بيان
جرى على وفق مقصد الكلام السابق و هو الحث و الترغيب في الإيمان بالله و رسوله و الإنفاق في سبيل الله و تتضمن عتاب المؤمنين على ما يظهر من علائم قسوة القلوب منهم، و تأكيد الحث على الإنفاق ببيان درجة المنفقين عند الله و الأمر بالمسابقة إلى المغفرة و الجنة و ذم الدنيا و أهلها الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل.
و قد تغير السياق خلال الآيات إلى سياق عام يشمل المسلمين و أهل الكتاب بعد اختصاص السياق السابق بالمسلمين و سيجيء توضيحه.
قوله تعالى: «أ لم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق» إلى آخر الآية، يقال: أنى يأني إنى و إناء أي جاء وقته، و خشوع القلب تأثره قبال العظمة و الكبرياء، و المراد بذكر الله ما يذكر به الله، و ما نزل من الحق هو القرآن النازل من عنده تعالى و «من الحق» بيان لما نزل، و من شأن ذكر الله تعالى عند المؤمن أن يعقب خشوعا كما أن من شأن الحق النازل من عنده تعالى أن يعقب خشوعا ممن آمن بالله و رسله.
و قيل: المراد بذكر الله و ما نزل من الحق جميعا القرآن، و على هذا فذكر القرآن بوصفيه لكون كل من الوصفين مستدعيا لخشوع المؤمن فالقرآن لكونه ذكر الله يستدعي الخشوع كما أنه لكونه حقا نازلا من عنده تعالى يستدعي الخشوع.
و في الآية عتاب للمؤمنين على ما عرض لقلوبهم من القسوة و عدم خشوعها لذكر الله و الحق النازل من عنده تعالى و تشبيه لحالهم بحال أهل الكتاب الذين نزل عليهم الكتاب و طال عليهم الأمد فقست قلوبهم.
و قوله: «و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم» عطف على قوله: «تخشع» إلخ، و المعنى: أ لم يأن لهم أن تخشع قلوبهم و أن لا يكونوا إلخ، و الأمد الزمان، قال الراغب: الفرق بين الزمان و الأمد أن الأمد يقال باعتبار الغاية و الزمان عام في المبدأ و الغاية و لذلك قال بعضهم: إن المدى و الأمد يتقاربان.
انتهى.
و قد أشار سبحانه بهذا الكلام إلى صيرورة قلوبهم كقلوب أهل الكتاب القاسية و القلب القاسي حيث يفقد الخشوع و التأثر عن الحق ربما خرج عن زي العبودية فلم يتأثر عن المناهي و اقترف الإثم و الفسوق، و لذا أردف قوله: «فقست قلوبهم» بقوله: «و كثير منهم فاسقون».
قوله تعالى: «اعلموا أن الله يحيي الأرض بعد موتها» إلى آخر الآية في تعقيب عتاب المؤمنين على قسوة قلوبهم بهذا التمثيل تقوية لرجائهم و ترغيب لهم في الخشوع.
و يمكن أن يكون من تمام العتاب السابق و يكون تنبيها على أن الله لا يخلي هذا الدين على ما هو عليه من الحال بل كلما قست قلوب و حرموا الخشوع لأمر الله جاء بقلوب حية خاشعة له يعبد بها كما يريد.
فتكون الآية في معنى قوله: «ها أنتم هؤلاء تدعون لتنفقوا في سبيل الله فمنكم من يبخل و من يبخل فإنما يبخل عن نفسه و الله الغني و أنتم الفقراء و إن تتولوا يستبدل قوما غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم»: سورة محمد: 38.
و لذلك ذيل الآية بقوله: «قد بينا لكم الآيات لعلكم تعقلون».
قوله تعالى: «إن المصدقين و المصدقات و أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم و لهم أجر كريم» تكرار لحديث المضاعفة و الأجر الكريم للترغيب في الإنفاق في سبيل الله و قد أضيف إلى الذين أقرضوا الله قرضا حسنا المصدقون و المصدقات.
