بيان
الآيات لا تأبى عن الاتصال بما قبلها فكأنها من تتمة القول في ملامة الضعفاء من المسلمين و فائدتها وعظهم بما يتبصرون به لو تدبروا و استبصروا.
قوله تعالى و يقولون طاعة إلخ طاعة مرفوع على الخبرية على ما قيل و التقدير أمرنا طاعة أي نطيعك طاعة و البروز الظهور و الخروج و التبييت من البيتوتة و معناه إحكام الأمر و تدبيره ليلا و الضمير في تقول راجع إلى طائفة أو إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و المعنى و الله أعلم و يقول هؤلاء مجيبين لك فيما تدعوهم إليه من الجهاد أمرنا طاعة فإذا أخرجوا من عندك دبروا ليلا أمرا غير ما أجابوك به و قالوا لك أو غير ما قلته أنت لهم و هو كناية عن عقدهم النية على مخالفة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
ثم أمر الله رسوله بالإعراض عنهم و التوكل في الأمر و العزيمة فقال فأعرض عنهم و توكل على الله و كفى بالله وكيلا و لا دليل في الآية يدل على كون المحكي عنهم هم المنافقين كما ذكره بعضهم بل الأمر بالنظر إلى اتصال السياق على خلاف ذلك.
قوله تعالى أ فلا يتدبرون القرآن الآية تحضيض في صورة الاستفهام التدبير هو أخذ الشيء بعد الشيء و هو في مورد الآية التأمل في الآية عقيب الآية أو التأمل بعد التأمل في الآية لكن لما كان الغرض بيان أن القرآن لا اختلاف فيه و ذلك إنما يكون بين أزيد من آية واحدة كان المعنى الأول أعني التأمل في الآية عقيب الآية هو العمدة و إن كان ذلك لا ينفي المعنى الثاني أيضا.
فالمراد ترغيبهم أن يتدبروا في الآيات القرآنية و يراجعوا في كل حكم نازل أو حكمة مبينة أو قصة أو عظة أو غير ذلك جميع الآيات المرتبطة به مما نزلت مكيتها و مدينتها و محكمها و متشابهها و يضموا البعض إلى البعض حتى يظهر لهم أنه لا اختلاف بينها فالآيات يصدق قديمها حديثها و يشهد بعضها على بعض من غير أن يكون بينها أي اختلاف مفروض لا اختلاف التناقض بأن ينفي بعضها بعضا أو يتدافعا و لا اختلاف التفاوت بأن يتفاوت الآيتان من حيث تشابه البيان أو متانة المعاني و المقاصد بكون البعض أحكم بيانا و أشد ركنا من بعض كتابا متشابها مثاني تقشعر منه الجلود.
فارتفاع هذه الاختلافات من القرآن يهديهم إلى أنه كتاب منزل من الله و ليس من عند غيره إذ لو كان من عند غيره لم يسلم من كثرة الاختلاف و ذلك أن غيره تعالى من هذه الموجودات الكونية و لا سيما الإنسان الذي يرتاب أهل الريب أنه من كلامه كلها موضوعة بحسب الكينونة الوجودية و طبيعة الكون على التحرك و التغير و التكامل فما من واحد منها إلا أن امتداد زمان وجوده مختلف الأطراف متفاوت الحالات.
ما من إنسان إلا و هو يرى كل يوم أنه أعقل من أمس و أن ما ينشئه من عمل أو صنعة أو ما أشبه ذلك أو يدبره من رأي أو نظر أو نحوهما أخيرا أحكم و أمتن مما أتى به أولا حتى العمل الواحد الذي فيه شيء من الامتداد الوجودي كالكتاب يكتبه الكاتب و الشعر يقوله الشاعر و الخطبة يخطبها الخطيب و هكذا يوجد عند الإمعان آخره خيرا من أوله و بعضه أفضل من بعض.
فالواحد من الإنسان لا يسلم في نفسه و ما يأتي به من العمل من الاختلاف، و ليس هو بالواحد و الاثنين من التفاوت و التناقض بل الاختلاف الكثير، و هذا ناموس كلي جار في الإنسان و ما دونه من الكائنات الواقعة تحت سيطرة التحول و التكامل العامين لا ترى واحدا من هذه الموجودات يبقى آنين متواليين على حال واحد بل لا يزال يختلف ذاته و أحواله.
