بيان
ثم إنه تعالى إثر ما أشار إلى قسوة قلوب المؤمنين و تثاقلهم و فتورهم في امتثال التكاليف الدينية و خاصة في الإنفاق في سبيل الله، الذي به قوام أمر الجهاد و شبههم بأهل الكتاب حيث قست قلوبهم لما طال عليهم الأمد.
ذكر أن الغرض الإلهي من إرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان معهم أن يقوم الناس بالقسط، و أن يعيشوا في مجتمع عادل، و قد أنزل الحديد ليمتحن عباده في الدفاع عن مجتمعهم الصالح و بسط كلمة الحق في الأرض مضافا إلى ما في الحديد من منافع ينتفعون بها.
ثم ذكر أنه أرسل نوحا و إبراهيم (عليه السلام) و جعل في ذريتهما النبوة و الكتاب و أتبعهم بالرسول بعد الرسول فاستمر الأمر في كل من الأمم على إيمان بعضهم و اهتدائه و كثير منهم فاسقون، ثم ختم الكلام في السورة بدعوتهم إلى تكميل إيمانهم ليؤتوا كفلين من الرحمة.
قوله تعالى: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات و أنزلنا معهم الكتاب و الميزان ليقوم الناس بالقسط» إلخ، استئناف يتبين به معنى تشريع الدين بإرسال الرسل و إنزال الكتاب و الميزان و أن الغرض من ذلك قيام الناس بالقسط و امتحانهم بذلك و بإنزال الحديد ليتميز من ينصر الله بالغيب و يتبين أن أمر الرسالة لم يزل مستمرا بين الناس و لم يزالوا يهتدي من كل أمة بعضهم و كثير منهم فاسقون.
فقوله: «لقد أرسلنا رسلنا بالبينات» أي بالآيات البينات التي يتبين بها أنهم مرسلون من جانب الله سبحانه من المعجزات الباهرة و البشارات الواضحة و الحجج القاطعة.
و قوله: «و أنزلنا معهم الكتاب» و هو الوحي الذي يصلح أن يكتب فيصير كتابا، المشتمل على معارف الدين من اعتقاد و عمل و هو خمسة: كتاب نوح و كتاب إبراهيم و التوراة و الإنجيل و القرآن.
و قوله: «و الميزان ليقوم الناس بالقسط» فسروا الميزان بذي الكفتين الذي يوزن به الأثقال، و أخذوا قوله: «ليقوم الناس بالقسط» غاية متعلقة بإنزال الميزان و المعنى: و أنزلنا الميزان ليقوم الناس بالعدل في معاملاتهم فلا يخسروا باختلال الأوزان و النسب بين الأشياء فقوام حياة الإنسان بالاجتماع، و قوام الاجتماع بالمعاملات الدائرة بينهم و المبادلات في الأمتعة و السلع و قوام المعاملات في ذوات الأوزان بحفظ النسب بينها و هو شأن الميزان.
و لا يبعد - و الله أعلم - أن يراد بالميزان الدين فإن الدين هو الذي يوزن به عقائد أشخاص الإنسان و أعمالهم، و هو الذي به قوام حياة الناس السعيدة مجتمعين و منفردين، و هذا المعنى أكثر ملائمة للسياق المتعرض لحال الناس من حيث خشوعهم و قسوة قلوبهم و جدهم و مساهلتهم في أمر الدين.
و قيل: المراد بالميزان هنا العدل و قيل: العقل.
و قوله: «و أنزلنا الحديد» الظاهر أنه كقوله تعالى: «و أنزل لكم من الأنعام ثمانية أزواج»: الزمر: 6، و قد تقدم في تفسير الآية أن تسمية الخلق في الأرض إنزالا إنما هو باعتبار أنه تعالى يسمي ظهور الأشياء في الكون بعد ما لم يكن إنزالا لها من خزائنه التي عنده و من الغيب إلى الشهادة قال تعالى: «و إن من شيء إلا عندنا خزائنه و ما ننزله إلا بقدر معلوم»: الحجر: 21.