و المصدقون و المصدقات - بتشديد الصاد و الدال - المتصدقون و المتصدقات، و قوله: «و أقرضوا الله» عطف على مدخول اللام في «المصدقين»، و المعنى: أن الذين تصدقوا و الذين أقرضوا الله قرضا حسنا يضاعف لهم ما أعطوه و لهم أجر كريم.
قوله تعالى: «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون و الشهداء عند ربهم» إلخ، لم يقل: آمنوا بالله و رسوله كما قال في أول السورة: «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا» و قال في آخرها: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله» لأنه تعالى لما ذكر أهل الكتاب في الآية السابقة بقوله: «و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل» عدل عن السياق السابق إلى سياق عام يشمل المسلمين و أهل الكتاب جميعا كما قال بعد: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات» و أما الآيتان المذكورتان في أول السورة و آخرها فالخطاب فيهما لمؤمني هذه الأمة خاصة و لذا جيء فيهما بالرسول مفردا.
و المراد بالإيمان بالله و رسله محض الإيمان الذي لا يفارق بطبعه الطاعة و الاتباع كما مرت الإشارة إليه في قوله: «آمنوا بالله و رسوله» الآية، و المراد بقوله: «أولئك هم الصديقون و الشهداء» إلحاقهم بالصديقين و الشهداء بقرينة قوله: «عند ربهم» و قوله: «لهم أجرهم و نورهم» فهم ملحقون بالطائفتين يعامل معهم معاملة الصديقين و الشهداء فيعطون مثل أجرهم و نورهم.
و الظاهر أن المراد بالصديقين و الشهداء هم المذكورون في قوله: «و من يطع الله و الرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين و حسن أولئك رفيقا»: النساء: 69، و قد تقدم في تفسير الآية أن المراد بالصديقين هم الذين سرى الصدق في قولهم و فعلهم فيفعلون ما يقولون و يقولون ما يفعلون، و الشهداء هم شهداء الأعمال يوم القيامة دون الشهداء بمعنى المقتولين في سبيل الله.
فهؤلاء الذين آمنوا بالله و رسله ملحقون بالصديقين و الشهداء منزلون منزلتهم عند الله أي بحكم منه لهم أجرهم و نورهم.
و قوله: «لهم أجرهم و نورهم» ضمير «لهم» للذين آمنوا، و ضمير «أجرهم و نورهم» للصديقين و الشهداء أي للذين آمنوا أجر من نوع أجر الصديقين و الشهداء و نور من نوع نورهم، و هذا معنى قول من قال: إن المعنى: لهم أجر كأجرهم و نور كنورهم.
و ربما قيل: إن الآية مسوقة لبيان أنهم صديقون و شهداء على الحقيقة من غير إلحاق و تنزيل فهم هم لهم أجرهم و نورهم، و لعل السياق لا يساعد عليه.
و ربما قيل: إن قوله: «و الشهداء» ليس عطفا على قوله: «الصديقون» بل استئناف و «الشهداء» مبتدأ خبره «عند ربهم» و خبره الآخر «لهم أجرهم» فقد قيل: و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون، و قد تم الكلام ثم استؤنف و قيل: «و الشهداء عند ربهم» كما قيل: «بل أحياء عند ربهم»: آل عمران: 169، و المراد بالشهداء المقتولون في سبيل الله، ثم تمم الكلام بقوله: «لهم أجرهم و نورهم».
و قوله: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم» أي لا يفارقونها و هم فيها دائمين.
و قد تعرض سبحانه في الآية لشأن الملحقين بالصديقين و الشهداء و هم خيار الناس و الناجون قطعا، و الكفار المكذبين لآياته و هم شرار الناس و الهالكون قطعا و بقي فريق بين الفريقين و هم المؤمنون المقترفون للمعاصي و الذنوب على طبقاتهم في التمرد على الله و رسوله، و هذا دأب القرآن في كثير من موارد التعرض لشأن الناس يوم القيامة.
و ذلك ليكون بعثا لقريحتي الخوف و الرجاء في ذلك الفريق المتخلل بين الخيار و الشرار فيميلوا إلى السعادة و يختاروا النجاة على الهلاك.
