بيان
تذكر السورة يوم الفصل و هو يوم القيامة و تؤكد الإخبار بوقوعه و تشفعه بالوعيد الشديد للمكذبين به و الإنذار و التبشير لغيرهم و يربو فيها جانب الوعيد على غيره فقد كرر فيها قوله: «ويل يومئذ للمكذبين» عشر مرات.
و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «و المرسلات عرفا» الآية و ما يتلوها إلى تمام ست آيات إقسام منه تعالى بأمور يعبر عنها بالمرسلات فالعاصفات و الناشرات فالفارقات فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا، و الأوليان أعني المرسلات عرفا و العاصفات عصفا لا تخلوان لو خليتا و نفسهما مع الغض عن السياق من ظهور ما في الرياح المتعاقبة الشديدة الهبوب لكن الأخيرة أعني الملقيات ذكرا عذرا أو نذرا كالصريحة في الملائكة النازلين على الرسل الحاملين لوحي الرسالة الملقين له إليهم إتماما للحجة أو إنذارا و بقية الصفات لا تأبى الحمل على ما يناسب هذا المعنى.
و حمل جميع الصفات الخمس على إرادة الرياح كما هو ظاهر المرسلات و العاصفات - على ما عرفت - يحتاج إلى تكلف شديد في توجيه الصفات الثلاث الباقية و خاصة في الصفة الأخيرة.
و كذا حمل المرسلات و العاصفات على إرادة الرياح و حمل الثلاث الباقية أو الأخيرتين أو الأخيرة فحسب على ملائكة الوحي إذ لا تناسب ظاهرا بين الرياح و بين ملائكة الوحي حتى يقارن بينها في الأقسام و ينظم الجميع في سلك واحد، و ما وجهوه من مختلف التوجيهات معان بعيدة عن الذهن لا ينتقل إليها في مفتتح الكلام من غير تنبيه سابق.
فالوجه هو الغض عن هذه الأقاويل و هي كثيرة جدا لا تكاد تنضبط، و حمل المذكورات على إرادة ملائكة الوحي كنظيرتها في مفتتح سورة الصافات «و الصافات صفا فالزاجرات زجرا فالتاليات ذكرا» و في معناها قوله تعالى: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»: الجن: 28.
فقوله: «و المرسلات عرفا» إقسام منه تعالى بها و العرف بالضم فالسكون الشعر النابت على عنق الفرس و يشبه به الأمور إذا تتابعت يقال: جاءوا كعرف الفرس، و يستعار فيقال: جاء القطا عرفا أي متتابعة و جاءوا إليه عرفا واحدا أي متتابعين، و العرف أيضا المعروف من الأمر و النهي و «عرفا» حال بالمعنى الأول مفعول له بالمعنى الثاني، و الإرسال خلاف الإمساك، و تأنيث المرسلات باعتبار الجماعات أو باعتبار الروح التي تنزل بها الملائكة قال تعالى: «ينزل الملائكة بالروح من أمره على من يشاء من عباده»: النحل: 2 و قال «يلقي الروح من أمره على من يشاء من عباده»: المؤمن: 15.
و المعنى أقسم بالجماعات المرسلات من ملائكة الوحي.
و قيل: المراد بالمرسلات عرفا الرياح المتتابعة المرسلة و قد تقدمت الإشارة إلى ضعفه، و مثله في الضعف القول بأن المراد بها الأنبياء (عليهم السلام) فلا يلائمه ما يتلوها.
قوله تعالى: «فالعاصفات عصفا» عطف على المرسلات و المراد بالعصف سرعة السير استعارة من عصف الرياح أي سرعة هبوبها إشارة إلى سرعة سيرها إلى ما أرسلت إليه، و المعنى أقسم بالملائكة الذين يرسلون متتابعين فيسرعون في سيرهم كالرياح العاصفة.
