بيان
السورة تأمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقيام الليل و الصلاة فيه ليستعد بذلك لتلقي ثقل ما سيلقى عليه من القول الثقيل و القرآن الموحي إليه، و تأمره أن يصبر على ما يقولون فيه أنه شاعر أو كاهن أو مجنون إلى غير ذلك و يهجرهم هجرا جميلا، و فيها وعيد و إنذار للكفار و تعميم الحكم لسائر المؤمنين، و في آخرها تخفيف ما للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين.
و السورة مكية من عتائق السور النازلة في أول البعثة حتى قيل: إنها ثانية السور النازلة على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ثالثتها.
قوله تعالى: «يا أيها المزمل» بتشديد الزاي و الميم و أصله المتزمل اسم فاعل من التزمل بمعنى التلفف بالثوب لنوم و نحوه، و ظاهره أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد تزمل بثوب للنوم فنزل عليه الوحي و خوطب بالمزمل.
و ليس في الخطاب به تهجين و لا تحسين كما توهمه بعضهم، نعم يمكن أن يستفاد من سياق الآيات أنه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد قوبل في دعوته بالهزء و السخرية و الإيذاء فاغتم في الله فتزمل بثوب لينام دفعا للهم فخوطب بالمزمل و أمر بقيام الليل و الصلاة فيه و الصبر على ما يقولون على حد قوله تعالى: «و استعينوا بالصبر و الصلاة»: البقرة: 153 فأفيد بذلك أن عليه أن يقاوم الكرب العظام و النوائب المرة بالصلاة و الصبر لا بالتزمل و النوم.
و قيل: المراد يا أيها المتزمل بعباءة النبوة أي المتحمل لأثقالها، و لا شاهد عليه من جهة اللفظ.
قوله تعالى: «قم الليل إلا قليلا نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه و رتل القرآن ترتيلا» المراد بقيام الليل القيام فيه إلى الصلاة فالليل مفعول به توسعا كما في قولهم: دخلت الدار، و قيل: معمول «قم» مقدر و «الليل» منصوب على الظرفية و التقدير قم إلى الصلاة في الليل، و قوله: «إلا قليلا» استثناء من الليل.
و قوله: «نصفه أو انقص منه قليلا أو زد عليه» ظاهر السياق أنه بدل من «الليل إلا قليلا» المتعلق به تكليف القيام، و ضميرا «منه» و «عليه» للنصف، و ضمير «نصفه» لليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص من النصف قليلا أو زد على النصف قليلا، و الترديد بين الثلاثة للتخيير فقد خير بين قيام النصف و قيام أقل من النصف بقليل و قيام أكثر منه بقليل.
و قيل: «نصفه» بدل من المستثنى أعني «قليلا» فيكون المعنى قم الليل إلا نصفه أو انقص من النصف قليلا فقم أكثر من النصف بقليل أو زد على النصف فقم أقل من النصف، و تكون جملة البدل رافعا لإبهام المستثنى بالمطابقة و لإبهام المستثنى منه بالالتزام عكس الوجه السابق.
و الوجهان و إن اتحدا في النتيجة غير أن الوجه السابق أسبق إلى الذهن لأن الحاجة إلى رفع الإبهام عن متعلق الحكم أقدم من الحاجة إلى رفع الإبهام عن توابعه و ملحقاته فكون قوله: «نصفه» إلخ بدلا من الليل و لازمه رفع إبهام متعلق التكليف بالمطابقة أسبق إلى الذهن من كونه بدلا من «قليلا».
و قيل: إن نصفه بدل من الليل لكن المراد بالقليل القليل من الليالي دون القليل من أجزاء الليل، و المعنى قم نصف الليل أو انقص منه قليلا أو زد عليه إلا قليلا من الليالي و هي ليالي العذر من مرض أو غلبة نوم أو نحو ذلك، و لا بأس بهذا الوجه لكن الوجه الأول أسبق منه إلى الذهن.
و قوله: «و رتل القرآن ترتيلا» ترتيل القرآن تلاوته بتبيين حروفه على تواليها، و الجملة معطوفة على قوله: «قم الليل» أي قم الليل و اقرأ القرآن بترتيل.