و لذلك أعقب الآية بذم الحياة الدنيا التي تعلق بها هؤلاء الممتنعون من الإنفاق في سبيل الله ثم بدعوتهم إلى المسابقة إلى المغفرة و الجنة ثم بالإشارة إلى أن ما يصيبهم من المصيبة في أموالهم و أنفسهم مكتوبة في كتاب سابق و قضاء متقدم فليس ينبغي لهم أن يخافوا الفقر في الإنفاق في سبيل الله، فيبخلوا و يمسكوا أو يخافوا الموت في الجهاد في سبيل الله فيتخلفوا و يقعدوا.
قوله تعالى: «اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب و لهو و زينة و تفاخر بينكم و تكاثر في الأموال و الأولاد» إلخ، اللعب عمل منظوم لغرض خيالي كلعب الأطفال، و اللهو ما يشغل الإنسان عما يهمه، و الزينة بناء نوع و ربما يراد به ما يتزين به و هي ضم شيء مرغوب فيه إلى شيء آخر ليرغب فيه بما اكتسب به من الجمال، و التفاخر المباهاة بالأنساب و الأحساب، و التكاثر في الأموال و الأولاد.
و الحياة الدنيا عرض زائل و سراب باطل لا يخلو من هذه الخصال الخمس المذكورة: اللعب و اللهو و الزينة و التفاخر و التكاثر و هي التي يتعلق بها هوى النفس الإنسانية ببعضها أو بجميعها و هي أمور وهمية و أعراض زائلة لا تبقى للإنسان و ليست و لا واحدة منها تجلب للإنسان كمالا نفسيا و لا خيرا حقيقيا.
و عن شيخنا البهائي رحمه الله أن الخصال الخمس المذكورة في الآية مترتبة بحسب سني عمر الإنسان و مراحل حياته فيتولع أولا باللعب و هو طفل أو مراهق ثم إذا بلغ و اشتد عظمه تعلق باللهو و الملاهي ثم إذا بلغ أشده اشتغل بالزينة من الملابس الفاخرة و المراكب البهية و المنازل العالية و توله للحسن و الجمال ثم إذا اكتهل أخذ بالمفاخرة بالأحساب و الأنساب ثم إذا شاب سعى في تكثير المال و الولد.
و قوله: «كمثل غيث أعجب الكفار نباته ثم يهيج فتراه مصفرا ثم يكون حطاما» مثل لزينة الحياة الدنيا التي يتعلق بها الإنسان غرورا ثم لا يلبث دون أن يسلبها.
و الغيث المطر و الكفار جمع كافر بمعنى الحارث، و يهيج من الهيجان و هو الحركة، و الحطام الهشيم المتكسر من يابس النبات.
و المعنى: أن مثل الحياة الدنيا في بهجتها المعجبة ثم الزوال كمثل مطر أعجب الحراث نباته الحاصل بسببه ثم يتحرك إلى غاية ما يمكنه من النمو فتراه مصفر اللون ثم يكون هشيما متكسرا - متلاشيا تذروه الرياح -.
و قوله: «و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان» سبق المغفرة على الرضوان لتطهير المحل ليحل به الرضوان، و توصيف المغفرة بكونه من الله دون العذاب لا يخلو من إيماء إلى أن المطلوب بالقصد الأول هو المغفرة و أما العذاب فليس بمطلوب في نفسه و إنما يتسبب إليه الإنسان بخروجه عن زي العبودية كما قيل.
و قوله: «و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» أي متاع التمتع منه هو الغرور به، و هذا للمتعلق المغرور بها.
و الكلام أعني قوله: «و في الآخرة عذاب شديد و مغفرة من الله و رضوان» إشارة إلى وجهي الحياة الآخرة ليأخذ السامع حذره فيختار المغفرة و الرضوان على العذاب، ثم في قوله: «و ما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور» تنبيه و إيقاظ لئلا تغره الحياة الدنيا بخاصة غروره.
