بيان
تشير السورة إلى قصة نفر من الجن استمعوا القرآن فآمنوا به و أقروا بأصول معارفه، و تتخلص منها إلى تسجيل نبوة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الإشارة إلى وحدانيته تعالى في ربوبيته و إلى المعاد، و السورة مكية بشهادة سياقها.
قوله تعالى: «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد» أمر للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يقص القصة لقومه، و الموحي هو الله سبحانه، و مفعول «استمع» القرآن حذف لدلالة الكلام عليه، و النفر الجماعة من ثلاثة إلى تسعة على المشهور، و قيل: بل إلى أربعين.
و العجب بفتحتين ما يدعو إلى التعجب منه لخروجه عن العادة الجارية في مثله، و إنما وصفوا القرآن بالعجب لأنه كلام خارق للعادة في لفظه و معناه أتى به رجل أمي ما كان يقرأ و لا يكتب.
و الرشد إصابة الواقع و هو خلاف الغي، و هداية القرآن إلى الرشد دعوته إلى عقائد و أعمال تتضمن للمتلبس بها سعادته الواقعية.
و المعنى: يا أيها الرسول قل للناس: أوحي - أي أوحى الله - إلي أنه استمع القرآن جماعة من الجن فقالوا - لقومهم لما رجعوا إليهم - إنا سمعنا كلاما مقروا خارقا للعادة يهدي إلى معارف من عقائد و أعمال في التلبس بها إصابة الواقع و الظفر بحقيقة السعادة.
كلام في الجن
الجن نوع من الخلق مستورون من حواسنا يصدق القرآن الكريم بوجودهم و يذكر أنهم بنوعهم مخلوقون قبل نوع الإنسان، و أنهم مخلوقون من النار كما أن الإنسان مخلوق من التراب قال تعالى: «و الجان خلقناه من قبل من نار السموم»: الحجر 27.
و أنهم يعيشون و يموتون و يبعثون كالإنسان قال تعالى: «أولئك الذين حق عليهم القول في أمم قد خلت من قبلهم من الجن و الإنس»: الأحقاف 18.
و أن فيهم ذكورا و إناثا يتكاثرون بالتوالد و التناسل قال تعالى: «و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن»: الجن 6.
و أن لهم شعورا و إرادة و أنهم يقدرون على حركات سريعة و أعمال شاقة كما في قصص سليمان (عليه السلام) و تسخير الجن له و قصة ملكة سبإ.
و أنهم مكلفون كالإنسان، منهم مؤمنون و منهم كفار، و منهم صالحون و آخرون طالحون، قال تعالى: «و ما خلقت الجن و الإنس إلا ليعبدون»: الذاريات 54 و قال تعالى: «إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به»: الجن: 2 و قال: «و أنا منا المسلمون و منا القاسطون»: الجن 14 و قال: «و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك»: الجن 11 و قال تعالى: «قالوا يا قومنا إنا سمعنا كتابا أنزل من بعد موسى مصدقا لما بين يديه يهدي إلى الحق و إلى طريق مستقيم يا قومنا أجيبوا داعي الله»: الأحقاف 31 إلى غير ذلك من خصوصيات أحوالهم التي تشير إليها الآيات القرآنية.
و يظهر من كلامه تعالى أن إبليس من الجن و أن له ذرية و قبيلا قال تعالى: «كان من الجن ففسق عن أمر ربه»: الكهف 50 و قال تعالى: «أ فتتخذونه و ذريته أولياء من دوني»: الكهف: 50 و قال تعالى: «إنه يراكم هو و قبيله من حيث لا ترونهم»: الأعراف 27.
قوله تعالى: «فآمنا به و لن نشرك بربنا أحدا» إخبار عن إيمانهم بالقرآن و تصديقهم بأنه حق، و قوله: «و لن نشرك بربنا أحدا» تأكيد لمعنى إيمانهم به أن إيمانهم بالقرآن إيمان بالله الذي أنزله فهو ربهم، و أن إيمانهم به تعالى إيمان توحيد لا يشركون به أحدا أبدا.
قوله تعالى: «و أنه تعالى جد ربنا ما اتخذ صاحبة و لا ولدا» فسر الجد بالعظمة و فسر بالحظ، و الآية في معنى التأكيد لقولهم: «و لن نشرك بربنا أحدا».
