بيان
تشير السورة إلى رسالة نوح (عليه السلام) إلى قومه و إجمال دعوته و عدم استجابتهم له ثم شكواه إلى ربه منهم و دعائه عليهم و استغفاره لنفسه و لوالديه و لمن دخل بيته مؤمنا و للمؤمنين و المؤمنات ثم حلول العذاب بهم و إهلاكهم بالإغراق و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «إنا أرسلنا نوحا إلى قومه أن أنذر قومك من قبل أن يأتيهم عذاب أليم» «أن أنذر قومك» إلخ، تفسير لرسالته أي أوحينا إليه أن أنذر «إلخ».
و في الكلام دلالة على أن قومه كانوا عرضة للعذاب بشركهم و معاصيهم كما يدل عليه ما حكي من قوله (عليه السلام) في الآية التالية: «اعبدوا الله و اتقوه» و ذلك أن الإنذار تخويف و التخويف إنما يكون من خطر محتمل لا دافع له لو لا التحذر، و قد أفاد قوله: «من قبل أن يأتيهم عذاب أليم» إنه متوجه إليهم غير تاركهم لو لا تحذرهم منه.
قوله تعالى: «قال يا قوم إني لكم نذير مبين أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون» بيان لتبليغه رسالته إجمالا بقوله: «إني لكم نذير مبين» و تفصيلا بقوله: «أن اعبدوا الله» إلخ.
و في إضافته اليوم إلى نفسه إظهار إشفاق و رحمة أي أنكم قومي يجمعكم و إياي مجتمعنا القومي تسوؤني ما أساءكم فلست أريد إلا ما فيه خيركم و سعادتكم إني لكم نذير إلخ.
و في قوله: «أن اعبدوا الله» دعوتهم إلى توحيده تعالى في عبادته فإن القوم كانوا وثنيين يعبدون الأصنام، و الوثنية لا تجوز عبادة الله سبحانه لا وحده و لا مع غيره، و إنما يعبدون أرباب الأصنام بعبادة الأصنام ليكونوا شفعاء لهم عند الله، و لو جوزوا عبادته تعالى لعبدوه وحده فدعوتهم إلى عبادة الله دعوة لهم إلى توحيده في العبادة.
و في قوله: «و اتقوه» دعوتهم إلى اجتناب معاصيه من كبائر الإثم و صغائره و هي الشرك فما دونه، و فعل الأعمال الصالحة التي في تركها معصية.
و في قوله: «و أطيعون» دعوة لهم إلى طاعة نفسه المستلزم لتصديق رسالته و أخذ معالم دينهم مما يعبد به الله سبحانه و يستن به في الحياة منه (عليه السلام) ففي قوله: «اعبدوا الله و اتقوه و أطيعون» ندب إلى أصول الدين الثلاثة: التوحيد المشار إليه بقوله: «اعبدوا الله» و المعاد الذي هو أساس التقوى و التصديق بالنبوة المشار إليه بالدعوة إلى الطاعة المطلقة.
قوله تعالى: «يغفر لكم من ذنوبكم» مجزوم في جواب الأمر و كلمة «من» للتبعيض على ما هو المتبادر من السياق، و المعنى أن تعبدوه و تتقوه و تطيعوني يغفر لكم بعض ذنوبكم و هي الذنوب التي قبل الإيمان: الشرك فما دونه، و أما الذنوب التي لم تقترف بعد مما سيستقبل فلا معنى لمغفرتها قبل تحققها، و لا معنى أيضا للوعد بمغفرتها إن تحققت في المستقبل أو كلما تحققت لاستلزام ذلك إلغاء التكاليف الدينية بإلغاء المجازاة على مخالفتها.
و يؤيد ذلك ظاهر قوله تعالى: «يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم»: الأحقاف 31، و قوله: «يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم»: إبراهيم 10 و قوله: «قل للذين كفروا أن ينتهوا يغفر لهم ما قد سلف»: الأنفال 38.