قوله تعالى: «سابقوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها كعرض السماء و الأرض» إلخ المسابقة هي المغالبة في السبق للوصول إلى غرض بأن يريد كل من المسابقين جعل حركته أسرع من حركة صاحبه ففي معنى المسابقة ما يزيد على معنى المسارعة فإن المسارعة الجد في تسريع الحركة و المسابقة الجد في تسريعها بحيث تزيد في السرعة على حركة صاحبه.
و على هذا فقوله: «سابقوا إلى مغفرة» إلخ، يتضمن من التكليف ما هو أزيد مما يتضمنه قوله: «سارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين»: آل عمران: 133.
و يظهر به عدم استقامة ما قيل: إن آية آل عمران في السابقين المقربين و الآية التي نحن فيها في عامة المؤمنين حيث لم يذكر فيها إلا الإيمان بالله و رسله بخلاف آية آل عمران فإنها مذيلة بجملة الأعمال الصالحة، و لذا أيضا وصف الجنة الموعودة هناك بقوله: «عرضها السماوات و الأرض» بخلاف ما هاهنا حيث قيل: «عرضها كعرض السماء و الأرض» فدل على أن جنة أولئك أوسع من جنة هؤلاء.
وجه عدم الاستقامة ما عرفت أن المكلف به في الآية المبحوث عنها معنى فوق ما كلف به في آية آل عمران.
على أن اللام في «السماء» للجنس فتنطبق على «السماوات» في تلك الآية.
و تقديم المغفرة على الجنة في الآية لأن الحياة في الجنة حياة طاهرة في عالم الطهارة فيتوقف التلبس بها على زوال قذارات الذنوب و أوساخها.
و المراد بالعرض السعة دون العرض المقابل للطول و هو معنى شائع، و الكلام كأنه مسوق للدلالة على انتهائها في السعة.
و قيل: المراد بالعرض ما يقابل الطول و الاقتصار على ذكر العرض أبلغ من ذكر الطول معه فإن العرض أقصر الامتدادين و إذا كان كعرض السماء و الأرض كان طولها أكثر من طولهما.
و لا يخلو الوجه من تحكم إذ لا دليل على مساواة طول السماء و الأرض لعرضهما ثم على زيادة طول الجنة على عرضها حتى يلزم زيادة طول الجنة على طولهما و الطول قد يساوي العرض كما في المربع و الدائرة و سطح الكرة و غيرها و قد يزيد عليه.
و قوله: «أعدت للذين آمنوا بالله و رسله» قد عرفت في ذيل قوله: «آمنوا بالله و رسله» و قوله: «و الذين آمنوا بالله و رسله» أن المراد بالإيمان بالله و رسله هو مرتبة عالية من الإيمان تلازم ترتب آثاره عليه من الأعمال الصالحة و اجتناب الفسوق و الإثم.
و بذلك يظهر أن قول بعضهم: إن في الآية بشارة لعامة المؤمنين حيث قال: «أعدت للذين آمنوا بالله و رسله» و لم يقيد الإيمان بشيء من العمل الصالح و نحوه غير سديد فإن خطاب الآية و إن كان بظاهر لفظه يعم الكافر و المؤمن الصالح و الطالح لكن وجه الكلام إلى المؤمنين يدعوهم إلى الإيمان الذي يصاحب العمل الصالح، و لو كان المراد بالإيمان بالله و رسله مجرد الإيمان و لو لم يصاحبه عمل صالح و كانت الجنة معدة لهم و الآية تدعو إلى السباق إلى المغفرة و الجنة كان خطاب «سابقوا» متوجها إلى الكفار فإن المؤمنين قد سبقوا و سياق الآيات يأباه.
و قوله: «ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء» و قد شاء أن يؤتيه الذين آمنوا بالله و رسله، و قد تقدم بيان أن ما يؤتيه الله من الأجر لعباده المؤمنين فضل منه تعالى من غير أن يستحقوه عليه.
و قوله: «و الله ذو الفضل العظيم» إشارة إلى عظمة فضله، و أن ما يثيبهم به من المغفرة و الجنة من عظيم فضله.
