بيان
الآيات متصلة بما قبلها من حيث تتعرض جميعا 85 - 91 لما يرتبط بأمر القتال مع طائفة من المشركين و هم المنافقون منهم، و يظهر من التدبر فيها أنها نزلت في قوم من المشركين أظهروا الإيمان للمؤمنين ثم عادوا إلى مقرهم و شاركوا المشركين في شركهم فوقع الريب في قتالهم، و اختلفت أنظار المسلمين في أمرهم، فمن قائل يرى قتالهم، و آخر يمنع منه و يشفع لهم لتظاهرهم بالإيمان، و الله سبحانه يكتب عليهم إما المهاجرة أو القتال و يحذر المؤمنين الشفاعة في حقهم.
و يلحق بهم قوم آخرون ثم آخرون يكتب عليهم إما إلقاء السلم أو القتال، و يستهل لما في الآيات من المقاصد في صدر الكلام ببيان حال الشفاعة في آية، و ببيان حال التحية لمناسبتها إلقاء السلم في آية أخرى.
قوله تعالى: «من يشفع شفاعة حسنة يكن له نصيب منها»، النصيب و الكفل بمعنى واحد، و لما كانت الشفاعة نوع توسط لترميم نقيصة أو لحيازة مزية و نحو ذلك كانت لها نوع سببية لإصلاح شأن فلها شيء من التبعة و المثوبة المتعلقتين بما لأجله الشفاعة، و هو مقصد الشفيع و المشفوع له فالشفيع ذو نصيب من الخير أو الشر المترتب على الشفاعة، و هو قوله تعالى «من يشفع شفاعة» إلخ.
و في ذكر هذه الحقيقة تذكرة للمؤمنين، و تنبيه لهم أن يتيقظوا عند الشفاعة لما يشفعون له، و يجتنبوها إن كان المشفوع لأجله مما فيه شر و فساد كالشفاعة للمنافقين من المشركين أن لا يقاتلوا، فإن في ترك الفساد القليل على حاله، و إمهاله في أن ينمو و يعظم فسادا معقبا لا يقوم له شيء، و يهلك به الحرث و النسل فالآية في معنى النهي عن الشفاعة السيئة و هي شفاعة أهل الظلم و الطغيان و النفاق و الشرك المفسدين في الأرض.
قوله تعالى: «و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها» الآية أمر بالتحية قبال التحية بما يزيد عليها أو يماثلها، و هو حكم عام لكل تحية حيي بها، غير أن مورد الآيات هو تحية السلم و الصلح التي تلقى إلى المسلمين على ما يظهر من الآيات التالية.
قوله تعالى: «الله لا إله إلا هو ليجمعنكم» إلخ معنى الآية ظاهر، و هي بمنزلة التعليل لما تشتمل عليه الآيتان السابقتان من المضمون كأنه قيل: خذوا بما كلفكم الله في أمر الشفاعة الحسنة و السيئة، و لا تبطلوا تحية من يحييكم بالإعراض و الرد فإن أمامكم يوما يجمعكم الله فيه و يجازيكم على إجابة ما دعاكم إليه و رده.
قوله تعالى: «فما لكم في المنافقين فئتين و الله أركسهم» الآية الفئة الطائفة، و الإركاس الرد.
و الآية بما لها من المضمون كأنها متفرعة على ما تقدم من التوطئة و التمهيد أعني قوله «من يشفع شفاعة» الآية، و المعنى: فإذا كانت الشفاعة السيئة تعطي لصاحبها كفلا من مساءتها فما لكم أيها المؤمنون تفرقتم في أمر المنافقين فئتين، و تحزبتهم حزبين: فئة ترى قتالهم، و فئة تشفع لهم و تحرض على ترك قتالهم، و الإغماض عن شجرة الفساد التي تنمو بنمائهم، و تثمر برشدهم، و الله ردهم إلى الضلال بعد خروجهم منه جزاء بما كسبوا من سيئات الأعمال، أ تريدون بشفاعتكم أن تهدوا هؤلاء الذين أضلهم الله؟ و من يضلل الله فما له من سبيل إلى الهدى.
