بيان
تصف السورة القيامة الكبرى التي فيها بعث الناس و حسابهم و جزاؤهم فتذكر أولا شيئا من أهوالها مما يقرب من الإنسان و الأرض التي يسكنها فتذكر تقليبها للأوضاع و الأحوال بالخفض و الرفع و ارتجاج الأرض و انبثاث الجبال و تقسم الناس إلى ثلاثة أزواج إجمالا ثم تذكر ما ينتهي إليه حال كل من الأزواج السابقين و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال.
ثم تحتج على أصحاب الشمال المنكرين لربوبيته و للبعث المكذبين بالقرآن الداعي إلى التوحيد و الإيمان بالبعث.
ثم تختم الكلام بذكر الاحتضار بنزول الموت و انقسام الناس إلى ثلاثة أزواج.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «إذا وقعت الواقعة» وقوع الحادثة هو حدوثها، و الواقعة صفة توصف بها كل حادثة، و المراد بها هاهنا واقعة القيامة و قد أطلقت إطلاق الأعلام كأنها لا تحتاج إلى موصوف مقدر و لذا قيل: إنها من أسماء القيامة في القرآن كالحاقة و القارعة و الغاشية.
و الجملة «إذا وقعت الواقعة» مضمنة معنى الشرط و لم يذكر جزاء الشرط إعظاما له و تفخيما لأمره و هو على أي حال أمر مفهوم مما ستصفه السورة من حال الناس يوم القيامة، و التقدير نحو من قولنا: فاز المؤمنون و خسر الكافرون.
قوله تعالى: «ليس لوقعتها كاذبة» قال في المجمع،: الكاذبة مصدر كالعافية و العاقبة.
انتهى.
و عليه فالمعنى: ليس في وقعتها و تحققها كذب، و قيل: كاذبة صفة محذوفة الموصوف و التقدير: ليس لوقعتها قضية كاذبة.
قوله تعالى: «خافضة رافعة» خبران مبتدؤهما الضمير الراجع إلى الواقعة، و الخفض خلاف الرفع و كونها خافضة رافعة كناية عن تقليبها نظام الدنيا المشهود فتظهر السرائر و هي محجوبة اليوم و تحجب و تستر آثار الأسباب و روابطها و هي ظاهرة اليوم و تذل الأعزة من أهل الكفر و الفسق و تعز المتقين.
قوله تعالى: «إذا رجت الأرض رجا» الرج تحريك الشيء تحريكا شديدا إشارة إلى زلزلة الساعة التي يعظمها الله سبحانه في قوله: «إن زلزلة الساعة شيء عظيم»: الحج: 1، و قد عظمها في هذه الآية حيث عبر عنها برج الأرض ثم أكد شدتها بتنكير قوله: «رجا» أي رجا لا يوصف شدته.
و الجملة بدل أو بيان لقوله: «إذا وقعت الواقعة».
قوله تعالى: «و بست الجبال بسا فكانت هباء منبثا» عطف على رجت و البس الفت و هو عود الجسم بدق و نحوه أجزاء صغارا متلاشية كالدقيق، و قيل: البس هو التسيير فهو في معنى قوله: «و سيرت الجبال»: النبأ: 20.
و قوله: «فكانت هباء منبثا» الهباء قيل: هو الغبار و قيل: هو الذرة من الغبار الظاهر في شعاع الشمس الداخل من كوة، و الانبثات التفرق، و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «و كنتم أزواجا ثلاثة» الزوج بمعنى الصنف و الخطاب لعامة البشر.
قوله تعالى: «فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة» متفرع على ما قبلها تفرع البيان على المبين، فهذه الآية و الآيتان بعدها بيان للأزواج الثلاثة.
و الميمنة من اليمن مقابل الشؤم، فأصحاب الميمنة أصحاب السعادة و اليمن مقابل أصحاب المشأمة أصحاب الشقاء و الشؤم، و ما قيل: إن المراد بالميمنة اليمين، أي ناحية اليمين لأنهم يؤتون كتابهم بيمينهم و غيرهم يؤتونه بشمالهم يرده مقابلة أصحاب الميمنة بأصحاب المشأمة، و لو كان كما قيل لقيل أصحاب الشمال و هو ظاهر.
و ما في قوله: «ما أصحاب الميمنة» استفهامية و مبتدأ خبره «أصحاب الميمنة»، و المجموع خبر لقوله: «فأصحاب الميمنة» و في الاستفهام إعظام لأمرهم و تفخيم لشأنهم.
قوله تعالى: «و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة» المشأمة مصدر كالشؤم مقابل اليمين، و الميمنة و المشأمة السعادة و الشقاء.
