بيان
إشارة إلى حال المنافقين و وعدهم لبني النضير بالنصر إن قوتلوا و الخروج معهم إن أخرجوا و تكذيبهم فيما وعدوا.
قوله تعالى: «أ لم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب» إلخ، الإخوان كالأخوة جمع أخ و الأخوة الاشتراك في الانتساب إلى أب و يتوسع فيه فيستعمل في المشتركين في اعتقاد أو صداقة و نحو ذلك، و يكثر استعمال الأخوة في المشتركين في النسبة إلى أب و استعمال الإخوان في المشتركين في اعتقاد و نحوه على ما قيل.
و الاستفهام في الآية للتعجيب، و المراد بالذين نافقوا عبد الله بن أبي و أصحابه، و المراد بإخوانهم الذين كفروا من أهل الكتاب بنو النضير على ما يؤيده السياق فإن مفاد الآيات أنهم كانوا قوما من أهل الكتاب دار أمرهم بين الخروج و القتال بعد قوم آخر كذلك و ليس إلا بني النضير بعد بني قينقاع.
و قوله: «لئن أخرجتم لنخرجن معكم و لا نطيع فيكم أحدا أبدا و إن قوتلتم لننصرنكم» مقول قول المنافقين، و اللام في «لئن أخرجتم» للقسم أي نقسم لئن أخرجكم المسلمون من دياركم لنخرجن من ديارنا معكم ملازمين لكم و لا نطيع فيكم أي في شأنكم أحدا يشير علينا بمفارقتكم أبدا، و إن قاتلكم المسلمون لننصرنكم عليهم.
و قوله: «و الله يشهد إنهم لكاذبون» تكذيب لوعد المنافقين، و تصريح بأنهم لا يفون بوعدهم.
قوله تعالى: «لئن أخرجوا لا يخرجون معهم و لئن قوتلوا لا ينصرونهم» تكذيب تفصيلي لوعدهم بعد تكذيبه الإجمالي بقوله: «و الله يشهد إنهم لكاذبون» و قد كرر فيه لام القسم، و المعنى: أقسم لئن أخرج بنو النضير لا يخرج معهم المنافقون، و أقسم لئن قوتلوا لا ينصرونهم.
قوله تعالى: «و لئن نصروهم ليولن الأدبار ثم لا ينصرون» إشارة إلى أن نصرهم على تقدير وقوعه منهم - و لن يقع أبدا - لا يدوم و لا ينفعهم بل يولون الأدبار فرارا ثم لا ينصرون بل يهلكون من غير أن ينصرهم أحد.
قوله تعالى: «لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله» إلخ، ضمائر الجمع للمنافقين، و الرهبة الخشية، و الآية في مقام التعليل لقوله: «و لئن نصروهم ليولن الأدبار» أي ذلك لأنهم يرهبونكم أشد من رهبتهم لله فلا يقاومونكم لو قاتلتم و لا يثبتون لكم.
و علل ذلك بقوله: «ذلك بأنهم قوم لا يفقهون» و الإشارة بذلك إلى كون رهبتهم للمؤمنين أشد من رهبتهم لله أي رهبتهم لكم كذلك لأنهم قوم لا يفهمون حق الفهم و لو فقهوا حقيقة الأمر بأن لهم أن الأمر إلى الله تعالى و ليس لغيره من الأمر شيء سواء في ذلك المسلمون و غيرهم، و لا يقوى غيره تعالى على عمل خير أو شر أو نافع أو ضار إلا بحول منه تعالى و قوة فلا ينبغي أن يرهب إلا هو عز و جل.
قوله تعالى: «لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصنة أو من وراء جدر» بيان لأثر رهبتهم و جبنهم جميعا و المعنى: لا يقاتلكم بنو النضير و المنافقون جميعا بأن يبرزوا بل في قرى حصينة محكمة أو من وراء جدر من غير بروز.
و قوله: «بأسهم بينهم شديد» أي هم فيما بينهم شديد البطش غير أنهم إذا برزوا لحربكم و شاهدوكم يجبنون بما ألقى الله في قلوبهم من الرعب.
و قوله: «تحسبهم جميعا و قلوبهم شتى» أي تظن أنهم مجتمعون في ألفة و اتحاد و الحال أن قلوبهم متفرقة غير متحدة و ذلك أقوى عامل في الخزي و الخذلان.
ذلك بأنهم قوم لا يعقلون و لو عقلوا لاتحدوا و وحدوا الكلمة.
قوله تعالى: «كمثل الذين من قبلهم قريبا ذاقوا وبال أمرهم و لهم عذاب أليم» الوبال العاقبة السيئة و قوله: «قريبا» قائم مقام الظروف منصوب على الظرفية أي في زمان قريب.
و قوله: «كمثل» إلخ، خبر مبتدإ محذوف و التقدير «مثلهم كمثل» إلخ، و المعنى: مثلهم أي مثل بني النضير من اليهود في نقضهم العهد و وعد المنافقين لهم بالنصر كذبا ثم الجلاء مثل الذين من قبلهم في زمان قريب و هم بنو قينقاع رهط آخر من يهود المدينة نقضوا العهد بعد غزوة بدر فأجلاهم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) إلى أذرعات و قد كان وعدهم المنافقون أن يكلموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيهم و يمنعوه من إجلائهم فغدروا بهم فذاق بنو قينقاع وبال أمرهم و لهم في الآخرة عذاب أليم و قيل: المراد بالذين من قبلهم كفار مكة يوم بدر و ما تقدم أنسب للسياق.
و المثل على أي حال مثل لبني النضير لا للمنافقين على ما يعطيه السياق.
