تتضمن السورة الإخبار بمجيء يوم الفصل و صفته و الاحتجاج على أنه حق لا ريب فيه، فقد افتتحت بذكر تساؤلهم عن نبئه ثم ذكر في سياق الجواب و لحن التهديد أنهم سيعلمون ثم احتج على ثبوته بالإشارة إلى النظام المشهود في الكون بما فيه من التدبير الحكيم الدال بأوضح الدلالة على أن وراء هذه النشأة المتغيرة الدائرة نشأة ثابتة باقية، و أن عقيب هذه الدار التي فيها عمل و لا جزاء دارا فيها جزاء و لا عمل فهناك يوم يفصح عنه هذا النظام.
ثم تصف اليوم بما يقع فيه من إحضار الناس و حضورهم و انقلاب الطاغين إلى عذاب أليم و المتقين إلى نعيم مقيم و يختم الكلام بكلمة في الإنذار، و السورة مكية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «عم يتساءلون» «عم» أصله عما و ما استفهامية تحذف الألف منها اطرادا إذا دخل عليها حرف الجر نحو لم و مم و على م و إلى م، و التساؤل سؤال القوم بعضهم بعضا عن أمر أو سؤال بعضهم بعد بعض عن أمر و إن كان المسئول غيرهم، فهم كان يسأل بعضهم بعضا عن أمر أو كان بعضهم بعد بعض يسأل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أمر و حيث كان سياق السورة سياق جواب يغلب فيه الإنذار و الوعيد تأيد به أن المتسائلين هم كفار مكة من المشركين النافين للنبوة و المعاد دون المؤمنين و دون الكفار و المؤمنين جميعا.
فالتساؤل من المشركين و الإخبار عنه في صورة الاستفهام للإشعار بهوانه و حقارته لظهور الجواب عنه ظهورا ما كان ينبغي معه أن يتساءلوا عنه.
قوله تعالى: «عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون» جواب عن الاستفهام السابق أي يتساءلون عن النبإ العظيم، و لا يخفى ما في توصيف النبإ المتسائل عنه بالعظيم من تعظيمه و تفخيم أمره.
و المراد بالنبإ العظيم نبأ البعث و القيامة الذي يهتم به القرآن العظيم في سورة المكية و لا سيما في العتائق النازلة في أوائل البعثة كل الاهتمام.
و يؤيد ذلك سياق آيات السورة بما فيه من الاقتصار على ذكر صفة يوم الفصل و ما تقدم عليها من الحجة على أنه حق واقع.
و قيل: المراد به نبأ القرآن العظيم، و يدفعه كون السياق بحسب مصبه أجنبيا عنه و إن كان الكلام لا يخلو من إشارة إليه استلزاما.
و قيل: النبأ العظيم ما كانوا يختلفون فيه من إثبات الصانع و صفاته و الملائكة و الرسل و البعث و الجنة و النار و غيرها، و كان القائل به اعتبر فيه ما في السورة من الإشارة إلى حقية جميع ذلك مما تتضمنه الدعوة الحقة الإسلامية.
و يدفعه أن الإشارة إلى ذلك كله من لوازم صفة البعث المتضمنة لجزاء الاعتقاد الحق و العمل الصالح و الكفر و الإجرام، و قد دخل فيما في السورة من صفة يوم الفصل تبعا و بالقصد الثاني.
على أن المراد بهؤلاء المتسائلين - كما تقدم - المشركون و هم يثبتون الصانع و الملائكة و ينفون ما وراء ذلك مما ذكر.
و قوله: «الذي هم فيه مختلفون» إنما اختلفوا في نحو إنكاره و هم متفقون في نفيه فمنهم من كان يرى استحالته فينكره كما هو ظاهر قولهم على ما حكاه الله: «هل ندلكم على رجل ينبئكم إذا مزقتم كل ممزق إنكم لفي خلق جديد»: سبأ: 7، و منهم من كان يستبعده فينكره و هو قولهم: «أ يعدكم أنكم إذا متم و كنتم ترابا و عظاما أنكم مخرجون هيهات هيهات لما توعدون»: المؤمنون: 36، و منهم من كان يشك فيه فينكره قال تعالى: «بل ادارك علمهم في الآخرة بل هم في شك منها»: النمل 66، و منهم من كان يوقن به لكنه لا يؤمن عنادا فينكره كما كان لا يؤمن بالتوحيد و النبوة و سائر فروع الدين بعد تمام الحجة عنادا قال تعالى: «بل لجوا في عتو و نفور»: الملك: 21.
و المحصل من سياق الآيات الثلاث و ما يتلوها أنهم لما سمعوا ما ينذرهم به القرآن من أمر البعث و الجزاء يوم الفصل ثقل عليهم ذلك فغدوا يسأل بعضهم بعضا عن شأن هذا النبإ العجيب الذي لم يكن مما قرع أسماعهم حتى اليوم، و ربما راجعوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين و سألوهم عن صفة اليوم و أنه متى هذا الوعد إن كنتم صادقين و ربما كانوا يراجعون في بعض ما قرع سمعهم من حقائق القرآن و احتوته دعوته الجديدة أهل الكتاب و خاصة اليهود و يستمدونهم في فهمه.
