بيان
تتعرض السورة لمعان متنوعة من حكم و أدب و صفة فشطر منها في حكم الظهار و النجوى و أدب الجلوس في المجالس و شطر منها يصف حال الذين يحادون الله و رسوله، و الذين يوادون أعداء الدين و يصف الذين يتحرزون من موادتهم من المؤمنين و يعدهم وعدا جميلا في الدنيا و الآخرة.
و السورة مدنية بشهادة سياق آياتها.
قوله تعالى: «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله و الله يسمع تحاوركما» إلخ، قال في المجمع،: الاشتكاء إظهار ما بالإنسان من مكروه، و الشكاية إظهار ما يصنعه به غيره من المكروه.
قال: و التحاور التراجع و هي المحاورة يقال: حاوره محاورة أي راجعه الكلام و تحاورا.
انتهى.
الآيات الأربع أو الست نزلت في الظهار و كان من أقسام الطلاق عند العرب الجاهلي كان الرجل يقول لامرأته: أنت مني كظهر أمي فتنفصل عنه و تحرم عليه مؤبدة و قد ظاهر بعض الأنصار من امرأته ثم ندم عليه فجاءت امرأته إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تسائله فيه لعلها تجد طريقا إلى رجوعه إليها و تجادله (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك و تشتكي إلى الله فنزلت الآيات.
و المراد بالسمع في قوله: «قد سمع الله» استجابة الدعوة و قضاء الحاجة من باب الكناية و هو شائع و الدليل عليه قوله: «تجادلك في زوجها و تشتكي إلى الله» الظاهر في أنها كانت تتوخى طريقا إلى أن لا تنفصل عن زوجها، و أما قوله: «و الله يسمع تحاوركما» فالسمع فيه بمعناه المعروف.
و المعنى: قد استجاب الله للمرأة التي تجادلك في زوجها - و قد ظاهر منها - و تشتكي غمها و ما حل بها من سوء الحال إلى الله و الله يسمع تراجعكما في الكلام أن الله سميع للأصوات بصير بالمبصرات.
قوله تعالى: «الذين يظاهرون من نسائهم ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم» إلخ، نفي لحكم الظهار المعروف عندهم و إلغاء لتأثيره بالطلاق و التحريم الأبدي بنفي أمومة الزوجة للزوج بالظهار فإن سنة الجاهلية تلحق الزوجة بالأم بسبب الظهار فتحرم على زوجها حرمة الأم على ولدها حرمة مؤبدة.
فقوله: «ما هن أمهاتهم» أي بحسب اعتبار الشرع بأن يلحقن شرعا بهن بسبب الظهار فيحرمن عليهم أبدا ثم أكده بقوله: «إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم» أي ليس أمهات أزواجهن إلا النساء اللاتي ولدنهم.
ثم أكد ذلك ثانيا بقوله: «و إنهم ليقولون منكرا من القول و زورا» بما فيه من سياق التأكيد أي و إن هؤلاء الأزواج المظاهرين ليقولون بالظهار منكرا من القول ينكره الشرع حيث لم يعتبره و لم يسنه، و كذبا باعتبار أنه لا يوافق الشرع كما لا يطابق الخارج الواقع في الكون فأفادت الآية أن الظهار لا يفيد طلاقا و هذا لا ينافي وجوب الكفارة عليه لو أراد المواقعة بعد الظهار فالزوجية على حالها و إن حرمت المواقعة قبل الكفارة.
و قوله: «و إن الله لعفو غفور» لا يخلو من دلالة على كونه ذنبا مغفورا لكن ذكر الكفارة في الآية التالية مع تذييلها بقوله: «و تلك حدود الله و للكافرين عذاب أليم» ربما دل على أن المغفرة مشروطة بالكفارة.
قوله تعالى: «و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا فتحرير رقبة من قبل أن يتماسا» إلخ، الكلام في معنى الشرط و لذلك دخلت الفاء في الخبر لأنه في معنى الجزاء و المحصل: أن الذين ظاهروا منهن ثم أرادوا العود لما قالوا فعليهم تحرير رقبة.
و في قوله: «من قبل أن يتماسا» دلالة على أن الحكم في الآية لمن ظاهر ثم أراد الرجوع إلى ما كان عليه قبل الظهار و هو قرينة على أن المراد بقوله: «يعودون لما قالوا» إرادة العود إلى نقض ما أبرموه بالظهار.