و في قوله «و من يضلل الله فلن تجد له سبيلا» التفات من خطاب المؤمنين إلى خطاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إشارة إلى أن من يشفع لهم من المؤمنين لا يتفهم حقيقة هذا الكلام حق التفهم، و لو فقهه لم يشفع في حقهم فأعرض عن مخاطبتهم به و ألقى إلى من هو بين واضح عنده و هو النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
قوله تعالى: «ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء» إلخ هو بمنزلة البيان لقوله «و الله أركسهم بما كسبوا أ تريدون أن تهدوا من أضل الله»، و المعنى: أنهم كفروا و زادوا عليه أنهم ودوا و أحبوا أن تكفروا مثلهم فتستووا.
ثم نهاهم عن ولايتهم إلا أن يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فليس عليكم فيهم إلا أخذهم و قتلهم حيث وجدتموهم، و الاجتناب عن ولايتهم و نصرتهم، و في قوله «فإن تولوا»،. دلالة على أن على المؤمنين أن يكلفوهم بالمهاجرة فإن أجابوا فليوالوهم، و إن تولوا فيقتلوهم.
قوله تعالى: «إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم» استثنى الله سبحانه من قوله «فإن تولوا فخذوهم و اقتلوهم»، طائفتين: إحداهما الذين يصلون إلخ أي بينهم و بين بعض أهل الميثاق ما يوصلهم بهم من حلف و نحوه، و الثانية الذين يتحرجون من مقاتلة المسلمين و مقاتلة قومهم لقتلهم أو لعوامل أخر، فيعتزلون المؤمنين و يلقون إليهم السلم لا للمؤمنين و لا عليهم بوجه، فهاتان الطائفتان مستثنون من الحكم المذكور، و قوله «حصرت صدورهم»، أي ضاقت.
قوله تعالى: «ستجدون آخرين»، إخبار بأنه سيواجهكم قوم آخرون ربما شابهوا الطائفة الثانية من الطائفتين المستثناتين حيث إنهم يريدون أن يأمنوكم و يأمنوا قومهم غير أن الله سبحانه يخبر أنهم منافقون غير مأمونين في مواعدتهم و موادعتهم، و لذا بدل الشرطين المثبتين في حق غيرهم أعني قوله «فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم» بالشرط المنفي أعني قوله «فإن لم يعتزلوكم و يلقوا إليكم السلم و يكفوا أيديهم» إلخ و هذا في معنى تنبيه المؤمنين على أن يكونوا على حذر منهم و معنى الآية ظاهر.
كلام في معنى التحية
الأمم و الأقوام على اختلافها في الحضارة و التوحش و التقدم و التأخر لا تخلو في مجتمعاتهم من تحية يتعارفونها عند الملاقاة ملاقاة البعض البعض على أقسامها و أنواعها من الإشارة بالرأس و اليد و رفع القلانس و غير ذلك، و هي مختلفة باختلاف العوامل المختلفة العاملة في مجتمعاتهم.
و أنت إذا تأملت هذه التحيات الدائرة بين الأمم على اختلافها و على اختلافهم وجدتها حاكية مشيرة إلى نوع من الخضوع و الهوان و التذلل يبديه الداني للعالي، و الوضيع للشريف، و المطيع لمطاعه، و العبد لمولاه، و بالجملة تكشف عن رسم الاستعباد الذي لم يزل رائجا بين الأمم في أعصار الهمجية فما دونها، و إن اختلفت ألوانه، و لذلك ما نرى أن هذه التحية تبدأ من المطيع و تنتهي إلى المطاع، و تشرع من الداني الوضيع و تختتم في العالي الشريف، فهي من ثمرات الوثنية التي ترتضع من ثدي الاستعباد.
