بيان
سورة ممحضة في الإنذار و التخويف إلا آيتين من آخرها تبشران المتقين بالجنة و الحضور عند ربهم.
تبدأ السورة بالإشارة إلى آية شق المقر التي أتى بها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اقتراح من قومه، و تذكر رميهم له بالسحر و تكذيبهم به و اتباعهم الأهواء مع ما جاءهم أنباء زاجرة من أنباء يوم القيامة و أنباء الأمم الماضين الهالكين ثم يعيد تعالى عليهم نبذة من تلك الأنباء إعادة ساخط معاتب فيذكر سيىء حالهم يوم القيامة عند خروجهم من الأجداث و حضورهم للحساب.
ثم تشير إلى قصص قوم نوح و عاد و ثمود و قوم لوط و آل فرعون و ما نزل بهم من أليم العذاب إثر تكذيبهم بالنذر و ليس قوم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بأعز عند الله منهم و ما هم بمعجزين، و تختتم السورة ببشرى للمتقين.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها، و لا يعبأ بما قيل: إنها نزلت ببدر، و كذا بما قيل: إن بعض آياتها مدنية، و من غرر آياتها ما في آخرها من آيات القدر.
قوله تعالى: «اقتربت الساعة و انشق القمر» الاقتراب زيادة في القرب فقوله: «اقتربت الساعة» أي قربت جدا، و الساعة هي الظرف الذي تقوم فيه القيامة.
و قوله: «و انشق القمر» أي انفصل بعضه عن بعض فصار فرقتين شقتين تشير الآية إلى آية شق القمر التي أجراها الله تعالى على يد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة إثر سؤال المشركين من أهل مكة، و قد استفاضت الروايات على ذلك، و اتفق أهل الحديث و المفسرون على قبولها كما قيل.
و لم يخالف فيه منهم إلا الحسن و عطاء و البلخي حيث قالوا: معنى قوله: «انشق القمر» سينشق القمر عند قيام الساعة و إنما عبر بلفظ الماضي لتحقق الوقوع.
و هو مزيف مدفوع بدلالة الآية التالية «و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر» فإن سياقها أوضح شاهد على أن قوله «آية» مطلق شامل لانشقاق القمر فعند وقوعه إعراضهم و قولهم: سحر مستمر و من المعلوم أن يوم القيامة يوم يظهر فيه الحقائق و يلجئون فيه إلى المعرفة، و لا معنى حينئذ لقولهم في آية ظاهرة: أنها سحر مستمر فليس إلا أنها آية قد وقعت للدلالة على الحق و الصدق و تأتي لهم أن يرموها عنادا بأنها سحر.
و مثله في السقوط ما قيل: إن الآية إشارة إلى ما ذهب إليه الرياضيون أخيرا أن القمر قطعة من الأرض كما أن الأرض جزء منفصل من الشمس فقوله: «و انشق القمر» إشارة إلى حقيقة علمية لم ينكشف يوم النزول بعد.
و ذلك أن هذه النظرية على تقدير صحتها لا يلائمها قوله: «و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر» إذ لم ينقل عن أحد أنه قال للقمر: هو سحر مستمر.
على أن انفصال القمر عن الأرض اشتقاق و الذي في الآية الكريمة انشقاق، و لا يطلق الانشقاق إلا على تقطع الشيء في نفسه قطعتين دون انفصاله من شيء بعد ما كان جزء منه.
و مثله في السقوط ما قيل: إن معنى انشقاق القمر انكشاف الظلمة عند طلوعه و كذا ما قيل: إن انشقاق القمر كناية عن ظهور الأمر و وضوح الحق.
و الآية لا تخلو من إشعار بأن انشقاق القمر من لوازم اقتراب الساعة.
قوله تعالى: «و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر» الاستمرار من الشيء مرور منه بعد مرور مرة بعد مرة، و لذا يطلق على الدوام و الاطراد فقولهم: سحر مستمر أي سحر بعد سحر مداوما.