و المعنى: و الذين يظاهرون من نسائهم ثم يريدون أن يعودوا إلى ما تكلموا به من كلمة الظهار فينقضوها بالمواقعة فعليهم تحرير رقبة من قبل أن يتماسا.
و قيل: المراد بعودهم لما قالوا ندمهم على الظهار، و فيه أن الندم عليه يصلح أن يكون محصل المعنى لا أن يكون معنى الكلمة «يعودون لما قالوا».
و قيل: المراد بعودهم لما قالوا رجوعهم إلى ما تلفظوا به من كلمة الظهار بأن يتلفظوا بها ثانيا و فيه أن لازمه ترتب الكفارة دائما على الظهار الثاني دون الأول و الآية لا تفيد ذلك و السنة إنما اعتبرت تحقق الظهار دون تعدده.
ثم ذيل الآية بقوله: «ذلكم توعظون به و الله بما تعملون خبير» إيذانا بأن ما أمر به من الكفارة توصية منه بها عن خبره بعملهم ذاك، فالكفارة هي التي ترتفع بها ما لحقهم من تبعة العمل.
قوله تعالى: «فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا» إلى آخر الآية خصلة ثانية من الكفارة مترتبة على الخصلة الأولى لمن لا يتمكن منها و هي صيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا، و قيد ثانيا بقوله: «من قبل أن يتماسا» لدفع توهم اختصاص القيد بالخصلة الأولى.
و قوله: «فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا» بيان للخصلة الثالثة فمن لم يطق صيام شهرين متتابعين فعليه إطعام ستين مسكينا و تفصيل الكلام في ذلك كله في الفقه.
و قوله: «ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله» أي ما جعلناه من الحكم و افترضناه من الكفارة فأبقينا علقة الزوجية و وضعنا الكفارة لمن أراد أن يرجع إلى المواقعة جزاء بما أتى بسنة من سنن الجاهلية كل ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و ترفضوا أباطيل السنن.
و قوله: «و تلك حدود الله و للكافرين عذاب أليم» حد الشيء ما ينتهي إليه و لا يتعداه و أصله المنع، و المراد أن ما افترضناه من الخصال أو ما نضعها من الأحكام حدود الله فلا تتعدوها بالمخالفة و للكافرين بما حكمنا به في الظهار أو بما شرعناه من الأحكام بالمخالفة و المحادة عذاب أليم.
و الظاهر أن المراد بالكفر رد الحكم و الأخذ بالظهار بما أنه سنة مؤثرة مقبولة، و يؤيده قوله: «ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله» أي تذعنوا بأن حكم الله حق و أن رسوله صادق أمين في تبليغه، و قد أكده بقوله: «و تلك حدود الله» إلخ، و يمكن أن يكون المراد بالكفر الكفر في مقام العمل و هو العصيان.
قوله تعالى: «إن الذين يحادون الله و رسوله كبتوا كما كبت الذين من قبلهم» إلخ، المحادة الممانعة و المخالفة، و الكبت الإذلال و الإخزاء.
و الآية و التي تتلوها و إن أمكن أن تكونا استئنافا يبين أمر محادة الله و رسوله من حيث تبعتها و أثرها لكن ظاهر السياق أن تكونا مسوقتين لتعليل ذيل الآية السابقة الذي معناه النهي عن محادة الله و رسوله، و المعنى: إنما أمرناكم بالإيمان بالله و رسوله و نهيناكم عن تعدي حدود الله و الكفر بها لأن الذين يحادون الله و رسوله بالمخالفة أذلوا و أخزوا كما أذل و أخزى الذين من قبلهم.
ثم أكده بقوله: «و قد أنزلنا آيات بينات و للكافرين عذاب مهين» أي لا ريب في كونها منا و في أن رسولنا صادق أمين في تبليغها، و للكافرين بها الرادين لها عذاب مهين مخز.
قوله تعالى: «يوم يبعثهم الله فينبؤهم بما عملوا» ظرف لقوله: «و للكافرين عذاب أليم» أي لهم أليم العذاب في يوم يبعثهم الله و هو يوم الحساب و الجزاء فيخبرهم بحقيقة جميع ما عملوا في الدنيا.
و قوله: «أحصاه الله و نسوه» الإحصاء الإحاطة بعدد الشيء من غير أن يفوت منه شيء، قال الراغب: الإحصاء التحصيل بالعدد يقال: أحصيت كذا، و ذلك من لفظ الحصى، و استعمال ذلك فيه من حيث إنهم كانوا يعتمدونه في العد كاعتمادنا فيه على الأصابع.
