بيان
هذا هو الفصل الثالث من آيات السورة يؤكد ما تقدم من أمر الحاقة بلسان تصديق القرآن الكريم ليثبت بذلك حقية ما أنبأ به من أمر القيامة.
قوله تعالى: «فلا أقسم بما تبصرون و ما لا تبصرون» ظاهر الآية أنه إقسام بما هو مشهود لهم و ما لا يشاهدون أي الغيب و الشهادة فهو إقسام بمجموع الخليقة و لا يشمل ذاته المتعالية فإن من البعيد من أدب القرآن أن يجمع الخالق و الخلق في صف واحد و يعظمه تعالى و ما صنع تعظيما مشتركا في عرض واحد.
و في الإقسام نوع تعظيم و تجليل للمقسم به و خلقه تعالى بما أنه خلقه جليل جميل لأنه تعالى جميل لا يصدر منه إلا الجميل و قد استحسن تعالى فعل نفسه و أثنى على نفسه بخلقه في قوله: «الذي أحسن كل شيء خلقه»: الم السجدة: 7، و قوله: «فتبارك الله أحسن الخالقين»: المؤمنون: 14 فليس للموجودات منه تعالى إلا الحسن و ما دون ذلك من مساءة فمن أنفسها و بقياس بعضها إلى بعض.
و في اختيار ما يبصرون و ما لا يبصرون للأقسام به على حقية القرآن ما لا يخفى من المناسبة فإن النظام الواحد المتشابك أجزاؤه الجاري في مجموع العالم يقضي بتوحده تعالى و مصير الكل إليه و ما يترتب عليه من بعث الرسل و إنزال الكتب و القرآن خير كتاب سماوي يهدي إلى الحق في جميع ذلك و إلى طريق مستقيم.
و مما تقدم يظهر عدم استقامة ما قيل: إن المراد بما تبصرون و ما لا تبصرون الخلق و الخالق فإن السياق لا يساعد عليه، و كذا ما قيل: إن المراد النعم الظاهرة و الباطنة، و ما قيل: إن المراد الجن و الإنس و الملائكة أو الأجسام و الأرواح أو الدنيا و الآخرة أو ما يشاهد من آثار القدرة و ما لا يشاهد من أسرارها فاللفظ أعم مدلولا من جميع ذلك.
قوله تعالى: «إنه لقول رسول كريم» الضمير للقرآن، و المستفاد من السياق أن المراد برسول كريم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو تصديق لرسالته قبال ما كانوا يقولون إنه شاعر أو كاهن.
و لا ضير في نسبة القرآن إلى قوله فإنه إنما ينسب إليه بما أنه رسول و الرسول بما أنه رسول لا يأتي إلا بقول مرسله، و قد بين ذلك فضل بيان بقوله بعد: «تنزيل من رب العالمين».
و قيل: المراد برسول كريم جبريل، و السياق لا يؤيده إذ لو كان هو المراد لكان الأنسب نفي كونه مما نزلت به الشياطين كما فعل في سورة الشعراء.
على أن قوله بعد: «و لو تقول علينا بعض الأقاويل» و ما يتلوه إنما يناسب كونه (صلى الله عليه وآله وسلم) هو المراد برسول كريم.
قوله تعالى: «و ما هو بقول شاعر قليلا ما تؤمنون» نفي أن يكون القرآن نظما ألفه شاعر و لم يقل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) شعرا و لم يكن شاعرا.
و قوله: «قليلا ما تؤمنون» توبيخ لمجتمعهم حيث إن الأكثرين منهم لم يؤمنوا و ما آمن به إلا قليل منهم.
قوله تعالى: «و لا بقول كاهن قليلا ما تذكرون» نفي أن يكون القرآن كهانة و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كاهنا يأخذ القرآن من الجن و هم يلقونه إليه.
و قوله: «قليلا ما تذكرون» توبيخ أيضا لمجتمعهم.
قوله تعالى: «تنزيل من رب العالمين» أي منزل من رب العالمين و ليس من صنع الرسول نسبه إلى الله كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: «و لو تقول علينا بعض الأقاويل - إلى قوله - حاجزين» يقال: تقول على فلان أي اختلق قولا من نفسه و نسبه إليه، و الوتين - على ما ذكره الراغب - عرق يسقي الكبد و إذا انقطع مات صاحبه، و قيل: هو رباط القلب.
و المعنى: «و لو تقول علينا» هذا الرسول الكريم الذي حملناه رسالتنا و أرسلناه إليكم بقرآن نزلناه عليه و اختلق «بعض الأقاويل» و نسبه إلينا «لأخذنا منه باليمين» كما يقبض على المجرم فيؤخذ بيده أو المراد قطعنا منه يده اليمنى أو المراد لانتقمنا منه بالقوة كما في رواية القمي «ثم لقطعنا منه الوتين» و قتلناه لتقوله علينا «فما منكم من أحد عنه حاجزين» تحجبونه عنا و تنجونه من عقوبتنا و إهلاكنا.
و هذا تهديد للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على تقدير أن يفتري على الله كذبا و ينسب إليه شيئا لم يقله و هو رسول من عنده أكرمه بنبوته و اختاره لرسالته.
فالآيات في معنى قوله: «لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات ثم لا تجد لك علينا نصيرا»: إسراء: 75، و كذا قوله في الأنبياء بعد ذكر نعمه العظمى عليهم: «و لو أشركوا لحبط عنهم ما كانوا يعملون»: الأنعام: 88.
فلا يرد أن مقتضى الآيات أن كل من ادعى النبوة و افترى على الله الكذب أهلكه الله و عاقبه في الدنيا أشد العقاب و هو منقوض ببعض مدعي النبوة من الكذابين.
و ذلك أن التهديد في الآية متوجهة إلى الرسول الصادق في رسالته لو تقول على الله و نسب إليه بعض ما ليس منه لا مطلق مدعي النبوة المفتري على الله في دعواه النبوة و إخباره عن الله تعالى.
قوله تعالى: «و إنه لتذكرة للمتقين» يذكرهم كرامة تقواهم و معارف المبدأ و المعاد بحقائقها، و يعرفهم درجاتهم عند الله و مقاماتهم في الآخرة و الجنة و ما هذا شأنه لا يكون تقولا و افتراء فالآية مسوقة حجة على كون القرآن منزها عن التقول و الفرية.
قوله تعالى: «و إنا لنعلم أن منكم مكذبين و إنه لحسرة على الكافرين» ستظهر لهم يوم الحسرة.
قوله تعالى: «و إنه لحق اليقين فسبح باسم ربك العظيم» قد تقدم كلام في نظيرتي الآيتين في آخر سورة الواقعة، و السورتان متحدتان في الغرض و هو وصف يوم القيامة و متحدتان في سياق خاتمتهما و هي الإقسام على حقيقة القرآن المنبىء عن يوم القيامة، و قد ختمت السورتان بكون القرآن و ما أنبأ به عن وقوع الواقعة حق اليقين ثم الأمر بتسبيح اسم الرب العظيم المنزه عن خلق العالم باطلا لا معاد فيه و عن أن يبطل المعارف الحقة التي يعطيها القرآن في أمر المبدأ و المعاد.
تم و الحمد لله.
|