بيان
في الآيات تسجيل للنبوة و ذكر وحدانيته تعالى و المعاد كالاستنتاج من القصة و تختتم بالإشارة إلى عصمة الرسالة.
قوله تعالى: «و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا» معطوف على قوله: «إنه استمع» إلخ، و جملة «إن المساجد لله» في موضع التعليل لقوله: «فلا تدعوا مع الله أحدا» و التقدير لا تدعوا مع الله أحدا غيره لأن المساجد له.
و المراد بالدعاء العبادة و قد سماها الله دعاء كما في قوله: «و قال ربكم ادعوني أستجب لكم إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين»: المؤمن 60.
و قد اختلف في المراد من المساجد فقيل: المراد به الكعبة، و قيل المسجد الحرام، و قيل: المسجد الحرام و بيت المقدس، و يدفعها كون المساجد جمعا لا ينطبق على الواحد و الاثنين.
و قيل: الحرم، و هو تهكم لا دليل عليه، و قيل: الأرض كلها لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): جعلت لي الأرض مسجدا و طهورا، و فيه أنه لا يدل على أزيد من جواز العبادة في أي بقعة من بقاع الأرض خلافا لما هو المعروف عن اليهود و النصارى من عدم جواز عبادته تعالى في غير البيع و الكنائس، و أما تسمية بقاعها مساجد حتى يحمل عليها عند الإطلاق فلا.
و قيل: المراد به الصلوات فلا يصلى إلا لله، و هو تهكم لا دليل عليه.
و عن الإمام الجواد (عليه السلام): أن المراد بالمساجد الأعضاء السبعة التي يسجد عليها في الصلاة و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و أصابع الرجلين، و ستوافيك روايته في البحث الروائي التالي إن شاء الله، و نقل ذلك أيضا عن سعيد بن جبير و الفراء و الزجاج.
و الأنسب على هذا أن يكون المراد بكون مواضع السجود من الإنسان لله اختصاصها به اختصاصا تشريعيا، و المراد بالدعاء السجدة لكونها أظهر مصاديق العبادة أو الصلاة بما أنها تتضمن السجود لله سبحانه.
و المعنى: و أوحي إلي أن أعضاء السجود يختص بالله تعالى فاسجدوا له بها - أو اعبدوه بها - و لا تسجدوا - أو لا تعبدوا - أحدا غيره.
قوله تعالى «و أنه لما قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا» اللبد بالكسر فالفتح جمع لبدة بالضم فالسكون المجتمعة المتراكمة، و المراد بعبد الله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما تدل عليه الآية التالية، و التعبير بعبد الله كالتمهيد لقوله في الآية التالية: «قل إنما أدعوا ربي».
و الأنسب لسياق الآيات التالية أن يكون مرجع ضميري الجمع في قوله: «كادوا يكونون» المشركين و قد كانوا يزدحمون عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) إذا صلى و قرأ القرآن يستهزءون و يرفعون أصواتهم فوق صوته على ما نقل.
و المعنى: و أنه لما قام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يعبد الله بالصلاة كاد المشركون يكونون بازدحامهم لبدا مجتمعين متراكمين.
و قيل: الضميران للجن و أنهم اجتمعوا عليه و تراكموا ينظرون إليه متعجبين مما يشاهدون من عبادته و قراءته قرآنا لم يسمعوا كلاما يماثله.
و قيل: الضميران للمؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المجتمعين عليه اقتداء به في صلاته إذا صلى و إنصاتا لما يتلوه من كلام الله.
و الوجهان لا يلائمان سياق الآيات التالية تلك الملاءمة كما تقدمت الإشارة إليه.
قوله تعالى: «قل إنما أدعوا ربي و لا أشرك به أحدا» أمر منه تعالى للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبين لهم وجه عبادته بيانا يزيل عنهم الحيرة حيث رأوا منه ما لم يكونوا رأوه من أحد غيره، و يتعجبون حاملين له على نوع من المكيدة و المكر بأصنامهم أو خدعة بهم لأغراض أخر دنيوية.
و محصل البيان: أني لست أريد بما آتي به من العمل شيئا من المقاصد التي تحسبونها و ترمونني بها و إنما أدعو ربي وحدة غير مشرك به أحدا و عبادة الإنسان لمن عرفه ربا لنفسه مما لا ينبغي أن يلام عليه أو يتعجب منه.