و القراءة المشهورة «أنه» بالفتح، و قرىء بالكسر في هذه الآية و فيما بعدها من الآيات - اثنا عشر موردا - إلى قوله: «و أن لو استقاموا» فبالفتح و هو الأرجح لظهور سياق الآيات في أنها مقولة قول الجن.
و أما قراءة الفتح فوجهها لا يخلو من خفاء، و قد وجهها بعضهم بأن الجملة «و أنه» «إلخ» معطوفة على الضمير المجرور في قوله «آمنا به» و التقدير و آمنا بأنه تعالى جد ربنا إلخ فهو إخبار منهم بالإيمان بنفي الصاحبة و الولد منه تعالى على ما يقول به الوثنيون.
و هذا إنما يستقيم على قول الكوفيين من النحاة بجواز العطف على الضمير المتصل المجرور، و أما على قول البصريين منهم من عدم جوازه فقد وجهه بعضهم كما عن الفراء و الزجاج و الزمخشري بأنها معطوفة على محل الجار و المجرور و هو النصب فإن قوله: «آمنا به» في معنى صدقناه، و التقدير و صدقنا أنه تعالى جد ربنا إلخ، و لا يخفى ما فيه من التكلف.
و وجهه بعضهم بتقدير حرف الجر في الجملة المعطوفة و ذلك مطرد في أن و أن، و التقدير آمنا به و بأنه تعالى جد ربنا «إلخ».
و يرد على الجميع أعم من العطف على الضمير المجرور أو على محله أو بتقدير حرف الجر أن المعنى إنما يستقيم حينئذ في قوله: «و أنه تعالى جد ربنا» إلخ، و قوله: «و أنه كان يقول سفيهنا» إلخ، و أما بقية الآيات المصدرة بأن كقوله: «و أنا ظننا أن لن تقول» إلخ، و قوله: «و أنه كان رجال من الإنس» إلخ، و قوله: «و أنا لمسنا السماء» فلا يصح قطعا فلا معنى لأن يقال: آمنا أو صدقنا أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله شططا، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنه كان رجال من الإنس يعوذون إلخ، أو يقال: آمنا أو صدقنا أنا لمسنا السماء إلخ.
و لا يندفع الإشكال إلا بالمصير إلى ما ذكره بعضهم أنه إذا وجه الفتح في الآيتين الأوليين بتقدير الإيمان أو التصديق فليوجه في كل من الآيات الباقية بما يناسبها من التقدير.
و وجه بعضهم الفتح بأن قوله: «و أنه تعالى» إلخ و سائر الآيات المصدرة بأن معطوفة على قوله: «إنه استمع» إلخ.
و لا يخفى فساده فإن محصله أن الآيات في مقام الإخبار عما أوحي إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من أقوالهم و قد أخبر عن قولهم: إنا سمعنا قرآنا عجبا فآمنا به بعنوان أنه إخبار عن قولهم ثم حكى سائر أقوالهم بألفاظها فالمعنى أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن فقالوا إنا سمعنا كذا و كذا و أوحي إلي أنه تعالى جد ربنا «إلخ» و أوحي إلي أنه كان يقول سفيهنا إلى آخر الآيات.
فيرد عليه أن ما وقع في صدر الآيات من لفظة «إنه» و «أنهم» و «أنا» إن لم يكن جزء من لفظهم المحكي كان زائدا مخلا بالكلام، و إن كان جزء من كلامهم المحكي بلفظه لم يكن المحكي من مجموع أن و ما بعدها كلاما تاما و احتاج إلى تقدير ما يتم به كلاما حتى تصح الحكاية، و لم ينفع في ذلك عطفه على قوله: «إنه استمع» شيئا فلا تغفل.
قوله تعالى: «و أنه كان يقول سفيهنا على الله شططا» السفه - على ما ذكره الراغب - خفة النفس لنقصان العقل، و الشطط القول البعيد من الحق.
و الآية أيضا في معنى التأكيد لقولهم: «لن نشرك بربنا أحدا» و مرادهم بسفيههم من سبقهم من مشركي الجن، و قيل: المراد إبليس و هو من الجن، و هو بعيد من سياق قوله: «كان يقول سفيهنا» إلخ.
