بيان
في الآيات تنزيه للقرآن الكريم عما رموه به، و تسجيل أنه إحدى الآيات الإلهية الكبرى فيه إنذار البشر كافة و في اتباعه فك نفوسهم عن رهانة أعمالهم التي تسوقهم إلى سقر.
قوله تعالى: «كلا» ردع و إنكار لما تقدم قال في الكشاف: إنكار بعد أن جعلها ذكرى أن يكون لهم ذكرى لأنهم لا يتذكرون، أو ردع لمن ينكر أن يكون إحدى الكبر نذيرا.
انتهى.
فعلى الأول إنكار لما تقدم و على الثاني ردع لما سيأتي، و هناك وجه آخر سيوافيك.
قوله تعالى: «و القمر و الليل إذ أدبر و الصبح إذا أسفر» قسم بعد قسم، و إدبار الليل مقابل إقباله، و إسفار الصبح انجلاؤه و انكشافه.
قوله تعالى: «إنها لإحدى الكبر» ذكروا أن الضمير لسقر، و الكبر جمع كبرى، و المراد بكون سقر إحدى الكبر أنها إحدى الدواهي الكبر لا يعادلها غيرها من الدواهي كما يقال: هو أحد الرجال أي لا نظير له بينهم، و الجملة جواب للقسم.
و المعنى أقسم بكذا و كذا أن سقر لإحدى الدواهي الكبر - أكبرها - إنذارا للبشر.
و لا يبعد أن يكون «كلا» ردعا لقوله في القرآن: «إن هذا إلا سحر يؤثر إن هذا إلا قول البشر» و يكون ضمير «أنها» للقرآن بما أنه آيات أو من باب مطابقة اسم إن لخبرها.
و المعنى: ليس كما قال أقسم بكذا و كذا أن القرآن - آياته - لإحدى الآيات الإلهية الكبرى إنذارا للبشر.
و قيل: الجملة «أنها لإحدى الكبر» تعليل للردع، و القسم معترض للتأكيد لا جواب له أو جوابه مقدر يدل عليه كلا.
قوله تعالى: «نذيرا للبشر» مصدر بمعنى الإنذار منصوب للتمييز، و قيل: حال مما يفهم من سياق قوله: «إنها لإحدى الكبر» أي كبرت و عظمت حالكونها إنذارا أي منذرة.
و قيل فيه وجوه أخر لا يعبأ بها كقول بعضهم: أنه صفة للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و الآية متصلة بأول السورة و التقدير قم نذيرا للبشر فأنذر، و قول بعضهم: صفة له تعالى.
قوله تعالى: «لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» تعميم للإنذار و «لمن شاء» بدل من البشر، و «أن يتقدم» إلخ مفعول «شاء» و المراد بالتقدم و التأخر: الاتباع للحق و مصداقه الإيمان و الطاعة، و عدم الاتباع و مصداقه الكفر و المعصية.
و المعنى: نذيرا لمن اتبع منكم الحق و لمن لم يتبع أي لجميعكم من غير استثناء.
و قيل: «أن يتقدم» في موضع الرفع على الابتداء و «لمن شاء» خبره كقولك لمن توضأ أن يصلي، و المعنى مطلق لمن شاء التقدم أو التأخر أن يتقدم أو يتأخر، و هو كقوله.
«فمن شاء فليؤمن و من شاء فليكفر» و المراد بالتقدم و التأخر السبق إلى الخير و التخلف عنه انتهى.
قوله تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة» الباء بمعنى مع أو للسببية أو للمقابلة و «رهينة» بمعنى الرهن على ما ذكره الزمخشري قال في الكشاف،: رهينة ليست بتأنيث رهين في قوله: «كل امرىء بما كسب رهين» لتأنيث النفس لأنه لو قصدت لقيل: رهين لأن فعيلا بمعنى مفعول يستوي فيه المذكر و المؤنث، و إنما هي اسم بمعنى الرهن كالشتيمة بمعنى الشتم كأنه قيل: كل نفس بما كسبت رهن.
انتهى.
و كان العناية في عد كل نفس رهينة أن لله عليها حق العبودية بالإيمان و العمل الصالح فهي رهينة محفوظة محبوسة عند الله حتى توفي دينه و تؤدي حقه تعالى فإن آمنت و صلحت فكت و أطلقت، و إن كفرت و أجرمت و ماتت على ذلك كانت رهينة محبوسة دائما، و هذا غير كونها رهين عملها ملازمة لما اكتسبت من خير و شر كما تقدم في قوله تعالى: «كل امرىء بما كسب رهين»: الطور 21.