انتهى.
و قوله: «و الله على كل شيء شهيد» تعليل لقوله: «أحصاه الله» و قد مر تفسير شهادة الله على كل شيء في آخر سورة حم السجدة.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن ماجة و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه و ابن مردويه و البيهقي عن عائشة قالت: تبارك الذي وسع سمعه كل شيء إني لأسمع كلام خولة بنت ثعلبة و يخفى علي بعضه و هي تشتكي زوجها إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و هي تقول: يا رسول الله أكل شبابي و نثرت له بطني حتى إذا كبر سني و انقطع ولدي ظاهر مني اللهم إني أشكو إليك فما برحت حتى نزل جبرئيل بهذه الآيات «قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها» و هو أوس بن الصامت.
أقول: و الروايات من طرق أهل السنة في هذا المعنى كثيرة جدا، و اختلفت في اسم المرأة و اسم أبيها و اسم زوجها و اسم أبيه و الأعرف أن اسمها خولة بنت ثعلبة و اسم زوجها أوس بن الصامت الأنصاري و أورد القمي إجمال القصة في رواية، و له رواية أخرى ستوافيك.
و في المجمع،: في قوله تعالى: «و الذين يظاهرون من نسائهم - ثم يعودون لما قالوا» فأما ما ذهب إليه أئمة الهدى من آل محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) فهو أن المراد بالعود إرادة الوطء و نقض القول الذي قاله فإن الوطء لا يجوز له إلا بعد الكفارة، و لا يبطل حكم قوله الأول إلا بعد الكفارة.
و في تفسير القمي، حدثنا علي بن الحسين قال: حدثنا محمد بن أبي عبد الله عن الحسن بن محبوب عن أبي ولاد عن حمران عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: إن امرأة من المسلمات أتت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالت: يا رسول الله إن فلانا زوجي و قد نثرت له بطني و أعنته على دنياه و آخرته لم تر مني مكروها أشكوه إليك. قال: فيم تشكونيه؟ قالت: إنه قال: أنت علي حرام كظهر أمي و قد أخرجني من منزلي فانظر في أمري. فقال لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما أنزل الله تبارك و تعالى كتابا أقضي فيه بينك و بين زوجك و أنا أكره أن أكون من المتكلفين، فجعلت تبكي و تشتكي ما بها إلى الله عز و جل و إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و انصرفت. قال: فسمع الله تبارك و تعالى مجادلتها لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في زوجها و ما شكت إليه، و أنزل الله في ذلك قرآنا «بسم الله الرحمن الرحيم، قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها إلى قوله و إن الله لعفو غفور». قال: فبعث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى المرأة فأتته فقال لها: جيئي بزوجك، فأتته فقال له: أ قلت لامرأتك هذه: أنت حرام علي كظهر أمي؟ فقال: قد قلت لها ذلك. فقال له رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): قد أنزل الله تبارك و تعالى فيك و في امرأتك قرآنا و قرأ: «بسم الله الرحمن الرحيم - قد سمع الله قول التي تجادلك إلى قوله إن الله لعفو غفور»، فضم إليك امرأتك فإنك قد قلت منكرا من القول و زورا، و قد عفا الله عنك و غفر لك و لا تعد. قال: فانصرف الرجل و هو نادم على ما قال لامرأته، و كره الله عز و جل ذلك للمؤمنين بعد و أنزل الله: «الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا» يعني لما قال الرجل لامرأته: أنت علي كظهر أمي. قال: فمن قالها بعد ما عفا الله و غفر للرجل الأول فإن عليه «تحرير رقبة من قبل أن يتماسا» يعني مجامعتها «ذلكم توعظون به و الله بما تعملون خبير - فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين من قبل أن يتماسا - فمن لم يستطع فإطعام ستين مسكينا» قال: فجعل الله عقوبة من ظاهر بعد النهي هذا. ثم قال: «ذلك لتؤمنوا بالله و رسوله و تلك حدود الله» قال: هذا حد الظهار.
الحديث.
أقول: الآية بما لها من السياق و خاصة ما في آخرها من ذكر العفو و المغفرة أقرب انطباقا على ما سيق من القصة في هذه الرواية، و لا بأس بها من حيث السند أيضا غير أنها لا تلائم ظاهر ما في الآية من قوله: «الذين يظاهرون من نسائهم ثم يعودون لما قالوا».
|