بيان
الذي يعطيه سياق السورة أنها تصف يوم القيامة بما أعد فيه من أليم العذاب للكافرين.
تبتدىء السورة فتذكر سؤال سائل سأل عذابا من الله للكافرين فتشير إلى أنه واقع ليس له دافع قريب غير بعيد كما يحسبونه ثم تصف اليوم الذي يقع فيه و العذاب الذي أعد لهم فيه و تستثني المؤمنين الذين قاموا بوظائف الاعتقاد الحق و العمل الصالح.
و هذا السياق يشبه سياق السور المكية غير أن المنقول عن بعضهم أن قوله: «و الذين في أموالهم حق معلوم» مدني و الاعتبار يؤيده لأن ظاهره الزكاة و قد شرعت بالمدينة بعد الهجرة، و كون هذه الآية مدنية يستتبع كون الآيات الحافة بها الواقعة تحت الاستثناء و هي أربع عشرة آية قوله: إلا المصلين - إلى قوله - في جنات مكرمون مدنية لما في سياقها من الاتحاد و استلزام البعض للبعض.
و مدنية هذه الآيات الواقعة تحت الاستثناء تستدعي ما استثنيت منه و هو على الأقل ثلاث آيات قوله: إن الإنسان خلق هلوعا - إلى قوله - منوعا.
على أن قوله: «فما للذين كفروا قبلك مهطعين» متفرع على ما قبله تفرعا ظاهرا و هو ما بعده إلى آخر السورة ذو سياق واحد فتكون هذه الآيات أيضا مدنية.
و من جهة أخرى مضامين هذا الفصل من الآيات تناسب حال المنافقين الحافين حول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن اليمين و عن الشمال عزين و هم الرادون لبعض ما أنزل الله من الحكم و خاصة قوله: «أ يطمع كل امرىء منهم» إلخ، و قوله: «على أن نبدل خيرا منهم» إلخ على ما سيجيء، و موطن ظهور هذا النفاق المدينة لا مكة، و لا ضير في التعبير عن هؤلاء بالذين كفروا فنظير ذلك موجود في سورة التوبة و غيرها.
على أنهم رووا أن السورة نزلت في قول القائل: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء أو ائتنا بعذاب أليم»: الأنفال: 32 و قد تقدم في تفسير الآية أن سياقها و التي بعدها سياق مدني لا مكي.
لكن المروي عن الصادق (عليه السلام) أن المراد بالحق المعلوم في الآية حق يسميه صاحب المال في ماله غير الزكاة المفروضة.
و لا عبرة بما نسب إلى اتفاق المفسرين أن السورة مكية على أن الخلاف ظاهر و كذا ما نسب إلى ابن عباس أنها نزلت بعد سورة الحاقة.
قوله تعالى: «سأل سائل بعذاب واقع» السؤال بمعنى الطلب و الدعاء، و لذا عدي بالباء كما في قوله: «يدعون فيها بكل فاكهة آمنين»: الدخان: 55 و قيل: الفعل مضمن معنى الاهتمام و الاعتناء و لذا عدي بالباء، و قيل: الباء زائدة للتأكيد، و مآل الوجوه واحد و هو طلب العذاب من الله كفرا و عتوا.
و قيل: الباء بمعنى عن كما في قوله: «فاسأل به خبيرا»: الفرقان: 59، و فيه أن كونها في الآية المستشهد بها بمعنى عن ممنوع.
على أن سياق الآيات التالية و خاصة قوله: «فاصبر صبرا جميلا» لا يلائم كون السؤال بمعنى الاستفسار و الاستخبار.
فالآية تحكي سؤال العذاب و طلبه عن بعض من كفر طغيانا و كفرا، و قد وصف العذاب المسئول من الأوصاف بما يدل على إجابة الدعاء بنوع من التهكم و التحقير و هو قوله: «واقع» و قوله: «ليس له دافع».
و المعنى سأل سائل من الكفار عذابا للكافرين من الله سيصيبهم و يقع عليهم لا محالة و لا دافع له أي أنه واقع عليهم سأل أو لم يسأل ففيه جواب تحقيري و إجابة لمسئوله تهكما.
قوله تعالى: «للكافرين ليس له دافع» للكافرين متعلق بعذاب و صفة له، و كذا قوله: «ليس له دافع» و قد مرت الإشارة إلى معنى الآية.