قوله تعالى: «و أنا ظننا أن لن تقول الإنس و الجن على الله كذبا» اعتراف منهم بأنهم ظنوا أن الإنس و الجن صادقون فيما يقولون و لا يكذبون على الله فلما وجدوهم مشركين و سمعوهم ينسبون إليه تعالى الصاحبة و الولد أذعنوا به و قلدوهم فيما يقولون فأشركوا مثلهم حتى سمعوا القرآن فانكشف لهم الحق، و فيه تكذيب منهم للمشركين من الإنس و الجن.
قوله تعالى: «و أنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا» قال الراغب: العوذ الالتجاء إلى الغير، و قال: رهقه الأمر غشيه بقهر انتهى.
و فسر الرهق بالإثم، و بالطغيان، و بالخوف، و بالشر، و بالذلة و الضعف، و هي تفاسير بلازم المعنى.
و المراد بعوذ الإنس بالجن - على ما قيل: إن الرجل من العرب كان إذا نزل الوادي في سفره ليلا قال: أعوذ بعزيز هذا الوادي من شر سفهاء قومه، و نقل عن مقاتل أن أول من تعوذ بالجن قوم من اليمن ثم بنو حنيفة ثم فشا في العرب.
و لا يبعد أن يكون المراد بالعوذ بالجن الاستعانة بهم في المقاصد من طريق الكهانة، و إليه يرجع ما نقل عن بعضهم أن المعنى كان رجال من الإنس يعوذون برجال من أجل الجن و من معرتهم و أذاهم.
و الضميران في قوله: «فزادوهم» أولهما لرجال من الإنس و ثانيهما لرجال من الجن و المعنى فزاد رجال الإنس رجال الجن رهقا بالتجائهم إليهم فاستكبر رجال الجن و طغوا و أثموا، و يجوز العكس بأن يكون الضمير الأول لرجال الجن و الثاني لرجال الإنس، و المعنى فزاد رجال الجن رجال الإنس رهقا أي إثما و طغيانا أو ذلة و خوفا.
قوله تعالى: «و أنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا» ضمير «أنهم» لرجال من الإنس، و الخطاب في «ظننتم» لقومهم من الجن، و المراد بالبعث بعث الرسول بالرسالة فالمشركون ينكرون ذلك، و قيل: المراد به الإحياء بعد الموت، و سياق الآيات التالية يؤيد الأول.
و عن بعضهم أن هذه الآية و التي قبلها ليستا من كلام الجن بل كلامه تعالى معترضا بين الآيات المتضمنة لكلام الجن، و عليه فضمير «إنهم» للجن و خطاب «ظننتم» للناس، و فيه أنه بعيد من السياق.
قوله تعالى: «و أنا لمسنا السماء فوجدناها ملئت حرسا شديدا و شهبا» لمس السماء الاقتراب منها بالصعود إليها، و الحرس - على ما قيل - اسم جمع لحارس و لذا وصف بالمفرد و المراد بالحرس الشديد الحفاظ الأقوياء في دفع من يريد الاستراق منها و لذا شفع بالشهب و هي سلاحهم.
قوله تعالى: «و أنا كنا نقعد منها مقاعد للسمع فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» يفيد انضمام صدر الآية إلى الآية السابقة أن ملء السماء بالحرس الشديد و الشهب مما حدث أخيرا و أنهم كانوا من قبل يقعدون من السماء مقاعد لاستماع كلام الملائكة و يفيد ذيل الآية بالتفريع على جميع ما تقدم أن من يستمع الآن منا بالقعود منها مقعدا للسمع يجد له شهابا من صفته أنه راصد له يرميه به الحرس.
فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.
فيتحصل من مجموع الآيتين الإخبار بأنهم عثروا على حادثة سماوية جديدة مقارنة لنزول القرآن و بعثة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي منع الجن من تلقي أخبار السماء باستراق السمع.
و من عجيب الاستدلال ما عن بعضهم أن في الآيتين ردا على من زعم أن الرجم حدث بعد مبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لظهور قوله: «ملئت حرسا» في أن الحادث هو الملء و كثرة الحرس لا أصل الحرس، و ظهور قوله: «نقعد منها مقاعد للسمع» في أنا كنا نجد فيها بعض المقاعد خاليا من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلها فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.
و يدفعه أنه لو كان المراد بالآيتين هو الإخبار عن ملء السماء بالحرس و تكثير عددهم بحيث لا يوجد فيها مقاعد خالية منهم و قد كانت توجد قبل ذلك كان الواجب أن يتوجه النفي في قوله: «فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا» إلى السمع عن جميع المقاعد قبال إثبات السمع من بعض تلك المقاعد لا نفي مجرد السمع.
