بيان
غرض السورة حث المؤمنين و ترغيبهم في الإنفاق في سبيل الله كما يشعر به تأكيد الأمر به مرة بعد مرة في خلال آياتها «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» الآية، «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا» الآية، «إن المصدقين و المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا» و قد سمت إنفاقهم ذلك إقراضا منه لله عز اسمه فالله سبحانه خير مطلوب و هو لا يخلف الميعاد و قد وعدهم إن أقرضوه أن يضاعفه لهم و أن يؤتيهم أجرا كريما كثيرا.
و قد أشار إلى أن هذا الإنفاق من التقوى و الإيمان بالرسول و أنه يستتبع مغفرة الذنوب و إتيان كفلين من الرحمة و لزوم النور بل و اللحوق بالصديقين و الشهداء عند الله سبحانه.
و في خلال آياتها معارف راجعة إلى المبدأ و المعاد، و دعوة إلى التقوى و إخلاص الإيمان و الزهد و موعظة.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها و قد ادعى بعضهم إجماع المفسرين على ذلك.
و لقد افتتحت السورة بتسبيحه و تنزيهه تعالى بعده من أسمائه الحسنى لما في غرض السورة و هو الحث على الإنفاق من شائبة توهم الحاجة و النقص في ناحيته و نظيرتها في ذلك جميع السور المفتتحة بالتسبيح و هي سور الحشر و الصف و الجمعة و التغابن المصدرة بسبح أو يسبح.
قوله تعالى: «سبح لله ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم» التسبيح التنزيه و هو نفي ما يستدعي نقصا أو حاجة مما لا يليق بساحة كماله تعالى، و ما موصولة و المراد بها ما يعم العقلاء مما في السماوات و الأرض كالملائكة و الثقلين و غير العقلاء كالجمادات و الدليل عليه ما ذكر بعد من صفاته المتعلقة بالعقلاء كالإحياء و العلم بذات الصدور.
فالمعنى: نزه الله سبحانه ما في السماوات و الأرض من شيء و هو جميع العالم.
و المراد بتسبيحها حقيقة معنى التسبيح دون المعنى المجازي الذي هو دلالة وجود كل موجود في السماوات و الأرض على أن له موجدا منزها من كل نقص متصفا بكل كمال، و دون عموم المجاز و هو دلالة كل موجود على تنزهه تعالى إما بلسان القال كالعقلاء و إما بلسان الحال كغير العقلاء من الموجودات و ذلك لقوله تعالى: «و إن من شيء إلا يسبح بحمده و لكن لا تفقهون تسبيحهم»: إسراء: 44، حيث استدرك أنهم لا يفقهون تسبيحهم و لو كان المراد بتسبيحهم دلالة وجودهم على وجوده و هي قيام الحجة على الناس بوجودهم أو كان المراد تسبيحهم و تحميدهم بلسان الحال و ذلك مما يفقه الناس لم يكن للاستدراك معنى.
فتسبيح ما في السماوات و الأرض تسبيح و نطق بالتنزيه بحقيقة معنى الكلمة و إن كنا لا نفقهه، قال تعالى: «قالوا أنطقنا الله الذي أنطق كل شيء»: حم السجدة: 21.
و قوله: «و هو العزيز الحكيم» أي المنيع جانبه يغلب و لا يغلب، المتقن فعله لا يعرض على فعله ما يفسده عليه و لا يتعلق به اعتراض معترض.
قوله تعالى: «له ملك السماوات و الأرض يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير» الكلام موضوع على الحصر فهو المليك في السماوات و الأرض يحكم ما يشاء لأنه الموجد لكل شيء فما في السماوات و الأرض يقوم به وجوده و آثار وجوده فلا حكم إلا له فلا ملك و لا سلطنة إلا له.
و قوله: «يحيي و يميت» إشارة إلى اسمية المحيي و المميت، و إطلاق «يحيي و يميت» يفيد شمولهما لكل إحياء و إماتة كإيجاده الملائكة أحياء من غير سبق موت، و إحيائه الجنين في بطن أمه و إحيائه الموتى في البعث و إيجاده الجماد ميتا من غير سبق حياة و إماتته الإنسان في الدنيا و إماتته ثانيا في البرزخ على ما يشير إليه قوله: «ربنا أمتنا اثنتين و أحييتنا اثنتين»: المؤمن: 11 و في «يحيي و يميت» دلالة على الاستمرار.