و أما قوله تعالى يخاطب المؤمنين من هذه الأمة: «يا أيها الذين آمنوا هل أدلكم على تجارة تنجيكم من عذاب أليم تؤمنون بالله و رسوله و تجاهدون في سبيل الله بأموالكم و أنفسكم ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون يغفر لكم ذنوبكم و يدخلكم جنات»: الصف 12 فهو و إن كان ظاهرا في مغفرة جميع الذنوب لكن رتبت المغفرة فيه على استمرار الإيمان و العمل الصالح و إدامتهما ما دامت الحياة فلا مغفرة فيه متعلقة بما لم يتحقق بعد من المعاصي و الذنوب المستقبلة و لا وعد بمغفرتها كلما تحققت.
و قد مال بعضهم اعتمادا على عموم المغفرة في آية الصف إلى القول بأن المغفور بسبب الإيمان في هذه الأمة جميع الذنوب و في سائر الأمم بعضها كما هو ظاهر قول نوح لأمته: «يغفر لكم من ذنوبكم» و قول الرسل: كما في سورة إبراهيم «يدعوكم ليغفر لكم من ذنوبكم» و قول الجن كما في سورة الأحقاف لقومهم: «يا قومنا أجيبوا داعي الله و آمنوا به يغفر لكم من ذنوبكم».
و فيه أن آية الصف موردها غير مورد المغفرة بسبب الإيمان فقط كما أشرنا إليه.
على أن آية الأنفال صريحة في مغفرة ما قد سلف، و المخاطب به كفار هذه الأمة.
و ذهب بعضهم إلى كون «من» في قوله: «من ذنوبكم» زائدة، و لم تثبت زيادة «من» في الإثبات فهو ضعيف و مثله في الضعف قول من ذهب إلى أن «من» بيانية، و قول من ذهب إلى أنها لابتداء الغاية.
قوله تعالى: «و يؤخركم إلى أجل مسمى إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر لو كنتم تعلمون» تعليق تأخيرهم إلى أجل مسمى على عبادة الله و التقوى و طاعة الرسول يدل على أن هناك أجلين أجل مسمى يؤخرهم الله إليه إن أجابوا الدعوة، و أجل غيره يعجل إليهم لو بقوا على الكفر، و إن الأجل المسمى أقصى الأجلين و أبعدهما.
ففي الآية وعدهم بالتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا و في قوله: «إن أجل الله إذا جاء لا يؤخر» تعليل للتأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا فالمراد بأجل الله إذا جاء مطلق الأجل المقضي المتحتم أعم من الأجل المسمى و غير المسمى فلا راد لقضائه تعالى و لا معقب لحكمه.
و المعنى: أن اعبدوا الله و اتقوه و أطيعوني يؤخركم الله إلى أجل مسمى هو أقصى الأجلين فإنكم إن لم تفعلوا ذلك جاءكم الأجل غير المسمى بكفركم و لم تؤخروا فإن أجل الله إذا جاء لا يؤخر، ففي الكلام مضافا إلى وعد التأخير إلى الأجل المسمى إن آمنوا، تهديد بعذاب معجل إن لم يؤمنوا.
و قد ظهر بما تقدم عدم استقامة تفسير بعضهم لأجل الله بالأجل غير المسمى و أضعف منه تفسيره بالأجل المسمى.
و ذكر بعضهم: أن المراد بأجل الله يوم القيامة و الظاهر أنه يفسر الأجل المسمى أيضا بيوم القيامة فيرجع معنى الآية حينئذ إلى مثل قولنا: إن لم تؤمنوا عجل الله إليكم بعذاب الدنيا و إن آمنتم أخركم إلى يوم القيامة أنه إذا جاء لا يؤخر.
و أنت خبير بأنه لا يلائم التبشير الذي في قوله: «يغفر لكم من ذنوبكم».
و قوله: «لو كنتم تعلمون» متعلق بأول الكلام أي لو كنتم تعلمون أن لله أجلين و أن أجله إذا جاء لا يؤخر استجبتم دعوتي و عبدتم الله و اتقيتموه و أطعتموني هذا فمفعول «تعلمون» محذوف يدل عليه سابق الكلام.