و قوله: «فيه بأس شديد و منافع للناس» البأس هو الشدة في التأثير و يغلب استعماله في الشدة في الدفاع و القتال، و لا تزال الحروب و المقاتلات و أنواع الدفاع ذات حاجة شديدة إلى الحديد و أقسام الأسلحة المعمولة منه منذ تنبه البشر له و استخرجه.
و أما ما فيه من المنافع للناس فلا يحتاج إلى البيان فله دخل في جميع شعب الحياة و ما يرتبط بها من الصنائع.
و قوله: «و ليعلم الله من ينصره و رسله بالغيب» غاية معطوفة على محذوف و التقدير و أنزلنا الحديد لكذا و ليعلم الله من ينصره إلخ، و المراد بنصره و رسله الجهاد في سبيله دفاعا عن مجتمع الدين و بسطا لكلمة الحق، و كون النصر بالغيب كونه في حال غيبته منهم أو غيبتهم منه، و المراد بعلمه بمن ينصره و رسله تميزهم ممن لا ينصر.
و ختم الآية بقوله: «إن الله قوي عزيز» و كان وجهه الإشارة إلى أن أمره تعالى لهم بالجهاد إنما هو ليتميز الممتثل منهم من غيره لا لحاجة منه تعالى إلى ناصر ينصره أنه تعالى قوي لا سبيل للضعف إليه عزيز لا سبيل للذلة إليه.
قوله تعالى: «و لقد أرسلنا نوحا و إبراهيم و جعلنا في ذريتهما النبوة و الكتاب فمنهم مهتد و كثير منهم فاسقون» شروع في الإشارة إلى أن الاهتداء و الفسق جاريان في الأمم الماضية حتى اليوم فلم تصلح أمة من الأمم بعامة أفرادها بل لم يزل كثير منهم فاسقين.
و ضمير «فمنهم» و «منهم» للذرية و الباقي ظاهر.
قوله تعالى: «ثم قفينا على آثارهم برسلنا و قفينا بعيسى بن مريم و آتيناه الإنجيل» في المجمع،: التقفية جعل الشيء في إثر شيء على الاستمرار فيه، و لهذا قيل لمقاطع الشعر قواف إذ كانت تتبع البيت على أثره مستمرة في غيره على منهاجه.
انتهى.
و ضمير «على آثارهم» لنوح و إبراهيم و السابقين من ذريتهما، و الدليل عليه أنه لا نبي بعد نوح إلا من ذريته لأن النسل بعده له.
على أن عيسى من ذرية إبراهيم قال تعالى في نوح: «و جعلنا ذريته هم الباقين»: الصافات: 77، و قال: «و من ذريته داود و سليمان - إلى أن قال - و عيسى»: الأنعام: 85، فالمراد بقوله: «ثم قفينا على آثارهم برسلنا» إلخ، التقفية باللاحقين من ذريتهما على آثارهما و السابقين من ذريتهما.
و في قوله: «على آثارهم» إشارة إلى أن الطريق المسلوك واحد يتبع فيه بعضهم أثر بعض.
و قوله: «و قفينا بعيسى بن مريم و آتيناه الإنجيل و جعلنا في قلوب الذين اتبعوه رأفة و رحمة» الرأفة و الرحمة - على ما قالوا - مترادفان، و نقل عن بعضهم أن الرأفة يقال في درء الشر و الرحمة في جلب الخير.
و الظاهر أن المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوب الذين اتبعوه توفيقهم للرأفة و الرحمة فيما بينهم فكانوا يعيشون على المعاضدة و المسالمة كما وصف الله سبحانه الذين مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بالرحمة إذ قال: «رحماء بينهم»: الفتح: 29، و قيل: المراد بجعل الرأفة و الرحمة في قلوبهم الأمر بهما و الترغيب فيهما و وعد الثواب عليهما.