و الإسلام - كما تعلم - أكبر همه إمحاء الوثنية و كل رسم من الرسوم ينتهي إليها، و يتولد، منها و لذلك أخذ لهذا الشأن طريقة سوية و سنة مقابلة لسنة الوثنية و رسم الاستعباد، و هو إلقاء السلام الذي هو بنحو أمن المسلم عليه من التعدي عليه، و دحض حريته الفطرية الإنسانية الموهوبة له فإن أول ما يحتاج إليه الاجتماع التعاوني بين الأفراد هو أن يأمن بعضهم بعضا في نفسه و عرضه و ماله، و كل أمر يئول إلى أحد هذه الثلاثة.
و هذا هو السلام الذي سن الله تعالى إلقاؤه عند كل تلاق من متلاقيين قال تعالى: «فإذا دخلتم بيوتا فسلموا على أنفسكم تحية من عند الله مباركة طيبة»: النور: 61 و قال تعالى: «يا أيها الذين آمنوا لا تدخلوا بيوتا غير بيوتكم حتى تستأنسوا و تسلموا على أهلها ذلكم خير لكم لعلكم تذكرون»: النور: 27 و قد أدب الله رسوله (صلى الله عليه وآله وسلم) بالتسليم للمؤمنين و هو سيدهم فقال: «و إذا جاءك الذين يؤمنون بآياتنا فقل سلام عليكم كتب ربكم على نفسه الرحمة»: الأنعام: 54 و أمره بالتسليم لغيرهم في قوله: «فاصفح عنهم و قل سلام فسوف يعلمون»: الزخرف: 89.
و التحية بإلقاء السلام كانت معمولا بها عند عرب الجاهلية على ما يشهد به المأثور عنهم من شعر و نحوه، و في لسان العرب: و كانت العرب في الجاهلية يحيون بأن يقول أحدهم لصاحبه: أنعم صباحا، و أبيت اللعن، و يقولون سلام عليكم فكأنه علامة المسالمة، و أنه لا حرب هنالك.
ثم جاء الله بالإسلام فقصروا على السلام، و أمروا بإفشائه.
انتهى.
إلا أن الله سبحانه يحكيه في قصص إبراهيم عنه (عليه السلام) كثيرا: و لا يخلو ذلك من شهادة على أنه كان من بقايا دين إبراهيم الحنيف عند العرب كالحج و نحوه قال تعالى: حكاية عنه فيما يحاور أباه: «قال سلام عليك سأستغفر لك ربي»: مريم: 47 و قال تعالى «و لقد جاءت رسلنا إبراهيم بالبشرى قالوا سلاما قال سلام»: هود: 69 و القصة واقعة في غير مورد من القرآن الكريم.
و لقد أخذه الله سبحانه تحية لنفسه، و استعمله في موارد من كلامه، قال تعالى: «سلام على نوح في العالمين»: الصافات: 79 و قال: «سلام على إبراهيم:» الصافات: 109 و قال: «سلام على موسى و هارون»: الصافات: 120 و قال «سلام على آل ياسين»: الصافات: 130 و قال: «و سلام على المرسلين»: الصافات: 181.
و ذكر تعالى أنه تحية ملائكته المكرمين قال: «الذين تتوفاهم الملائكة طيبين يقولون سلام عليكم»: النحل: 32 و قال: «و الملائكة يدخلون عليهم من كل باب سلام عليكم»: الرعد: 24 و ذكر أيضا أنه تحية أهل الجنة قال: «و تحيتهم فيها سلام»: يونس: 10، و قال تعالى: لا يسمعون فيها لغوا و لا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما»: الواقعة: 26.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى «و إذا حييتم الآية: قال: ذكر علي بن إبراهيم في تفسيره، عن الصادقين: أن المراد بالتحية في الآية السلام و غيره من البر. و في الكافي، بإسناده عن السكوني قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): السلام تطوع و الرد فريضة. و فيه، بإسناده عن جراح المدائني عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: يسلم الصغير على الكبير، و المار على القاعد، و القليل على الكثير. و فيه، بإسناده عن عيينة عن مصعب عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: القليل يبدءون الكثير بالسلام، و الراكب يبدأ الماشي، و أصحاب البغال يبدءون أصحاب الحمير، و أصحاب الخيل يبدءون أصحاب البغال. و فيه، بإسناده عن ابن بكير عن بعض أصحابه عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سمعته يقول: يسلم الراكب على الماشي، و الماشي على القاعد، و إذا لقيت جماعة سلم الأقل على الأكثر، و إذا لقي واحد جماعة سلم الواحد على الجماعة: أقول: و روي ما يقرب منه في الدر المنثور، عن البيهقي عن زيد بن أسلم عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم). و فيه، بالإسناد عنه (عليه السلام) قال: إذا مرت الجماعة بقوم أجزأهم أن يسلم واحد منهم، و إذا سلم على القوم و هم جماعة، أجزأهم أن يرد واحد منهم.