و قيل: إن «تعلمون» منزل منزلة الفعل اللازم، و جواب لو متعلق بأول الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لاستجبتم دعوتي و آمنتم، أو متعلق بآخر الكلام، و المعنى: لو كنتم من أهل العلم لعلمتم أن أجل الله إذا جاء لا يؤخر.
قوله تعالى: «قال ربي إني دعوت قومي ليلا و نهارا فلم يزدهم دعائي إلا فرارا» القائل هو نوح (عليه السلام) و الذي دعا إليه هو عبادة الله و تقواه و طاعة رسوله، و الدعاء ليلا و نهارا كناية عن دوامه من غير فتور و لا توان.
و قوله: «فلم يزدهم دعائي إلا فرارا» أي من إجابة دعوتي فالمراد بالفرار التمرد و التأبي عن القبول استعارة، و إسناد زيادة الفرار إلى دعائه لما فيه من شائبة السببية لأن الخير إذا وقع في محل غير صالح قاومه المحل بما فيه من الفساد فأفسده فانقلب شرا، و قد قال تعالى في صفة القرآن: «و ننزل من القرآن ما هو شفاء و رحمة للمؤمنين و لا يزيد الظالمين إلا خسارا»: إسراء 82.
قوله تعالى: «و إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم و استغشوا ثيابهم» إلخ ذكر مغفرته تعالى غاية لدعوته و الأصل دعوتهم ليؤمنوا فتغفر لهم» لأن الغرض الإشارة إلى أنه كان ناصحا لهم في دعوته و لم يرد إلا ما فيه خير دنياهم و عقباهم.
و قوله: «جعلوا أصابعهم في آذانهم» كناية عن استنكافهم عن الاستماع إلى دعوته، و قوله: «و استغشوا ثيابهم» أي غطوا بها رءوسهم و وجوههم لئلا يروني و لا يسمعوا كلامي و هو كناية عن التنفر و عدم الاستماع إلى قوله.
و قوله: «و أصروا و استكبروا استكبارا» أي و ألحوا على الامتناع من الاستماع و استكبروا عن قبول دعوتي استكبارا عجيبا.
قوله تعالى: «ثم إني دعوتهم جهارا» «ثم» للتراخي بحسب رتبة الكلام و الجهار النداء بأعلى الصوت.
قوله تعالى: «ثم إني أعلنت لهم و أسررت لهم إسرارا» الإعلان و الإسرار متقابلان و هما الإظهار و الإخفاء، و ظاهر السياق أن مرجع ضمير لهم في الموضعين واحد فالمعنى دعوتهم سرا و علانية فتارة علانية و تارة سرا سالكا في دعوتي كل مذهب ممكن و سائرا في كل مسير مرجو.
قوله تعالى: «فقلت استغفروا ربكم إنه كان غفارا - إلى قوله - أنهارا» علل أمرهم بالاستغفار بقوله: «إنه كان غفارا» دلالة على أنه تعالى كثير المغفرة و هي مضافا إلى كثرتها منه سنة مستمرة له تعالى.
و قوله: «يرسل السماء عليكم مدرارا» مجزوم في جواب الأمر، و المراد بالسماء السحاب، و المدرار كثير الدرور بالأمطار.
و قوله: «و يمددكم بأموال و بنين» الأمداد إلحاق المدد و هو ما يتقوى به الممد على حاجته، و الأموال و البنون أقرب الأعضاد الابتدائية التي يستعين بها المجتمع الإنساني على حوائجه الحيوية.
و قوله: «و يجعل لكم جنات و يجعل لكم أنهارا» هما من قسم الأموال غير أنهما لكونهما من أبسط ضروريات المعاش خصا بالذكر.
و الآيات - كما ترى - تعد النعم الدنيوية و تحكي عنه (عليه السلام) أنه يعد قومه توافر النعم و تواترها عليهم أن استغفروا ربهم فلمغفرة الذنوب أثر بالغ في رفع المصائب و النقمات العامة و انفتاح أبواب النعم من السماء و الأرض أي إن هناك ارتباطا خاصا بين صلاح المجتمع الإنساني و فساده و بين الأوضاع العامة الكونية المربوطة بالحياة الإنسانية و طيب عيشه و نكده.