و قوله: «آية» نكرة في سياق الشرط فتفيد العموم، و المعنى و كل آية يشاهدونها يقولون فيها أنها سحر بعد سحر، و فسر بعضهم المستمر بالمحكم الموثق، و بعضهم بالذاهب الزائل، و بعضهم بالمستبشع المنفور، و هي معان بعيدة.
قوله تعالى: «و كذبوا و اتبعوا أهواءهم و كل أمر مستقر» متعلق التكذيب بقرينة ذيل الآية هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما أتى به من الآيات أي و كذبوا بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و ما أتى به من الآيات و الحال أن كل أمر مستقر سيستقر في مستقره فيعلم أنه حق أو باطل و صدق أو كذب فسيعلمون أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) صادق أو كاذب، على الحق أو لا فقوله: «و كل أمر مستقر» في معنى قوله: «و لتعلمن نبأه بعد حين»: ص: 88.
و قيل متعلق التكذيب انشقاق القمر و المعنى: و كذبوا بانشقاق القمر و اتبعوا أهواءهم، و جملة «و كل أمر مستقر» لا تلائمه تلك الملاءمة.
قوله تعالى: «لقد جاءهم من الأنباء ما فيه مزدجر» المزدجر مصدر ميمي و هو الاتعاظ، و قوله: «من الأنباء» بيان لما فيه مزدجر، و المراد بالأنباء أخبار الأمم الدارجة الهالكة أو أخبار يوم القيامة و قد احتمل كل منهما، و الظاهر من تعقيب الآية بأنباء يوم القيامة ثم بأنباء عدة من الأمم الهالكة أن المراد بالأنباء التي فيها مزدجر جميع ذلك.
قوله تعالى: «حكمة بالغة فما تغن النذر» الحكمة كلمة الحق التي ينتفع بها، و البلوغ وصول الشيء إلى ما تنتهي إليه المسافة و يكنى به عن تمام الشيء و كماله فالحكمة البالغة هي الحكمة التامة الكاملة التي لا نقص فيها من حيث نفسها و من حيث أثرها.
و قوله: «فما تغن النذر» الفاء فيه فصيحة تفصح عن جملة مقدرة تترتب عليها الكلام، و النذر جمع نذير بمعنى المنذر أو بمعنى الإنذار و الكل صحيح و إن كان الأول أقرب إلى الفهم.
و المعنى: هذا القرآن أو الذي يدعون إليه حكمة بالغة كذبوا بها و اتبعوا أهواءهم فما تغني المنذرون أو الإنذارات؟.
قوله تعالى: «فتول عنهم يوم يدع الداع إلى شيء نكر» التولي الإعراض و الفاء في «فتول» لتفريع الأمر بالتولي على ما تقدمه من وصف حالهم أي إذا كانوا مكذبين بك متبعين أهواءهم لا يغني فيهم النذر و لا تؤثر فيهم الزواجر فتول عنهم و لا تلح عليهم بالدعوة.
و قوله: «يوم يدع الداع إلى شيء نكر» قال الراغب: الإنكار ضد العرفان يقال: أنكرت كذا و نكرت، و أصله أن يرد على القلب ما لا يتصوره، و ذلك ضرب من الجهل قال تعالى: «فلما رءا أيديهم لا تصل إليه نكرهم».
قال: و النكر الدهاء و الأمر الصعب الذي لا يعرف.
انتهى.
و قد تم الكلام في قوله: «فتول عنهم» ببيان حالهم تجاه الحكمة البالغة التي ألقيت إليهم و الزواجر التي ذكروا بها على سبيل الإنذار، ثم أعاد سبحانه نبذة من تلك الزواجر التي هي أنباء من حالهم يوم القيامة و من عاقبة حال الأمم المكذبين من الماضين في لحن العتاب و التوبيخ الشديد الذي تهز قلوبهم للانتباه و تقطع منابت أعذارهم في الإعراض.