و في التهذيب، بإسناده عن محمد بن مسلم قال: دخلت على أبي جعفر (عليه السلام) و هو في الصلاة فقلت: السلام عليك، فقال: السلام عليك، فقلت: كيف أصبحت؟ فسكت، فلما انصرف قلت: أ يرد السلام و هو في الصلاة؟ قال: نعم، مثل ما قيل له.
و فيه، بإسناده عن منصور بن حازم عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: إذا سلم عليك الرجل و أنت تصلي، قال: ترد عليه خفيا كما قال و في الفقيه، بإسناده عن مسعدة بن صدقة عن جعفر بن محمد عن أبيه (عليه السلام) قال: لا تسلموا على اليهود، و لا على النصارى، و لا على المجوس، و لا على عبدة الأوثان، و لا على موائد شراب الخمر، و لا على صاحب الشطرنج و النرد، و لا على المخنث، و لا على الشاعر الذي يقذف المحصنات، و لا على المصلي لأن المصلي لا يستطيع أن يرد السلام، لأن التسليم من المسلم تطوع و الرد فريضة، و لا على آكل الربا، و لا على رجل جالس على غائط و لا على الذي في الحمام، و لا على الفاسق المعلن بفسقه.
أقول: و الروايات في معنى ما تقدم كثيرة، و الإحاطة بما تقدم من البيان توضح معنى الروايات فالسلام تحية مؤذنة ببسط السلم، و نشر الأمن بين المتلاقين على أساس المساواة و التعادل من استعلاء و إدحاض، و ما في الروايات من ابتداء الصغير بالتسليم للكبير، و القليل للكثير، و الواحد للجمع لا ينافي مسألة المساواة و إنما هو مبني على وجوب رعاية الحقوق فإن الإسلام لم يأمر أهله بإلغاء الحقوق، و إهمال أمر الفضائل و المزايا بل أمر غير صاحب الفضل أن يراعي فضل ذي الفضل، و حق صاحب الحق، و إنما نهى صاحب الفضل أن يعجب بفضله، و يتكبر على غيره فيبغي على الناس بغير حق فيبطل بذلك التوازن بين أطراف المجتمع الإنساني.
و أما النهي الوارد عن التسليم على بعض الأفراد فإنما هو متفرع على النهي عن توليهم و الركون إليهم كما قال تعالى: «لا تتخذوا اليهود و النصارى أولياء»: المائدة: 51 و قال: «لا تتخذوا عدوي و عدوكم أولياء»: الممتحنة: 1 و قال و لا تركنوا إلى الذين ظلموا»: هود: 113 إلى غير ذلك من الآيات.
نعم ربما اقتضت مصلحة التقرب من الظالمين لتبليغ الدين أو إسماعهم كلمة الحق التسليم عليهم ليحصل به تمام الأنس و تمتزج النفوس كما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بذلك في قوله «فاصفح عنهم و قل سلام»: الزخرف: 89 و كما في قوله يصف المؤمنين «و إذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما»: الفرقان: 63.