و الظاهر أن المراد بترتيل القرآن ترتيله في الصلاة أو المراد به الصلاة نفسها و قد عبر سبحانه عن الصلاة بنظير هذا التعبير في قوله: «أقم الصلاة لدلوك الشمس إلى غسق الليل و قرآن الفجر إن قرآن الفجر كان مشهودا»: إسراء: 78، و قيل: المراد إيجاب قراءة القرآن دون الصلاة.
قوله تعالى: «إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا» الثقل كيفية جسمانية من خاصته أنه يشق حمل الجسم الثقيل و نقله من مكان إلى مكان و ربما يستعار للمعاني إذا شق على النفس تحملها أو لم تطقها فربما أضيف إلى القول من جهة معناه فعد ثقيلا لتضمنه معنى يشق على النفس إدراكه أو لا تطيق فهمه أو تتحرج من تلقيه كدقائق الأنظار العلمية إذا ألقيت على الأفهام العامة، أو لتضمنه حقائق يصعب التحقق بها أو تكاليف يشق الإتيان بها و المداومة عليها.
و القرآن قول إلهي ثقيل بكلا المعنيين: أما من حيث تلقي معناه فإنه كلام إلهي مأخوذ من ساحة العظمة و الكبرياء لا تتلقاه إلا نفس طاهرة من كل دنس منقطع عن كل سبب إلا الله سبحانه، و كتاب عزيز له ظهر و بطن و تنزيل و تأويل تبيانا لكل شيء، و قد كان ثقله مشهودا من حال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما كان يأخذه من البرحاء و شبه الإغماء على ما وردت به الأخبار المستفيضة.
و أما من حيث التحقق بحقيقة التوحيد و ما يتبعها من الحقائق الاعتقادية فكفى في الإشارة إلى ثقله قوله تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون»: الحشر: 21، و قوله تعالى: «و لو أن قرآنا سيرت به الجبال أو قطعت به الأرض أو كلم به الموتى»: الرعد 31.
و أما من حيث القيام بما يشتمل عليه من أمر الدعوة و إقامة مراسم الدين الحنيف، و إظهاره على الدين كله فيشهد به ما لقي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المصائب و المحن في سبيل الله و الأذى في جنب الله على ما يشهد به الآيات القرآنية الحاكية لما لقيه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المشركين و الكفار و المنافقين و الذين في قلوبهم مرض من أنواع الإيذاء و الهزء و الجفاء.
فقوله: «إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا» المراد بالقول الثقيل القرآن العظيم على ما يسبق إلى الذهن من سياق هذه الآيات النازلة في أول البعثة، و به فسره المفسرون.
و الآية في مقام التعليل للحكم المدلول عليه بقوله: «قم الليل» إلخ فتفيد بمقتضى السياق - و الخطاب خاص بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) - أن أمره بقيام الليل و التوجه فيه إليه تعالى بصلاة الليل تهيئة له و إعداد لكرامة القرب و شرف الحضور و إلقاء قول ثقيل فقيام الليل هي السبيل المؤدية إلى هذا الموقف الكريم و قد عد سبحانه صلاة الليل سبيلا إليه في قوله الآتي: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا».
و قد زاد سبحانه وعدا على ما في هذه الآية في قوله: «و من الليل فتهجد به نافلة لك عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا»: إسراء: 79 و قد تقدم معنى المقام المحمود في تفسير الآية.
و إذ كان من ثقل القرآن ثقله من حيث التحقق بحقائقه و من حيث استجابته فيما يندب إليه من الشرائع و الأحكام فهو ثقيل على الأمة كما هو ثقيل عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) و معنى الآية إنا سنوحي إليك قولا يثقل عليك و على أمتك أما ثقله عليه (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما في التحقق بحقائقه من الصعوبة و لما فيه من محنة الرسالة و ما يتبعها من الأذى في جنب الله و ترك الراحة و الدعة و مجاهدة النفس و الانقطاع إلى الله مضافا إلى ما في تلقيه من مصدر الوحي من الجهد، و أما ثقله على أمته فلأنهم يشاركونه (صلى الله عليه وآله وسلم) في لزوم التحقق بحقائقه و اتباع أوامره و نواهيه و رعاية حدوده كل طائفة منهم على قدر طاقته.
و للقوم في معنى ثقل القرآن أقوال أخر: منها: أنه ثقيل بمعنى أنه عظيم الشأن متين رصين كما يقال: هذا كلام له وزن إذا كان واقعا موقعه.