و قوله: «و هو على كل شيء قدير» فيه إشارة إلى صفة قدرته و أنها مطلقة غير مقيدة بشيء دون شيء، و في تذييل الآية بالقدرة على كل شيء مناسبة مع ما تقدمها من الإحياء و الإماتة لما ربما يتوهمه المتوهم أن لا قدرة على إحياء الموتى و لا عين منهم و لا أثر.
قوله تعالى: «هو الأول و الآخر و الظاهر و الباطن و هو بكل شيء عليم» لما كان تعالى قديرا على كل شيء مفروض كان محيطا بقدرته على كل شيء من كل جهة فكل ما فرض أولا فهو قبله فهو الأول دون الشيء المفروض أولا، و كل ما فرض آخرا فهو بعده لإحاطة قدرته به من كل جهة فهو الآخر دون الشيء المفروض آخرا، و كل شيء فرض ظاهرا فهو أظهر منه لإحاطة قدرته به من فوقه فهو الظاهر دون المفروض ظاهرا، و كل شيء فرض أنه باطن فهو تعالى أبطن منه لإحاطته به من ورائه فهو الباطن دون المفروض باطنا فهو تعالى الأول و الآخر و الظاهر و الباطن على الإطلاق و ما في غيره تعالى من هذه الصفات فهي إضافية نسبية.
و ليست أوليته تعالى و لا آخريته و لا ظهوره و لا بطونه زمانية و لا مكانية بمعنى مظروفيته لهما و إلا لم يتقدمهما و لا تنزه عنهما سبحانه بل هو محيط بالأشياء على أي نحو فرضت و كيفما تصورت.
فبان مما تقدم أن هذه الأسماء الأربعة الأول و الآخر و الظاهر و الباطن من فروع اسمه المحيط و هو فرع إطلاق القدرة فقدرته محيطة بكل شيء و يمكن تفريع الأسماء الأربعة على إحاطة وجوده بكل شيء فإنه تعالى ثابت قبل ثبوت كل شيء و ثابت بعد فناء كل شيء و أقرب من كل شيء ظاهر و أبطن من الأوهام و العقول من كل شيء خفي باطن.
و كذا للأسماء الأربعة نوع تفرع على علمه تعالى و يناسبه تذييل الآية بقوله: «و هو بكل شيء عليم».
و فسر بعضهم الأسماء الأربعة بأنه الأول قبل كل شيء و الآخر بعد هلاك كل شيء الظاهر بالأدلة الدالة عليه و الباطن غير مدرك بالحواس.
و قيل: الأول قبل كل شيء بلا ابتداء، و الآخر بعد كل شيء بلا انتهاء، و الظاهر الغالب العالي على كل شيء فكل شيء دونه، و الباطن العالم بكل شيء فلا أحد أعلم منه.
و قيل: الأول بلا ابتداء و الآخر بلا انتهاء و الظاهر بلا اقتراب و الباطن بلا احتجاب.
و هناك أقوال أخر في معناها غير جيدة أغمضنا عن إيرادها.
قوله تعالى: «هو الذي خلق السماوات و الأرض في ستة أيام» تقدم تفسيره.
قوله تعالى: «ثم استوى على العرش يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها» تقدم تفصيل القول في معنى العرش في سورة الأعراف آية: 54.
و تقدم أن الاستواء على العرش كناية عن الأخذ في تدبير الملك و لذا عقبه بالعلم بجزئيات الأحوال لأن العلم من لوازم التدبير.
و قوله: «يعلم ما يلج في الأرض و ما يخرج منها و ما ينزل من السماء و ما يعرج فيها» الولوج - كما قال الراغب - الدخول في مضيق، و العروج ذهاب في صعود، و المعنى: يعلم ما يدخل و ينفذ في الأرض كماء المطر و البذور و غيرهما و ما يخرج من الأرض كأنواع النبات و الحيوان و الماء و ما ينزل من السماء كالأمطار و الأشعة و الملائكة و ما يعرج فيها و يصعد كالأبخرة و الملائكة و أعمال العباد.