سلمنا أن المراد نفي السمع على الإطلاق و هو يكفي في ذلك لكن تعلق الغرض في الكلام بالإخبار عن الامتلاء بالحرس مع كون بعض المقاعد خالية عنهم قبل ذلك، و كذا تقييد قوله: «فمن يستمع» إلخ، بقوله: «الآن» يدل على حدوث أمر جديد في رجم الجن و هو استيعاب الرجم لهم في أي مقعد قعدوا و المنع من السمع مطلقا بعد ما كانوا يستمعون من بعض المقاعد من غير منع، و هذا المقدار كاف للمدعي فيما يدعيه.
و ليتنبه أن مدلول الآية حدوث رجم الجن بشهاب رصد و هو غير حدوث الشهاب السماوي و هو ظاهر فلا ورود لما قيل: إن الشهب السماوية كانت من الحوادث الجوية الموجودة قبل زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن.
وجه عدم الورود أن الذي يظهر من القرآن حدوث رجم الشياطين من الجن بالشهب من غير تعرض لحدوث أصل الشهب، و قد تقدم في تفسير أول سورة الصافات بعض ما يتعلق بهذا المقام.
قوله تعالى: «و أنا لا ندري أ شر أريد بمن في الأرض أم أراد بهم ربهم رشدا» الرشد بفتحتين و الرشد بالضم فالسكون خلاف الغي و تنكير «رشدا» لإفادة النوع أي نوعا من الرشد.
هذا منهم إظهار للجهل و التحير فيما شاهدوه من أمر الرجم و منع شياطين الجن من الاطلاع على أخبار السماء غير أنهم تنبهوا على أن ذلك لأمر ما يرجع إلى أهل الأرض إما خير أو شر و إذا كان خيرا فهو نوع هدى لهم و سعادة و لذا بدلوا الخير و هو المقابل للشر من الرشد، و يؤيده قولهم: «أراد بهم ربهم» المشعر بالرحمة و العناية.
و قد صرحوا بالفاعل لإرادة الرشد و حذفوه في جانب الشر أدبا و لا يراد شر من جانبه تعالى إلا لمن استحقه.
قوله تعالى: «و أنا منا الصالحون و منا دون ذلك كنا طرائق قددا» الصلاح مقابل الطلاح، و المراد بدون ذلك ما يقرب منه رتبة - على ما قيل -، و الظاهر أن دون بمعنى غير، و يؤيده قوله: «كنا طرائق قددا» الدال على التفرق و التشتت و الطرائق جمع طريقة و هي الطريق المطروقة المسلوكة، و القدد القطع جمع قدة بمعنى قطعة من القد بمعنى القطع و صفت الطرائق بالقدد لأن كل واحدة منها مقطوعة عن غيرها تنتهي بسالكها إلى غاية غير ما ينتهي به إليه غيرها، و إلى هذا المعنى يرجع تفسير القدد بالطرائق المتفرقة المتشتتة.
و الظاهر أن المراد بقوله: «الصالحون» الصالحون بحسب الطبع الأولي في المعاشرة و المعاملة دون الصالحين بحسب الإيمان، و لو كان المراد صلاح الإيمان لكان الأنسب أن يذكر بعد ما سيجيء من حديث إيمانهم لما سمعوا الهدى.
و ذكر بعضهم أن قوله: «طرائق قددا» منصوب على الظرفية أي في طرائق قدد و هي المذاهب المتفرقة المتشتتة، و قال آخرون إنه على تقدير مضاف أي ذوي طرائق، و لا يبعد أن يكون من الاستعارة بتشبيههم أنفسهم في الاختلاف و التباين بالطرق المقطوع بعضها من بعض الموصلة إلى غايات متشتتة.
و المعنى: و أنا منا الصالحون طبعا و منا غير ذلك كنا في مذاهب مختلفة أو ذوي مذاهب مختلفة أو كالطرق المقطوعة بعضها عن بعض.