قوله تعالى: «و الناشرات نشرا» إقسام آخر، و نشر الصحيفة و الكتاب و الثوب و نحوها: بسطه، و المراد بالنشر نشر صحف الوحي كما يشير إليه قوله تعالى «كلا إنها تذكرة فمن شاء ذكره في صحف مكرمة مرفوعة مطهرة بأيدي سفرة كرام بررة»: عبس: 16 و المعنى و أقسم بالملائكة الناشرين للصحف المكتوبة عليها الوحي للنبي ليتلقاه.
و قيل: المراد بها الرياح ينشرها الله تعالى بين يدي رحمته و قيل: الرياح الناشرة للسحاب، و قيل: الملائكة الناشرين لصحائف الأعمال، و قيل: الملائكة نشروا أجنحتهم حين النزول و قيل: غير ذلك.
قوله تعالى «فالفارقات فرقا» المراد به الفرق بين الحق و الباطل و بين الحلال و الحرام، و الفرق المذكور صفة متفرعة على النشر المذكور.
قوله تعالى: «فالملقيات ذكرا عذرا أو نذرا» المراد بالذكر القرآن يقرءونه على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو مطلق الوحي النازل على الأنبياء المقرو عليهم.
و الصفات الثلاث أعني النشر و الفرق و إلقاء الذكر مترتبة فإن الفرق بين الحق و الباطل و الحلال و الحرام يتحقق بنشر الصحف و إلقاء الذكر فبالنشر يشرع الفرق في التحقق و بالتلاوة يتم تحققه فالنشر يترتب عليه مرتبة من وجود الفرق و يترتب عليها تمام وجوده بالإلقاء.
و قوله: «عذرا أو نذرا» هما من المفعول له و «أو» للتنويع قيل: هما مصدران بمعنى الإعذار و الإنذار، و الإعذار الإتيان بما يصير به معذورا و المعنى أنهم يلقون الذكر لتكون عذرا لعباده المؤمنين بالذكر و تخويفا لغيرهم.
و قيل: ليكون عذرا يعتذر به الله إلى عباده في العقاب أنه لم يكن إلا على وجه الحكمة، و يئول إلى إتمام الحجة، فمحصل المعنى عليه أنهم يلقون الذكر ليكون إتماما للحجة على المكذبين و تخويفا لغيرهم، و هو معنى حسن.
قوله تعالى: «إنما توعدون لواقع» جواب القسم، و ما موصولة و الخطاب لعامة البشر، و المراد بما توعدون يوم القيامة بما فيه من العقاب و الثواب و الواقع أبلغ من الكائن لما فيه من شائبة الاستقرار، و المعنى أن الذي وعدكم الله به من البعث و العقاب و الثواب سيتحقق لا محالة.
كلام في إقسامه تعالى في القرآن
من لطيف صنعة البيان في هذه الآيات الست أنها مع ما تتضمن الإقسام لتأكيد الخبر الذي في الجواب تتضمن الحجة على مضمون الجواب و هو وقوع الجزاء الموعود فإن التدبير الربوبي الذي يشير إليه القسم أعني إرسال المرسلات العاصفات و نشرها الصحف و فرقها و إلقاءها الذكر للنبي تدبير لا يتم إلا مع وجود التكليف الإلهي و التكليف لا يتم إلا مع تحتم وجود يوم معد للجزاء يجازى فيه العاصي و المطيع من المكلفين.
فالذي أقسم تعالى به من التدبير لتأكيد وقوع الجزاء الموعود هو بعينه حجة على وقوعه كأنه قيل: أقسم بهذه الحجة أن مدلولها واقع.