و قد أشار تعالى في هذه السورة إلى قصة تساؤلهم في صورة السؤال و الجواب فقال: «عم يتساءلون» و هو سؤال عما يتساءلون عنه.
ثم قال: «عن النبإ العظيم الذي هم فيه مختلفون» و هو جواب السؤال عما يتساءلون عنه.
ثم قال: «كلا سيعلمون» إلخ، و هو جواب عن تساؤلهم.
و للمفسرين في مفردات الآيات الثلاث و تقرير معانيها وجوه كثيرة تركناها لعدم ملاءمتها السياق و الذي أوردناه هو الذي يعطيه السياق.
قوله تعالى: «كلا سيعلمون ثم كلا سيعلمون» ردع عن تساؤلهم عنه بانين ذلك على الاختلاف في النفي أي ليرتدعوا عن التساؤل لأنه سينكشف لهم الأمر بوقوع هذا النبإ فيعلمونه، و في هذا التعبير تهديد كما في قوله: «و سيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون»: الشعراء: 227.
و قوله: «ثم كلا سيعلمون» تأكيد للردع و التهديد السابقين و لحن التهديد هو القرينة على أن المتسائلين هم المشركون النافون للبعث و الجزاء دون المؤمنين و دون المشركين و المؤمنين جميعا.
قوله تعالى: «أ لم نجعل الأرض مهادا» الآية إلى تمام إحدى عشرة آية مسوق سوق الاحتجاج على ثبوت البعث و الجزاء و تحقق هذا النبإ العظيم و لازم ثبوته صحة ما في قوله: «سيعلمون» من الإخبار بأنهم سيشاهدونه فيعلمون.
تقرير الحجة: أن العالم المشهود بأرضه و سمائه و ليله و نهاره و البشر المتناسلين و النظام الجاري فيها و التدبير المتقن الدقيق لأمورها من المحال أن يكون لعبا باطلا لا غاية لها ثابتة باقية فمن الضروري أن يستعقب هذا النظام المتحول المتغير الدائر إلى عالم ذي نظام ثابت باق، و أن يظهر فيه أثر الصلاح الذي تدعو إليه الفطرة الإنسانية و الفساد الذي ترتدع عنه، و لم يظهر في هذا العالم المشهود أعني سعادة المتقين و شقاء المفسدين، و من المحال أن يودع الله الفطرة دعوة غريزية أو ردعا غريزيا بالنسبة إلى ما لا أثر له في الخارج و لا حظ له من الوقوع فهناك يوم يلقاه الإنسان و يجزي فيه على عمله إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا.
فالآيات في معنى قوله تعالى «و ما خلقنا السماء و الأرض و ما بينهما باطلا ذلك ظن الذين كفروا فويل للذين كفروا من النار أم نجعل الذين آمنوا و عملوا الصالحات كالمفسدين في الأرض أم نجعل المتقين كالفجار»: ص: 28.
و بهذا البيان يثبت أن هناك يوما يلقاه الإنسان و يجزي فيه بما عمل إن خيرا فخيرا و إن شرا فشرا فليس للمشركين أن يختلفوا فيه فيشك فيه بعضهم و يستبعده طائفة، و يحيله قوم، و لا يؤمن به مع العلم به عنادا آخرون، فاليوم ضروري الوقوع و الجزاء لا ريب فيه.
و يظهر من بعضهم أن الآيات مسوقة لإثبات القدرة و أن العود يماثل البدء و القادر على الإبداء قادر على الإعادة، و هذه الحجة و إن كانت تامة و قد وقعت في كلامه تعالى لكنها حجة على الإمكان دون الوقوع و السياق فيما نحن فيه سياق الوقوع دون الإمكان فالأنسب في تقريرها ما تقدم.
و كيف كان فقوله: «أ لم نجعل الأرض مهادا» الاستفهام للإنكار، و المهاد الوطاء و القرار الذي يتصرف فيه، و يطلق على البساط الذي يجلس عليه و المعنى قد جعلنا الأرض قرارا لكم تستقرون عليها و تتصرفون فيها.
قوله تعالى: «و الجبال أوتادا» الأوتاد جمع وتد و هو المسمار إلا أنه أغلظ منه كما في المجمع، و لعل عد الجبال أوتادا مبني على أن عمدة جبال الأرض من عمل البركانات بشق الأرض فتخرج منه مواد أرضية مذابة تنتصب على فم الشقة متراكمة كهيئة الوتد المنصوب على الأرض تسكن به فورة البركان الذي تحته فيرتفع به ما في الأرض من الاضطراب و الميدان.
و عن بعضهم: أن المراد بجعل الجبال أوتادا انتظام معاش أهل الأرض بما أودع فيها من المنافع و لولاها لمادت الأرض بهم أي لما تهيأت لانتفاعهم.
و فيه أنه صرف اللفظ عن ظاهره من غير ضرورة موجبة.
قوله تعالى: «و خلقناكم أزواجا» أي زوجا زوجا من ذكر و أنثى لتجري بينكم سنة التناسل فيدوم بقاء النوع إلى ما شاء الله.
