بيان
أمر مؤكد بالإنفاق في سبيل الله و خاصة الجهاد على ما يؤيده قوله: «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل» الآية، و يتأيد بذلك ما قيل: إن قوله: «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا» إلخ، نزل في غزوة تبوك.
قوله تعالى: «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» إلخ، المستفاد من سياق الآيات أن الخطاب في الآية للمؤمنين بالله و رسوله لا للكفار و لا للمؤمنين و الكفار جميعا كما قيل، و أمر الذين تلبسوا بالإيمان بالله و رسوله بالإيمان معناه الأمر بتحقيق الإيمان بترتيب آثاره عليه إذ لو كانت صفة من الصفات كالسخاء و العفة و الشجاعة ثابتة في نفس الإنسان حق ثبوتها لم يتخلف عنها أثرها الخاص و من آثار الإيمان بالله و رسوله الطاعة فيما أمر الله و رسوله به.
و من هنا يظهر أولا: أن أمر المؤمن بالإيمان في الحقيقة أمر للمتحقق بمرتبة من الإيمان أن يتلبس بمرتبة هي أعلى منها، و هذا النوع من الأمر فيه إيماء إلى أن الذي عند المأمور من المأمور به لا يرضي الآمر كل الإرضاء.
و ثانيا: أن قوله: «آمنوا بالله و رسوله و أنفقوا» أمر بالإنفاق مع التلويح إلى أنه أثر صفة هم متلبسون بها فعليهم أن ينفقوا لما اتصفوا بها فيئول إلى تعليل الإنفاق بإيمانهم.
و قوله: «و أنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه» استخلاف الإنسان جعله خليفة، و المراد به إما خلافتهم عن الله سبحانه يخلفونه في الأرض كما يشير إليه قوله: «إني جاعل في الأرض خليفة»: البقرة: 30، و التعبير عما بأيديهم من المال بهذا التعبير لبيان الواقع و لترغيبهم في الإنفاق فإنهم إذا أيقنوا أن المال لله و هم مستخلفون عليه وكلاء من ناحيته يتصرفون فيه كما أذن لهم سهل عليهم إنفاقه و لم تتحرج نفوسهم من ذلك.
و إما خلافتهم عمن سبقهم من الأجيال كما يخلف كل جيل سابقه، و في التعبير به أيضا ترغيب في الإنفاق فإنهم إذا تذكروا أن هذا المال كان لغيرهم فلم يدم عليهم علموا أنه كذلك لا يدوم لهم و سيتركونه لغيرهم و هان عليهم إنفاقه و سخت بذلك نفوسهم.
و قوله: «فالذين آمنوا منكم و أنفقوا لهم أجر كبير» وعد للأجر على الإنفاق تأكيدا للترغيب، و المراد بالإيمان الإيمان بالله و رسوله.
قوله تعالى: «و ما لكم لا تؤمنون بالله و الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم» إلخ، المراد بالإيمان الإيمان بحيث يترتب عليه آثاره و منها الإنفاق في سبيل الله - و إن شئت فقل: المراد ترتيب آثار ما عندهم من الإيمان عليه -.
و قوله: «و الرسول يدعوكم لتؤمنوا بربكم» عبر الرب بالرب و إضافة إليهم تلويحا إلى علة توجه الدعوة و الأمر كأنه قيل: يدعوكم لتؤمنوا بالله لأنه ربكم يجب عليكم أن تؤمنوا به.
و قوله: «و قد أخذ ميثاقكم إن كنتم مؤمنين» تأكيد للتوبيخ المفهوم من أول الآية، و ضمير «أخذ» لله سبحانه أو للرسول و على أي حال المراد بالميثاق المأخوذ هو الذي تدل عليه شهادتهم على وحدانية الله و رسالة رسوله يوم آمنوا به (صلى الله عليه وآله وسلم) من أنهم على السمع و الطاعة.
و قيل: المراد بالميثاق هو الميثاق المأخوذ منهم في الذر، و على هذا فضمير «أخذ» لله سبحانه، و فيه أنه بعيد عن سياق الاحتجاج عليهم فإنهم غافلون عنه، على أن أخذ الميثاق في الذر لا يختص بالمؤمنين بل يعم المنافقين و الكفار.