فقوله: «يوم يدع الداع» إلخ، كلام مفصول عما قبله لذكر الزواجر التي أشير إليها سابقا في مقام الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قال: «فتول عنهم» سئل فقيل: فإلى م يئول أمرهم؟ فقيل: «يوم يدع» إلخ، أي هذه حال آخرتهم و تلك عاقبة دنيا أشياعهم و أمثالهم من قوم نوح و عاد و ثمود و غيرهم، و ليسوا خيرا منهم.
و على هذا فالظرف في «يوم يدع» متعلق بما سيأتي من قوله: «يخرجون» و المعنى: يخرجون من الأجداث يوم يدعو الداعي إلى شيء نكر، إلخ و إما متعلق بمحذوف، و التقدير اذكر يوم يدعو الداعي، و المحصل اذكر ذاك اليوم و حالهم فيه، و الآية في معنى قوله: «هل ينظرون إلا الساعة أن تأتيهم»: الزخرف: 66، و قوله: «فهل ينتظرون إلا مثل أيام الذين خلوا من قبلهم»: يونس: 102.
و لم يسم سبحانه هذا الداعي من هو؟ و قد نسب الدعوة في موضع من كلامه إلى نفسه فقال: «يوم يدعوكم فتستجيبون بحمده»: إسراء: 52.
و إنما أورد من أنباء القيامة نبأ دعوتهم للخروج من الأجداث و الحضور لفصل القضاء و خروجهم منها خشعا أبصارهم مهطعين إلى الداعي ليحاذي به دعوتهم في الدنيا إلى الإيمان بالآيات و إعراضهم و قولهم: سحر مستمر.
و معنى الآية: اذكر يوم يدعو الداعي إلى أمر صعب عليهم و هو القضاء و الجزاء.
قوله تعالى: «خشعا أبصارهم يخرجون من الأجداث كأنهم جراد منتشر» الخشع جمع خاشع و الخشوع نوع من الذلة و نسب إلى الأبصار لأن ظهوره فيها أتم.
و الأجداث جمع جدث و هو القبر، و الجراد حيوان معروف، و تشبيههم في الخروج من القبور بالجراد المنتشر من حيث إن الجراد في انتشاره يدخل البعض منه في البعض و يختلط البعض بالبعض في جهات مختلفة فكذلك هؤلاء في خروجهم من القبور، قال تعالى: «يخرجون من الأجداث سراعا كأنهم إلى نصب يوفضون خاشعة أبصارهم»: المعارج: 44.
قوله تعالى: «مهطعين إلى الداع يقول الكافرون هذا يوم عسر» أي حال كونهم مسرعين إلى الداعي مطيعين مستجيبين دعوته يقول الكافرون: هذا يوم عسر أي صعب شديد.
بحث روائي
في تفسير القمي،: «اقتربت الساعة» قال: اقتربت القيامة فلا يكون بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا القيامة و قد انقضت النبوة و الرسالة. و قوله: «و انشق القمر» فإن قريشا سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يريهم آية فدعا الله فانشق القمر نصفين حتى نظروا إليه ثم التأم فقالوا: هذا سحر مستمر أي صحيح.
و في أمالي الشيخ، بإسناده عن عبيد الله بن علي عن الرضا عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: انشق القمر بمكة فلقتين فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اشهدوا اشهدوا.
أقول: ورد انشقاق القمر لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في روايات الشيعة عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) كثيرا و قد تسلمه محدثوهم و العلماء من غير توقف.
و في الدر المنثور، أخرج عبد الرزاق و أحمد و عبد بن حميد و مسلم و ابن جرير و ابن المنذر و الترمذي و ابن مردويه و البيهقي في الدلائل عن أنس قال: سأل أهل مكة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) آية فانشق القمر بمكة فرقتين فنزلت «اقتربت الساعة و انشق القمر» إلى قوله: «سحر مستمر» أي ذاهب.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و أبو نعيم و البيهقي و كلاهما في الدلائل من طريق مسروق عن ابن مسعود قال: انشق القمر على عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال قريش: هذا سحر ابن أبي كبشة فقالوا: انتظروا ما يأتيكم به السفار فإن محمدا لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم فجاء السفار فسألوهم فقالوا: نعم قد رأيناه فأنزل الله «اقتربت الساعة و انشق القمر».