و قيل: المراد به الإشكال أي كل منكم شكل للآخر.
و قيل: المراد به الأصناف أي أصنافا مختلفة كالأبيض و الأسود و الأحمر و الأصفر إلى غير ذلك، و قيل: المراد به خلق كل منهم من منيين مني الرجل و مني المرأة و هذه وجوه ضعيفة.
قيل: الالتفات في الآية من الغيبة إلى الخطاب للمبالغة في الإلزام و التبكيت.
قوله تعالى: «و جعلنا نومكم سباتا» السبات الراحة و الدعة فإن في المنام سكوتا و راحة للقوى الحيوانية البدنية مما اعتراها في اليقظة من التعب و الكلال بواسطة تصرفات النفس فيها.
و قيل: السبات بمعنى القطع و في النوم قطع التصرفات النفسانية في البدن، و هو قريب من سابقه.
و قيل: المراد بالسبات الموت، و قد عد سبحانه النوم من الموت حيث قال: «و هو الذي يتوفاكم بالليل»: الأنعام: 60 و هو بعيد، و أما الآية فإنه تعالى عد النوم توفيا و لم يعده موتا بل القرآن يصرح بخلافه قال تعالى: «الله يتوفى الأنفس حين موتها و التي لم تمت في منامها»: الزمر: 42.
قوله تعالى: «و جعلنا الليل لباسا» أي ساترا يستر الأشياء بما فيه من الظلمة الساترة للمبصرات كما يستر اللباس البدن و هذا سبب إلهي يدعو إلى ترك التقلب و الحركة و الميل إلى السكن و الدعة و الرجوع إلى الأهل و المنزل.
و عن بعضهم أن المراد بكون الليل لباسا كونه كاللباس للنهار يسهل إخراجه منه و هو كما ترى.
قوله تعالى: «و جعلنا النهار معاشا» العيش هو الحياة - على ما ذكره الراغب - غير أن العيش يختص بحياة الحيوان فلا يقال: عيشه تعالى و عيش الملائكة و يقال حياته تعالى و حياة الملائكة، و المعاش مصدر ميمي و اسم زمان و اسم مكان، و هو في الآية بأحد المعنيين الأخيرين، و المعنى و جعلنا النهار زمانا لحياتكم أو موضعا لحياتكم تبتغون فيه من فضل ربكم، و قيل: المراد به المعنى المصدري بحذف مضاف، و التقدير و جعلنا النهار طلب معاش أي مبتغي معاش.
قوله تعالى: «و بنينا فوقكم سبعا شدادا» أي سبع سماوات شديدة في بنائها.
قوله تعالى: «و جعلنا سراجا وهاجا» الوهاج شديد النور و الحرارة و المراد بالسراج الوهاج: الشمس.
قوله تعالى: «و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا» المعصرات السحب الماطرة و قيل: الرياح التي تعصر السحب لتمطر و الثجاج الكثير الصب للماء، و الأولى على هذا المعنى أن تكون «من» بمعنى الباء.
قوله تعالى: «لنخرج به حبا و نباتا» أي حبا و نباتا يقتات بهما الإنسان و سائر الحيوان.
قوله تعالى: «و جنات ألفافا» معطوف على قوله: «حبا» و جنات ألفاف أي ملتفة أشجارها بعضها ببعض.
قيل: إن الألفاف جمع لا واحد له من لفظه.
بحث روائي
في بعض الأخبار: أن النبأ العظيم علي (عليه السلام) و هو من البطن.
عن الخصال، عن عكرمة عن ابن عباس قال: قال أبو بكر: يا رسول الله أسرع إليك الشيب. قال: شيبتني هود و الواقعة و المرسلات و عم يتساءلون.
في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «أ لم نجعل الأرض مهادا» قال: يمهد فيها الإنسان «و الجبال أوتادا» أي أوتاد الأرض.
و في نهج البلاغة، قال (عليه السلام): و وتد بالصخور ميدان أرضه.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و جعلنا الليل لباسا» قال: يلبس على النهار.
أقول: و لعل المراد به أنه يخفي ما يظهره النهار و يستر ما يكشفه.
و فيه،: في قوله تعالى: «و جعلنا سراجا وهاجا» قال: الشمس المضيئة «و أنزلنا من المعصرات» قال: من السحاب «ماء ثجاجا» قال: صبا على صب.
و عن تفسير العياشي، عن أبي عبد الله (عليه السلام): «عام فيه يغاث الناس و فيه يعصرون» بالياء يمطرون. ثم قال: أ ما سمعت قوله: «و أنزلنا من المعصرات ماء ثجاجا».
أقول: المراد أن «يعصرون» بضم الياء بصيغة المجهول و المراد به أنهم يمطرون و استشهاده (عليه السلام) بقوله: «و أنزلنا من المعصرات» دليل على أنه (عليه السلام) أخذ المعصرات بمعنى الممطرات من أعصرت السحابة إذا أمطرت.
و روى العياشي مثل الحديث عن علي بن معمر عن أبيه عن أبي عبد الله (عليه السلام) و روى القمي في تفسيره،: مثله عن أمير المؤمنين.
|