كما يدل عليه قوله تعالى: «ظهر الفساد في البر و البحر بما كسبت أيدي الناس»: الروم 41، و قوله: «و ما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم»: الشورى 30، و قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض»: الأعراف 94، و قد تقدم في تفسير الآيات ما لا يخلو من نفع في هذا المقام.
قوله تعالى: «ما لكم لا ترجون لله وقارا» استفهام إنكاري و الوقار - كما في المجمع، - بمعنى العظمة اسم من التوقير بمعنى التعظيم، و الرجاء مقابل الخوف و هو الظن بما فيه مسرة، و المراد به في الآية مطلق الاعتقاد على ما قيل، و قيل: المراد به الخوف للملازمة بينهما.
و المعنى: أي سبب حصل لكم حال كونكم لا تعتقدون أو لا تخافون لله عظمة توجب أن تعبدوه.
و الحق أن المراد بالرجاء معناه المعروف و هو ما يقابل الخوف و نفيه كناية عن اليأس فكثيرا ما يكنى به عنه يقال: لا أرجو فيه خيرا أي أنا آيس من أن يكون فيه خير، و الوقار الثبوت و الاستقرار و التمكن و هو الأصل في معناه كما صرح به في المجمع، و وقاره تعالى ثبوته و استقراره في الربوبية المستتبع لألوهيته و معبوديته.
كان الوثنيين طلبوا ربا له وقار في الربوبية لعبدوه فيئسوا منه تعالى فعبدوا غيره و هو كذلك فإنهم يرون أنه تعالى لا يحيط به أفهامنا فلا سبيل للتوجه العبادي إليه، و العبادة أداء لحق الربوبية التي يتفرع عليها تدبير الأمر و تدبير أمور العالم مفوض إلى أصناف الملائكة و الجن فهم أربابنا الذين يجب علينا عبادتهم ليكونوا شفعاء لنا عند الله، و أما هو تعالى فليس له إلا الإيجاد إيجاد الأرباب و مربوبيهم جميعا دون التدبير.
و الآية أعني قوله: «ما لكم لا ترجون لله وقارا» و ما يتلوها إلى تمام سبع آيات مسوقة لإثبات وقاره تعالى في الربوبية و حجة قاطعة في نفي ما لفقوه لوجوب عبادة غيره من الملائكة و غيرهم لاستناد تدبير العالم إليهم، و يتبين به إمكان التوجه العبادي إليه تعالى.
و محصل الحجة: ما الذي دعاكم إلى نفي ربوبيته تعالى المستتبع للألوهية و المعبودية و اليأس عن وقاره؟ و أنتم تعلمون أنه تعالى خلقكم و خلق العالم الذي تعيشون فيه طورا من الخلق لا ينفك عن هذا النظام الجاري فيه، و ليس تدبير الكون و من فيه من الإنسان إلا التطورات المخلوقة في أجزائه و النظام الجاري فيه فكونه تعالى خالقا هو كونه مالكا مدبرا فهو الرب لا رب سواه فيجب أن يتخذ إلها معبودا.
و يتبين به صحة التوجه إليه تعالى بالعبادة فإنا نعرفه بصفاته الكريمة من الخلق و الرزق و الرحمة و سائر صفاته الفعلية فلنا أن نتوجه إليه بما نعرفه من صفاته.
قوله تعالى: «و قد خلقكم أطوارا» حال من فاعل «لا ترجون» و الأطوار جمع طور و هو حد الشيء و حاله التي هو عليها.
و محصل المعنى - لا ترجون لله وقارا في ربوبية - و الحال أنه أنشأكم طورا بعد طور يستعقب طورا آخر فأنشأ الواحد منكم ترابا ثم نطفة ثم علقة ثم مضغة ثم جنينا ثم طفلا ثم شابا ثم شيخا و أنشأ جمعكم مختلفة الأفراد في الذكورة و الأنوثة و الألوان و الهيئات و القوة و الضعف إلى غير ذلك، و هل هذا إلا التدبير فهو مدبر أمركم فهو ربكم.