قوله تعالى: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر فلما كفر قال إني بريء منك» إلخ، ظاهر السياق أنه مثل للمنافقين في غرورهم بني النضير بوعد النصر ثم خذلانهم عند الحاجة.
و ظاهر سياق يفيد أن المراد بالشيطان و الإنسان الجنس و الإشارة إلى غرور الشيطان للإنسان بدعوته إلى الكفر بتزيين أمتعة الحياة له و تسويل الإعراض عن الحق بمواعيده الكاذبة و الأماني السرابية حتى إذا طلعت له طلائع الآخرة و عاين أن ما اغتر به من أماني الحياة الدنيا لم يكن إلا سرابا يغره و خيالا يلعب به تبرأ منه الشيطان و لم يف بما وعده و قال: إني بريء منك إني أخاف الله رب العالمين.
و بالجملة مثل المنافقين في دعوتهم بني النضير إلى مخالفة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و وعدهم النصر ثم الغدر بهم و خلف الوعد كمثل هذا الشيطان في دعوة الإنسان إلى الكفر بمواعيده الكاذبة ثم تبريه منه بعد الكفر عند الحاجة.
و قيل: المراد بالتمثيل الإشارة إلى قصة برصيصا العابد الذي زين له الشيطان الفجور ففجر بامرأة ثم كفر و سيأتي القصة في البحث الروائي التالي إن شاء الله.
و قيل: المثل السابق المذكور في قوله: «كمثل الذين من قبلهم قريبا» مثل كفار مكة يوم بدر - كما تقدم - و المراد بالإنسان في هذا المثل أبو جهل و بقول الشيطان له اكفر ما قصه الله تعالى بقوله في القصة: «و إذ زين لهم الشيطان أعمالهم و قال لا غالب لكم اليوم من الناس و إني جار لكم فلما تراءت الفئتان نكص على عقبيه و قال إني بريء منكم إني أرى ما لا ترون إني أخاف الله و الله شديد العقاب»: الأنفال: 48.
و على هذا الوجه فقول الشيطان: «إني أخاف الله رب العالمين» قول جدي لأنه كان يخاف تعذيب الملائكة النازلين لنصرة المؤمنين ببدر و أما على الوجهين الأولين فهو نوع من الاستهزاء و الإخزاء.
قوله تعالى: «فكان عاقبتهما أنهما في النار خالدين فيها و ذلك جزاء الظالمين» الظاهر أن ضمائر التثنية للشيطان و الإنسان المذكورين في المثل ففي الآية بيان عاقبة الشيطان في غروره الإنسان و إضلاله و الإنسان في اغتراره به و ضلاله، و إشارة إلى أن ذلك عاقبة المنافقين في وعدهم لبني النضير و غدرهم بهم و عاقبة بني النضير في اغترارهم بوعدهم الكاذب و إصرارهم على المشاقة و المخالفة، و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن إسحاق و ابن المنذر و أبو نعيم في الدلائل عن ابن عباس: أن رهطا من بني عوف بن الحارث منهم عبد الله بن أبي بن سلول و وديعة بن مالك و سويد و داعس بعثوا إلى بني النضير أن اثبتوا و تمنعوا فإنا لا نسلمكم و إن قوتلتم قاتلنا معكم، و إن خرجتم خرجنا معكم فتربصوا ذلك من نصرهم فلم يفعلوا و قذف الله الرعب في قلوبهم. فسألوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يجليهم و يكف عن دمائهم على أن لهم ما حملت الإبل من أموالهم إلا الحلقة ففعل فكان الرجل منهم يهدم بيته فيضعه على ظهر بعيره فينطلق به فخرجوا إلى خيبر و منهم من سار إلى الشام.
أقول: و الرواية تخالف ما في عدة من الروايات: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) هو الذي عرض لهم أن يخرجوا بما تحمله الإبل من الأموال فلم يقبلوا ثم رضوا بذلك بعد أيام فلم يقبل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) إلا أن يخرجوا بأنفسهم و أهليهم من غير أن يحملوا شيئا فخرجوا كذلك و جعل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لكل ثلاثة منهم بعيرا و سقاء.
و فيه، أخرج ابن مردويه عن ابن عباس: «أ لم تر إلى الذين نافقوا» قال: عبد الله بن أبي بن سلول و رفاعة بن تابوت و عبد الله بن نبتل و أوس بن قيظي. و «إخوانهم» بنو النضير.
أقول: المراد به عد بعضهم فلا ينافي ما في الرواية السابقة.
و فيه، أخرج ابن أبي الدنيا في مكايد الشيطان و ابن مردويه و البيهقي في شعب الإيمان عن عبيد بن رفاعة الدارمي يبلغ به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: كان راهب في بني إسرائيل فأخذ الشيطان جارية فحنقها فألقى في قلوب أهلها أن دواءها عند الراهب فأتى بها الراهب فأبى أن يقبلها فلم يزالوا به حتى قبلها فكانت عنده. فأتاه الشيطان فوسوس له و زين له فلم يزل به حتى وقع عليها فلما حملت وسوس له الشيطان فقال: الآن تفتضح يأتيك أهلها فاقتلها فإن أتوك فقل: ماتت فقتلها و دفنها فأتى الشيطان أهلها فوسوس إليهم و ألقى في قلوبهم أنه أحبلها ثم قتلها فأتاه أهلها فسألوه فقال: ماتت فأخذوه. فأتاه الشيطان فقال: أنا الذي ألقيت في قلوب أهلها، و أنا الذي أوقعتك في هذا فأطعني تنج و اسجد لي سجدتين فسجد له سجدتين فهو الذي قال الله: «كمثل الشيطان إذ قال للإنسان اكفر» الآية.
أقول: و القصة مشهورة رويت مختصرة و مفصلة في روايات كثيرة.
|