و إذا تأملت الموارد التي أورد فيها القسم في كلامه تعالى و أمعنت فيها وجدت المقسم به فيها حجة دالة على حقية الجواب كقوله تعالى في الرزق: «فورب السماء و الأرض إنه لحق»: الذاريات: 23 فإن ربوبية السماء و الأرض هي المبدأ لرزق المرزوقين، و قوله: «لعمرك إنهم لفي سكرتهم يعمهون»: الحجر: 72 فإن حياة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الطاهرة المصونة بعصمة من الله دالة على سكرهم و عمههم، و قوله: «و الشمس و ضحاها - إلى أن قال - و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها»: الشمس: 10 فإن هذا النظام المتقن المنتهي إلى النفس الملهمة المميزة لفجورها و تقواها هو الدليل على فلاح من زكاها و خيبة من دساها.
و على هذا النسق سائر ما ورد من القسم في كلامه تعالى و إن كان بعضها لا يخلو من خفاء يحوج إلى إمعان من النظر كقوله: «و التين و الزيتون و طور سينين»: التين: 2 و عليك بالتدبر فيها.
قوله تعالى: «فإذا النجوم طمست - إلى قوله - أقتت» بيان لليوم الموعود الذي أخبر بوقوعه في قوله: «إنما توعدون لواقع» و جواب إذا محذوف يدل عليه قوله: «لأي يوم أجلت - إلى قوله - للمكذبين».
و قد عرف سبحانه اليوم الموعود بذكر حوادث واقعة تلازم انقراض العالم الإنساني و انقطاع النظام الدنيوي كانطماس النجوم و انشقاق الأرض و اندكاك الجبال و تحول النظام إلى نظام آخر يغايره، و قد تكرر ذلك في كثير من السور القرآنية و خاصة السور القصار كسورة النبإ و النازعات و التكوير و الانفطار و الانشقاق و الفجر و الزلزال و القارعة، و غيرها، و قد عدت الأمور المذكورة فيها في الأخبار من أشراط الساعة.
و من المعلوم بالضرورة من بيانات الكتاب و السنة أن نظام الحياة في جميع شئونها في الآخرة غير نظامها في الدنيا فالدار الآخرة دار أبدية فيها محض السعادة لساكنيها لهم فيها ما يشاءون أو محض الشقاء و ليس لهم فيها إلا ما يكرهون و الدار الدنيا دار فناء و زوال لا يحكم فيها إلا الأسباب و العوامل الخارجية الظاهرية مخلوط فيها الموت بالحياة، و الفقدان بالوجدان، و الشقاء بالسعادة، و التعب بالراحة، و المساءة بالسرور، و الآخرة دار جزاء و لا عمل و الدنيا دار عمل و لا جزاء، و بالجملة النشأة غير النشأة.
فتعريفه تعالى نشأة البعث و الجزاء بأشراطها التي فيها انطواء بساط الدنيا بخراب بنيان أرضها و انتساف جبالها و انشقاق سمائها و انطماس نجومها إلى غير ذلك من قبيل تحديد نشأة بسقوط النظام الحاكم في نشأة أخرى قال تعالى: «و لقد علمتم النشأة الأولى فلو لا تذكرون»: الواقعة: 62.
فقوله: «فإذا النجوم طمست» أي محي أثرها من النور و غيره، و الطمس إزالة الأثر بالمحو قال تعالى: «و إذا النجوم انكدرت»: التكوير: 2.
و قوله: «و إذا السماء فرجت» أي انشقت، و الفرج و الفرجة الشق بين الشيئين قال تعالى: «إذا السماء انشقت»: الانشقاق: 1.
و قوله: «و إذا الجبال نسفت» أي قلعت و أزيلت من قولهم: نسفت الريح الشيء أي اقتلعته و أزالته قال تعالى: «و يسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا»: طه: 105.
و قوله: «و إذا الرسل أقتت» أي عين لها الوقت الذي تحضر فيه للشهادة على الأمم أو بلغت الوقت الذي تنتظره لأداء شهادتها على الأمم من التأقيت بمعنى التوقيت، قال تعالى: «فلنسألن الذين أرسل إليهم و لنسألن المرسلين»: الأعراف: 6، و قال: «يوم يجمع الله الرسل فيقول ما ذا أجبتم»: المائدة: 109.