قوله تعالى: «هو الذي ينزل على عبده آيات بينات ليخرجكم من الظلمات إلى النور» إلخ، المراد بالآيات البينات آيات القرآن الكريم المبينة لهم ما عليهم من فرائض الدين، و فاعل «ليخرجكم» الضمير العائد إلى الله أو إلى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) و مرجع الثاني أيضا هو الأول فالميثاق ميثاقه و قد أخذه بواسطة رسوله أو بغير واسطته كما أن الإيمان به و برسوله إيمان به و لذلك قال في صدر الآية: «و ما لكم لا تؤمنون بالله» فذكر نفسه و لم يذكر رسوله إشارة إلى أن الإيمان برسوله إيمان به.
و قوله: «و إن الله بكم لرءوف رحيم» في تذييل الآية برأفته تعالى و رحمته إشارة إلى أن الإيمان الذي يدعوهم إليه رسوله خير لهم و أصلح و هم الذين ينتفعون به دون الله و رسوله، ففيه تأكيد ترغيبهم على الإيمان و الإنفاق.
قوله تعالى: «و ما لكم ألا تنفقوا في سبيل الله و لله ميراث السماوات و الأرض» الميراث و التراث المال الذي ينتقل من الميت إلى من بقي بعده من وراثه، و إضافة الميراث إلى السماوات و الأرض بيانية فالسماوات و الأرض هي الميراث بما فيهما من الأشياء التي خلق منهما مما يمتلكه ذوو الشعور من سكنتهما فالسماوات و الأرض شاملة لما فيهما مما خلق منهما و يتصرف فيها ذوو الشعور كالإنسان مثلا بتخصيص ما يتصرفون فيه لأنفسهم و هو الملك الاعتباري الذي هداهم الله سبحانه إلى اعتباره فيما بينهم لينتظم بذلك جهات حياتهم الدنيا.
غير أنهم لا يبقون و لا يبقى لهم بل يذهبهم الموت المقدر بينهم فينتقل ما في أيديهم إلى من بعدهم و هكذا حتى يفنى الجميع و لا يبقى إلا هو سبحانه.
فالأرض مثلا و ما فيها و عليها من مال ميراث من جهة أن كل جيل من سكانها يرثها ممن قبله فكانت ميراثا دائما دائرا بينهم خلفا عن سلف، و ميراث من جهة أنهم سيفنون جميعا و لا يبقى لها إلا الله الذي استخلفهم عليها.
و لله سبحانه ميراث السماوات و الأرض بكلا المعنيين، أما الأول: فلأنه الذي يملكهم المال و هو المالك لما ملكهم، قال تعالى: «لله ما في السماوات و الأرض»: لقمان: 26، و قال: «و لله ملك السماوات و الأرض»: النور: 42، و قال: «و آتوهم من مال الله الذي آتاكم»: النور: 33.
و أما الثاني: فظاهر آيات القيامة كقوله تعالى: «كل من عليها فان»: الرحمن: 26 و غيره، و الذي يسبق إلى الذهن أن المراد بكونهما ميراثا هو المعنى الثاني.
و كيف كان ففي الآية توبيخ شديد لهم على عدم إنفاقهم في سبيل الله من المال الذي لا يرثه بالحقيقة إلا هو تعالى و لا يبقى لهم و لا لغيرهم، و الإظهار في موضع الإضمار في قوله: «و لله» لتشديد التوبيخ.
قوله تعالى: «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا» إلخ، الاستواء بمعنى التساوي، و قسيم قوله: «من أنفق من قبل الفتح و قاتل» محذوف إيجازا لدلالة قوله: «أولئك أعظم درجة من الذين أنفقوا من بعد و قاتلوا» عليه.
و المراد بالفتح - كما قيل - فتح مكة أو فتح الحديبية و عطف القتال على الإنفاق لا يخلو من إشعار بل دلالة على أن المراد بالإنفاق في سبيل الله المندوب إليه في الآيات هو الإنفاق في الجهاد.