قوله تعالى: «و هو معكم أينما كنتم» لإحاطته بكم فلا تغيبون عنه أينما كنتم و في أي زمان عشتم و في أي حال فرضتم فذكر عموم الأمكنة «أينما كنتم» لأن الأعرف في مفارقة شيء شيئا و غيبته عنه أن يتوسل إلى ذلك بتغيير المكان و إلا فنسبته تعالى إلى الأمكنة و الأزمنة و الأحوال سواء.
و قيل: المعية مجاز مرسل عن الإحاطة العلمية.
قوله تعالى: «و الله بما تعملون بصير» كالفرع المترتب على ما قبله من كونه معهم أينما كانوا و كونه بكل شيء عليما فإن لازم حضوره عندهم من دون مفارقة ما و احتجاب و هو عليم أن يكون بصيرا بأعمالهم يبصر ظاهر عملهم، و ما في باطنهم من نية و قصد.
قوله تعالى: «له ملك السماوات و الأرض و إلى الله ترجع الأمور» كرر قوله: «له ملك» إلخ، لابتناء رجوع الأشياء إليه على عموم الملك فصرح به ليفيد الابتناء، قال تعالى: «يوم هم بارزون لا يخفى على الله منهم شيء لمن الملك اليوم لله الواحد القهار»: المؤمن: 16.
و قوله: «و إلى الله ترجع الأمور» الأمور جمع محلى باللام يفيد العموم كقوله: «ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى: 53، فما من شيء إلا و يرجع إلى الله، و لا راد إليه تعالى إلا هو لاختصاص الملك به فله الأمر و له الحكم.
و في الآية وضع الظاهر موضع الضمير في «إلى الله» و كذا في الآية السابقة «و الله بما تعملون بصير» و لعل الوجه في ذلك أن تقرع الجملتان قلوبهم كما يقرع المثل السائر لما سيجيء من ذكر يوم القيامة و جزيل أجر المنفقين في سبيل الله فيه.
قوله تعالى: «يولج الليل في النهار و يولج النهار في الليل و هو عليم بذات الصدور» إيلاج الليل في النهار و إيلاج النهار في الليل اختلاف الليل و النهار في الطول و القصر باختلاف فصول السنة في كل من البقاع الشمالية و الجنوبية بعكس الأخرى، و قد تقدم في كلامه تعالى غير مرة.
و المراد بذات الصدور الأفكار المضمرة و النيات المكنونة التي تصاحب الصدور و تلازمها لما أنها تنسب إلى القلوب و القلوب في الصدور، و الجملة أعني قوله: «و هو عليم بذات الصدور» بيان لإحاطة علمه بما في الصدور بعد بيان إحاطة بصره بظواهر أعمالهم بقوله: «و الله بما تعملون بصير».
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج أحمد و أبو داود و الترمذي و حسنه و النسائي و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عرباض بن سارية: أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يقرأ المسبحات قبل أن يرقد، و قال: إن فيهن آية أفضل من ألف آية:. أقول: و رواه أيضا عن ابن الضريس عن يحيى بن أبي كثير عنه (صلى الله عليه وآله وسلم).
و في الكافي، بإسناده عن عاصم بن حميد قال: سئل علي بن الحسين (عليهما السلام) عن التوحيد فقال: إن الله عز و جل علم أنه يكون في آخر الزمان أقوام متعمقون فأنزل الله تعالى: «قل هو الله أحد» و الآيات من سورة الحديد إلى قوله: «عليم بذات الصدور» فمن رام وراء ذلك فقد هلك.
و في تفسير القمي،: «سبح لله ما في السماوات و الأرض و هو العزيز الحكيم» قال: هو قوله: أوتيت جوامع الكلم، و قوله: «هو الأول» قال: أي قبل كل شيء، «و الآخر» قال: يبقى بعد كل شيء، «و هو عليم بذات الصدور» قال: بالضمائر.
و في الكافي، و روي: أنه يعني عليا (عليه السلام) سئل أين كان ربنا قبل أن يخلق سماء و أرضا؟ قال: أين سؤال عن مكان و كان الله و لا مكان.