و تفسير الصافي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): إن رجلا قال له: السلام عليك، فقال: و عليك السلام و رحمة الله، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله، فقال: و عليك السلام و رحمة الله و بركاته، و قال آخر: السلام عليك و رحمة الله و بركاته، فقال: و عليك، فقال الرجل: نقصتني فأين ما قال الله «و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها» الآية فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): إنك لم تترك فضلا و رددت عليك مثله: أقول: و روي مثله في الدر المنثور، عن أحمد في الزهد و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و ابن مردويه بسند حسن عن سلمان الفارسي.
و في الكافي، عن الباقر (عليه السلام) قال: مر أمير المؤمنين (عليه السلام) بقوم فسلم عليهم فقالوا:، عليك السلام و رحمة الله و بركاته و مغفرته و رضوانه، فقال لهم أمير المؤمنين (عليه السلام):، لا تجاوزوا بنا مثل ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم، قالوا: رحمة الله و بركاته عليكم أهل البيت. أقول: و فيه إشارة إلى أن السنة في التسليم التام، و هو قول المسلم «السلام عليك و رحمة الله و بركاته» مأخوذة من حنيفية إبراهيم، (عليه السلام) و تأييد لما تقدم أن التحية بالسلام من الدين الحنيف.
و فيه، عن الصادق (عليه السلام): أن من تمام التحية للمقيم المصافحة، و تمام التسليم على المسافر المعانقة. و في الخصال، عن أمير المؤمنين (عليه السلام): إذا عطس أحدكم قولوا يرحمكم الله، و هو يقول: يغفر الله لكم و يرحمكم، قال الله تعالى: «و إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها» الآية و في المناقب: جاءت جارية للحسن (عليه السلام) بطاق ريحان، فقال لها، أنت حرة لوجه الله، فقيل له في ذلك، فقال (عليه السلام):، أدبنا الله تعالى فقال:، «إذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها» الآية و كان أحسن منها إعتاقها.
أقول: و الروايات كما ترى تعمم معنى التحية في الآية.
و في المجمع،: في قوله تعالى «فما لكم في المنافقين فئتين» الآية قال اختلفوا في من نزلت هذه الآية فيه، فقيل،: نزلت في قوم قدموا المدينة من مكة، فأظهروا للمسلمين الإسلام ثم رجعوا إلى مكة لأنهم استوخموا المدينة فأظهروا الشرك، ثم سافروا ببضائع المشركين إلى اليمامة، فأراد المسلمون أن يغزوهم فاختلفوا،: فقال بعضهم لا نفعل فإنهم مؤمنون، و قال آخرون: إنهم مشركون، فأنزل الله فيهم الآية: قال: و هو المروي عن أبي جعفر (عليه السلام).
و في تفسير القمي، في قوله تعالى «ودوا لو تكفرون كما كفروا» الآية أنها نزلت في أشجع و بني ضمرة، و هما قبيلتان، و كان من خبرهم أنه لما خرج رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى غزاة الحديبية مر قريبا من بلادهم، و قد كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هادن بني ضمرة، و واعدهم قبل ذلك فقال أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): يا رسول الله هذه بنو ضمرة قريبا منا، و نخاف أن يخالفونا إلى المدينة أو يعينوا علينا قريشا فلو بدأنا بهم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) كلا إنهم أبر العرب بالوالدين، و أوصلهم للرحم، و أوفاهم بالعهد.
و كان أشجع بلادهم قريبا من بلاد بني ضمرة، و هم بطن من كنانة، و كانت أشجع بينهم و بين بني ضمرة حلف بالمراعاة و الأمان، فأجدبت بلاد أشجع و أخصبت بلاد بني ضمرة فسارت أشجع إلى بلاد بني ضمرة فلما بلغ رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) مسيرهم إلى بني ضمرة تهيأ للمسير إلى أشجع ليغزوهم للموادعة التي كانت بينه و بين بني ضمرة فأنزل الله: «ودوا لو تكفرون كما كفروا فتكونون سواء فلا تتخذوا منهم أولياء حتى يهاجروا في سبيل الله فإن تولوا فخذوهم و اقتلوهم حيث وجدتموهم و لا تتخذوا منهم وليا و لا نصيرا.