قوله تعالى: «لأي يوم أجلت - إلى قوله: - للمكذبين» الأجل المدة المضروبة للشيء، و التأجيل جعل الأجل للشيء، و يستعمل في لازمه و هو التأخير كقولهم: دين مؤجل أي له مدة بخلاف الحال و هذا المعنى هو الأنسب للآية، و الضمير في «أجلت» للأمور المذكورة قبلا من طمس النجوم و فرج السماء و نسف الجبال و تأقيت الرسل، و المعنى لأي يوم أخرت يوم أخرت هذه الأمور.
و احتمل أن يكون «أجلت» بمعنى ضرب الأجل للشيء و أن يكون الضمير المقدر فيه راجعا إلى الرسل، أو إلى ما يشعر به الكلام من الأمور المتعلقة بالرسل مما أخبروا به من أحوال الآخرة و أهوالها و تعذيب الكافرين و تنعيم المؤمنين فيها، و لا يخلو كل ذلك من خفاء.
و قد سيقت الآية و التي بعدها أعني قوله: «لأي يوم أجلت ليوم الفصل» في صورة الاستفهام و جوابه للتعظيم و التهويل و التعجيب و أصل المعنى أخرت هذه الأمور ليوم الفصل.
و هذا النوع من الجمل الاستفهامية في معنى تقدير القول، و المعنى أن من عظمة هذا اليوم و هوله و كونه عجبا أنه يسأل فيقال: لأي يوم أخرت هذه الأمور العظيمة الهائلة العجيبة فيجاب: ليوم الفصل.
و قوله: «ليوم الفصل» هو يوم الجزاء الذي فيه فصل القضاء قال تعالى: «إن الله يفصل بينهم يوم القيامة»: الحج: 17.
و قوله: «و ما أدراك ما يوم الفصل» تعظيم لليوم و تفخيم لأمره.
و قوله: «ويل يومئذ للمكذبين» الويل الهلاك، و المراد بالمكذبين المكذبون بيوم الفصل الذي فيه ما يوعدون فإن الآيات مسوقة لبيان وقوعه و قد أقسم على أنه واقع.
و في الآية دعاء على المكذبين، و قد استغنى به عن ذكر جواب إذا في قوله: «فإذا النجوم طمست» إلخ و التقدير فإذا كان كذا و كذا وقع ما توعدون من العذاب على التكذيب أو التقدير فإذا كان كذا و كذا كان يوم الفصل و هلك المكذبون به.
بحث روائي
في الخصال، عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: أسرع الشيب إليك يا رسول الله قال (صلى الله عليه وآله وسلم): شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.
و في الدر المنثور، أخرج البخاري و مسلم و النسائي و ابن مردويه عن ابن مسعود قال: بينما نحن مع النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في غار بمنى إذ نزلت عليه سورة و المرسلات عرفا فإنه يتلوها و إني لألقاها من فيه و إن فاه لرطب بها إذ وثبت عليه حية فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): اقتلوها فابتدرناها فذهبت فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) وقيت شركم كما وقيتم شرها.
أقول: و رواها أيضا بطريقين آخرين.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و المرسلات عرفا» قال: آيات تتبع بعضها بعضا.
و في المجمع،: في الآية و قيل: إنها الملائكة أرسلت بالمعروف من أمر الله و نهيه:. في رواية الهروي عن ابن مسعود، و عن أبي حمزة الثمالي عن أصحاب علي عنه (عليه السلام).
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «فإذا النجوم طمست» قال: يذهب نورها و تسقط.
و فيه، في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في قوله: «فإذا النجوم طمست» فطمسها ذهاب ضوئها «و إذا السماء فرجت» قال: تفرج و تنشق «و إذا الرسل أقتت» قال: بعثت في أوقات مختلفة.
و في المجمع، قال الصادق (عليه السلام): «أقتت» أي بعثت في أوقات مختلفة.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «لأي يوم أجلت» قال: أخرت.
|