و منها: أنه ثقيل في الميزان يوم القيامة حقيقة أو مجازا بمعنى كثرة الثواب عليه.
و منها: أنه ثقيل على الكفار و المنافقين بما له من الإعجاز و بما فيه من الوعيد.
و منها: أن ثقله كناية عن بقائه على وجه الدهر لأن الثقيل من شأنه أن يبقى و يثبت في مكانه.
و منها: غير ذلك و الوجوه المذكورة و إن كانت لا بأس بها في نفسها لكن ما تقدم من الوجه هو الظاهر السابق إلى الذهن.
قوله تعالى: «إن ناشئة الليل هي أشد وطأ و أقوم قيلا إن لك في النهار سبحا طويلا» الآية الأولى في مقام التعليل لاختيار الليل وقتا لهذه الصلاة، و الآية الثانية في مقام التعليل لترك النهار و الإعراض عنه كما أن الآية السابقة أعني قوله: «إنا سنلقي عليك قولا ثقيلا» في مقام التعليل لتشريع أصل هذه الصلاة.
فقوله: «إن ناشئة الليل هي أشد وطأ و أقوم قيلا» الناشئة إما مصدر كالعاقبة و العافية بمعنى النشأة و هي الحدوث و التكون، و إما اسم فاعل من النشأة مضاف إلى موصوفه و كيف كان فالمراد بها الليل و إطلاق الحادثة على الليل كإطلاقها على سائر أجزاء الخلقة و ربما قيل: إنها الصلاة في الليل و وطء الأرض وضع القدم عليها، و كونها أشد وطأ كناية عن كونها أثبت قدما لصفاء النفس و عدم تكدرها بالشواغل النهارية و قيل: الوطء مواطاة القلب اللسان و أيد بقراءة «أشد وطأ» و المراد بكونها أقوم قيلا كونها أثبت قولا و أصوب لحضور القلب و هدوء الأصوات.
و المعنى أن حادثة الليل أو الصلاة في الليل هي أثبت قدما - أو أشد في مواطاة القلب اللسان و أثبت قولا و أصوب لما أن الله جعل الليل سكنا يستتبع انقطاع الإنسان عن شواغل المعيشة إلى نفسه و فراغ باله.
و قوله: «إن لك في النهار سبحا طويلا» السبح المشي السريع في الماء و السبح الطويل في النهار كناية عن الغور في مهمات المعاش و أنواع التقلب في قضاء حوائج الحياة.
و المعنى أن لك في النهار مشاغل كثيرة تشتغل بها مستوعبة لا تدع لك فراغا تشتغل فيه بالتوجه التام إلى ربك و الانقطاع إليه بذكره فعليك بالليل و الصلاة فيه.
و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا لنومك و تدبير أمر معاشك و التصرف في حوائجك فتهجد في الليل.
و قيل: المعنى أن لك في النهار فراغا فإن فاتك من الليل شيء أمكنك أن تتداركه في النهار و تقضيه فيه فالآية في معنى قوله: «و هو الذي جعل الليل و النهار خلفة لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا»: الفرقان: 62.
و الذي قدمناه من المعنى أنسب للمقام.
قوله تعالى: «و اذكر اسم ربك و تبتل إليه تبتيلا» الظاهر أنه يصف صلاة الليل فهو كالعطف التفسيري على قوله: «و رتل القرآن ترتيلا» و على هذا فالمراد بذكر اسم الرب تعالى الذكر اللفظي بمواطاة من القلب و كذا المراد بالتبتل التبتل مع اللفظ.
و قيل: الآية تعميم بعد التخصيص و المراد بالذكر دوام ذكره تعالى ليلا و نهارا على أي وجه كان من تسبيح و تحميد و صلاة و قراءة قرآن و غير ذلك، و إنما فسر الذكر بالدوام لأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) لم ينسه تعالى حتى يؤمر بذكره، و المراد الدوام العرفي دون الحقيقي لعدم إمكانه.
انتهى.