و كان الآية مسوقة لبيان أن الإنفاق في سبيل الله كلما عجل إليها كان أحب عند الله و أعظم درجة و منزلة و إلا فظاهر أن هذه الآيات نزلت بعد الفتح و القتال الذي بادروا إليه قبل الفتح و بعض المقاتل التي بعده.
و قوله: «و كلا وعد الله الحسنى» أي وعد الله المثوبة الحسنى كل من أنفق و قاتل قبل الفتح أو أنفق و قاتل بعده و إن كانت الطائفة الأولى أعظم درجة من الثانية، و فيه تطييب لقلوب المتأخرين إنفاقا و قتالا أن لهم نيلا من رحمته و ليسوا بمحرومين مطلقا فلا موجب لأن ييأسوا منها و إن تأخروا.
و قوله: «و الله بما تعملون خبير» تذييل متعلق بجميع ما تقدم ففيه تشديد للتوبيخ و تقرير و تثبيت لقوله: «لا يستوي منكم» إلخ، و لقوله: «و كلا وعد الله الحسنى» و يمكن أن يتعلق بالجملة الأخيرة لكن تعلقه بالجميع أعم و أشمل.
قوله تعالى: «من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له و له أجر كريم» قال الراغب: و سمي ما يدفع إلى الإنسان من المال بشرط رد بدله قرضا.
انتهى، و قال في المجمع،: و أصله القطع فهو قطعة عن مالكه بإذنه على ضمان رد مثله.
قال: و المضاعفة الزيادة على المقدار مثله أو أمثاله.
انتهى، و قال الراغب: الأجر و الأجرة ما يعود من ثواب العمل دنيويا كان أو أخرويا قال: و لا يقال إلا في النفع دون الضر بخلاف الجزاء فإنه يقال في النفع و الضر.
انتهى ملخصا.
و ما يعطيه تعالى من الثواب على عمل العبد تفضل منه من غير استحقاق من العبد فإن العبد و ما يأتيه من عمل ملك طلق له سبحانه ملكا لا يقبل النقل و الانتقال غير أنه اعتبر اعتبارا تشريعيا العبد مالكا و ملكه عمله، و هو المالك لما ملكه و هو تفضل آخر ثم اختار ما أحبه من عمله فوعده ثوابا على عمله و سماه أجرا و جزاء و هو تفضل آخر، و لا ينتفع به في الدنيا و الآخرة إلا العبد قال تعالى: «للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم»: آل عمران: 172، و قال: «إن الذين آمنوا و عملوا الصالحات لهم أجر غير ممنون»: حم السجدة: 8، و قال بعد وصف الجنة و نعيمها: «إن هذا كان لكم جزاء و كان سعيكم مشكورا»: الإنسان: 22، و ما وعده من الشكر و عدم المن عند إيتاء الثواب تمام التفضل.
و في الآية حث بليغ على ما ندب إليه من الإنفاق في سبيل الله حيث استفهم عن الذي ينفق منهم في سبيل الله و مثل إنفاقه بأنه قرض يقرضه الله سبحانه و عليه أن يرده ثم قطع أنه لا يرد مثله إليه بل يضاعفه و لم يكتف بذلك بل أضاف إليه أجرا كريما في الآخرة و الأجر الكريم هو المرضي في نوعه و الأجر الأخروي كذلك لأنه غاية ما يتصور من النعمة عند غاية ما يتصور من الحاجة.
قوله تعالى: «يوم ترى المؤمنين و المؤمنات يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم» إلخ، اليوم ظرف لقوله: «له أجر كريم» و المراد به يوم القيامة، و الخطاب في «ترى» للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو لكل سامع يصح خطابه، و الظاهر أن الباء في «بأيمانهم» بمعنى في.
و المعنى: لمن أقرض الله قرضا حسنا أجر كريم يوم ترى أنت يا رسول الله - أو كل من يصح منه الرؤية - المؤمنين بالله و رسوله و المؤمنات يسعى نورهم أمامهم و في أيمانهم و اليمين هو الجهة التي منها سعادتهم.