قوله تعالى: «ما أصاب من مصيبة في الأرض و لا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها» إلخ، المصيبة الواقعة التي تصيب الشيء مأخوذة من إصابة السهم الغرض و هي بحسب المفهوم أعم من الخير و الشر لكن غلب استعمالها في الشر فالمصيبة هي النائبة، و المصيبة التي تصيب في الأرض كالجدب و عاهة الثمار و الزلزلة المخربة و نحوها، و التي تصيب في الأنفس كالمرض و الجرح و الكسر و القتل و الموت، و البرء و البروء الخلق من العدم، و ضمير «نبرأها» للمصيبة، و قيل: للأنفس، و قيل: للأرض، و قيل: للجميع من الأرض و الأنفس و المصيبة، و يؤيد الأول أن المقام مقام بيان ما في الدنيا من المصائب الموجبة لنقص الأموال و الأنفس التي تدعوهم إلى الإمساك عن الإنفاق و التخلف عن الجهاد.
و المراد بالكتاب اللوح المكتوب فيه ما كان و ما يكون و ما هو كائن إلى يوم القيامة كما تدل عليه الآيات و الروايات و إنما اقتصر على ذكر ما يصيب في الأرض و في أنفسهم من المصائب لكون الكلام فيها.
قيل: إنما قيد المصيبة بما في الأرض و في الأنفس لأن مطلق المصائب غير مكتوبة في اللوح لأن اللوح متناه و الحوادث غير متناهية و لا يكون المتناهي ظرفا لغير المتناهي.
و الكلام مبني على أن المراد باللوح لوح فلزي أو نحوه منصوب في ناحية من نواحي الجو مكتوب فيه الحوادث بلغة من لغاتنا بخط يشبه خطوطنا، و قد مر كلام في معنى اللوح و القلم و سيجيء له تتمة.
و قيل: المراد بالكتاب علمه تعالى و هو خلاف الظاهر إلا أن يراد به أن الكتاب المكتوب فيه الحوادث من مراتب علمه الفعلي.
و ختم الآية بقوله: «إن ذلك على الله يسير» للدلالة على أن تقدير الحوادث قبل وقوعها و القضاء عليها بقضاء لا يتغير لا صعوبة فيه عليه تعالى.
قوله تعالى: «لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم» إلخ، تعليل راجع إلى الآية السابقة و هو تعليل للإخبار عن كتابة الحوادث قبل وقوعها لا لنفس الكتابة، و الأسى الحزن، و المراد بما فات و ما آتى النعمة الفائتة و النعمة المؤتاة.
و المعنى: أخبرناكم بكتابة الحوادث قبل حدوثها و تحققها لئلا تحزنوا بما فاتكم من النعم و لا تفرحوا بما أعطاكم الله منها لأن الإنسان إذا أيقن أن الذي أصابه مقدر كائن لا محالة لم يكن ليخطئه و أن ما أوتيه من النعم وديعة عنده إلى أجل مسمى لم يعظم حزنه إذا فاته و لا فرحه إذا أوتيه.
قيل: إن اختلاف الإسناد في قوليه: «ما فاتكم» و «ما آتاكم» حيث أسند الفوت إلى نفس الأشياء و الإيتاء إلى الله سبحانه لأن الفوات و العدم ذاتي للأشياء فلو خليت و نفسها لم تبق بخلاف حصولها و بقائها فإنه لا بد من استنادهما إلى الله تعالى.
و قوله: «و الله لا يحب كل مختال فخور» المختال من أخذته الخيلاء و هي التكبر عن تخيل فضيلة تراءت له من نفسه - على ما ذكره الراغب - و الفخور الكثير الفخر و المباهاة و الاختيال و الفخر ناشئان عن توهم الإنسان أنه يملك ما أوتيه من النعم باستحقاق من نفسه، و هو مخالف لما هو الحق من استناد ذلك إلى تقدير من الله لا لاستقلال من نفس الإنسان فهما من الرذائل و الله لا يحبها.
قوله تعالى: «الذين يبخلون و يأمرون الناس بالبخل» وصف لكل مختال فخور يفيد تعليل عدم حبه تعالى.