و فيه، أخرج مسلم و الترمذي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن مردويه و الحاكم و البيهقي و أبو نعيم في الدلائل من طريق مجاهد عن ابن عمر: في قوله: «اقتربت الساعة و انشق القمر» قال: كان ذلك على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) انشق فرقتين: فرقة من دون الجبل و فرقة خلفه فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم اشهد.
و فيه، أخرج أحمد و عبد بن حميد و الترمذي و ابن جرير و الحاكم و أبو نعيم و البيهقي عن جبير بن مطعم: في قوله: «و انشق القمر» قال: انشق القمر و نحن بمكة على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى صار فرقتين: فرقة على هذا الجبل و فرقة على هذا الجبل فقال الناس: سحرنا محمد فقال رجل: إن كان سحركم فإنه لا يستطيع أن يسحر الناس كلهم.
و فيه، أخرج ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس: في قوله: «اقتربت الساعة و انشق القمر» قال: قد مضى ذلك قبل الهجرة انشق القمر حتى رأوا شقيه.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة و عبد بن حميد و عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد و ابن جرير و ابن مردويه و أبو نعيم عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: خطبنا حذيفة بن اليمان بالمدائن فحمد الله و أثنى عليه. ثم قال: اقتربت الساعة و انشق القمر ألا و إن الساعة قد اقتربت. ألا و إن القمر قد انشق على عهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم). ألا و إن الدنيا قد آذنت بفراق. ألا و إن اليوم المضمار و غدا السباق.
أقول: و قد روي انشقاق القمر بدعاء النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بطرق مختلفة كثيرة عن هؤلاء النفر من الصحابة و هم أنس، و عبد الله بن مسعود، و ابن عمر، و جبير بن مطعم، و ابن عباس، و حذيفة بن اليمان، و عد في روح المعاني ممن روي عنه الحديث من الصحابة عليا (عليه السلام) ثم نقل عن السيد الشريف في شرح المواقف و عن ابن السبكي في شرح المختصر أن الحديث متواتر لا يمترى في تواتره.
هذه حال الحديث عند أهل السنة و قد عرفت حاله عند الشيعة.
كلام فيه إجمال القول في شق القمر
آية شق القمر بيد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بمكة قبل الهجرة باقتراح من المشركين مما تسلمها المسلمون بلا ارتياب منهم.
و يدل عليها من القرآن الكريم دلالة ظاهرة قوله تعالى: «اقتربت الساعة و انشق القمر و إن يروا آية يعرضوا و يقولوا سحر مستمر»: القمر: 2، فالآية الثانية تأبى إلا أن يكون مدلول قوله: «و انشق القمر» آية واقعة قريبة من زمان النزول أعرض عنها المشركون كسائر الآيات التي أعرضوا عنها و قالوا: سحر مستمر.
و يدل عليها من الحديث روايات مستفيضة متكاثرة رواها الفريقان و تسلمها المحدثون، و قد تقدمت نماذج منها في البحث الروائي.
فالكتاب و السنة يدلان عليها و انشقاق كرة من الكرات الجوية ممكن في نفسه لا دليل على استحالته العقلية، و وقوع الحوادث الخارقة للعادة - و منها الآيات المعجزات - جائز و قد قدمنا في الجزء الأول من الكتاب تفصيل الكلام فيها إمكانا و وقوعا و من أوضح الشواهد عليه القرآن الكريم فمن الواجب قبول هذه الآية و إن لم يكن من ضروريات الدين.