و من هنا يظهر وجه التقييد بالكثير في قوله: «اختلافا كثيرا» فالوصف وصف توضيحي لا احترازي، و المعنى: لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا و كان ذلك الاختلاف كثيرا على حد الاختلاف الكثير الذي في كل ما هو من عند غير الله، و ليس المعنى أن المرفوع من القرآن هو الاختلاف الكثير دون اليسير.
و بالجملة لا يلبث المتدبرون أن يشاهد أن القرآن كتاب يداخل جميع الشئون المرتبطة بالإنسانية من معارف المبدأ و المعاد و الخلق و الإيجاد، ثم الفضائل العامة الإنسانية، ثم القوانين الاجتماعية و الفردية الحاكمة في النوع حكومة لا يشذ منها دقيق و لا جليل، ثم القصص و العبر و المواعظ ببيان دعا إلى مثلها أهل الدنيا، و بآيات نازلة نجوما في مدة تعدل ثلاثا و عشرين سنة على اختلاف الأحوال من ليل و نهار، و من حضر و سفر، و من حرب و سلم، و من ضراء و سراء، و من شدة و رخاء، فلم يختلف حاله في بلاغته الخارقة المعجزة، و لا في معارفه العالية و حكمه السامية، و لا في قوانينه الاجتماعية و الفردية، بل ينعطف آخره إلى ما قر عليه أوله، و ترجع تفاصيله و فروعه إلى ما ثبت فيه أعراقه و أصوله، يعود تفاصيل شرائعه و حكمه بالتحليل إلى حاق التوحيد الخالص، و ينقلب توحيده الخالص بالتركيب إلى أعيان ما أفاده من التفاصيل، هذا شأن القرآن.
و الإنسان المتدبر فيه هذا التدبر يقضي بشعوره الحي، و قضائه الجبلي أن المتكلم بهذا الكلام ليس ممن يحكم فيه مرور الأيام و التحول و التكامل العاملان في الأكوان بل هو الله الواحد القهار.
و قد تبين من الآية أولا: أن القرآن مما يناله الفهم العادي.
و ثانيا: أن الآيات القرآنية يفسر بعضها بعضا.
و ثالثا: أن القرآن كتاب لا يقبل نسخا و لا إبطالا و لا تكميلا و لا تهذيبا، و لا أي حاكم يحكم عليه أبدا، و ذلك أن ما يقبل شيئا منها لا مناص من كونه يقبل نوعا من التحول و التغير بالضرورة، و إذ كان القرآن لا يقبل الاختلاف فليس يقبل التحول و التغير فليس يقبل نسخا و لا إبطالا و لا غير ذلك، و لازم ذلك أن الشريعة الإسلامية مستمرة إلى يوم القيامة.
قوله تعالى: «و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به» الإذاعة هي النشر و الإشاعة، و في الآية نوع ذم و تعيير لهم في شأن هذه الإذاعة، و في قوله في ذيل الآية «و لو لا فضل الله» إلخ دلالة على أن المؤمنين كانوا على خطر الضلال من جهة هذه الإذاعة، و ليس إلا خطر مخالفة الرسول فإن الكلام في هذه الآيات موضوع في ذلك، و يؤيد ذلك ما في الآية التالية من أمر الرسول بالقتال و لو بقي وحده بلا ناصر.
و يظهر به أن الأمر الذي جاءهم من الأمن أو الخوف كان بعض الأراجيف التي كانت تأتي بها أيدي الكفار و رسلهم المبعوثون لإيجاد النفاق و الخلاف بين المؤمنين فكان الضعفاء من المؤمنين يذيعونه من غير تدبر و تبصر فيوجب ذلك وهنا في عزيمة المؤمنين، غير أن الله سبحانه وقاهم من اتباع هؤلاء الشياطين الجائين بتلك الأخبار لإخزاء المؤمنين.
فتنطبق الآية على قصة بدر الصغرى، و قد تقدم الكلام فيها في سورة آل عمران، و الآيات هاهنا تشابه الآيات هناك مضمونا كما يظهر للمتدبر فيها، قال تعالى في سورة آل عمران: «الذين استجابوا لله و الرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم و اتقوا أجر عظيم الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا و قالوا حسبنا الله و نعم الوكيل - إلى قوله - إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم و خافون إن كنتم مؤمنين»: آل عمران: - 175.
الآيات كما ترى تذكر أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يدعو الناس بعد ما أصابهم القرح - و هو محنة - أحد - إلى الخروج إلى الكفار، و أن أناسا كانوا يخزلون الناس و يخذلونهم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و يخوفونهم جمع المشركين.