و الوجه في بخلهم الاحتفاظ للمال الذي يعتمد عليه اختيالهم و فخرهم و الوجه في أمرهم الناس بالبخل أنهم يحبونه لأنفسهم فيحبونه لغيرهم، و لأن شيوع السخاء و الجود بين الناس و إقبالهم على الإنفاق في سبيل الله يوجب أن يعرفوا بالبخل المذموم.
و قوله: «و من يتول فإن الله هو الغني الحميد» أي و من يعرض عن الإنفاق و لم يتعظ بعظة الله و لا اطمأن قلبه بما بينه من صفات الدنيا و نعت الجنة و تقدير الأمور فإن الله هو الغني فلا حاجة له إلى إنفاقهم، و المحمود في أفعاله.
و الآيات الثلاث أعني قوله: «و ما أصاب من مصيبة - إلى قوله - الغني الحميد» كما ترى حث على الإنفاق و ردع عن البخل و الإمساك بتزهيدهم عن الأسى بما فاتهم و الفرح بما آتاهم لأن الأمور مقدرة مقضية مكتوبة في كتاب معينة قبل أن يبرأها الله سبحانه.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «أ لم يأن» الآية: أخرج ابن المبارك و عبد الرزاق و ابن المنذر عن الأعمش قال: لما قدم أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) المدينة فأصابوا من لين العيش ما أصابوا بعد ما كان بهم من الجهد فكأنهم فتروا عن بعض ما كانوا عليه فعوتبوا فنزلت: «أ لم يأن للذين آمنوا».
أقول: هذه أعدل الروايات في نزول السورة و هناك رواية عن ابن مسعود قال: ما كان بين إسلامنا و بين أن عاتبنا الله بهذه «أ لم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله» إلا أربع سنين، و ظاهره كون السورة مكية، و في معناه ما ورد أن عمر آمن بعد نزول هذه السورة و قد عرفت أن سياق آيات السورة تأبى إلا أن تكون مدنية، و يمكن حمل رواية ابن مسعود على كون آية «أ لم يأن» إلخ، أو هي و التي تتلوها مما نزل بمكة دون باقي آيات السورة.
و في رواية عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): استبطأ الله قلوب المهاجرين بعد سبع عشرة من نزول القرآن فأنزل الله «أ لم يأن» الآية، و لازمه نزول السورة سنة أربع أو خمس من الهجرة، و في رواية أخرى عن ابن عباس قال: إن الله استبطأ قلوب المهاجرين فعاتبهم على رأس ثلاث عشرة سنة من نزول القرآن فقال: «أ لم يأن» إلخ، و لازمه نزول السورة أيام الهجرة، و الروايتان أيضا لا تلائمان سياق آياتها.
و فيه، أخرج ابن جرير عن البراء بن عازب قال: سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: مؤمنوا أمتي شهداء، ثم تلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «و الذين آمنوا بالله و رسله أولئك هم الصديقون - و الشهداء عند ربهم».
و في تفسير العياشي، بإسناده عن منهال القصاب قال: لأبي عبد الله (عليه السلام): ادع الله أن يرزقني الشهادة فقال: إن المؤمن شهيد و قرأ هذه الآية.
أقول: و في معناه روايات أخرى و ظاهر بعضها كهذه الرواية تفسير الشهادة بالقتل في سبيل الله.
و في تفسير القمي، بإسناده عن حفص بن غياث قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): جعلت فداك فما حد الزهد في الدنيا؟ فقال: قد حده الله في كتابه فقال عز و جل: «لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم».
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): الزهد كله بين كلمتين من القرآن قال الله تعالى: «لكيلا تأسوا على ما فاتكم و لا تفرحوا بما آتاكم» و من لم يأس على الماضي و لم يفرح بالآتي فقد أخذ الزهد بطرفيه.
أقول: و الأساس الذي يبتنيان عليه عدم تعلق القلب بالدنيا، و في الحديث المعروف: حب الدنيا رأس كل خطيئة.
|