنا سلمنا لكم أن لكم لما تحكمون به.
قوله تعالى: «سلهم أيهم بذلك زعيم» إعراض عن خطابهم و التفات إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بتوجيه الخطاب لسقوطهم عن درجة استحقاق الخطاب و لذلك أورد بقية السؤالات و هي مسائل أربع في سياق الغيبة أولها قوله: «سلهم أيهم بذلك زعيم» و الزعيم القائم بالأمر المتصدي له، و الاستفهام إنكاري.
و المعنى: سل المشركين أيهم قائم بأمر التسوية الذي يدعونه أي إذا ثبت أن الله لا يسوي بين الفريقين لعدم دليل يدل عليه فهل الذي يقوم بهذا الأمر و يتصداه هو منهم؟ فأيهم هو؟ و من الواضح بطلانه لا يتفوه به إلا مصاب في عقله.
قوله تعالى: «أم لهم شركاء فليأتوا بشركائهم إن كانوا صادقين» رد لهم على تقدير أن يكون حكمهم بالتساوي مبنيا على دعواهم أن لهم آلهة يشاركون الله سبحانه في الربوبية سيشفعون لهم عند الله فيجعلهم كالمسلمين و الاستفهام إنكاري يفيد نفي الشركاء.
و قوله: «فليأتوا بشركائهم» إلخ، كناية عن انتفاء الشركاء يفيد تأكيد ما في قوله: «أم لهم شركاء» من النفي.
و قيل: المراد بالشركاء شركاؤهم في هذا القول، و المعنى: أم لهم شركاء يشاركونهم في هذا القول و يذهبون مذهبهم فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.
و أنت خبير بأن هذا المعنى لا يقطع الخصام.
و قيل: المراد بالشركاء الشهداء و المعنى: أم لهم شهداء على هذا القول فليأتوا بهم إن كانوا صادقين.
و هو تفسير بما لا دليل عليه من جهة اللفظ.
على أنه مستدرك لأن هؤلاء الشهداء شهداء على كتاب من عند الله أو وعد بعهد و يمين و قد رد كلا الاحتمالين فيما تقدم.
و قيل: المراد بالشركاء شركاء الألوهية على ما يزعمون لكن المعنى من إتيانهم بهم إتيانهم بهم يوم القيامة ليشهدوا لهم أو ليشفعوا لهم عند الله سبحانه.
و أنت خبير بأن هذا المعنى أيضا لا يقطع الخصام.
قوله تعالى: «يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون - إلى قوله - و هم سالمون» يوم ظرف متعلق بمحذوف كاذكر و نحوه، و الكشف عن الساق تمثيل في اشتداد الأمر اشتدادا بالغا لما أنهم كانوا يشمرون عن سوقهم إذا اشتد الأمر للعمل أو للفرار قال في الكشاف: فمعنى «يوم يكشف عن ساق» في معنى يوم يشتد الأمر و يتفاقم، و لا كشف ثم و لا ساق كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة و لا يد ثم و لا غل و إنما هو مثل في البخل انتهى.
و الآية و ما بعدها إلى تمام خمس آيات اعتراض وقع في البين بمناسبة ذكر شركائهم الذين يزعمون أنهم سيسعدونهم لو كان هناك بعث و حساب فذكر سبحانه أن لا شركاء لله و لا شفاعة و إنما يحرز الإنسان سعادة الآخرة بالسجود أي الخضوع لله سبحانه بتوحيد الربوبية في الدنيا حتى يحمل معه صفة الخضوع فيسعد بها يوم القيامة.
و هؤلاء المكذبون المجرمون لم يسجدوا لله في الدنيا فلا يستطيعون السجود في الآخرة فلا يسعدون و لا تتساوى حالهم و حال المسلمين فيها البتة بل الله سبحانه يعاملهم في الدنيا لاستكبارهم عن سجوده معاملة الاستدراج و الإملاء حتى يتم لهم شقاؤهم فيردوا العذاب الأليم في الآخرة.
فقوله: «يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون» معناه اذكر يوم يشتد عليهم الأمر و يدعون إلى السجود لله خضوعا فلا يستطيعون لاستقرار ملكة الاستكبار في سرائرهم و اليوم تبلى السرائر.
و قوله: «خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة» حالان من نائب فاعل يدعون أي حال كون أبصارهم خاشعة و حال كونهم يغشاهم الذلة بقهر، و نسبة الخشوع إلى الأبصار لظهور أثره فيها.