قوله تعالى: «قل إني لا أملك لكم ضرا و لا رشدا» الذي يفيده سياق الآيات الكريمة أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) يبين فيها بأمر من ربه موقع نفسه و بالنسبة إلى ربه و بالنسبة إلى الناس.
أما موقعه بالنسبة إلى ربه فهو أنه يدعوه و لا يشرك به أحدا و هو قوله: «قل إنما أدعوا ربي و لا أشرك به أحدا».
و أما موقعه بالنسبة إليهم فهو أنه بشر مثلهم لا يملك لهم ضرا و لا رشدا حتى يضرهم بما يريد أن يرشدهم من الخير إلى ما يريد بما عنده من القدرة، و أنه مأمور من الله بدعوتهم أمرا ليس له إلا أن يمتثله فلا مجير يجيره منه و لا ملجأ يلتجىء إليه لو خالف و عصى كما ليس لهم إلا أن يطيعوا الله و رسوله و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا، و سيعلمون إذا رأوا ما يوعدون.
و لازم هذا السياق أن يكون المراد بملك الضر القدرة على إيقاع الضر بهم فيوقعه بهم إذا أراد، و المراد بملك الرشد القدرة على إيصال النفع إليهم بإصابة الواقع أي إني لا أدعي أني أقدر أن أضركم أو أنفعكم، و قيل: المراد بالضر الغي المقابل للرشد تعبيرا باسم المسبب عن السبب.
قوله تعالى: «قل إني لن يجيرني من الله أحد و لن أجد من دونه ملتحدا إلا بلاغا من الله و رسالاته» الإجارة إعطاء الجوار و حكمه حماية المجير للجار و منعه ممن يقصده بسوء، و الظاهر أن الملتحد اسم مكان و هو المكان الذي يعدل و ينحرف إليه للتحرز من الشر، و قيل: المدخل و يتعلق به قوله: «من دونه» و هو كالقيد التوضيحي و الضمير لله و البلاغ التبليغ.
و قوله: «إلا بلاغا» استثناء من قوله: «ملتحدا» و قوله: «من الله» متعلق بمقدر أي كائنا من الله و ليس متعلقا بقوله: «بلاغا» لأنه يتعدى بعن لا بمن و لذا قال بعض من جعله متعلقا ببلاغا: إن «من» بمعنى عن، و المعنى على أي حال إلا تبليغ ما هو تعالى عليه من الأسماء و الصفات.
و قوله: «و رسالاته» قيل: معطوف على «بلاغا» و التقدير إلا بلاغا من الله و إلا رسالاته و قيل: معطوف على لفظ الجلالة و من بمعنى عن، و المعنى إلا بلاغا عن الله و عن رسالاته.
و فيما استثني منه بلاغا قول آخر و هو أنه مفعول «لا أملك» و المعنى لا أملك لكم ضرا و لا رشدا إلا تبليغا من الله و رسالاته، و يبعده الفصل بين المستثنى و المستثنى منه بقوله: «لن يجيرني من الله أحد» إلخ و هو كلام مستأنف.
و معنى الآيتين على ما قدمنا: قل لن يجيرني من الله أحد فيمنعني منه و لن أجد من دونه مكانا ألتجىء إليه إلا تبليغا كائنا منه و رسالاته أي إلا أن أمتثل ما أمرني به من التبليغ منه تعالى ببيان أسمائه و صفاته و إلا رسالاته في شرائع الدين.
قوله تعالى: «و من يعص الله و رسوله فإن له نار جهنم خالدين فيها أبدا» إفراد ضمير «له» باعتبار لفظ «من» كما أن جمع «خالدين» باعتبار معناها.
و عطف الرسول على الله في قوله: «و من يعص الله و رسوله» لكون معصيته معصية لله تعالى إذ ليس له إلا رسالة ربه فالرد عليه فيما أتي به رد على الله سبحانه و طاعته فيما يأمر به طاعة لله قال تعالى: «من يطع الرسول فقد أطاع الله»: النساء 80.
و المراد بالمعصية - كما يشهد به سياق الآيات السابقة - معصية ما أمر به من التوحيد أو التوحيد و ما يتفرع عليه من أصول الدين و فروعه فلا يشمل التهديد و الوعيد بخلود النار إلا الكافرين بأصل الدعوة دون مطلق أهل المعصية المتخلفين عن فروع الدين فالاحتجاج بالآية على تخليد مطلق العصاة في النار في غير محله.