و في التوحيد، خطبة للحسن بن علي (عليهما السلام) و فيها: الحمد لله الذي لم يكن فيه أول معلوم، و لا آخر متناه، و لا قبل مدرك، و لا بعد محدود، فلا تدرك العقول و أوهامها و لا الفكر و خطراتها و لا الألباب و أذهانها صفته فتقول: متى و لا بدىء مما، و لا ظاهر على ما، و لا باطن فيما.
أقول: و قوله أول معلوم إلخ، أوصاف توضيحية أي ليس له أول و لو كان له أول كان من الجائز أن يتعلق به علم و لا آخر و لو كان له آخر كان متناهيا، و لا قبل و لو كان لكان جائز الإدراك و لا بعد و إلا لكان محدودا.
و قوله: و لا بدىء مما أي لم يبتدأ من شيء حتى يكون له أول و لا ظاهر على ما أي يتفوق على شيء بالوقوع و الاستقرار عليه كالجسم على الجسم «و لا باطن فيما» أي لم يتبطن في شيء بالدخول فيه و الاستتار به.
و في نهج البلاغة،: و كل ظاهر غيره غير باطن، و كل باطن غيره غير ظاهر.
أقول: معناه أن حيثية الظهور في غيره تعالى غير حيثية البطون و بالعكس، و أما هو تعالى فلما كان أحدي الذات لا تنقسم و لا تتجزى إلى جهة و جهة كان ظاهرا من حيث هو باطن و باطنا من حيث هو ظاهر فهو باطن خفي من كمال ظهوره و ظاهر جلي من كمال بطونه.
و فيه،: الحمد لله الأول فلا شيء قبله، و الآخر فلا شيء بعده، و الظاهر فلا شيء فوقه، و الباطن فلا شيء دونه.
أقول: المراد بالقبلية و البعدية ليس هو القبلية و البعدية الزمانية بأن يفرض هناك امتداد زماني غير متناهي الطرفين و قد حل العالم قطعة منه خاليا عنه طرفاه و يكون وجوده تعالى و تقدس منطبقا على الزمان كله غير خال عنه شيء من جانبيه و إن ذهبا إلى غير النهاية فيتقدم وجوده تعالى على العالم زمانا و يتأخر عنه زمانا و لو كان كذلك لكان تعالى متغيرا في ذاته و أحواله بتغير الأزمنة المتجددة عليه، و كان قبليته و بعديته بتبع الزمان و كان الزمان هو الأول و الآخر بالأصالة.
و كذلك ليست ظاهريته و باطنيته بحسب المكان بنظير البيان بل هو تعالى سابق بنفس ذاته المتعالية على كل شيء مفروض و آخر بنفس ذاته عن كل أمر مفروض أنه آخر، و ظاهر، و باطن كذلك، و الزمان مخلوق له متأخر عنه.
و في الدر المنثور، أخرج أبو الشيخ في العظمة عن ابن عمر و أبي سعيد عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لا يزال الناس يسألون عن كل شيء حتى يقولوا: هذا الله كان قبل كل شيء فما ذا كان قبل الله فإن قالوا لكم ذلك فقولوا: هو الأول قبل كل شيء و هو الآخر فليس بعده شيء و هو الظاهر فوق كل شيء و هو الباطن دون كل شيء و هو بكل شيء عليم.
و في التوحيد، بإسناده إلى أبي بصير قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: لم يزل الله عز و جل ربنا و العلم ذاته و لا معلوم فلما أحدث الأشياء وقع العلم منه على المعلوم.
أقول: ليس المراد بهذا العلم الصور الذهنية فيكون تعالى كباني دار يتصور للدار صورة و هيئة قبل بنائها ثم يبنيها على ما تصور فتنطبق الصورة الذهنية على البناء الخارجي ثم تنهدم الدار و الصورة الذهنية على حالها، و هذا هو المسمى بالعلم الكلي و هو مستحيل عليه تعالى بل ذاته تعالى عين العلم بمعلومه ثم المعلوم إذا تحقق في الخارج كان ذات المعلوم عين علمه تعالى به، و يسمى الأول العلم الذاتي و الثاني العلم الفعلي.
و فيه، خطبة لعلي (عليه السلام) و فيها: و علمها لا بأداة لا يكون العلم إلا بها، و ليس بينه و بين معلومه علم غيره.
أقول: المراد به أن ذاته تعالى عين علمه، و ليست هناك صورة زائدة.
|