و قوله: «و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون» المراد بالسلامة سلامتهم من الآفات و العاهات التي لحقت نفوسهم بسبب الاستكبار عن الحق فسلبتها التمكن من إجابة الحق أو المراد مطلق استطاعتهم منه في الدنيا.
و المعنى: و قد كانوا في الدنيا يدعون إلى السجود لله و هم سالمون متمكنون منه أقوى تمكن فلا يجيبون إليه.
و قيل: المراد بالسجود الصلاة و هو كما ترى.
قوله تعالى: «فذرني و من يكذب بهذا الحديث» المراد بهذا الحديث القرآن الكريم و قوله: «فذرني و من يكذب» إلخ، كناية عن أنه يكفيهم وحده و هو غير تاركهم و فيه نوع تسلية للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تهديد للمشركين.
قوله تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» استئناف فيه بيان كيفية أخذه تعالى لهم و تعذيبه إياهم المفهوم من قوله: «فذرني» إلخ.
و الاستدراج هو استنزالهم درجة فدرجة حتى يتم لهم الشقاء فيقعوا في ورطة الهلاك و ذلك بأن يؤتيهم الله نعمة بعد نعمة و كلما أوتوا نعمة اشتغلوا بها و فرطوا في شكرها و زادوا نسيانا له و ابتعدوا عن ذكره.
فالاستدراج إيتاؤهم النعمة بعد النعمة الموجب لنزولهم درجة بعد درجة و اقترابهم من ورطة الهلاك، و كونه من حيث لا يعلمون إنما هو لكونه من طريق النعمة التي يحسبونها خيرا و سعادة لا شر فيها و لا شقاء.
قوله تعالى: «و أملي لهم إن كيدي متين» الإملاء الإمهال، و الكيد ضرب من الاحتيال، و المتين القوي.
و المعنى: و أمهلهم حتى يتوسعوا في نعمنا بالمعاصي كما يشاءون إن كيدي قوي.
و النكتة في الالتفات الذي في «سنستدرجهم» عن التكلم وحده إلى التكلم مع الغير الدالة على العظمة و أن هناك موكلين على هذه النعم التي تصب عليهم صبا، و الالتفات في قوله: «و أملي لهم» عن التكلم مع الغير إلى التكلم وحده لأن الإملاء تأخير في الأجل و لم ينسب أمر الأجل في القرآن إلى غير الله سبحانه قال تعالى: «ثم قضى أجلا و أجل مسمى عنده»: الأنعام: 2.
قوله تعالى: «أم تسئلهم أجرا فهم من مغرم مثقلون» المغرم الغرامة، و الإثقال تحميل الثقل، و الجملة معطوفة على قوله: «أم لهم شركاء» إلخ.
و المعنى: أم تسأل هؤلاء المجرمين - الذين يحكمون بتساوي المجرمين و المسلمين يوم القيامة - أجرا على دعوتك فهم من غرامة تحملها عليهم مثقلون فيواجهونك بمثل هذا القول تخلصا من الغرامة دون أن يكون ذلك منهم قولا جديا.
قوله تعالى: «أم عندهم الغيب فهم يكتبون» ظاهر السياق أن يكون المراد بالغيب غيب الأشياء الذي منه تنزل الأمور بقدر محدود فتستقر في منصة الظهور، و المراد بالكتابة على هذا هو التقدير و القضاء، و المراد بكون الغيب عندهم تسلطهم عليه و ملكهم له.
فالمعنى: أم بيدهم أمر القدر و القضاء فهم يقضون كما شاءوا فيقضون لأنفسهم أن يساووا المسلمين يوم القيامة.
و قيل: المراد بكون الغيب عندهم علمهم بصحة ما حكموا به و الكتابة على ظاهر معناه و المعنى: أم عندهم علم بصحة ما يدعونه اختصوا به و لا يعلمه غيرهم فهم يكتبونه و يتوارثونه و ينبغي أن يبرزوه.
و هو بعيد بل مستدرك و الاحتمالات الأخر المذكورة مغنية عنه.
و إنما أخر ذكر هذا الاحتمال عن غيره حتى عن قوله: «أم تسئلهم أجرا» مع أن مقتضى الظاهر أن يتقدم عليه، لكونه أضعف الاحتمالات و أبعدها.
قوله تعالى: «فاصبر لحكم ربك و لا تكن كصاحب الحوت إذ نادى و هو مكظوم» صاحب الحوت يونس النبي (عليه السلام) و المكظوم من كظم الغيظ إذا تجرعه و لذا فسر بالمختنق بالغم حيث لا يجد لغيظه شفاء، و نهيه (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أن يكون كيونس (عليه السلام) و هو في زمن النداء مملوء بالغم نهي عن السبب المؤدي إلى نظير هذا الابتلاء و هو ضيق الصدر و الاستعجال بالعذاب.