و الظاهر أن قوله: «و من يعص الله» إلى آخر الآية من كلام الله سبحانه لا من تتمة كلام النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «حتى إذا رأوا ما يوعدون فسيعلمون من أضعف ناصرا و أقل عددا» لقوله: «حتى» دلالة على معنى مدخولها غاية له و مدخولها يدل على أنهم كانوا يستضعفون النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ناصريه - و هم المؤمنون - ضعفاء و استقلال عدده بعد عددهم قليلا فالكلام يدل على معنى محذوف هو غايته كقولنا: لا يزالون يستضعفون ناصريك و يستقلون عددهم حتى إذا رأوا ما يوعدون إلخ.
و المراد بما يوعدون نار جهنم لأنها هي الموعودة في الآية، و الآية من كلامه تعالى يخاطب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لو كانت من كلامه و هي مصدرة بقوله تعالى «قل» لكان من حق الكلام أن يقال: حتى إذا رأيتم ما توعدون فستعلمون إلخ.
قوله تعالى: «قل إن أدري أ قريب ما توعدون أم يجعل له ربي أمدا» الأمد الغاية التي ينتهي إليها، و الآية بمنزلة دفع دخل تقتضيه حالهم كأنهم لما سمعوا الوعيد قالوا: متى يكون ذلك فقيل له: «قل إن أدري أ قريب» إلخ.
قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا» إظهار الشيء على الشيء إعانته و تسليطه عليه، و «عالم الغيب» خبر لمبتدإ محذوف، و التقدير هو عالم الغيب، و مفاد الكلمة بإعانة من السياق اختصاص علم الغيب به تعالى مع استيعاب علمه كل غيب، و لذا أضاف الغيب إلى نفسه ثانيا فقال: «على غيبه» بوضع الظاهر موضع المضمر ليفيد الاختصاص و لو قال: فلا يظهر عليه لم يفد ذلك.
و المعنى هو عالم كل غيب علما يختص به فلا يطلع على الغيب و هو مختص به أحدا من الناس فالمفاد سلب كلي و إن أصر بعضهم على كونه سلبا جزئيا محصل معناه لا يظهر على كل غيبه أحدا و يؤيد ما قلنا ظاهر ما سيأتي من الآيات.
قوله تعالى: «إلا من ارتضى من رسول» استثناء من قوله: «أحدا» و «من رسول» بيان لقوله «من ارتضى» فيفيد أن الله تعالى يظهر رسله على ما شاء من الغيب المختص به فالآية إذا انضمت إلى الآيات التي تخص علم الغيب به تعالى كقوله: «و عنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو»: الأنعام: 59، و قوله: «و لله غيب السماوات و الأرض»: النحل: 77، و قوله: «قل لا يعلم من في السماوات و الأرض الغيب إلا الله»: النمل: 65 أفاد ذلك معنى الأصالة و التبعية فهو تعالى يعلم الغيب لذاته و غيره يعلمه بتعليم من الله.
فهذه الآيات نظيرة الآيات المتعرضة للتوفي كقوله: «الله يتوفى الأنفس»: الزمر: 42 الدال على الحصر، و قوله: «قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم»: الم السجدة: 11، و قوله: «حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا»: الأنعام: 61 فالتوفي منسوب إليه تعالى على نحو الأصالة و إلى الملائكة على نحو التبعية لكونهم أسبابا متوسطة مسخرة له تعالى.
قوله تعالى: «فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا - إلى قوله - عددا» ضمير «فإنه» لله تعالى، و ضميرا «يديه» و «خلفه» للرسول، و الراصد المراقب للأمر الحارس له، و الرصد الراصد يطلق على الواحد و الجماعة و هو في الأصل مصدر، و المراد بما بين يدي الرسول ما بينه و بين الناس المرسل إليهم، و بما خلفه ما بينه و بين مصدر الوحي الذي هو الله سبحانه و قد اعتبر في هذا التصوير ما يوهمه معنى الرسالة من امتداد متوهم يأخذ من المرسل - اسم فاعل - و ينتهي إلى المرسل إليه يقطعه الرسول حتى ينتهي إلى المرسل إليه فيؤدي رسالته، و الآية تصف طريق بلوغ الغيب إلى الرسول و هو الرسالات التي توحي إليه كما يشير إلى ذلك قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم».