و اعترض عليها بأن صدور الآية المعجزة منه (صلى الله عليه وآله وسلم) باقتراح من الناس ينافي قوله تعالى: «و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون و آتينا ثمود الناقة مبصرة فظلموا بها و ما نرسل بالآيات إلا تخويفا»: إسراء: 59 فإن مفاد الآية إما أنا لا نرسل بالآيات إلى هذه الأمة لأن الأمم السابقة كذبوا بها و هؤلاء يماثلونهم في طباعهم فيكذبون بها، و لا فائدة في الإرسال مع عدم ترتب أثر عليه أو المفاد أنا لا نرسل بها لأنا أرسلنا إلى أوليهم فكذبوا بها فعذبوا و أهلكوا و لو أرسلنا إلى هؤلاء لكذبوا بها و عذبوا عذاب الاستئصال لكنا لا نريد أن نعاجلهم بالعذاب، و على أي حال لا يرسل بالآيات إلى هذه الأمة كما كانت ترسل إلى الأمم الدارجة.
نعم هذا في الآيات المرسلة باقتراح من الناس دون الآيات التي تؤيد بها الرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كآيتي العصا و اليد لموسى (عليه السلام) و آية إحياء الموتى و غيرها لعيسى (عليه السلام)، و كذا الآيات النازلة لطفا منه سبحانه كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لا عن اقتراح منهم.
و مثل الآية السابقة قوله تعالى: «و قالوا لن نؤمن لك حتى تفجر لنا من الأرض ينبوعا - إلى أن قال - قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: إسراء: 93 و غير ذلك من الآيات.
و الجواب عن هذا الاعتراض يحتاج إلى تقديم مقدمة هي أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث رسولا إلى أهل الدنيا كافة بنبوة خاتمة كما يدل عليه قوله تعالى: «قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا»: الأعراف: 158، و قوله: «و أوحي إلي هذا القرآن لأنذركم به و من بلغ»: الأنعام: 19، و قوله: «و لكن رسول الله و خاتم النبيين»: الأحزاب: 40 إلى غير ذلك من الآيات.
و قد بدأ (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو بمكة بدعوة قومه من أهل مكة و حواليها فقابلوه بما استطاعوا من الشقاق و الإيذاء و الاستهزاء و هموا بإخراجه أو إثباته أو قتله حتى أمره ربه بالهجرة غير أنه آمن به و هو بمكة جمع كثير منهم و إن كانت عامتهم على الكفر و المؤمنون و إن كانوا قليلين بالنسبة إلى المشركين مضطهدين مفتنين لكنهم كانوا في أنفسهم جمعا ذا عدد كما يدل عليه قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا أيديكم و أقيموا الصلاة»: النساء: 77 فقد استجازوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقاتلوا المشركين فلم يأذن الله لهم في ذلك على ما روي في سبب نزول الآية و هذا يدل على أنهم كانوا ذوي عدة و عدة في الجملة و لم يزالوا يزيدون جمعا.
ثم هاجر (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المدينة و بسط هنالك الدعوة و نشر الإسلام فيها و في حواليها و في القبائل و في اليمن و سائر أقطار الجزيرة ما عدا مكة و حواليها ثم بسط الدعوة على غير الجزيرة فكاتب الملوك و العظماء من فارس و الروم و مصر سنة ست من الهجرة ثم فتح مكة سنة ثمان من الهجرة و قد أسلم ما بين الهجرة و الفتح جمع من أهلها و حواليها.
ثم ارتحل (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان من انتشار الإسلام ما كان، و لم يزل الإسلام يزيد جمعا و ينتشر صيتا إلى يومنا هذا و قد بلغوا خمس أهل الأرض عددا.
إذا تمهد هذا فنقول: كانت آية انشقاق القمر آية اقتراحية تستعقب العذاب لو كذبوا بها و قد كذبوا و قالوا سحر مستمر و ما كان الله ليهلك بها جميع من أرسل إليهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هم أهل الأرض جميعا لعدم تمام الحجة عليهم يومئذ و قد كان الانشقاق سنة خمس قبل الهجرة، و قد قال تعالى: «ليهلك من هلك عن بينة»: الأنفال: 42.