و المعنى: فاصبر لقاء ربك أن يستدرجهم و يملىء لهم و لا تستعجل لهم العذاب لكفرهم و لا تكن كيونس فتكون مثله و هو مملوء غما أو غيظا ينادي بالتسبيح و الاعتراف بالظلم أي فاصبر و احذر أن تبتلي بما يشبه ابتلاءه، و نداؤه قوله في بطن الحوت: «لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين» كما في سورة الأنبياء.
و قيل: اللام في «لحكم ربك» بمعنى إلى و فيه تهديد لقومه و وعيد لهم أن سيحكم الله بينه و بينهم، و الوجه المتقدم أنسب لسياق الآيات السابقة.
قوله تعالى: «لو لا أن تداركه نعمة من ربه لنبذ بالعراء و هو مذموم» في مقام التعليل للنهي السابق: «لا تكن كصاحب الحوت» و التدارك الإدراك و اللحوق، و فسرت النعمة بقبول التوبة، و النبذ الطرح، و العراء الأرض غير المستورة بسقف أو نبات، و الذم مقابل المدح.
و المعنى: لو لا أن أدركته و لحقت به نعمة من ربه و هو أن الله قبل توبته لطرح بالأرض العراء و هو مذموم بما فعل.
لا يقال: إن الآية تنافي قوله تعالى: «فلو لا أنه كان من المسبحين للبث في بطنه إلى يوم يبعثون»: الصافات: 144، فإن مدلوله أن مقتضى عمله أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة و مقتضى هذه الآية أن مقتضاه أن يطرح في الأرض العراء مذموما و هما تبعتان متنافيتان لا تجتمعان.
فإنه يقال: الآيتان تحكيان عن مقتضيين مختلفين لكل منهما أثر على حدة فآية الصافات تذكر أنه (عليه السلام) كان مداوما للتسبيح مستمرا عليه طول حياته قبل ابتلائه - و هو قوله: كان من المسبحين - و لو لا ذلك للبث في بطنه إلى يوم القيامة، و الآية التي نحن فيها تدل على أن النعمة و هو قبول توبته في بطن الحوت شملته فلم ينبذ بالعراء مذموما.
فمجموع الآيتين يدل على أن ذهابه مغاضبا كان يقتضي أن يلبث في بطنه إلى يوم القيامة فمنع عنه دوام تسبيحه قبل التقامه و بعده، و قدر أن ينبذ بالعراء و كان مقتضى عمله أن ينبذ مذموما فمنع من ذلك تدارك نعمة ربه له فنبذ غير مذموم بل اجتباه الله و جعله من الصالحين فلا منافاة بين الآيتين.
و قد تكرر في مباحثنا السابقة أن حقيقة النعمة الولاية و على ذلك يتعين لقوله: «لو لا أن تداركه نعمة من ربه» معنى آخر.
قوله تعالى: «فاجتباه ربه فجعله من الصالحين» تقدم توضيح معنى الاجتباء و الصلاح في مباحثنا المتقدمة.
قوله تعالى: «و إن يكاد الذين كفروا ليزلقونك بأبصارهم لما سمعوا الذكر» إن مخففة من الثقيلة، و الزلق هو الزلل، و الإزلاق الإزلال و هو الصرع كناية عن القتل و الإهلاك.
و المعنى: أنه قارب الذين كفروا أن يصرعوك بأبصارهم لما سمعوا الذكر.
و المراد بإزلاقه بالأبصار و صرعه بها - على ما عليه عامة المفسرين - الإصابة بالأعين، و هو نوع من التأثير النفساني لا دليل على نفيه عقلا و ربما شوهد من الموارد ما يقبل الانطباق عليه، و قد وردت في الروايات فلا موجب لإنكاره.
و قيل: المعنى أنهم ينظرون إليك إذا سمعوا منك الذكر الذي هو القرآن نظرا مليئا بالعداوة و البغضاء يكادون يقتلونك بحديد نظرهم.
قوله تعالى: «و يقولون إنه لمجنون و ما هو إلا ذكر للعالمين» رميهم له بالجنون عند ما سمعوا الذكر دليل على أن مرادهم به رمي القرآن بأنه من إلقاء الشياطين، و لذا رد قولهم بأن القرآن ليس إلا ذكرا للعالمين.