و فيه أنه إن أراد بالذكر الذكر اللفظي فعدم نسيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه تعالى لا ينافي أمره بالذكر اللفظي، و إن أراد ما يعم الذكر القلبي فهو ممنوع و لو سلم ففيه أولا أن عدم نسيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) ربه إلى حين الخطاب لا ينافي أمره بذكره بعده و ثانيا أن عده الدوام الحقيقي غير ممكن و حمل الدوام على العرفي وهم ناش عن عدم تحصيل المعنى على ما هو عليه فالله جل ذكره مذكور للإنسان لا يغيب عنه و لا لحظة سواء تنبه عليه الإنسان أو غفل عنه.
و من الممكن أن يعرفه الله نفسه بحيث لا يغفل عنه و لا في حال قال تعالى: «فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون»: حم السجدة: 38 و قال: «يسبحون الليل و النهار لا يفترون»: الأنبياء: 20 و قد تقدم في تفسير الآيتين و آخر سورة الأعراف أن ذلك لا يختص بالملائكة.
و بالجملة قوله: «و اذكر اسم ربك» أمر بذكر اسم من أسمائه أو لفظ الجلالة خاصة و قيل: المراد به البسملة.
و في قوله: «ربك» التفات عن التكلم مع الغير في قوله: «إنا سنلقي» إلى الغيبة و لعل الوجه فيه إيقاظ ذلة العبودية التي هي الرابطة بين العبد و ربه، بذكر صفة الربوبية.
و قوله «و تبتل إليه تبتيلا» فسر التبتل بالانقطاع أي و انقطع إلى الله، و من المروي عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أن التبتل رفع اليد إلى الله و التضرع إليه، و هذا المعنى أنسب بناء على حمل الذكر على الذكر اللفظي كما تقدم.
و «تبتيلا» مفعول مطلق ظاهرا و كان مقتضى الظاهر أن يقال: و تبتل إليه تبتلا فالعدول إلى التبتيل قيل: لتضمين تبتل معنى بتل، و المعنى و قطع نفسك من غيره إليه تقطيعا أو احمل نفسك على رفع اليد إليه و التضرع حملا، و قيل: لمراعاة الفواصل.
قوله تعالى: «رب المشرق و المغرب لا إله إلا هو فاتخذه وكيلا» وصف مقطوع عن الوصفية و التقدير هو رب المشرق و المغرب، و رب المشرق و المغرب في معنى رب العالم كله فإن المشرق و المغرب جهتان نسبيتان تشملان جهات العالم المشهود كلها، و إنما اختصا بالذكر لمناسبة ما تقدم من ذكر الليل و النهار المرتبطين بالشروق و الغروب.
و إنما لم يقتصر في الإشارة إلى ربوبيته تعالى بقوله السابق: «ربك» للإيذان بأنه (صلى الله عليه وآله وسلم) مأمور باتخاذه ربا لأنه ربه و رب العالم كله لا لأنه ربه وحده كما ربما كان الرجل من الوثنيين يتخذ صنما لنفسه فحسب غير ما اتخذه غيره من الأصنام و لو كان اتخاذه (صلى الله عليه وآله وسلم) له تعالى ربا من هذا القبيل أو احتمل ذلك لم تصح دعوته إلى التوحيد.
و ليكون قوله: ربك رب المشرق و المغرب - و هو في معنى رب العالم كله - توطئة و تمهيدا لقوله بعده: «لا إله إلا هو» يعلل به توحيد الألوهية فإن الألوهية و هي المعبودية من فروع الربوبية التي هي الملك و التدبير كما تقدم مرارا فهو تعالى الإله وحده لا إله إلا هو لأنه الرب وحده لا رب إلا هو.
و قوله: «فاتخذه وكيلا» أي في جميع أمورك، و توكيل الوكيل هو إقامة الإنسان غيره مقام نفسه بحيث تقوم إرادته مقام إرادته و عمله مقام عمله فاتخاذه تعالى وكيلا أن يرى الإنسان الأمر كله له و إليه تعالى أما في الأمور الخارجية و الحوادث الكونية فأن لا يرى لنفسه و لا لشيء من الأسباب الظاهرية استقلالا في التأثير فلا مؤثر في الوجود بحقيقة معنى التأثير إلا الله فلا يتعلق بتأثير سبب من الأسباب برضى أو سخط أو سرور أو أسف و غير ذلك بل يتوسل إلى مقاصده و مآربه بما عرفه الله من الأسباب من غير أن يطمئن إلى استقلالها في التأثير و يرجع الظفر بالمطلوب إلى الله ليختار له ما يرتضيه.