و ما كان الله ليهلك جميع أهل مكة و حواليها خاصة و بينهم جمع من المسلمين كما قال تعالى: «و لو لا رجال مؤمنون و نساء مؤمنات لم تعلموهم أن تطئوهم فتصيبكم منهم معرة بغير علم ليدخل الله في رحمته من يشاء لو تزيلوا لعذبنا الذين كفروا منهم عذابا أليما:» الفتح: 25.
و ما كان الله سبحانه لينجي المؤمنين و يهلك كفارهم و قد آمن جمع كثير منهم فيما بين سنة خمس قبل الهجرة و سنة ثمان بعد الهجرة عام فتح مكة ثم آمنت عامتهم يوم الفتح و الإسلام كان يكتفي منهم بظاهر الشهادتين.
و لم تكن عامة أهل مكة و حواليها أهل عناد و جحود و إنما كان أهل الجحود و العناد عظماؤهم و صناديدهم المستهزئين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المعذبين للمؤمنين، المقترحين عليه بالآيات و هم الذين يقول تعالى فيهم: «إن الذين كفروا سواء عليهم أ أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6، و قد أوعد الله هؤلاء الجاحدين المقترحين بتحريم الإيمان و الهلاك في مواضع من كلامه فلم يؤمنوا و أهلكهم الله يوم بدر و تمت كلمة الرب صدقا و عدلا.
و أما التمسك لنفي إرسال الآيات مطلقا بقوله تعالى: «و ما منعنا أن نرسل بالآيات إلا أن كذب بها الأولون» فالآية لا تشمل قطعا الآيات المؤيدة للرسالة كالقرآن المؤيد لرسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و كذا الآيات النازلة لطفا كالخوارق الصادرة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من الإخبار بالمغيبات و شفاء المرضى بدعائه و غير ذلك.
فلو كانت مطلقة فإنما تشمل الآيات الاقتراحية و تفيد أن الله سبحانه لم يرسل الآيات التي اقترحتها قريش - أو لم يرسل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآيات التي اقترحوها - لأن الأمم السابقة كذبوا بها و طباع هؤلاء المقترحين طباعهم يكذبون بها و لازمها نزول العذاب و الله لا يريد أن يعذبهم عاجلا.
و قد أوضح سبحانه سبب عدم معاجلتهم بالعذاب بقوله: «و ما كان الله ليعذبهم و أنت فيهم و ما كان الله معذبهم و هم يستغفرون»: الأنفال: 33، و استبان بذلك أن المانع من عذابهم وجود الرسول فيهم كما يفيده أيضا قوله تعالى: «و إن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها و إذا لا يلبثون خلافك إلا قليلا»: إسراء: 76.
ثم قال تعالى: «و ما لهم ألا يعذبهم الله و هم يصدون عن المسجد الحرام و ما كانوا أولياءه إن أولياؤه إلا المتقون و لكن أكثرهم لا يعلمون و ما كان صلاتهم عند البيت إلا مكاء و تصدية فذوقوا العذاب بما كنتم تكفرون»: الأنفال: 35 و الآيات نزلت عقيب غزوة بدر.
و الآيات تبين أنه لم يكن من قبلهم مانع من نزول العذاب غير وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم فإذا زال المانع بخروجه من بينهم فليذوقوا العذاب و هو ما أصابهم في وقعة بدر من القتل الذريع.
و بالجملة كان المانع من إرسال الآيات تكذيب الأولين و مماثلتهم لهم في خصيصة التكذيب و وجود النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بينهم المانع من معاجلة العذاب فإذا وجد مقتض للعذاب كالصد و المكاء و التصدية و زال أحد ركني المانع و هو كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم فلا مانع من العذاب و لا مانع من نزول الآية و إرسالها ليحق عليهم القول فيعذبوا بسبب تكذيبهم لها و بسبب مقتضيات أخر كالصد و نحوه.