قوله تعالى: «من الله ذي المعارج» الجار و المجرور متعلق بقوله: «دافع» أي ليس له دافع من جانب الله و من المعلوم أنه لو اندفع لم يندفع إلا من جانب الله سبحانه، و من المحتمل أن يتعلق بقوله: «بعذاب».
و المعارج جمع معرج و فسروه بالمصاعد و هي الدرجات و هي مقامات الملكوت التي يعرج إليها الملائكة عند رجوعهم إلى الله سبحانه على ما يفسره قوله بعد: «تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم» إلخ فله سبحانه معارج الملكوت و مقاماتها المترتبة علوا و شرفا التي تعرج فيها الملائكة و الروح بحسب قربهم من الله و ليست بمقامات وهمية اعتبارية.
و قيل: المراد بالمعارج الدرجات التي يصعد فيها الاعتقاد الحق و العمل الصالح قال تعالى: «إليه يصعد الكلم الطيب و العمل الصالح يرفعه»: الفاطر 10، و قال: «و لكن يناله التقوى منكم»: الحج: 37.
و قيل: المراد به مقامات القرب التي يعرج إليها المؤمنون بالإيمان و العمل الصالح قال تعالى: «هم درجات عند الله و الله بصير بما يعملون»: آل عمران: 163 و قال: «لهم درجات عند ربهم و مغفرة و رزق كريم»: الأنفال: 4 و قال: «رفيع الدرجات ذو العرش»: المؤمن: 15.
و الحق أن مآل الوجهين إلى الوجه الأول، و الدرجات المذكورة حقيقية ليست بالوهمية الاعتبارية.
قوله تعالى: «تعرج الملائكة و الروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة» المراد بهذا اليوم يوم القيامة على ما يفيده سياق الآيات التالية.
و المراد بكون مقدار هذا اليوم خمسين ألف سنة على ما ذكروا أنه بحيث لو وقع في الدنيا و انطبق على الزمان الجاري فيها كان مقداره من الزمان خمسين ألف سنة من سني الدنيا و المراد بعروج الملائكة و الروح إليه يومئذ رجوعهم إليه تعالى عند رجوع الكل إليه فإن يوم القيامة يوم بروز سقوط الوسائط و تقطع الأسباب و ارتفاع الروابط بينها و بين مسبباتها و الملائكة وسائط موكلة على أمور العالم و حوادث الكون فإذا تقطعت الأسباب عن مسبباتها و زيل الله بينهم و رجع الكل إلى الله عز اسمه رجعوا إليه و عرجوا معارجهم فحفوا من حول عرش ربهم و صفوا قال تعالى: «و ترى الملائكة حافين من حول العرش»: الزمر - 75، و قال: «يوم يقوم الروح و الملائكة صفا»: النبأ: 38.
و الظاهر أن المراد بالروح الروح الذي هو من أمره تعالى كما قال: «قل الروح من أمر ربي»: إسراء: 85 و هو غير الملائكة كما هو ظاهر قوله تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره»: النحل: 2.
فلا يعبأ بما قيل: إن المراد بالروح جبرئيل و إن أطلق عليه الروح الأمين و روح القدس في قوله: «نزل به الروح الأمين على قلبك»: الشعراء: 194 و قوله: «قل نزله روح القدس من ربك»: النحل: 103 فإن المقيد غير المطلق.
قوله تعالى: «فاصبر صبرا جميلا» لما كان سؤال السائل للعذاب عن تعنت و استكبار و هو مما يشق تحمله أمر نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر و وصفه بالجميل - و الجميل من الصبر ما ليس فيه شائبة الجزع و الشكوى، و علله بأن اليوم بما فيه من العذاب قريب.
قوله تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا» ضميرا «يرونه» و «نراه» للعذاب أو ليوم القيامة بما فيه من العذاب الواقع و يؤيد الأول قوله فيما بعد: «يوم تكون السماء كالمهل» إلخ.
و المراد بالرؤية الاعتقاد بنوع من العناية المجازية و رؤيتهم ذلك بعيدا ظنهم أنه بعيد من الإمكان فإن سؤال العذاب من الله سبحانه استكبارا عن دينه و ردا لحكمه لا يجامع الإيمان بالمعاد و إن تفوه به السائل، و رؤيته تعالى ذلك قريبا علمه بتحققه و كل ما هو آت قريب.