و أما الأمور التي لها تعلق بالعمل من العبادات و المعاملات فأن يجعل إرادته تابعة لإرادة ربه التشريعية فيعمل على حسب ما يريده الله تعالى منه فيما شرع من الشريعة.
و من هنا يظهر أن لقوله: «فاتخذه وكيلا» ارتباطا بقوله: «و اذكر اسم ربك» إلخ و ما تقدم عليه من الأوامر التشريعية كما أن له ارتباطا بما تأخر عنه من قوله «و اصبر» و قوله «اهجر» و قوله: «و ذرني».
قوله تعالى: «و اصبر على ما يقولون و اهجرهم هجرا جميلا» معطوف هو و ما بعده على مدخول الفاء في قوله: «فاتخذه وكيلا» فالمعنى اتخذه وكيلا و لازم اتخاذه وكيلا أن تصبر على ما يقولون مما فيه إيذاؤك و الاستهزاء بك و رميك بما ليس فيك كقولهم: افترى على الله، كاهن شاعر، مجنون، أساطير الأولين و غير ذلك مما يقصه القرآن.
و أن تهجرهم هجرا جميلا، و المراد بالهجر الجميل على ما يعطيه السياق أن يعاملهم بحسن الخلق و الدعوة إلى الحق بالمناصحة، و لا يواجه قولهم بما في وسعه من المقابلة بالمثل، و الآية لا تدافع آية القتال فلا وجه لقول من قال: إنها منسوخة بآية القتال.
قوله تعالى: «و ذرني و المكذبين أولي النعمة و مهلهم قليلا» تهديد للكفار يقال: دعني و فلانا و ذرني و فلانا أي لا تحل بيني و بينه حتى أنتقم منه.
و المراد بالمكذبين أولي النعمة الكفار المذكورون في الآية السابقة أو رؤساؤهم المتبوعون، و الجمع بين توصيفهم بالمكذبين و توصيفهم بأولي النعمة للإشارة إلى علة ما يهددهم به من العذاب فإن تكذيبهم بالدعوة الإلهية و هم متنعمون بنعمة ربهم كفران منهم بالنعمة و جزاء الكفران سلب النعمة و تبديلها من النقمة.
و المراد بالقليل الذي يمهلونه الزمان القليل الذي يمكثون في الأرض حتى يرجعوا إلى ربهم فيحاسبهم و يجازيهم قال تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا»: المعارج: 7، و قال: «متاع قليل ثم مأواهم جهنم و بئس المهاد»: آل عمران 197.
و الآية بظاهرها عامة، و قيل: وعيد لهم بوقعة بدر و ليس بظاهر، و في الآية التفات عن الغيبة في «ربك» إلى التكلم وحده في «ذرني» و لعل الوجه فيه تشديد التهديد بنسبة الأمر إليه سبحانه نفسه ثم التفت في قوله: «إن لدينا» إلى التكلم مع الغير للدلالة على العظمة.
قوله تعالى: «إن لدينا أنكالا و جحيما» تعليل لقوله «ذرني» إلخ و الأنكال القيود، قال الراغب يقال: نكل عن الشيء ضعف و عجز، و نكلته قيدته و النكل - بالكسر فالسكون - قيد الدابة و حديدة اللجام لكونهما مانعين، و الجمع الأنكال انتهى، و قال: الجحمة شدة تأجج النار و منه الجحيم، انتهى.
قوله تعالى: «و طعاما ذا غصة و عذابا أليما» قال في المجمع،: الغصة تردد اللقمة في الحلق و لا يسيغها آكلها يقال: غص بريقه يغص غصصا، و في قلبه غصة من كذا و هي كاللدغة التي لا يسوغ معها الطعام و الشراب، انتهى.
و الآيتان تذكران نقم الآخرة التي بدلت منها نعم الدنيا جزاء لكفرانهم بنعم الله.
قوله تعالى: «يوم ترجف الأرض و الجبال و كانت الجبال كثيبا مهيلا» ظرف للعذاب الموعود في الآيتين السابقتين، قال الراغب،: الرجف الاضطراب الشديد يقال: رجفت الأرض و البحر انتهى.