قوله تعالى: «و أنا ظننا أن لن نعجز الله في الأرض و لن نعجزه هربا» الظن هو العلم اليقيني، و الأنسب أن يكون المراد بقوله: «لن نعجز الله في الأرض» إعجازه تعالى بالغلبة عليه فيما يشاء فيها و ذلك بالإفساد في الأرض و إخلال النظام الذي يجري فيها فإن إفسادهم لو أفسدوا من القدر، و المراد بقوله: «و لن نعجزه هربا» إعجازه تعالى بالهرب منه إذا طلبهم حتى يفوتوه فلا يقدر على الظفر بهم و قيل: المعنى لن نعجزه تعالى كائنين في الأرض و لن نعجزه هربا إلى السماء أي لن نعجزه لا في الأرض و لا في السماء هذا و هو كما ترى.
قوله تعالى: «و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا» المراد بالهدى القرآن باعتبار ما يتضمنه من الهدى، و البخس النقص على سبيل الظلم، و الرهق غشيان المكروه.
و الفاء في قوله: «فمن يؤمن» للتفريع و هو من تفريع العلة على المعلول لإفادة الحجة في إيمانهم بالقرآن من دون ريث و لا مهل.
و محصل المعنى: أنا لما سمعنا القرآن الذي هو الهدى بادرنا إلى الإيمان به من دون مكث لأن من آمن به فقد آمن بربه و من يؤمن بربه فلا يخاف نقصانا في خير أو غشيانا من مكروه حتى يكف عن المبادرة و الاستعجال و يتروى في الإقدام عليه لئلا يقع في بخس أو رهق.
قوله تعالى: «و أنا منا المسلمون و منا القاسطون فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا» المراد بالإسلام تسليم الأمر لله تعالى فالمسلمون المسلمون له الأمر المطيعون له فيما يريده و يأمر به، و القاسطون هم المائلون إلى الباطل قال في المجمع،: القاسط هو العادل عن الحق و المقسط العادل إلى الحق، انتهى.
و المعنى: أنا معشر الجن منقسمون إلى من يسلم لأمر الله مطيعين له، و إلى من يعدل عن التسليم لأمر الله و هو الحق.
و قوله: «فمن أسلم فأولئك تحروا رشدا» تحري الشيء توخيه و قصده، و المعنى فالذين أسلموا فأولئك قصدوا إصابة الواقع و الظفر بالحق.
قوله تعالى: «و أما القاسطون فكانوا لجهنم حطبا» فيعذبون بتسعرهم و اشتعالهم بأنفسهم كالقاسطين من الإنس قال تعالى: «فاتقوا النار التي وقودها الناس»: البقرة 26.
و قد عد كثير منهم قوله: «فمن أسلم فأولئك» - إلى قوله - لجهنم حطبا تتمة لكلام الجن يخاطبون به قومهم و قيل: إنه من كلامه تعالى يخاطب به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «و أن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا لنفتنهم فيه»: «أن» مخففة من الثقيلة، و المراد بالطريقة طريقة الإسلام، و الاستقامة عليها لزومها و الثبات على ما تقتضيه من الإيمان بالله و آياته.
و الماء الغدق الكثير منه، و لا يبعد أن يستفاد من السياق أن قوله: «لأسقيناهم ماء غدقا» مثل أريد به التوسعة في الرزق، و يؤيده قوله بعده: «لنفتنهم فيه».
و المعنى: و أنه لو استقاموا أي الجن و الإنس على طريقة الإسلام لله لرزقناهم رزقا كثيرا لنمتحنهم في رزقهم فالآية في معنى قوله: «و لو أن أهل القرى آمنوا و اتقوا لفتحنا عليهم بركات من السماء و الأرض»: الأعراف 96.
و الآية من كلامه تعالى معطوف على قوله في أول السورة: «أنه استمع» إلخ.
قوله تعالى: «و من يعرض عن ذكر ربه يسلكه عذابا صعدا» العذاب الصعد هو الذي يتصعد على المعذب و يغلبه، و قيل: هو العذاب الشاق.
و الإعراض عن ذكر الله لازم عدم الاستقامة على الطريقة و هو الأصل في سلوك العذاب، و لذا وضع موضعه ليدل على السبب الأصلي في دخول النار.
و هو الوجه أيضا في الالتفات عن التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: «ذكر ربه» و كان مقتضى الظاهر أن يقال: ذكرنا و ذلك أن صفة الربوبية هي المبدأ الأصلي لتعذيب المعرضين عن ذكره تعالى فوضعت موضع ضمير المتكلم مع الغير ليدل على المبدإ الأصلي كما وضع الإعراض عن الذكر موضع عدم الاستقامة ليدل على السبب.
قيل: و قوله: «يسلكه» مضمن معنى يدخله و لذا عدي إلى المفعول الثاني، و المعنى ظاهر.