و قوله: «و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم» الرهبانية من الرهبة و هي الخشية، و يطلق عرفا على انقطاع الإنسان من الناس لعبادة الله خشية منه، و الابتداع إتيان ما لم يسبق إليه في دين أو سنة أو صنعة، و قوله: «ما كتبناها عليهم» في معنى الجواب عن سؤال مقدر كأنه قيل: ما معنى ابتداعهم لها؟ فقيل: ما كتبناها عليهم.
و المعنى: أنهم ابتدعوا من عند أنفسهم رهبانية من غير أن نشرعه نحن لهم.
و قوله: «إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها» استثناء منقطع معناه ما فرضناها عليهم لكنهم وضعوها من عند أنفسهم ابتغاء لرضوان الله و طلبا لمرضاته فما حافظوا عليها حق محافظتها بتعديهم حدودها.
و فيه إشارة إلى أنها كانت مرضية عنده تعالى و إن لم يشرعها بل كانوا هم المبتدعين لها.
و قوله: «فأتينا الذين آمنوا منهم أجرهم و كثير منهم فاسقون» إشارة إلى أنهم كالسابقين من أمم الرسل منهم مؤمنون مأجورون على إيمانهم و كثير منهم فاسقون، و الغلبة للفسق.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله يؤتكم كفلين من رحمته» إلخ، أمر الذين آمنوا بالتقوى و الإيمان بالرسول مع أن الذين استجابوا الدعوة فآمنوا بالله آمنوا برسوله أيضا دليل على أن المراد بالإيمان بالرسول الاتباع التام و الطاعة الكاملة لرسوله فيما يأمر به و ينهى عنه سواء كان ما يأمر به أو ينهى عنه حكما من الأحكام الشرعية أو صادرا عنه بما له من ولاية أمور الأمة كما قال تعالى: «فلا و ربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت و يسلموا تسليما»: النساء: 65.
فهذا إيمان بعد إيمان و مرتبة فوق مرتبة الإيمان الذي ربما يتخلف عنه أثره فلا يترتب عليه لضعفه، و بهذا يناسب قوله: «يؤتكم كفلين من رحمته» و الكفل الحظ و النصيب فله ثواب على ثواب كما أنه إيمان على إيمان.
و قيل: المراد بإيتاء كفلين من الرحمة إيتاؤهم أجرين كمؤمني أهل الكتاب كأنه قيل: يؤتكم ما وعد من آمن من أهل الكتاب من الأجرين لأنكم مثلهم في الإيمان بالرسل المتقدمين و بخاتمهم (عليهم السلام) لا تفرقون بين أحد من رسله.
و قوله: «و يجعل لكم نورا تمشون به» قيل: يعني يوم القيامة و هو النور الذي أشير إليه بقوله: «يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم».
و فيه أنه تقييد من غير دليل بل لهم نورهم في الدنيا و هو المدلول عليه بقوله تعالى: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها: الأنعام: 122، و نورهم في الآخرة و هو المدلول عليه بقوله: «يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم» الآية: 12 من السورة و غيره.
ثم كمل تعالى وعده بإيتائهم كفلين من رحمته و جعل نور يمشون به بالمغفرة فقال: «و يغفر لكم و الله غفور رحيم».
قوله تعالى: «لئلا يعلم أهل الكتاب ألا يقدرون على شيء من فضل الله» ظاهر السياق أن في الآية التفاتا من خطاب المؤمنين إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و المراد بالعلم مطلق الاعتقاد كالزعم، و «أن» مخففة من الثقيلة، و ضمير «يقدرون» للمؤمنين، و في الكلام تعليل لمضمون الآية السابقة.
و المعنى: إنما أمرناهم بالإيمان بعد الإيمان و وعدناهم كفلين من الرحمة و جعل النور و المغفرة لئلا يعتقد أهل الكتاب أن المؤمنين لا يقدرون على شيء من فضل الله بخلاف المؤمنين من أهل الكتاب حيث يؤتون أجرهم مرتين أن آمنوا.