و في المجمع،: الكثيب الرمل المجتمع الكثير، و هلت أهيله هيلا فهو مهيل إذا حرك أسفله فسال أعلاه انتهى، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم كما أرسلنا إلى فرعون رسولا» إنذار للمكذبين أولي النعمة من قومه (صلى الله عليه وآله وسلم) بعد ما أوعد مطلق المكذبين أولي النعمة بما أعد لهم من العذاب يوم القيامة بقياس حالهم إلى حال فرعون المستكبر على الله و رسوله المستذل لرسول الله و من آمن معه من قومه ثم قرع أسماعهم بما انتهى إليه أمر فرعون من أخذ الله له أخذا وبيلا فليتعظوا و ليأخذوا حذرهم.
و في الآية التفات عن الغيبة إلى الخطاب كان المتكلم لما أوعدهم بالعذاب على الغيبة هاج به الوجد على أولئك المكذبين بما يلقون أنفسهم بأيديهم إلى الهلاك الأبدي لسفاهة رأيهم فشافههم بالإنذار ليرتفع عن أنفسهم أي شك و ترديد و تتم عليهم الحجة و لعلهم يتقون، و لذا عقب قياسهم إلى فرعون و قياس النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى موسى (عليه السلام) و الإشارة إلى عقابه أمر فرعون بقوله «فكيف تتقون إن كفرتم يوما» إلخ.
فقوله: «إنا أرسلنا إليكم رسولا شاهدا عليكم» إشارة إلى تصديق رسالة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من قبله تعالى و شهادته على أعمالهم بتحملها في الدنيا و تأديتها يوم القيامة، و قد تقدم البحث عن معنى شهادة الأعمال في الآيات المشتملة عليها مرارا، و في الإشارة إلى شهادته (صلى الله عليه وآله وسلم) نوع زجر لهم عن عصيانه و مخالفته و تكذيبه.
و قوله: «كما أرسلنا إلى فرعون رسولا» هو موسى بن عمران (عليهما السلام).
قوله تعالى: «فعصى فرعون الرسول فأخذناه أخذا وبيلا» أي شديدا ثقيلا.
إشارة إلى عاقبة أمر فرعون في عصيانه موسى (عليه السلام)، و في التعبير عن موسى بالرسول إشارة إلى أن السبب الموجب لأخذ فرعون مخالفته أمر رسالته لا نفس موسى بما أنه موسى، و إذا كان السبب هو مخالفة الرسالة فليحذروا مخالفة رسالة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم).
كما أن وضع الظاهر موضع الضمير في قوله: «فعصى فرعون» للإيماء إلى أن ما كان له من العزة و العلو في الأرض و التبجح بكثرة العدة و سعة المملكة و نفوذ المشية لم يغن عنه شيئا و لم يدفع عنه عذاب الله فما الظن بهؤلاء المكذبين؟ و هم كما قال الله: «جند ما هنالك مهزوم من الأحزاب»: ص 11.
قوله تعالى: «فكيف تتقون إن كفرتم يوما يجعل الولدان شيبا» نسبة الاتقاء إلى اليوم من المجاز العقلي و المراد اتقاء العذاب الموعود فيه، و عليه فيوما مفعول به لتتقون، و قيل: مفعول «تتقون» محذوف و «يوما» ظرف له و التقدير فكيف تتقون العذاب الكائن في يوم، و قيل: المفعول محذوف و «يوما» ظرف للاتقاء و قيل غير ذلك.
و قوله: «يجعل الولدان شيبا» الشيب جمع أشيب مقابل الشاب، و جعل الولدان شيبا كناية عن شدة اليوم لا عن طوله.
قوله تعالى: «السماء منفطر به كان وعده مفعولا» إشارة بعد إشارة إلى شدة اليوم، و الانفطار الانشقاق و تذكير الصفة لكون السماء جائز الوجهين يذكر و يؤنث، و ضمير «به» لليوم، و الباء بمعنى في أو للسببية، و المعنى السماء منشقة في ذلك اليوم أو بسبب ذلك اليوم أي بسبب شدته.
و قوله: «كان وعده مفعولا» استئناف لتسجيل ما تقدم من الوعيد و أنه حتم مقضي و نسبة الوعد إلى ضميره تعالى لعله للإشعار بأن لا يصلح لهذا الوعد إلا الله تعالى فيكفي فيه الضمير من غير حاجة إلى ذكره باسمه.