و الآية مطلقة تشمل مؤمني جميع الأمم و لا تختص بهذه الأمة، و التعبير عن إشراق النور بالسعي يشعر بأنهم ساعون إلى درجات الجنة التي أعدها الله سبحانه لهم و تستنير لهم جهات السعادة و مقامات القرب واحدة بعد واحدة حتى يتم لهم نورهم كما قال تعالى: «و سيق الذين اتقوا ربهم إلى الجنة زمرا»: الزمر: 73، و قال: «يوم نحشر المتقين إلى الرحمن وفدا»: مريم: 85، و قال: «يوم لا يخزي الله النبي و الذين آمنوا معه نورهم يسعى بين أيديهم و بأيمانهم يقولون ربنا أتمم لنا نورنا»: التحريم: 8.
و للمفسرين في تفسير مفردات الآية أقوال مختلفة أغمضنا عنها لعدم دليل من لفظ الآية عليها، و سيوافيك ما في الروايات المأثورة في البحث الروائي الآتي إن شاء الله.
و قوله: «بشراكم اليوم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها» حكاية ما يقال للمؤمنين و المؤمنات يوم القيامة، و القائل الملائكة بأمر من الله و التقدير يقال لهم: «بشراكم» إلخ، و المراد بالبشرى ما يبشر به و هو الجنة و الباقي ظاهر.
و قوله: «ذلك هو الفوز العظيم» كلام الله سبحانه و الإشارة إلى ما ذكر من سعي النور و البشرى أو من تمام قول الملائكة و الإشارة إلى الجنات و الخلود فيها.
قوله تعالى: «يوم يقول المنافقون و المنافقات للذين آمنوا انظرونا نقتبس من نوركم» إلى آخر الآية، النظر إذا تعدى بنفسه أفاد معنى الانتظار و الإمهال، و إذا عدي بإلى نحو نظر إليه كان بمعنى إلقاء البصر نحو الشيء و إذا عدي بفي كان بمعنى التأمل، و الاقتباس أخذ قبس من النار.
و السياق يفيد أنهم اليوم في ظلمة أحاطت بهم سرادقها و قد ألجئوا إلى المسير نحو دارهم التي يخلدون فيها غير أن المؤمنين و المؤمنات يسيرون بنورهم الذي يسعى بين أيديهم و بأيمانهم فيبصرون الطريق و يهتدون إلى مقاماتهم، و أما المنافقون و المنافقات فهم مغشيون بالظلمة لا يهتدون سبيلا و هم مع المؤمنين كما كانوا في الدنيا معهم و معدودين منهم فيسبق المؤمنون و المؤمنات إلى الجنة و يتأخر عنهم المنافقون و المنافقات في ظلمة تغشاهم فيسألون المؤمنين و المؤمنات أن ينتظروهم حتى يلحقوا بهم و يأخذوا قبسا من نورهم ليستضيئوا به في طريقهم.
و قوله: «قيل ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا» القائل به إما الملائكة أو قوم من كمل المؤمنين كأصحاب الأعراف.
و كيف كان فهو من الله و بإذنه، و الخطاب بقوله: «ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا» قيل: إنه خطاب مبني على التهكم و الاستهزاء كما كانوا يستهزءون في الدنيا بالمؤمنين، و الأظهر على هذا أن يكون المراد بالوراء الدنيا، و محصل المعنى: ارجعوا إلى الدنيا التي تركتموها وراء ظهوركم و عملتم فيها ما عملتم على النفاق، و التمسوا من تلك الأعمال نورا فإنما النور نور الأعمال أو الإيمان و لا إيمان لكم و لا عمل.
و يمكن أن يجعل هذا وجها على حياله من غير معنى الاستهزاء بأن يكون قوله: «ارجعوا» أمرا بالرجوع إلى الدنيا و اكتساب النور بالإيمان و العمل الصالح و ليسوا براجعين و لا يستطيعون فيكون الأمر بالرجوع كالأمر بالسجود المذكور في قوله تعالى: «يوم يكشف عن ساق و يدعون إلى السجود فلا يستطيعون خاشعة أبصارهم ترهقهم ذلة و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون»: القلم: 43.
و قيل: المراد ارجعوا إلى المكان الذي قسم فيه النور و التمسوا من هناك فيرجعون فلا يجدون شيئا فينصرفون إليهم و قد ضرب بينهم بسور، و هذا خدعة منه تعالى يخدعهم بها كما كانوا في الدنيا يخادعونه كما قال: «إن المنافقين يخادعون الله و هو خادعهم»: النساء: 142.