ثم تذكر أن ذلك كله تخويفات من الشيطان يتكلم بها من أفواه أوليائه، و تعزم على المؤمنين أن لا يخافوهم و يخافوا الله أن كانوا مؤمنين.
و المتدبر فيها و في الآيات المبحوث عنها أعني قوله «و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به» الآية لا يرتاب في أن الله سبحانه في هذه الآية يذكر قصة بدر - الصغرى و يعدها في جملة ما يعد من الخلال التي يلوم هؤلاء الضعفاء عليها كقوله «فلما كتب عليهم القتال» الآية و قوله «و قالوا ربنا لم كتبت علينا القتال» الآية و قوله «و إن تصبهم حسنة» الآية و قوله «و يقولون طاعة» الآية ثم يجري على هذا المجرى قوله «و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به» الآية.
قوله تعالى: «و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم لعلمه الذين يستنبطونه منهم» لم يذكر هاهنا الرد إلى الله كما ذكر في قوله «فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله و الرسول»: الآية النساء: 59 لأن الرد المذكور هناك هو رد الحكم الشرعي المتنازع فيه، و لا صنع فيه لغير الله و رسوله.
و أما الرد المذكور هاهنا فهو رد الخبر الشائع بين الناس من أمن أو خوف، و لا معنى لرده إلى الله و كتابه، بل الصنع فيه للرسول و لأولي الأمر منهم، لو رد إليهم أمكنهم أن يستنبطوه و يذكروا للرادين صحته أو سقمه و صدقه أو كذبه.
فالمراد بالعلم التمييز تمييز الحق من الباطل، و الصدق من الكذب على حد قوله تعالى «ليعلم الله من يخافه بالغيب»: المائدة: 94 «و قوله و ليعلمن الله الذين آمنوا و ليعلمن المنافقين»: العنكبوت. - 11.
و الاستنباط استخراج القول من حال الإبهام إلى مرحلة التمييز و المعرفة، و أصله من النبط محركة، و هو أول ما يخرج من ماء البئر، و على هذا يمكن أن يكون الاستنباط وصفا للرسول و أولي الأمر بمعنى أنهم يحققون الأمر فيحصلون على الحق و الصدق و أن يكون وصفا لهؤلاء الرادين لو ردوا فإنهم يعلمون حق الأمر و صدقه بإنباء الرسول و أولي الأمر لهم.
فيعود معنى الآية إن كان المراد بالذين يستنبطونه منهم الرسول و أولي الأمر كما هو الظاهر من الآية: لعلمه من أراد الاستنباط من الرسول و أولي الأمر أي إذا استصوبه المسئولون و رأوه موافقا للصلاح، و إن كان المراد بهم الرادين: لعلمه الذين يستفسرونه و يبالغون في الحصول على أصل الخبر من هؤلاء الرادين.
و أما أولوا الأمر في قوله: و إلى أولي الأمر منهم «فالمراد بهم هو المراد بأولي الأمر في قوله «و أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم»: النساء: 59 على ما تقدم من اختلاف المفسرين في تفسيره و قد تقدم أن أصول الأقوال في ذلك ترجع إلى خمسة غير أن الذي استفدناه من المعنى أظهر في هذه الآية.
أما القول بأن أولي الأمر هم أمراء السرايا فإن هؤلاء لم يكن لهم شأن إلا الإمارة على سرية في واقعة خاصة لا تتجاوزها خبرتهم و دائرة عملهم، و أما أمثال ما هو مورد الآية و هو الإخلال في الأمن و إيجاد الخوف و الوحشة العامة التي كان يتوسل إليها المشركون ببعث العيون و إرسال الرسل السرية الذين يذيعون من الأخبار ما يخزلون به المؤمنين فلا شأن لأمراء السرايا في ذلك حتى يمكنهم أن يبينوا وجه الحق فيه للناس إذا سألوهم عن أمثال تلك الأخبار.