قوله تعالى: «أ لم تروا كيف خلق الله سبع سماوات طباقا» مطابقة السماوات السبع بعضها لبعض كون بعضها فوق بعض أو تطابقهن و تماثلهن على الاحتمالين المتقدمين في تفسير أوائل سورة الملك.
و المراد بالرؤية العلم، و توصيف السماوات السبع - و الكلام مسوق سوق الحجة - يدل على أنهم كانوا يرون كونها سبعا و يسلمون ذلك فاحتج عليهم بالمسلم عندهم.
و كيف كان فوقوع حديث السماوات السبع في كلام نوح دليل على كونه مأثورا من الأنبياء (عليهم السلام) من أقدم العهود.
قوله تعالى: «و جعل القمر فيهن نورا و جعل الشمس سراجا» الآيات - كما يشهد به سياقها - مسوقة لبيان وقوع التدبير الإلهي على الإنسان بما يفيض عليه من النعم حتى تثبت ربوبيته فتجب عبادته.
و على هذا فكون الشمس سراجا هو كونها مضيئة لعالمنا و لولاها لانغمرنا في ظلمة ظلماء، و كون القمر نورا هو كونه منورا لأرضنا بنور مكتسب من الشمس فليس منورا بنفسه حتى يعد سراجا.
و أما أخذ السماوات ظرفا للقمر في قوله: «و جعل القمر فيهن نورا» فالمراد به كما قيل كونه في حيزهن و إن كان في واحدة منها كما تقول: إن في هذه الدور لبئرا و إن كانت في واحدة منها لأن ما كان في إحداهن كان فيهن و كما تقول: أتيت بني تميم و إنما أتيت بعضهم.
قوله تعالى: «و الله أنبتكم من الأرض نباتا» أي أنبتكم إنبات النبات و ذلك أن الإنسان تنتهي خلقته إلى عناصر أرضية تركبت تركبا خاصا به يغتذي و ينمو و يولد المثل، و هذه حقيقة النبات، فالكلام مسوق سوق الحقيقة من غير تشبيه و استعارة.
قوله تعالى: «ثم يعيدكم فيها و يخرجكم إخراجا» الإعادة فيها بالإماتة و الإقبار، و الإخراج للجزاء يوم القيامة فالآية و التي قبلها قريبتا المعنى من قوله تعالى: «فيها تحيون و فيها تموتون و منها تخرجون»: الأعراف: 25.
و في قوله: «و يخرجكم» دون أن يقول: ثم يخرجكم إيماء إلى أن الإعادة و الإخراج كالصنع الواحد و الإعادة مقدمة للإخراج، و الإنسان في حالتي الإعادة و الإخراج في دار الحق كما أنه في الدنيا في دار الغرور.
قوله تعالى: «و الله جعل لكم الأرض بساطا» أي كالبساط يسهل لكم التقلب من جانب إلى جانب، و الانتقال من قطر إلى قطر.
قوله تعالى: «لتسلكوا منها سبلا فجاجا» السبل جمع سبيل بمعنى الطريق و الفجاج جمع فج بمعنى الطريق الواسعة، و قيل: الطريق الواقعة بين الجبلين.
قوله تعالى: «قال نوح رب إنهم عصوني و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا» رجوع منه (عليه السلام) إلى شكواه من قومه إلى ربه بعد ما ذكر تفصيل دعوته لهم و ما ألقاه من القول إليهم من قوله: «ثم إني دعوتهم جهارا» إلى آخر الآيات.
و شكواه السابق له قوله: «فلم يزدهم دعائي إلا فرارا» بعد ما أخبر بإجمال دعوته بقوله: «رب إني دعوت قومي ليلا و نهارا».
و في الآية دلالة على أن العظماء المترفين من قومه (عليه السلام) كانوا يصدون الناس عنه و يحرضونهم على مخالفته و إيذائه.
و معنى قوله: «لم يزده ماله و ولده إلا خسارا» - و قد عد المال و الولد في سابق كلامه من النعم - أن المال و الولد اللذين هما من نعمك و كان يجب عليهم شكرهما لم يزيداهم إلا كفرا و أورثهم ذلك خسرانا من رحمتك.