و قيل: إن لا في «لئلا يعلم» زائدة و ضمير «يقدرون» لأهل الكتاب، و المعنى: إنما وعدنا المؤمنين بما وعدنا لأن يعلم أهل الكتاب القائلون: إن من آمن منا بكتابكم فله أجران و من لم يؤمن فله أجر واحد لإيمانه بكتابنا، إنهم لا يقدرون على شيء من فضل الله إن لم يؤمنوا، هذا و لا يخفى عليك ما فيه من التكلف.
و قوله: «و أن الفضل بيد الله يؤتيه من يشاء و الله ذو الفضل العظيم» معطوف على ألا يعلم»، و المعنى: إنما وعدنا بما وعدنا لأن كذا كذا و لأن الفضل بيد الله و الله ذو الفضل العظيم.
و في الآية أقوال و احتمالات أخر لا جدوى في إيرادها و البحث عنها.
بحث روائي
عن جوامع الجامع، روي: أن جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح (عليه السلام) و قال: مر قومك يزنوا به.
و في الاحتجاج، عن علي (عليه السلام) في حديث و قال: «و أنزلنا الحديد فيه بأس شديد» فإنزاله ذلك خلقه إياه.
و في المجمع، عن ابن مسعود قال: كنت رديف رسول الله على الحمار فقال: يا ابن أم عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانية؟ فقلت: الله و رسوله أعلم. فقال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى (عليه السلام) يعملون بمعاصي الله فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم فهزم أهل الإيمان ثلاث مرات فلم يبق منهم إلا القليل. فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرق في الأرض إلى أن يبعث الله النبي الذي وعدنا به عيسى يعنون محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) فتفرقوا في غيران 1 الجبال و أحدثوا رهبانية فمنهم من تمسك بدينه، و منهم من كفر. ثم تلا هذه الآية «و رهبانية ابتدعوها - ما كتبناها عليهم» إلى آخرها. ثم قال: يا ابن أم عبد أ تدري ما رهبانية أمتي؟ قلت: الله و رسوله أعلم. قال: الهجرة و الجهاد و الصلاة و الصوم و الحج و العمرة.
و في الكافي، بإسناده عن أبي الجارود قال: قلت لأبي جعفر (عليه السلام) لقد آتى الله أهل الكتاب خيرا كثيرا. قال: و ما ذاك؟ قلت: قول الله عز و جل: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله هم به يؤمنون إلى قوله أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا» قال: فقال: آتاكم الله كما آتاهم ثم تلا: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و آمنوا برسوله - يؤتكم كفلين من رحمته و يجعل لكم نورا تمشون به» يعني إماما تأتمون به.
و في المجمع، عن سعيد بن جبير: بعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه فقدم عليه و دعاه فاستجاب له و آمن به فلما كان عند انصرافه قال ناس ممن آمن به من أهل مملكته و هم أربعون رجلا: ائذن لنا فنأتي هذا النبي فنسلم به. فقدموا مع جعفر فلما رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قالوا: يا نبي الله إن لنا أموالا و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا فواسينا المسلمين بها فأذن لهم فانصرفوا فأتوا بأموالهم فواسوا بها المسلمين فأنزل الله فيهم: «الذين آتيناهم الكتاب من قبله - هم به يؤمنون إلى قوله و مما رزقناهم ينفقون» فكانت النفقة التي واسوا بها المسلمين. فلما سمع أهل الكتاب ممن لم يؤمن به قوله: «أولئك يؤتون أجرهم مرتين بما صبروا» فخروا على المسلمين فقالوا: يا معشر المسلمين أما من آمن منا بكتابنا و كتابكم فله أجران، و من آمن منا بكتابنا فله أجر كأجوركم فما فضلكم علينا؟ فنزل قوله: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله - و آمنوا برسوله» الآية، فجعل لهم أجرين و زادهم النور و المغفرة ثم قال: «لئلا يعلم أهل الكتاب».
|