و أما القول بأن أولي الأمر هم العلماء فعدم مناسبته للآية أظهر، إذ العلماء و هم يومئذ المحدثون و الفقهاء و القراء و المتكلمون في أصول الدين - إنما خبرتهم في الفقه و الحديث و نحو ذلك، و مورد قوله «و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف»، هي الأخبار التي لها أعراق سياسية ترتبط بأطراف شتى ربما أفضى قبولها أو ردها أو الإهمال فيها من المفاسد الحيوية و المضار الاجتماعية إلى ما يمكن أن لا يستصلح بأي مصلح آخر، أو يبطل مساعي أمة في طريق سعادتها، أو يذهب بسؤددهم و يضرب بالذل و المسكنة و القتل و الأسر عليهم، و أي خبرة للعلماء من حيث إنهم محدثون أو فقهاء أو قراء أو نحوهم في هذه القضايا حتى يأمر الله سبحانه بإرجاعها و ردها إليهم؟ و أي رجاء في حل أمثال هذه المشكلات بأيديهم؟ و أما القول بأن أولي الأمر هم الخلفاء الراشدون أعني أبا بكر و عمر و عثمان و عليا فمع كونه لا دليل عليه من كتاب أو سنة قطعية، يرد عليه أن حكم الآية إما مختص بزمان النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو عام يشمله و ما بعده، و على الأول كان من اللازم أن يكونوا معروفين بهذا الشأن بما أنهم هؤلاء الأربعة من بين الناس و من بين الصحابة خاصة، و الحديث و التاريخ لا يضبطان لهم بخصوصهم شأنا من هذا القبيل، و على الثاني كان لازمه انقطاع حكم الآية بانقطاع زمان حياتهم، و كان لازمه أن تتصدى الآية لبيان ذلك كما في جميع الأحكام الخاصة بشطر من الزمان المذكورة في القرآن كالأحكام الخاصة بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و لا أثر في الآية من ذلك.
و أما القول بأن المراد بأولي الأمر أهل الحل و العقد، و هذا القائل لما رأى أنه لم يكن في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) جماعة مشخصة هم أهل الحل و العقد على حد ما يوجد بين الأمم المتمدنة ذوات المجتمعات المتشكلة كهيئة الوزراء، و جمعية المبعوثين إلى المنتدى و غير ذلك فإن الأمة لم يكن يجري فيها إلا حكم الله و رسوله، اضطر إلى تفسيره بأهل الشورى من الصحابة و خاصة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم.
و كيف كان، يرد عليه أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يجمع في مشاورته المؤمنين و المنافقين كعبد الله بن أبي و أصحابه، و حديث مشاورته يوم أحد معروف، و كيف يمكن أن يأمر الله سبحانه بالرد إلى أمثاله.
على أن ممن لا كلام في كونه ذا هذا الشأن عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعده عبد الرحمن بن عوف، و هذه الآيات المسرودة في ذم ضعفاء المؤمنين و تعييرهم على ما وقع منهم إنما ابتدأت به و بأصحابه أعني قوله «أ لم تر إلى الذين قيل لهم كفوا» الآيات فقد ورد في الصحيح أنها نزلت في عبد الرحمن بن عوف و أصحاب له، رواه النسائي في صحيحه و رواه الحاكم في مستدركه و صححه و رواه الطبري و غيره في تفاسيرهم، و قد مرت الرواية في البحث الروائي السابق.
و إذا كان الأمر على هذه الوتيرة فكيف يمكن أن يؤمر في الآية بإرجاع الأمر و رده إلى مثل هؤلاء؟.
فالمتعين هو الذي رجحناه في قوله تعالى «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم» الآية.
قوله تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان إلا قليلا» قد تقدم أن الأظهر كون الآيات مشيرة إلى قصة بدر الصغرى، و بعث أبي سفيان نعيم بن مسعود الأشجعي إلى المدينة لبسط الخوف و الوحشة بين الناس و إخزائهم في الخروج إلى بدر فالمراد باتباع الشيطان التصديق بما جاء به من النبإ، و اتباعه في التخلف عن الخروج إلى بدر.
و بذلك يظهر استقامة معنى الاستثناء من غير حاجة إلى تكلف أو تمحل فإن نعيما كان يخبرهم أن أبا سفيان جمع الجموع و جهز الجيوش فاخشوهم و لا تلقوا بأنفسكم إلى حياض القتل الذريع، و قد أثر ذلك في قلوب الناس فتعللوا عن الخروج إلى موعدهم ببدر، و لم يسلم من ذلك إلا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و بعض خاصته و هو المراد بقوله تعالى «إلا قليلا، فقد كان الناس تزلزلوا إلا القليل منهم ثم لحقوا بذلك القليل و ساروا.
و هذا الذي استظهرناه من معنى الاستثناء هو الذي يؤيده ما مر ذكره من القرائن، على ما فيه من الاستقامة.