قوله تعالى: «إن هذه تذكرة فمن شاء اتخذ إلى ربه سبيلا» الإشارة بهذه إلى الآيات السابقة بما تشتمل عليه من القوارع و الزواجر، و التذكرة الموعظة التي يذكر بها ما يعمل عليه.
و قوله: «فمن شاء» مفعول «شاء» محذوف و المعروف في مثل هذا المورد أن يقدر المفعول من جنس الجواب و السياق يلائمه، و التقدير فمن شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا اتخذ إلخ، و قيل: المقدر الاتعاظ، و المراد باتخاذ السبيل إليه اتخاذ السبيل إلى التقرب منه، و السبيل هو الإيمان و الطاعة هذا ما ذكره المفسرون.
و من الممكن أن تكون هذه إشارة إلى ما تقدم في صدر السورة من الآيات النادبة إلى قيام الليل و التهجد فيه، و الآية مسوقة لتوسعة الخطاب و تعميمه لغير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من المؤمنين بعد ما كان خطاب صدر الصورة مختصا به (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الدليل على هذا التعميم قوله: «فمن شاء» إلخ.
و يؤيد ما ذكرنا وقوع هذه الآية «إن هذه تذكرة» إلخ بعينها في سورة الدهر بعد ما أشير إلى صلاة الليل بقوله تعالى: «و سبحه ليلا طويلا» و يستنتج من ذلك أن صلاة الليل سبيل خاصة تهدي العبد إلى ربه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج البزار و الطبراني في الأوسط و أبو نعيم في الدلائل عن جابر قال: اجتمعت قريش في دار الندوة فقالوا: سموا هذا الرجل اسما يصدر الناس عنه فقالوا: كاهن. قالوا ليس بكاهن. قالوا: مجنون. قالوا: ليس بمجنون. قالوا ساحر. قالوا: ليس بساحر. قالوا: يفرق بين الحبيب و حبيبه فتفرق المشركون على ذلك. فبلغ ذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فتزمل في ثيابه و تدثر فيها فأتاه جبريل فقال: يا أيها المزمل يا أيها المدثر.
أقول: آخر الرواية لا يخلو من شيء حيث إن ظاهرها نزول السورتين معا.
على أن القرآن حتى في سورة المدثر يحكي تسميتهم له (صلى الله عليه وآله وسلم) بألقاب السوء كالكاهن و الساحر و المجنون و الشاعر و لم يذكر فيها قولهم: يفرق بين الحبيب و حبيبه.
و فيه، أخرج عبد الله بن أحمد في كتاب الزهد و محمد بن نصر في كتاب الصلاة عن عائشة قالت: كان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قلما ينام من الليل لما قال الله له: «قم الليل إلا قليلا».
و في الكشاف، عن عائشة: أنها سألت: ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا نصفه علي و أنا نائمة و نصفه عليه و هو يصلي. فسئلت: ما كان؟ قالت: و الله ما كان خزا و لا قزا و لا مرعزيا و لا إبريسما و لا صوفا. كان سداه شعرا و لحمته وبرا.
أقول: الرواية مرمية بالوضع فإن السورة من العتائق النازلة بمكة، و عائشة إنما بنى عليها النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالمدينة بعد الهجرة.
و عن جوامع الجامع، روي: أنه قد دخل على خديجة و قد جئث فرقا فقال: زملوني فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبريل: «يا أيها المزمل».
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير قال: لما نزلت «يا أيها المزمل قم الليل إلا قليلا» مكث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على هذه الحال عشر سنين يقوم الليل كما أمره الله و كانت طائفة من أصحابه يقومون معه فأنزل الله بعد عشر سنين «إن ربك يعلم أنك تقوم إلى قوله و أقيموا الصلاة» فخفف الله عنهم بعد عشر سنين.
أقول: و روي نزول آية التخفيف بعد سنة و روي أيضا نزولها بعد ثمانية أشهر، و لم يكن قيام الليل واجبا على غير النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كما أشير إليه بقوله تعالى «إن هذه تذكرة» الآية كما تقدم، و يؤيده ما في الرواية من قوله: «و طائفة من أصحابه».
و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله تعالى: «قم الليل إلا قليلا» قال: أمره الله أن يصلي كل ليلة إلا أن تأتي عليه ليلة من الليالي لا يصلي فيها شيئا.