قوله تعالى: «فضرب بينهم بسور له باب باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب» سور المدينة حائطها الحاجز بينها و بين الخارج منها، و الضمير في «فضرب بينهم بسور» راجع إلى المؤمنين و المنافقين جميعا أي ضرب بين المؤمنين و بين المنافقين بسور حاجز يحجز إحدى الطائفتين عن الأخرى.
قيل: السور هو الأعراف و هو غير بعيد و قد تقدمت إشارة إليه في تفسير قوله تعالى: «و بينهما حجاب و على الأعراف رجال» الآية: الأعراف: 46، و قيل: السور غير الأعراف.
و قوله: «له باب» أي للسور باب و هذا يشبه حال المنافقين في الدنيا فقد كانوا فيها بين المؤمنين لهم اتصال بهم و ارتباط و هم مع ذلك محجوبون عنهم بحجاب.
على أنهم يرون أهل الجنة و يزيد بذلك حسرتهم و ندامتهم.
و قوله: «باطنه فيه الرحمة و ظاهره من قبله العذاب» «باطنه» مبتدأ و جملة فيه الرحمة» مبتدأ و خبر و هي خبر باطنه و كذا ظاهره مبتدأ و جملة من قبله العذاب مبتدأ و خبر هي خبره، و ضميرا فيه و من قبله للباطن و الظاهر.
و يظهر من كون باطن السور فيه رحمة و ظاهره من قبله العذاب أن السور محيط بالمؤمنين و هم في داخله و المنافقون في الخارج منه.
و في اشتمال داخله الذي يلي المؤمنين على الرحمة و ظاهره الذي يلي المنافقين على العذاب مناسبة لحال الإيمان في الدنيا فإنه نعمة لأهل الإخلاص من المؤمنين يبتهجون بها و يلتذون و عذاب لأهل النفاق يتحرجون من التلبس به و يتألمون منه.
قوله تعالى: «ينادونهم أ لم نكن معكم» إلى آخر الآية استئناف في معنى جواب السؤال كأنه قيل: فما ذا يفعل المنافقون و المنافقات بعد ضرب السور و مشاهدة العذاب من ظاهره؟ فقيل: ينادونهم إلخ.
و المعنى: ينادي المنافقون و المنافقات المؤمنين و المؤمنات بقولهم: «أ لم نكن معكم» يريدون به كونهم في الدنيا مع المؤمنين و المؤمنات في ظاهر الدين.
و قوله: «قالوا بلى» إلى آخر الآية جواب المؤمنين و المؤمنات لهم و المعنى: «قالوا» أي قال المؤمنون و المؤمنات جوابا لهم «بلى» كنتم في الدنيا معنا «و لكنكم فتنتم» أي محنتم و أهلكتم «أنفسكم و تربصتم» الدوائر بالدين و أهله «و ارتبتم» و شككتم في دينكم «و غرتكم الأماني» و منها أمنيتكم أن الدين سيطفأ نوره و يتركه أهله «حتى جاء أمر الله» و هو الموت «و غركم بالله الغرور» بفتح الغين و هو الشيطان.
و الآية - كما ترى - تفيد أن المنافقين و المنافقات يستنصرون المؤمنين و المؤمنات على ما هم فيه من الظلمة متوسلين بأنهم كانوا معهم في الدنيا ثم تفيد أن المؤمنين و المؤمنات يجيبون بأنهم كانوا معهم لكن قلوبهم كانت لا توافق ظاهر حالهم حيث يفتنون أنفسهم و يتربصون و يرتابون و تغرهم الأماني و يغرهم بالله الغرور، و هذه الصفات الخبيثة آفات القلوب فكانت القلوب غير سليمة و لا ينفع يوم القيامة إلا القلب السليم قال تعالى: «يوم لا ينفع مال و لا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم»: الشعراء: 89.