و في الآيتين تعليل أمره (صلى الله عليه وآله وسلم) بالصبر الجميل فإن تحمل الأذى و الصبر على المكاره يهون على الإنسان إذا استيقن أن الفرج قريب و تذكر ذلك فالكلام في معنى قولنا فاصبر على تعنتهم و استكبارهم في سؤالهم العذاب صبرا جميلا لا يشوبه جزع و شكوى فأنا نعلم أن العذاب قريب على خلاف ما يستبعدونه، و علمنا لا يتخلف عن الواقع بل هو نفس الواقع.
قوله تعالى: «يوم تكون السماء كالمهل» المهل المذاب من المعدنيات كالنحاس و الذهب و غيرهما، و قيل: دردي الزيت، و قيل: عكر القطران.
و الظرف متعلق بقوله: «واقع» على ما يفيده السياق.
قوله تعالى: «و تكون الجبال كالعهن» العهن مطلق الصوف، و لعل المراد المنفوش منه كما في قوله تعالى: «و تكون الجبال كالعهن المنفوش»: القارعة: 5.
و قيل: هو الصوف الأحمر، و قيل: المصبوغ ألوانا لأن الجبال ذات ألوان مختلفة فمنها جدد بيض و حمر و غرابيب سود.
قوله تعالى: «و لا يسأل حميم حميما» الحميم القريب الذي تهتم بأمره و تشفق عليه.
إشارة إلى شدة اليوم فالإنسان يومئذ تشغله نفسه عن غيره حتى أن الحميم لا يسأل حميمه عن حاله لاشتغاله بنفسه.
قوله تعالى: «يبصرونهم» الضميران للأحماء المعلوم من السياق و التبصير الإراءة و الإيضاح أي يرى و يوضح الأحماء للأحماء فلا يسئلونهم عن حالهم اشتغالا بأنفسهم.
و الجملة مستأنفة في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه لما قيل: لا يسأل حميم حميما سئل فقيل: هل يرى الأحماء يومئذ أحماءهم؟ فأجيب: يبصرونهم و يمكن أن يكون «يبصرونهم» صفة «حميما».
و من رديء التفسير قول بعضهم: إن معنى قوله: «يبصرونهم» يبصر الملائكة الكفار، و ما قيل: إن المعنى يبصر المؤمنون أعداءهم من الكفار و ما هم فيه من العذاب فيشمتون بهم، و ما قيل: إن المعنى يبصر اتباع الضلالة رؤساءهم.
و هي جميعا وجوه لا دليل عليها.
قوله تعالى: «يود المجرم لو يفتدي من عذاب يومئذ ببنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته التي تؤويه و من في الأرض جميعا ثم ينجيه» قال في المجمع،: المودة مشتركة بين التمني و بين المحبة يقال: وددت الشيء أي تمنيته و وددته أي أحببته أود فيهما جميعا.
انتهى، و يمكن أن يكون استعماله بمعنى التمني من باب التضمين.
و قال: و الافتداء الضرر عن الشيء ببدل منه انتهى، و قال: الفصيلة الجماعة المنقطعة عن جملة القبيلة برجوعها إلى أبوة خاصة عن أبوة عامة.
انتهى، و ذكر بعضهم أن الفصيلة عشيرته الأقربين الذين فصل عنهم كالآباء الأدنين.
و سياق هذه الآيات سياق الإضراب و الترقي بالنسبة إلى قوله: «و لا يسأل حميم حميما» فيفيد أن المجرم يبلغ به شدة العذاب إلى أن يتمنى أن يفتدي من العذاب بأحب أقاربه و أكرمهم عليه بنيه و صاحبته و أخيه و فصيلته و جميع من في الأرض ثم ينجيه الافتداء فيود ذلك فضلا عن عدم سؤاله عن حال حميمه.
و المعنى «يود» و يتمنى «المجرم» و هو المتلبس بالأجرام أعم من الكافر «لو يفتدي من عذاب يومئذ» و هذا هو الذي يتمناه، و الجملة قائمة مقام مفعول يود.
«ببنيه» الذين هم أحب الناس عنده «و صاحبته» التي كانت سكنا له و كان يحبها و ربما قدمها على أبويه «و أخيه» الذي كان شقيقه و ناصره «و فصيلته» من عشيرته الأقربين «التي تؤويه» و تضمه إليها «و من في الأرض جميعا» من أولي العقل «ثم ينجيه» هذا الافتداء.