و المعنى: فإن الله يسلك ما بين الرسول و من أرسل إليه و ما بين الرسول و مصدر الوحي مراقبين حارسين من الملائكة - و من المعلوم أن سلوك الرصد من بين يديه و من خلفه لحفظ الوحي من كل تخليط و تغيير بالزيادة و النقصان يقع فيه من ناحية الشياطين بلا واسطة أو معها.
و قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم» ضمير «ليعلم» لله سبحانه، و ضميرا «قد أبلغوا و «ربهم» لقوله: «من» باعتبار المعنى أو لرسول باعتبار الجنس، و المراد بعلمه تعالى بإبلاغهم رسالات ربهم العلم الفعلي و هو تحقق الإبلاغ في الخارج على حد قوله: «فليعلمن الله الذين صدقوا و ليعلمن الكاذبين»: العنكبوت: 3 و هو كثير الورود في كلامه تعالى.
و الجملة تعليل لسلوك الرصد بين يدي الرسول و من خلفه، و المعنى ليتحقق إبلاغ رسالات ربهم أي لتبلغ الناس رسالاته تعالى على ما هي عليه من غير تغير و تبدل.
و من المحتمل أن يرجع ضميرا «بين يديه و من خلفه» إلى «غيبه» فيكون الرصد الحرس مسلوكين بين يدي الغيب النازل و من خلفه إلى أن يبلغ الرسول، و يضعفه أنه لا يلائم قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم» بالمعنى الذي تقدم لعدم استلزام بلوغ الغيب للرسول سليما من تعرض الشياطين حصول العلم بإبلاغه إلى الناس.
و إلى هذا المعنى يرجع قول بعضهم إن الضميرين يرجعان إلى جبريل حامل الوحي.
و يضعفه مضافا إلى ما مر عدم سبق ذكره.
و قيل: ضمير ليعلم للرسول و ضميرا «قد أبلغوا» و «ربهم» للملائكة الرصد و المعنى يرصد الملائكة الوحي و يحرسونه ليعلم الرسول أن الملائكة قد أبلغوا إليه الوحي كما صدر فتطمئن نفسه أنه سليم من تعرض الشياطين فإن لازم العلم بإبلاغهم إياه العلم ببلوغه.
و يبعده أن ظاهر السياق - و يؤيده سبق ذكر الرسول - أن المراد بالرسالات الرسالات التي حملها الرسول ليبلغها إلى الناس لا ما حملها ملك الوحي فضمير «ربهم» للرسل دون الملائكة، على أن الآية تشير إلى الملائكة بعنوان الرصد و هو غير عنوان الرسالة و شأن الرصد الحفظ و الحراسة دون الرسالة.
و قيل: المعنى ليعلم محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الرسل قبله قد أبلغوا رسالات ربهم، و هو وجه سخيف لا دليل عليه، و أسخف منه ما قيل: إن المعنى ليعلم مكذب الرسل أن الرسل قد أبلغوا رسالات ربهم إليهم.
و قوله: «و أحاط بما لديهم» ضمير الجمع للرسل بناء على ما تقدم من المعنى و الظاهر أن الجملة متممة لمعنى الحراسة المذكورة سابقا فقوله: «من بين يديه» يشير إلى رصد ما بين الرسول و المرسل إليهم، و قوله: «و من خلفه» إلى حفظ ما بينه و مصدر الوحي، و قوله: «و أحاط بما لديهم» يشير إلى ظرف نفس الرسول و الإحاطة إحاطة علمية فالوحي في أمن من تطرق التغيير و التبديل فيما بين مصدر الوحي و الرسول و في نفس الرسول و في ما بين الرسول و المرسل إليهم.
و يمكن أن يكون المراد بما لديهم جميع ما له تعلق ما بالرسل أعم من مسير الوحي أو أنفسهم كما أن قوله: «و أحصى كل شيء عددا» مسوق لإفادة عموم العلم بالأشياء غير أنه العلم بعددها و تميز بعضها من بعض.
فقد تبين مما مر في الآيات الثلاث: أولا: أن اختصاصه تعالى بعلم الغيب على نحو الأصالة بالمعنى الذي أوضحناه فهو تعالى يعلم الغيب بذاته و غيره يعلمه بتعليم منه.