و قد رد قولهم: «إنه لمجنون» في أول السورة بقوله: «ما أنت بنعمة ربك بمجنون» و به ينطبق خاتمة السورة على فاتحتها.
بحث روائي
في المعاني، بإسناده عن الحسين بن سعيد عن أبي الحسن (عليه السلام) في قوله عز و جل: «يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود» قال: حجاب من نور يكشف فيقع المؤمنون سجدا و تدمج أصلاب المنافقين فلا يستطيعون السجود.
و فيه، بإسناده عن عبيد بن زرارة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله عز و جل: «يوم يكشف عن ساق» قال: كشف إزاره عن ساقه فقال: سبحان ربي الأعلى.
أقول: قال الصدوق بعد نقل الحديث: قوله: سبحان ربي الأعلى تنزيه الله سبحانه أن يكون له ساق.
انتهى.
و في هذا المعنى رواية أخرى عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام).
و فيه، بإسناده عن معلى بن خنيس قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): ما يعني بقوله: «و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون» قال: و هم مستطيعون.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن أبي سعيد: سمعت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: يكشف ربنا عن ساقه فيسجد له كل مؤمن و مؤمنة، و يبقى من كان يسجد في الدنيا رياء و سمعة فيذهب ليسجد فيعود ظهره طبقا واحدا.
و فيه، أخرج ابن مندة في الرد على الجهمية عن أبي هريرة قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): «يوم يكشف عن ساق» قال: يكشف الله عن ساقه.
و فيه، أخرج إسحاق بن راهويه في مسنده و عبد بن حميد و ابن أبي الدنيا و الطبراني و الآجري في الشريعة و الدارقطني في الرؤية و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي في البعث عن عبد الله بن مسعود عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: يجمع الله الناس يوم القيامة و ينزل الله في ظلل من الغمام فينادي مناديا أيها الناس أ لم ترضوا من ربكم " الذي " خلقكم و صوركم و رزقكم أن يولي كل إنسان منكم ما كان يعبد في الدنيا و يتولى؟ أ ليس ذلك من ربكم عدلا؟ قالوا: بلى. قال: فينطلق كل إنسان منكم إلى ما كان يعبد في الدنيا و يتمثل لهم ما كانوا يعبدون في الدنيا فيتمثل لمن كان يعبد عيسى شيطان عيسى، و يتمثل لمن كان يعبد عزيزا شيطان عزيز حتى يمثل لهم الشجرة و العود و الحجر. و يبقى أهل الإسلام جثوما فيتمثل لهم الرب عز و جل فيقول لهم: ما لكم لم تنطلقوا كما انطلق الناس؟ فيقولون: إن لنا ربا ما رأيناه بعد فيقول: فبم تعرفون ربكم إن رأيتموه؟ قالوا: بيننا و بينه علامة إن رأيناه عرفناه؟ قال: و ما هي؟ قالوا: يكشف عن ساق. فيكشف عند ذلك عن ساق فيخر كل من كان يسجد طائعا ساجدا و يبقى قوم ظهورهم كصياصي البقر يريدون السجود فلا يستطيعون.
الحديث.
أقول: و الروايات الثلاث مبنية على التشبيه المخالف للبراهين العقلية و نص الكتاب العزيز فهي مطروحة أو مؤولة.
و في الكافي، بإسناده عن سفيان بن السمط قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله إذا أراد بعبد خيرا فأذنب ذنبا أتبعه بنقمة و ذكره الاستغفار، فإذا أراد بعبد شرا فأذنب ذنبا أتبعه بنعمة لينسيه الاستغفار و يتمادى بها، و هو قول الله عز و جل: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون» بالنعم و المعاصي.
أقول: و قد تقدم بعض روايات الاستدراج في ذيل قوله تعالى: «سنستدرجهم من حيث لا يعلمون»: الآية 182 من سورة الأعراف.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «إذ نادى و هو مكظوم»: في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): يقول: مغموم.
و فيه،: في قوله تعالى: «لو لا أن تداركه نعمة من ربه» قال: النعمة الرحمة.
و فيه،: في قوله تعالى: «لنبذ بالعراء» قال: الموضع الذي لا سقف له.
و في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «و إن يكاد الذين كفروا»: أخرج البخاري عن ابن عباس أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: العين حق.
و فيه، أخرج أبو نعيم في الحلية عن جابر أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: العين تدخل الرجل القبر و الجمل القدر.
أقول: و هناك روايات تطبق الآيات السابقة على الولاية و هي من الجري دون التفسير و لذلك لم نوردها.
|