قوله تعالى: «كلا إنها لظى نزاعة للشوى تدعوا من أدبر و تولى و جمع فأوعى» كلا للردع، و ضمير «أنها» لجهنم أو للنار و سميت لظى لكونها تتلظى و تشتعل، و النزاعة اسم مبالغة من النزع بمعنى الاقتلاع، و الشوى الأطراف كاليد و الرجل يقال: رماه فأشواه أي أصاب شواه كذا قال الراغب، و إيعاء المال إمساكه في وعاء.
فقوله: «كلا» ردع لتمنيه النجاة من العذاب بالافتداء و قد علل الردع بقوله: «أنها لظى» إلخ و محصله أن جهنم نار مشتعلة محرقة للأطراف شأنها أنها تطلب المجرمين لتعذبهم فلا تصرف عنهم بافتداء كائنا ما كان.
فقوله: «إنها لظى» أي نار صفتها الاشتعال لا تنعزل عن شأنها و لا تخمد، و قوله: «نزاعة للشوى» أي صفتها إحراق الأطراف و اقتلاعها لا يبطل ما لها من الأثر فيمن تعذبه.
و قوله: «تدعوا من أدبر و تولى و جمع فأوعى» أي تطلب من أدبر عن الدعوة الإلهية إلى الإيمان بالله و أعرض عن عبادته تعالى و جمع المال فأمسكه في وعائه و لم ينفق منه للسائل و المحروم.
و هذا المعنى هو المناسب لسياق الاستثناء الآتي و ذكر الصلاة و الإنفاق فيه.
بحث روائي
في المجمع، حدثنا السيد أبو الحمد قال: حدثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني و ساق السند عن جعفر بن محمد الصادق عن آبائه (عليهم السلام) قال: لما نصب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا و قال: من كنت مولاه فعلي مولاه، طار ذلك في البلاد فقدم على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) النعمان بن الحارث الفهري. فقال: أمرتنا عن الله أن نشهد أن لا إله إلا الله و أنك رسول الله و أمرتنا بالجهاد و الحج و الصوم و الصلاة و الزكاة فقبلناها ثم لم ترض حتى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعلي مولاه، فهذا شيء منك أو أمر من عند الله؟ فقال: و الله الذي لا إله إلا هو أن هذا من الله. فولى النعمان بن الحارث و هو يقول: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء فرماه الله بحجر على رأسه فقتله و أنزل الله تعالى: «سأل سائل بعذاب واقع».
أقول: و هذا المعنى مروي بغير طريق من طرق الشيعة، و قد رد الحديث بعضهم بأنه موضوع لكون سورة المعارج مكية، و قد عرفت الكلام في مكية السورة.
و في الدر المنثور، أخرج الفاريابي و عبد بن حميد و النسائي و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه عن ابن عباس في قوله: «سأل سائل» قال هو النضر بن الحارث قال: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء.
و فيه، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي: في قوله: «سأل سائل» قال. نزلت بمكة في النضر بن الحارث و قد قال: «اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك» الآية و كان عذابه يوم بدر.
أقول: و هذا المعنى مروي أيضا عن غير السدي، و في بعض رواياتهم أن القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية هو الحارث بن علقمة رجل من عبد الدار، و في بعضها أن سائل العذاب هو أبو جهل بن هشام سأله يوم بدر و لازمه مدنية السورة و المعتمد على أي حال نزول السورة بعد قول القائل: اللهم إن كان هذا هو الحق من عندك الآية و قد تقدم كلام في سياق الآية.
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: ألا فحاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا فإن في القيامة خمسين موقفا كل موقف مثل ألف سنة مما تعدون ثم تلا هذه الآية «في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة»:. أقول: و روي هذا المعنى في روضة الكافي، عن حفص بن غياث عنه (عليه السلام).
و في المجمع، روى أبو سعيد الخدري قال: قيل لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أطول هذا اليوم فقال: و الذي نفس محمد بيده إنه ليخف على المؤمن حتى يكون أخف عليه من صلاة مكتوبة يصليها في الدنيا:. أقول: و رواه في الدر المنثور، عن عدة من الجوامع عن أبي سعيد عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «يوم تكون السماء كالمهل» قال: الرصاص الذائب و النحاس كذلك تذوب السماء.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله تعالى: «يبصرونهم» يقول: يعرفونهم ثم لا يتساءلون.
و فيه،: في قوله تعالى: «نزاعة للشوى» قال: تنزع عينه و تسود وجهه.
و فيه،: في قوله تعالى: «تدعوا من أدبر و تولى» قال: تجره إليها.
|