و به يظهر أن ما حكي في كلامه تعالى من إنكارهم العلم بالغيب أريد به نفي الأصالة و الاستقلال دون ما كان بوحي كقوله تعالى: «قل لا أقول لكم عندي خزائن الله و لا أعلم الغيب»: الأنعام: 50، و قوله: «و لو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير»: الأعراف: 188 و قوله: «قل ما كنت بدعا من الرسل و ما أدري ما يفعل بي و لا بكم أن أتبع إلا ما يوحى إلي»: الأحقاف: 9.
و ثانيا: أن عموم قوله: «فلا يظهر على غيبه أحدا» لما خصص بقوله: «إلا من ارتضى من رسول» عاد عاما مخصصا لا يأبى تخصيصا بمخصص آخر كما في مورد الأنبياء فإن الآيات القرآنية تدل على أنهم يوحى إليهم كقوله: «إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح و النبيين من بعده»: النساء: 163 و تدل على أن الوحي من الغيب فالنبي ينال الغيب كما يناله الرسول هذا على تقدير أن يكون المراد بالرسول في الآية ما يقابل النبي و أما لو أريد مطلق من أرسله الله إلى الناس و النبي ممن أرسله الله إليهم كما يشهد به قوله: «و ما أرسلنا من قبلك من رسول و لا نبي» الآية: الحج: 52، و قوله: «و ما أرسلنا في قرية من نبي»: الأعراف: 94 فالنبي خارج من عموم النفي من غير تخصيص جديد.
و كذا في مورد الإمام بالمعنى الذي يستعمله فيه القرآن فإنه تعالى يصفه بالصبر و اليقين كما في قوله: «و جعلنا منهم أئمة يهدون بأمرنا لما صبروا و كانوا بآياتنا يوقنون»: الم السجدة 24 و يعرفهم بانكشاف الغطاء لهم كما في قوله: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75، و قوله: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم»: التكاثر: 6 و قد تقدم كلام في ذلك في بعض المباحث السابقة.
و أما الملائكة فما يحملونه من الوحي السماوي قبل نزوله و كذا ما يشاهدونه من عالم الملكوت شهادة بالنسبة إليهم و إن كان غيبا بالنسبة إلينا.
على أن قوله: «فلا يظهر على غيبه أحدا» إنما يشمل أهل الدنيا ممن يعيش على بسيط الأرض و إلا لانتقض بالأموات المشاهدين لأمور الآخرة و هي من الغيب بنص القرآن فلم يبق تحت عموم النفي حتى فرد واحد إذ ما من أحد إلا و هو مبعوث ذلك يوم مجموع له الناس و ذلك يوم مشهود، و كما أن الأموات نشأتهم غير نشأة الدنيا كذلك نشأة الملائكة غير نشأة المادة.
و ثالثا: أن قوله: «فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه» إلى آخر الآيتين يدل على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه.
أما مصونيته من حين صدوره من مصدره إلى أن ينتهي إلى الرسول فيكفي في الدلالة عليه قوله «من خلفه» و أما مصونيته حين أخذ الرسول إياه و تلقيه من ملك الوحي بحيث يعرفه و لا يغلط في أخذه، و مصونيته في حفظه بحيث يعيه كما أوحي إليه من غير أن ينساه أو يغيره أو يبدله، و مصونيته في تبليغه إلى الناس من تصرف الشيطان فيه فالدليل عليه قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم» حيث يدل على أن الغرض الإلهي من سلوك الرصد أن يعلم إبلاغهم رسالات ربهم أي أن يتحقق في الخارج إبلاغ الوحي إلى الناس، و لازمه بلوغه إياهم و لو لا مصونية الرسول في الجهات الثلاث المذكورة جميعا لم يتم الغرض الإلهي و هو ظاهر، و حيث لم يذكر تعالى للحصول على هذا الغرض طريقا غير سلوك الرصد دل ذلك على أن الوحي محروس بالملائكة و هو عند الرسول كما أنه محروس بهم في طريقه إلى الرسول حتى ينتهي إليه، و يؤكده قوله بعد: «و أحاط بما لديهم».
و أما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: «من بين يديه» على ما تقدم من معناه.