فتحصل أن قوله تعالى: «و ما منعنا أن نرسل بالآيات» إلخ، إنما يفيد الإمساك عن إرسال الآيات ما دام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم و أما إرسالها و تأخير العذاب إلى خروجه من بينهم فلا دلالة فيه عليه و قد صرح سبحانه بأن وقعة بدر كانت آية و ما أصابهم فيها كان عذابا، و كذا لو كان مفاد الآية هو الامتناع عن الإرسال لكونه لغوا بسبب كونهم مجبولين على التكذيب فإن إرسالها مع تأخير العذاب و النكال إلى خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم من الفائدة ليحق الله الحق و يبطل الباطل فلتكن آية انشقاق القمر من الآيات النازلة التي من فائدتها نزول العذاب عليهم بعد خروج النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من بينهم.
و أما قوله تعالى: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا» فليس مدلوله نفي تأييد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالآيات المعجزة و إنكار نزولها من أصلها كيف؟ و هو ينفيها عن نفسه بما أنه بشر رسول، و لو كان المراد ذلك لأفاد إنكار معجزات الأنبياء جميعا لكون كل منهم بشرا رسولا، و صريح القرآن فيما حدث من قصص الأنبياء و أخبر عن آياتهم يناقض ذلك، و أوضح من الجميع في مناقضة ذلك نفس الآية التي هي من القرآن المتحدي بالإعجاز.
بل مدلوله أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بشر رسول غير قادر من حيث نفسه على شيء من الآيات التي يقترحون عليه، و إنما الأمر إلى الله سبحانه إن شاء أنزلها و إن لم يشأ لم يفعل قال تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها قل إنما الآيات عند الله و ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون»: الأنعام: 109، و قال حاكيا عن قوم نوح: «قالوا يا نوح قد جادلتنا فأكثرت جدالنا فأتنا بما تعدنا إن كنت من الصادقين قال إنما يأتيكم به الله إن شاء»: هود: 33، و قال: «و ما كان لرسول أن يأتي بآية إلا بإذن الله»: المؤمن: 78، و الآيات في هذا المعنى كثيرة.
و من الاعتراض على آية الانشقاق ما قيل: إن القمر لو انشق كما يقال لرآه جميع الناس و لضبطه أهل الأرصاد في الشرق و الغرب لكونه من أعجب الآيات السماوية و لم يعهد فيما بلغ إلينا من التاريخ و الكتب الباحثة عن الأوضاح السماوية له نظير و الدواعي متوفرة على استماعه و نقله.
و أجيب بما حاصله أن من الممكن أولا: أن يغفل عنه فلا دليل على كون كل حادث أرضي أو سماوي معلوما للناس محفوظا عندهم يرثه خلف عن سلف.
و ثانيا: أن الحجاز و ما حولها من البلاد العربية و غيرها لم يكن بها مرصد للأوضاع السماوية، و إنما كان ما كان من المراصد بالهند و المغرب من الروم و اليونان و غيرهما و لم يثبت وجود مرصد في هذا الوقت - و هو على ما في بعض الروايات أول الليلة الرابعة عشرة من ذي الحجة سنة خمس قبل الهجرة -.
على أن بلاد الغرب التي كانوا معتنين بهذا الشأن بينها و بين مكة من اختلاف الأفق ما يوجب فصلا زمانيا معتدا به و قد كان القمر - على ما في بعض الروايات - بدرا و انشق في حوالي غروب الشمس حين طلوعه و لم يبق على الانشقاق إلا زمانا يسيرا ثم التأم فيقع طلوعه على بلاد الغرب و هو ملتئم ثانيا.
على أنا نتهم غير المسلمين من أتباع الكنيسة و الوثنية في الأمور الدينية التي لها مساس نفع بالإسلام.
و من الاعتراض عليها ما قيل: إن الانشقاق لا يقع إلا ببطلان التجاذب بين الشقتين و حينئذ يستحيل الالتيام فلو كان منشقا لم يلتئم أبدا.
و الجواب عنه أن الاستحالة العقلية ممنوعة، و الاستحالة العادية بمعنى اختراق العادة لو منعت عن الالتيام بعد الانشقاق لمنعت أولا عن الانشقاق بعد الالتيام و لم تمنع و أصل الكلام مبني على جواز خرق العادة.
|