قوله تعالى: «و السابقون السابقون» الذي يصلح أن يفسر به السابقون الأول قوله تعالى: «فمنهم ظالم لنفسه و منهم مقتصد و منهم سابق بالخيرات بإذن الله»: فاطر: 32، و قوله: «و لكل وجهة هو موليها فاستبقوا الخيرات»: البقرة: 148، و قوله: «أولئك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون»: المؤمنون: 61.
فالمراد بالسابقين - الأول - في الآية السابقون بالخيرات من الأعمال، و إذا سبقوا بالخيرات سبقوا إلى المغفرة و الرحمة التي بإزائها كما قال تعالى: «سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة»: الحديد: 21، فالسابقون بالخيرات هم السابقون بالرحمة و هو قوله: «و السابقون السابقون».
و قيل: المراد بالسابقون الثاني هو الأول على حد قوله: أنا أبو النجم و شعري شعري.
و قوله: «و السابقون السابقون» مبتدأ و خبر، و قيل: الأول مبتدأ و الثاني تأكيد، و الخبر قوله: «أولئك المقربون».
و لهم في تفسير السابقين أقوال أخر فقيل: هم المسارعون إلى كل ما دعا الله إليه، و قيل: هم الذين سبقوا إلى الإيمان و الطاعة من غير توان، و قيل: هم الأنبياء (عليهم السلام) لأنهم مقدموا أهل الأديان، و قيل: هم مؤمن آل فرعون و حبيب النجار المذكور في سورة يس و علي (عليه السلام) السابق إلى الإيمان بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو أفضلهم و قيل: هم السابقون إلى الهجرة، و قيل: هم السابقون إلى الصلوات الخمس، و قيل: هم الذين صلوا إلى القبلتين، و قيل: هم السابقون إلى الجهاد، و قيل غير ذلك.
و القولان الأولان راجعان إلى ما تقدم من المعنى، و الثالث و الرابع ينبغي أن يحملا على التمثيل، و الباقي كما ترى إلا أن يحمل على نحو من التمثيل.
بحث روائي
في الخصال، عن الزهري قال: سمعت علي بن الحسين (عليهما السلام) يقول: من لم يتعز بعزاء الله تقطعت نفسه على الدنيا حسرات، و الله ما الدنيا و الآخرة إلا ككفتي ميزان فأيهما رجح ذهب بالآخر ثم تلا قوله عز و جل: «إذا وقعت الواقعة» يعني القيامة «ليس لوقعتها كاذبة خافضة» خفضت و الله بأعداء الله في النار «رافعة» رفعت و الله أولياء الله إلى الجنة.
و في تفسير القمي،: «إذا وقعت الواقعة ليس لوقعتها كاذبة» قال: القيامة هي حق، و قوله: «خافضة» قال: بأعداء الله «رافعة» لأولياء الله «إذا رجت الأرض رجا» قال: يدق بعضها على بعض «و بست الجبال بسا» قال: قلعت الجبال قلعا «فكانت هباء منبثا» قال: الهباء الذي في الكوة من شعاع الشمس. و قوله: «و كنتم أزواجا ثلاثة» قال: يوم القيامة «فأصحاب الميمنة ما أصحاب الميمنة - و أصحاب المشأمة ما أصحاب المشأمة - و السابقون السابقون» الذين سبقوا إلى الجنة.
أقول: قوله: الذين سبقوا إلى الجنة تفسير للسابقون الثاني.
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير و ابن المنذر عن علي بن أبي طالب قال: الهباء المنبث رهج 1 الذرات و الهباء المنثور غبار الشمس الذي تراه في شعاع الكوة.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: في قوله: «و السابقون السابقون» قال: نزلت في حزقيل مؤمن آل فرعون، و حبيب النجار الذي ذكر في يس و علي بن أبي طالب، كل رجل منهم سابق أمته و علي أفضلهم سبقا.
و في المجمع، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق أمة موسى و هو مؤمن آل فرعون، و سابق أمة عيسى و هو حبيب و السابق في أمة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو علي بن أبي طالب (عليه السلام):. أقول: و روي هذا المعنى في روضة الواعظين، عن الصادق (عليه السلام).
و في أمالي الشيخ، بإسناده إلى ابن عباس قال: سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن قول الله عز و جل: «و السابقون السابقون - أولئك المقربون في جنات النعيم» فقال: قال لي جبرئيل: ذلك علي و شيعته، هم السابقون إلى الجنة المقربون من الله بكرامته لهم.
و في كمال الدين، بإسناده إلى خيثمة الجعفي عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: و نحن السابقون السابقون و نحن الآخرون.
و في العيون، في باب ما جاء عن الرضا (عليه السلام) من الأخبار المجموعة بإسناده عن علي (عليه السلام) قال: «و السابقون السابقون أولئك المقربون» في نزلت.
و في المجمع،: في الآية: و قيل: إلى الصلوات الخمس:. عن علي (عليه السلام).
أقول: الوجه حمل جميع هذه الأخبار على التمثيل كما تقدم.
|