قوله تعالى: «فاليوم لا يؤخذ منكم فدية و لا من الذين كفروا» تتمة كلام المؤمنين و المؤمنات يخاطبون به المنافقين و المنافقات و يضيفون إليهم الكفار و هم المعلنون لكفرهم أنهم رهناء أعمالهم كما قال تعالى: «كل نفس بما كسبت رهينة»: المدثر: 38، لا يؤخذ منهم فدية يخلصون بها أنفسهم و الفدية أحد الأمرين اللذين بهما التخلص من الرهانة و الآخر ناصر ينصر فينجي و قد نفوه بقولهم: «مأواكم النار» إلخ.
فقوله: «مأواكم النار هي مولاكم و بئس المصير» ينفي أي ناصر ينصرهم و ينجيهم من النار غير النار على ما يفيده قوله: «هي مولاكم» من الحصر، و المولى هو الناصر و الجملة مسوقة للتهكم.
و يمكن أن يكون المولى بمعنى من يلي الأمر فإنهم كانوا يدعون لحوائجهم من المأكل و المشرب و الملبس و المنكح و المسكن غير الله سبحانه و حقيقته النار فاليوم مولاهم النار و هي التي تعد لهم ذلك فمأكلهم من الزقوم و مشربهم من الحميم و ملبسهم من ثياب قطعت من النار و قرناؤهم الشياطين و مأواهم النار على ما أخبر الله سبحانه به في آيات كثيرة من كلامه.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن جرير و ابن أبي حاتم و ابن مردويه و أبو نعيم في الدلائل من طريق زيد بن أسلم عن عطاء بن يسار عن أبي سعيد الخدري قال: خرجنا مع رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عام الحديبية حتى إذا كان بعسفان قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوشك أن يأتي قوم تحقرون أعمالكم مع أعمالهم قلنا: من هم يا رسول الله أ قريش؟ قال: لا و لكنهم أهل اليمن هم أرق أفئدة و ألين قلوبا. قلنا: أ هم خير منا يا رسول الله؟ قال: لو كان لأحدهم جبل من ذهب فأنفقه ما أدرك مد أحدكم و لا نصيفه ألا إن هذا فصل ما بيننا و بين الناس «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل» الآية.
أقول: روي هذا المعنى بغير واحد من الطرق بألفاظ متقاربة و هي مشتملة على الآية و يشكل بأن ظاهر سياق الآيات أنها نزلت بعد الفتح و المراد به إما الحديبية أو فتح مكة فلا تنطبق على ما قبل الفتح.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن المنذر عن عكرمة قال: لما نزلت هذه الآية «لا يستوي منكم من أنفق من قبل الفتح و قاتل» قال أبو الدحداح: و الله لأنفقن اليوم نفقة أدرك بها من قبلي و لا يسبقني بها أحد بعدي فقال: اللهم كل شيء يملكه أبو الدحداح فإن نصفه لله حتى بلغ فرد نعله ثم قال: و هذا.
و في تفسير القمي،: في قوله: «يوم ترى المؤمنين و المؤمنات - يسعى نورهم بين أيديهم و بأيمانهم» قال: يقسم النور بين الناس يوم القيامة على قدر إيمانهم يقسم للمنافق فيكون نوره بين إبهام رجله اليسرى فينظر نوره ثم يقول للمؤمنين: مكانكم حتى أقتبس من نوركم فيقول المؤمنون لهم: ارجعوا وراءكم فالتمسوا نورا و يضرب بينهم بسور له باب فينادون من وراء السور للمؤمنين: «أ لم نكن معكم قالوا: بلى و لكنكم فتنتم أنفسكم» قال: بالمعاصي «و تربصتم و ارتبتم» قال: أي شككتم و تربصتم. و قوله: «فاليوم لا يؤخذ منكم فدية» قال: و الله ما عنى بذلك اليهود و النصارى و ما عنى به إلا أهل القبلة ثم قال: «مأواكم النار هي مولاكم» قال: هي أولى بكم.
أقول: يعني بأهل القبلة المنافقين منهم.
و في الكافي، بإسناده عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: تجنبوا المنى فإنها تذهب بهجة ما خولتم و تستصغرون بها مواهب الله جل و عز عندكم و تعقبكم الحسرات فيما وهمتم به أنفسكم.
|