قوله تعالى: «و مكروا مكرا كبارا» الكبار اسم مبالغة من الكبر.
قوله تعالى: «و قالوا لا تذرن آلهتكم و لا تذرن ودا و لا سواعا و لا يغوث و يعوق و نسرا» توصية منهم بالتمسك بآلهتهم و عدم ترك عبادتها.
و ود و سواع و يغوث و يعوق و نسر خمس من آلهتهم لهم اهتمام تام بعبادتهن و لذا خصوها بالذكر مع الوصية بمطلق الآلهة، و لعل تصدير ود و ذكر سواع و يغوث بلا المؤكدة للنفي لكونها أعظم أمرا عندهم من يعوق و نسر و الله أعلم.
قوله تعالى: «و قد أضلوا كثيرا و لا تزد الظالمين إلا ضلالا» ضمير «أضلوا» للرؤساء المتبوعين و يتأيد به أنهم هم المحدث عنهم في قوله: «و مكروا» «و قالوا لا تذرن آلهتكم» و قيل: الضمير للأصنام فهم المضلون، و لا يخلو من بعد.
و قوله: «و لا تزد الظالمين إلا ضلالا» دعاء من نوح على الظالمين بالضلال و المراد به الضلال مجازاة دون الضلال الابتدائي فهو دعاء منه أن يجازيهم الله بكفرهم و فسقهم مضافا إلى ما سيحكي عنه من دعائه عليهم بالهلاك.
بحث روائي
في نهج البلاغة،: و قد جعل الله سبحانه الاستغفار سببا لدرور الرزق و رحمة الخلق فقال سبحانه: «استغفروا ربكم إنه كان غفارا - يرسل السماء عليكم مدرارا و يمددكم بأموال و بنين» فرحم الله امرأ استقبل توبته، و استقال خطيئته، و بادر منيته أقول: و الروايات في استفادة سببية الاستغفار لسعة الرزق و الأمداد بالأولاد من هذه الآيات كثيرة.
و في الخصال، عن علي (عليه السلام) في حديث الأربعمائة: أكثر الاستغفار تجلب الرزق.
و في تفسير القمي، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «لا ترجون لله وقارا» قال؟ لا تخافون لله عظمة:. أقول: و قد روي هذا المعنى من طرق أهل السنة عن ابن عباس.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله تعالى: «سبع سماوات طباقا» يقول بعضها فوق بعض.
و فيه،: في قوله تعالى: «رب إنهم عصوني - و اتبعوا من لم يزده ماله و ولده إلا خسارا» قال: اتبعوا الأغنياء.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و ابن المنذر و ابن مردويه عن ابن عباس قال: صارت الأصنام و الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعد. أما ود فكانت لكلب في دومة الجندل، و أما سواع فكانت لهذيل، و أما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف عند سبإ، و أما يعوق فكانت لهمدان، و أما نسر فكانت لحمير لآل ذي الكلاع. و كانوا أسماء رجال صالحين من قوم نوح فلما هلكوا أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالسهم التي كانوا يجلسون أنصابا و سموها بأسمائهم ففعلوا فلم تعبد حتى إذا هلك أولئك و نسخ العلم عبدت.
أقول: لعل المراد بصيرورة تلك الأصنام التي كانت لقوم نوح إلى العرب مطابقة ما عند العرب لما كان عندهم في الأسماء أو في الأوصاف و الأسماء، و أما انتقال تلك الأصنام بأشخاصهن إلى العرب فبعيد غايته.
و روي القصة أيضا في علل الشرائع، بإسناده عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) كما في الرواية و في روضة الكافي، بإسناده عن المفضل عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: فعمل نوح سفينته في مسجد الكوفة بيده فأتي بالخشب من بعد حتى فرغ منها. قال: فالتفت عن يساره و أشار بيده إلى موضع دار الداريين و هو موضع دار ابن حكيم، و ذاك فرات اليوم، فقال لي يا مفضل و هنا نصبت أصنام قوم نوح: يغوث و يعوق و نسر.
|