أضف إلى ذلك دلالة قوله: «ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم» بما تقدم من تقريب دلالته.
و يتفرع على هذا البيان أن الرسول مؤيد بالعصمة في أخذ الوحي من ربه و في حفظه و في تبليغه إلى الناس مصون من الخطإ في الجهات الثلاث جميعا لما مر من دلالة الآية على أن ما نزله الله من دينه على الناس من طريق الرسالة بالوحي مصون في جميع مراحله إلى أن ينتهي إلى الناس و من مراحله مرحلة أخذ الرسول للوحي و حفظه له و تبليغه إلى الناس.
و التبليغ يعم القول و الفعل فإن في الفعل تبليغا كما في القول فالرسول معصوم من المعصية باقتراف المحرمات و ترك الواجبات الدينية لأن في ذلك تبليغا لما يناقض الدين فهو معصوم من فعل المعصية كما أنه معصوم من الخطإ في أخذ الوحي و حفظه و تبليغه قولا.
و قد تقدمت الإشارة إلى أن النبوة كالرسالة في دورانها مدار الوحي فالنبي كالرسول في خاصة العصمة، و يتحصل بذلك أن أصحاب الوحي سواء كانوا رسلا أو أنبياء معصومون في أخذ الوحي و في حفظ ما أوحي إليهم و في تبليغه إلى الناس قولا و فعلا.
و رابعا: أن الذي استثني في الآية من الإظهار على الغيب إظهار الرسول على ما يتوقف عليه تحقق إبلاغ رسالته أعم من أن يكون متن الرسالة كالمعارف الاعتقادية و شرائع الدين و القصص و العبر و الحكم و المواعظ أو يكون من آيات الرسالة و المعجزات الدالة على صدق الرسول في دعواه كالذي حكي عن بعض الرسل من الإخبار بالمغيبات كقول صالح لقومه: «تمتعوا في داركم ثلاثة أيام ذلك وعد غير مكذوب»: هود: 65، و قول عيسى لبني إسرائيل: «و أنبئكم بما تأكلون و ما تدخرون في بيوتكم إن في ذلك لآية لكم»: آل عمران: 49، و كذا ما ورد من مواعد الرسل، و ما ورد في الكتاب العزيز من الملاحم كل ذلك من إظهارهم على الغيب.
بحث روائي
عن تفسير العياشي، عن أبي جعفر (عليه السلام): أنه سأله المعتصم عن السارق من أي موضع يجب أن يقطع؟ فقال: إن القطع يجب أن يكون من مفصل أصول الأصابع فتترك الكف. فقال: و ما الحجة في ذلك؟ قال: قول رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السجود على سبعة أجزاء: الوجه و اليدين و الركبتين و الرجلين فإذا قطع من الكرسوع أو المرفق لم يدع له يدا يسجد عليها و قال الله: «و أن المساجد لله» يعني به هذه الأعضاء السبعة التي يسجد عليها «فلا تدعوا مع الله أحدا» و ما كان لله فلا يقطع.
الحديث.
و في الكافي، بإسناده عن حماد بن عيسى عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: و سجد يعني أبا عبد الله (عليه السلام) على ثمانية أعظم: الكفين و الركبتين و إبهامي الرجلين و الجبهة و الأنف، و قال: سبعة منها فرض يسجد عليها و هي التي ذكرها الله في كتابه فقال: «و أن المساجد لله فلا تدعوا مع الله أحدا» و هي الجبهة و الكفان و الركبتان و الإبهامان و وضع الأنف على الأرض سنة.
و عن الخرائج و الجرائح، روى محمد بن الفضل الهاشمي عن الرضا (عليه السلام): أنه نظر إلى ابن هذاب فقال: إن أنا أخبرتك أنك ستبتلى في هذه الأيام بدم ذي رحم لك لكنت مصدقا لي؟ قال: لا فإن الغيب لا يعلمه إلا الله تعالى. قال: أ و ليس أنه يقول: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا - إلا من ارتضى من رسول» فرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عند الله مرتضى، و نحن ورثة ذلك الرسول الذي أطلعه الله على ما يشاء من غيبه فعلمنا ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.
أقول: و الأخبار في هذا الباب فوق حد الإحصاء، و مدلولها أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أخذه بوحي من ربه و أنهم أخذوه بالوراثة منه (صلى الله عليه وآله وسلم).
|