بحث روائي
في المجمع، روى الواحدي عن سعيد بن جبير عن ابن عباس قال: ما قرأ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) على الجن و ما رآهم، انطلق رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم: قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء و أرسلت علينا الشهب قالوا: ما ذاك إلا من شيء حدث فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها. فمر النفر الذين أخذوا نحو تهامة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عامدين إلى سوق عكاظ و هو يصلي بأصحابه صلاة الفجر فلما سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الذي حال بيننا و بين خبر السماء فرجعوا إلى قومهم و قالوا: «إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنا به - و لن نشرك بربنا أحدا» فأوحى الله إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): «قل أوحي إلي أنه استمع نفر من الجن»:. و رواه البخاري و مسلم أيضا في الصحيح.
أقول: و روى القمي في تفسيره ما يقرب منه و قد أوردنا الرواية في تفسير سورة الأحقاف في ذيل قوله: «و إذ صرفنا إليك نفرا من الجن» إلخ.
لكن ظاهر روايته أن النفر الذين نزلت فيهم آيات سورة الأحقاف هم النفر الذين نزلت فيهم هذه السورة و ظاهر آيات السورتين لا يلائم ذلك فإن ظاهر قولهم المنقول في سورة الأحقاف: «إنا سمعنا كتابا أنزل بعد موسى يهدي إلى الحق» الآية أنهم كانوا مؤمنين بموسى و مصدقين للتوراة و ظاهر آيات هذه السورة أنهم كانوا مشركين لا يرون النبوة و لازم ذلك تغاير الطائفتين اللهم إلا أن يمنع الظهور.
و فيه، عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد الله بن مسعود: من كان منكم مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ليلة الجن؟ فقال: ما كان منا معه أحد فقدناه ذات ليلة و نحن بمكة فقلنا: اغتيل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أو استطير فانطلقنا نطلبه من الشعاب فلقيناه مقبلا من نحو حراء فقلنا: يا رسول الله أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشر ليلة بات بها قوم حين فقدناك، فقال لنا: إنه أتاني داعي الجن فذهبت أقرئهم القرآن فذهب بنا و أرانا آثارهم و آثار نيرانهم فأما أن يكون صحبة منا أحد فلا.
و فيه، و عن الربيع بن أنس قال: ليس لله تعالى جد و إنما قالته الجن بجهالة فحكاه الله سبحانه كما قالت:، و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام).
أقول: المراد بالجد المنفي عنه تعالى الحظ و البخت.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث: فأقبل إليه الجن و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ببطن النخل فاعتذروا بأنهم ظنوا كما ظننتم أن لن يبعث الله أحدا، و لقد أقبل إليه أحد و سبعون ألفا منهم فبايعوه على الصوم و الصلاة و الزكاة و الحج و الجهاد و نصح المسلمين فاعتذروا بأنهم قالوا على الله شططا.
أقول: بيعتهم للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على الصوم و الصلاة إلخ، يصدقها قولهم المحكي في أول السورة: «فآمنا به» و قولهم: «و أنا لما سمعنا الهدى آمنا به»، و أما كيفية عملهم بها و خاصة بالزكاة و الجهاد فمجهولة لنا، و اعتذارهم الأول المذكور لا يخلو من خفاء.
و في تفسير القمي، بإسناده إلى زرارة قال: سألت أبا جعفر عن قول الله: «و أنه كان رجال من الإنس - يعوذون برجال من الجن فزادوهم رهقا» قال: كان الرجل ينطلق إلى الكاهن الذي يوحي إليه الشيطان فيقول: قل للشيطان: فلان قد عاذ بك.
و فيه،: في قوله تعالى: «فمن يؤمن بربه فلا يخاف بخسا و لا رهقا» قال: البخس النقصان، و الرهق العذاب.
: و سئل العالم عن مؤمني الجن أ يدخلون الجنة؟ فقال: لا و لكن لله حظائر بين الجنة و النار يكون فيها مؤمنوا الجن و فساق الشيعة.
أقول: لعل المراد بهذه الحظائر هي بعض درجات الجنة التي هي دون جنة الصالحين.
و اعلم أنه ورد في بعض الروايات من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) تطبيق ما في الآيات من الهدى و الطريقة على ولاية علي (عليه السلام) و هي من الجري و ليست من التفسير في شيء.
|