أقول: الرواية تشير إلى أحد الوجوه في الآية و في المجمع،: و قيل: إن نصفه بدل من القليل فيكون بيانا للمستثنى، و يؤيد هذا القول ما روي عن الصادق (عليه السلام) قال: القليل النصف أو انقص من القليل قليلا أو زد على القليل قليلا.
و في الدر المنثور، أخرج العسكري في المواعظ عن علي (عليه السلام) أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) سئل عن قول الله: «و رتل القرآن ترتيلا» قال: بينه تبيينا، و لا تنثره نثر الدقل، و لا تهذه هذ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حركوا به القلوب، و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.
أقول: و روي هذا المعنى في أصول الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سليمان عن الصادق عن علي (عليه السلام) و لفظ بينه تبيينا و لا تهذه هذ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن أفرغوا قلوبكم القاسية و لا يكن هم أحدكم آخر السورة.
و فيه، أخرج ابن أبي شيبة عن طاووس قال: سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أي الناس أحسن قراءة قال الذي إذا سمعته يقرأ رأيت أنه يخشى الله.
و في أصول الكافي، بإسناده عن علي بن أبي حمزة قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن القرآن لا يقرأ هذرمة و لكن يرتل ترتيلا فإذا مررت بآية فيها ذكر الجنة فقف عندها و اسأل الله عز و جل الجنة، و إذا مررت بآية فيها ذكر النار فقف عندها و تعوذ بالله من النار.
و في المجمع، في معنى الترتيل عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: هو أن تتمكث فيه و تحسن به صوتك.
و فيه، روي عن أم سلمة أنها قالت: كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقطع قراءته آية آية.
و فيه، عن أنس قال: كان (صلى الله عليه وآله وسلم) يمد صوته مدا.
و فيه،: سأل الحارث بن هشام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟ فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس و هو أشد علي فيفصم عني و قد وعيت ما قال و أحيانا يتمثل الملك رجلا فأعي ما يقول. قالت عائشة: إنه كان ليوحي إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو على راحلته فتضرب بجرانها. قالت: و لقد رأيته ينزل عليه في اليوم الشديد البرد فيفصم عنه و إن جبينه ليرفض عرقا.
و عن تفسير العياشي، بإسناده عن عيسى بن عبيد عن أبيه عن جده عن علي (عليه السلام) قال: كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنما يؤخذ من أمر رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بآخره. و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة نسخت ما قبلها و لم ينسخها شيء لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء و ثقل عليها الوحي حتى وقفت و تدلى بطنها حتى رأيت سرتها تكاد تمس الأرض.
أقول: إن صحت الرواية كان ظهور أثر ثقل الوحي على الناقة أو البغلة من قبيل تجسم المعاني و كثيرا ما يوجد مثله فيما نقل من المعجزات و كرامات الأولياء، و أما اتصاف الوحي و هو كلام بالثقل المادي فغير معقول.
و في التهذيب، بإسناده عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام) في قول الله عز و جل: «إن ناشئة الليل هي أشد وطأ و أقوم قيلا» قال: يعني بقوله: «و أقوم قيلا» قيام الرجل عن فراشه يريد به الله عز و جل لا يريد به غيره:. أقول: و رواه أيضا بسندين آخرين في التهذيب و العلل عن هشام عنه (عليه السلام).
و في المجمع،: في قوله تعالى: «إن ناشئة الليل» الآية: و المروي عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أنهما قالا: هي القيام في آخر الليل.
و في الدر المنثور، أخرج ابن المنذر عن حسين بن علي أنه رئي يصلي بين المغرب و العشاء فقيل له في ذلك؟ فقال: إنهما من الناشئة.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و تبتل إليه تبتيلا»: و روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام) أن التبتل هذا رفع اليدين في الصلاة.
و في رواية أبي بصير قال: هو رفع يدك إلى الله و تضرعك.
أقول: و ينطبق على قنوت الصلاة، و في رواية هو رفع اليدين و تحريك السبابتين، و في رواية الإيماء بالإصبع و في رواية الدعاء بإصبع واحدة يشير بها.
و فيه،: في قوله تعالى: «و طعاما ذا غصة» الآية: عن عبد الله بن عمر: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سمع قارئا يقرأ هذا فصعق.
و في تفسير القمي،: في قوله: «و كانت الجبال كثيبا مهيلا» قال: مثل الرمل ينحدر.
|