و الآية في مقام بيان وجه التعميم المستفاد من قوله: «نذيرا للبشر لمن شاء منكم أن يتقدم أو يتأخر» فإن كون النفس الإنسانية رهينة بما كسبت يوجب على كل نفس أن تتقي النار التي ستحبس فيها إن أجرمت و لم تتبع الحق.
قوله تعالى: «إلا أصحاب اليمين» هم الذين يؤتون كتابهم بأيمانهم يوم الحساب و هم أصحاب العقائد الحقة و الأعمال الصالحة من متوسطي المؤمنين، و قد تكرر ذكرهم و تسميتهم بأصحاب اليمين في مواضع من كلامه تعالى، و على هذا فالاستثناء متصل.
و المتحصل من مجموع المستثنى منه و المستثنى انقسام النفوس ذوات الكسب إلى نفوس رهينة بما كسبت و هي نفوس المجرمين، و نفوس مفكوكة من الرهن مطلقة و هي نفوس أصحاب اليمين، و أما السابقون المقربون و هم الذين ذكرهم الله في مواضع من كلامه و عدهم ثالثة الطائفتين و غيرهما كما في قوله تعالى: «و كنتم أزواجا ثلاثة - إلى أن قال - و السابقون السابقون أولئك المقربون»: الواقعة: 11، فهؤلاء قد استقروا في مستقر العبودية لا يملكون نفسا و لا عمل نفس فنفوسهم لله و كذلك أعمالهم فلا يحضرون و لا يحاسبون قال تعالى: «فإنهم لمحضرون إلا عباد الله المخلصين»: الصافات: 128، فهم خارجون عن المقسم رأسا.
و عن بعضهم تفسير أصحاب اليمين بالملائكة، و عن بعضهم التفسير بأطفال المسلمين و عن بعضهم أنهم الذين كانوا عن يمين آدم يوم الميثاق، و عن بعضهم أنهم الذين سبقت لهم من الله الحسنى، و هي وجوه ضعيفة غير خفية الضعف.
قوله تعالى: «في جنات يتساءلون عن المجرمين ما سلككم في سقر» «في جنات» خبر لمبتدإ محذوف و تنوين جنات للتعظيم، و التقدير هم في جنات لا يدرك وصفها، و يمكن أن يكون حالا من أصحاب اليمين.
و قوله: «يتساءلون عن المجرمين» أي يتساءل جمعهم عن جمع المجرمين.
و قوله: «ما سلككم في سقر» أي ما أدخلكم في سقر بيان لتساؤلهم من بيان الجملة بالجملة، أو بتقدير القول أي قائلين ما سلككم في سقر.
قوله تعالى: «قالوا لم نك من المصلين» ضمير الجمع للمجرمين، و المراد بالصلاة التوجه العبادي الخاص إلى الله سبحانه فلا يضره اختلاف الصلاة كما و كيفا باختلاف الشرائع السماوية الحقة.
قوله تعالى: «و لم نك نطعم المسكين» المراد بإطعام المسكين الإنفاق على فقراء المجتمع بما يقوم به صلبهم و يرتفع به حاجتهم، و إطعام المسكين إشارة إلى حق الناس عملا كما أن الصلاة إشارة إلى حق الله كذلك.
قوله تعالى: «و كنا نخوض مع الخائضين» المراد بالخوض الاشتغال بالباطل قولا أو فعلا و الغور فيه.
قوله تعالى: «و كنا نكذب بيوم الدين» و هو يوم الجزاء فهذه خصال أربع من طبع المجرم أن يبتلي بها كلا أو بعضا، و لما كان المجيب عن التساؤل جمع المجرمين صحت نسبة الجميع إلى الجميع و إن كان بعضهم مبتلى ببعضها دون بعض.
قوله تعالى: «حتى أتانا اليقين» قيد للتكذيب، و فسروا اليقين بالموت لكونه مما لا شك فيه فالمعنى و كنا في الدنيا نكذب بيوم الجزاء حتى أتانا الموت فانقطعت به الحياة الدنيا أي كنا نكذب به ما دامت الحياة.
و قيل: المراد به اليقين الحاصل بحقية يوم الجزاء بمشاهدة آيات الآخرة و معاينة الحياة البرزخية حين الموت و بعده، و هو معنى حسن.
قوله تعالى: «فما تنفعهم شفاعة الشافعين» تقدم في بحث الشفاعة أن في الآية دلالة على أن هناك شافعين يشفعون فيشفعون لكن لا تنفع هؤلاء شفاعتهم لأنهم محرومون من نيلها.
و قد أوردنا جملة من أخبار الشفاعة في الجزء الأول من الكتاب.
|