ثم استثنى بأشجع فقال: «إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقتلوا قومهم و لو شاء الله لسلطهم عليكم فقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم و ألقوا إليكم السلم فما جعل الله لك عليهم سبيلا».
و كانت أشجع محالها البيضاء و الحل و المستباح، و قد كانوا قربوا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فهابوا لقربهم من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يبعث إليهم من يغزوهم، و كان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قد خافهم أن يصيبوا من أطرافه شيئا فهم بالمسير إليهم فبينما هو على ذلك إذ جاءت أشجع و رئيسها مسعود بن رجيلة، و هم سبعمائة فنزلوا شعب سلع، و ذلك في شهر ربيع الأول سنة ست من الهجرة فدعا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أسيد بن حصين و قال له: اذهب في نفر من أصحابك حتى تنظر ما أقدم أشجع.
فخرج أسيد و معه ثلاثة نفر من أصحابه فوقف عليهم فقال: ما أقدمكم؟ فقام إليه مسعود بن رجيلة و هو رئيس أشجع فسلم على أسيد و على أصحابه فقالوا: جئنا لنوادع محمدا، فرجع أسيد إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأخبره، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): خاف القوم أن أغزوهم فأرادوا الصلح بيني و بينهم.
ثم بعث إليهم بعشرة أحمال تمر فقدمها أمامه، ثم قال: نعم الشيء الهدية أمام الحاجة، ثم أتاهم فقال: يا معشر أشجع ما أقدمكم؟ قالوا: قربت دارنا منك، و ليس في قومنا أقل عددا منا فضقنا لحربك لقرب دارنا منك، و ضقنا لحرب قومنا لقلتنا فيهم فجئنا لنوادعكم، فقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) منهم و وادعهم فأقاموا يومهم ثم رجعوا إلى بلادهم، و فيهم نزلت هذه الآية «إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم و بينهم ميثاق - إلى قوله - فما جعل الله لكم عليهم سبيلا».
و في الكافي، بإسناده عن الفضل أبي العباس عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله عز و جل «أو جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم» قال: نزلت في بني مدلج، لأنهم جاءوا إلى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقالوا،: إنا قد حصرت صدورنا أن نشهد إنك لرسول الله، فلسنا معكم و لا مع قومنا عليك، قال: قلت: كيف صنع بهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، قال: وادعهم إلى أن يفرغ من العرب، ثم يدعوهم فإن أجابوا، و إلا قاتلهم. و في تفسير العياشي، عن سيف بن عميرة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) «أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم و لو شاء الله لسلطهم عليكم فلقاتلوكم» قال: كان أبي يقول:، نزلت في بني مدلج اعتزلوا فلم يقاتلوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و لم يكونوا مع قومهم. قلت: فما صنع بهم،: قال لم يقاتلهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى فرغ من عدوه، ثم نبذ إليهم على سواء. قال،: و «حصرت صدورهم» هو الضيق. و في المجمع: المروي عن أبي جعفر (عليه السلام) أنه قال: المراد بقوله تعالى «قوم بينكم و بينهم ميثاق» هو هلال بن عويمر السلمي واثق عن قومه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قال في موادعته،: على أن لا نخيف يا محمد من أتانا و لا تخيف من أتاك فنهى الله أن يتعرض لأحد عهد إليهم: أقول: و قد روي هذه المعاني و ما يقرب منها في الدر المنثور بطرق مختلفة عن ابن عباس و غيره. و في الدر المنثور، أخرج أبو داود في ناسخه و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و النحاس و البيهقي في سننه عن ابن عباس: في قوله «إلا الذين يصلون إلى قوم»، الآية قال: نسختها براءة،: «فإذا انسلخ الأشهر الحرم فاقتلوا المشركين حيث وجدتموهم».
|