و للمفسرين في أمر هذا الاستثناء مذاهب شتى لا يخلو شيء منها من فساد أو تكلف، فقد قيل: المراد بالفضل و الرحمة ما هداهم الله إليه من إيجاب طاعته و طاعة رسوله و أولي الأمر منهم، و المراد بالمستثنى هم المؤمنون أولو الفطرة السليمة و القلوب الطاهرة، و معنى الآية: و لو لا هذا الذي هداكم الله إليه من وجوب الطاعة، و إرجاع الأمر إلى الرسول و إلى أولي الأمر لاتبعتم الشيطان جميعا بالوقوع في الضلال إلا قليلا منكم من أهل الفطرة السليمة فإنهم لا يزيغون عن الحق و الصلاح.
و فيه أنه تخصيص الفضل و الرحمة بحكم خاص من غير دليل يدل عليه، و هو بعيد من البيان القرآني، مع أن ظاهر الآية أنه امتنان في أمر ماض منقض.
و قيل، إن الآية على ظاهرها، و المؤمنون غير المخلصين يحتاجون إلى فضل و رحمة زائدين و إن كان المخلصون أيضا لا يستغنون عن العناية الإلهية، و فيه أن الذي يوهمه الظاهر حينئذ مما يجب في بلاغة القرآن دفعه و لم يدفع في الآية.
و قد قال تعالى: «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته ما زكى منكم من أحد أبدا»: النور: 21 و قال مخاطبا لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو خير الناس: «و لو لا أن ثبتناك لقد كدت تركن إليهم شيئا قليلا إذن لأذقناك ضعف الحياة و ضعف الممات»: الإسراء: 75.
و قيل: إن المراد بالفضل و الرحمة القرآن و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قيل: المراد بهما الفتح و الظفر، فيستقيم الاستثناء لأن الأكثرين إنما يثبتون على الحق بما يستطاب به قلوبهم من فتح و ظفر و ما أشبههما من العنايات الظاهرية الإلهية، و لا يصبر على مر الحق إلا القليل من المؤمنين الذين هم على بصيرة من أمرهم.
و قيل الاستثناء إنما هو من قوله «أذاعوا به»، و قيل الاستثناء من قوله «الذين يستنبطونه»،. و قيل: إن الاستثناء إنما هو في اللفظ و هو دليل على الجمع و الإحاطة فمعنى الآية: و لو لا فضل الله عليكم و رحمته لاتبعتم الشيطان جميعا، و هذا نظير قوله تعالى «سنقرئك فلا تنسى إلا ما شاء الله»: الأعلى: 7 فاستثناء المشية يفيد عموم الحكم بنفي النسيان، و جميع هذه الوجوه لا تخلو من تكلف ظاهر.
قوله تعالى: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين»، التكليف من الكلفة بمعنى المشقة لما فيه من تحميل المشقة على المكلف، و التنكيل من النكال، و هو على ما في المجمع:، ما يمتنع به من الفساد خوفا من مثله من العذاب فهو عقاب المتخلف لئلا يعود إلى مثله و لعيتبر به غيره من المكلفين.
و الفاء في قوله «فقاتل في سبيل الله»،. للتفريع و الأمر بالقتال متفرع على المتحصل من مضامين الآيات السابقة.
و هو تثاقل القوم في الخروج إلى العدو و تبطئتهم في ذلك، و يدل عليه ما يتلوه من الجمل أعني قوله «لا تكلف إلا نفسك» إلخ فإن المعنى: فإذا كانوا يتثاقلون في أمر الجهاد و يكرهون القتال فقاتل أنت يا رسول الله بنفسك، و لا يشق عليك تثاقلهم و مخالفتهم لأمر الله سبحانه فإن تكليف غيرك لا يتوجه إليك، و إنما يتوجه إليك تكليف نفسك لا تكليفهم، و إنما عليك في غيرك أن تحرضهم فقاتل و حرض المؤمنين عسى الله أن يكف بأس الذين كفروا. و قوله «لا تكلف إلا نفسك» أي لا تكلف أنت شيئا إلا عمل نفسك فالاستثناء بتقدير مضاف.
و قوله «عسى الله أن يكف» إلخ قد تقدم أن «عسى» تدل على الرجاء أعم من أن يكون ذلك الرجاء قائما بنفس المتكلم أو المخاطب أو بمقام التخاطب فلا حاجة إلى ما ذكروه من أن «عسى» من الله حتم.
و في الآية دلالة على زيادة تعيير من الله سبحانه للمتثاقلين من الناس حيث أدى تثاقلهم إلى أن أمر الله نبيه بالقيام بالقتال بنفسه، و أن يعرض عن المتثاقلين و لا يلح عليهم بالإجابة و يخليهم و شأنهم، و لا يضيق بذلك صدره فليس عليه إلا تكليف نفسه و تحريض المؤمنين أطاع من أطاع، و عصى من عصى.
بحث روائي
في الكافي، بإسناده عن محمد بن عجلان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الله عير أقواما بالإذاعة في قوله عز و جل: «و إذا جاءهم أمر من الأمن أو الخوف أذاعوا به» فإياكم و الإذاعة.
و فيه، بإسناده عن عبد الحميد بن أبي الديلم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: قال الله عز و جل:، «أطيعوا الله و أطيعوا الرسول و أولي الأمر منكم»، و قال «و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم، لعلمه الذين يستنبطونه منهم»، فرد أمر الناس إلى أولي الأمر منهم، الذين أمر بطاعتهم و الرد إليهم.
أقول و الرواية تؤيد ما قدمناه من أن المراد بأولي الأمر في الآية الثانية هم المذكورون في الآية الأولى.
و في تفسير العياشي، عن عبد الله بن عجلان عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله «و لو ردوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم» قال: هم الأئمة.
أقول: و روي هذا المعنى أيضا عن عبد الله بن جندب عن الرضا (عليه السلام) في كتاب كتبه إليه في أمر الواقفية، و روى هذا المعنى أيضا المفيد في الاختصاص، عن إسحاق بن عمار عن الصادق (عليه السلام) في حديث طويل.
و في تفسير العياشي، عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن (عليه السلام): في قوله «و لو لا فضل الله عليكم و رحمته»، قال: الفضل رسول الله، و رحمته أمير المؤمنين.
و فيه، عن زرارة عن أبي جعفر (عليه السلام)، و حمران عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «لو لا فضل الله عليكم و رحمته»، قال: فضل الله رسوله، و رحمته ولاية الأئمة. و فيه، عن محمد بن الفضيل عن العبد الصالح (عليه السلام) قال: الرحمة رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و الفضل علي بن أبي طالب (عليه السلام).
أقول: و الروايات من باب الجري، و المراد النبوة و الولاية فإنهما السببان المتصلان اللذان أنقذنا الله بهما من مهبط الضلال و مصيدة الشيطان، إحداهما: سبب مبلغ، و الأخرى: سبب مجر، و الرواية الأخيرة أقرب من الاعتبار فإن الله سمى رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) في كتابه بالرحمة حيث قال: «و ما أرسلناك إلا رحمة للعالمين»: الآية الأنبياء: 107.
و في الكافي، بإسناده عن علي بن حديد عن مرازم قال قال أبو عبد الله (عليه السلام): إن الله كلف رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ما لم يكلف به أحدا من خلقه، ثم كلفه أن يخرج على الناس كلهم وحده بنفسه، و إن لم يجد فئة تقاتل معه، و لم يكلف هذا أحدا من خلقه لا قبله و لا بعده، ثم تلا هذه الآية: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك». ثم قال: و جعل الله له أن يأخذ ما أخذ لنفسه فقال عز و جل: «من جاء بالحسنة فله عشر أمثالها» و جعل الصلاة على رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعشر حسنات و في تفسير العياشي، عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام) قول الناس لعلي (عليه السلام)، إن كان له حق فما منعه أن يقوم به،؟ قال فقال إن الله لا يكلف هذا لإنسان واحد إلا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك و حرض المؤمنين» فليس هذا إلا للرسول، و قال لغيره: «إلا متحرفا لقتال أو متحيزا إلى فئة» فلم يكن يومئذ فئة يعينونه على أمره. و فيه، عن زيد الشحام عن جعفر بن محمد (عليهما السلام) قال: ما سئل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) شيئا قط فقال: لا، إن كان عنده أعطاه، و إن لم يكن عنده قال: يكون إن شاء الله، و لا كافي بالسيئة قط، و ما لقي سرية مذ نزلت عليه، «فقاتل في سبيل الله لا تكلف إلا نفسك» إلا ولى بنفسه.
أقول: و في هذه المعاني روايات أخر.
|