بيان
الذي تتضمنه الآيات الكريمة كالنتيجة المأخوذة مما تقدم من آيات السورة فقد أشير فيها إلى مشاقة بني النضير من اليهود و نقضهم العهد و ذاك الذي أوقعهم في خسران دنياهم و أخراهم، و تحريض المنافقين لهم على مشاقة الله و رسوله و هو الذي أهلكهم، و حقيقة السبب في ذلك أنهم لم يراقبوا الله في أعمالهم و نسوه فأنساهم أنفسهم فلم يختاروا ما فيه خير أنفسهم و صلاح عاجلهم و آجلهم فتاهوا و هلكوا.
فعلى من آمن بالله و رسوله و اليوم الآخر أن يذكر ربه و لا ينساه و ينظر فيما يقدمه من العمل ليوم الرجوع إلى ربه فإن ما عمله محفوظ عليه يحاسبه به الله يومئذ فيجازيه عليه جزاء لازما لا يفارقه.
و هذا هو الذي يرومه قوله: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد» الآيات فتندب المؤمنين إلى أن يذكروا الله سبحانه و لا ينسوه و ينظروا في أعمالهم التي على صلاحها و طلاحها يدور رحى حياتهم الآخرة فيراقبوا أعمالهم أن تكون صالحة خالصة لوجهه الكريم مراقبة مستمرة ثم يحاسبوا أنفسهم فيشكروا الله على ما عملوا من حسنة و يوبخوها و يزجروها على ما اقترفت من سيئة و يستغفروا.
و ذكر الله تعالى بما يليق بساحة عظمته و كبريائه من أسمائه الحسنى و صفاته العليا التي بينها القرآن الكريم في تعليمه هو السبيل الوحيد الذي ينتهي بسالكه إلى كمال العبودية و لا كمال للإنسان فوقه.
و ذلك أن الإنسان عبد محض و مملوك طلق لله سبحانه فهو مملوك من كل جهة مفروضة لا استقلال له من جهة كما أنه تعالى مالكه من كل جهة مفروضة له الاستقلال من كل جهة، و كمال الشيء محوضته في نفسه و آثاره فكمال الإنسان في أن يرى نفسه مملوكا لله من غير استقلال و أن يتصف من الصفات بصفات العبودية كالخضوع و الخشوع و الذلة و الاستكانة و الفقر بالنسبة إلى ساحة العظمة و العزة و الغنى و أن تجري أعماله و أفعاله على ما يريده الله لا ما يهواه نفسه من غير غفلة في شيء من هذه المراحل الذات و الصفات و الأفعال.
و لا يتم له النظر إلى ذاته و صفاته و أفعاله بنظرة التبعية المحضة و المملوكية الطلقة إلا مع التوجه الباطني إلى ربه الذي هو على كل شيء شهيد و بكل شيء محيط و هو القائم على كل نفس بما كسبت من غير أن يغفل عنه أو ينساه.
و عندئذ يطمئن قلبه كما قال تعالى: «ألا بذكر الله تطمئن القلوب»: الرعد: 28، و يعرف الله سبحانه بصفات كماله التي تتضمنها أسماؤه الحسنى، و يظهر منه قبال ذلك صفات عبوديته و جهات نقصه من خضوع و خشوع و ذلة و فقر و حاجة.
و يتعقب ذلك أعماله الصالحة بدوام الحضور و استمرار الذكر، قال تعالى: «و اذكر ربك في نفسك تضرعا و خيفة و دون الجهر من القول بالغدو و الآصال و لا تكن من الغافلين إن الذين عند ربك لا يستكبرون عن عبادته و يسبحونه و له يسجدون»: الأعراف: 206 و قال: «فإن استكبروا فالذين عند ربك يسبحون له بالليل و النهار و هم لا يسأمون»: حم السجدة: 38.
و إلى ما ذكرنا من معرفته تعالى بصفات كماله و معرفة النفس بما يقابلها من صفات النقص و الحاجة يشير بمقتضى السياق قوله: «لو أنزلنا هذا القرآن» إلى آخر الآيات.
قوله تعالى: «يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله و لتنظر نفس ما قدمت لغد» إلى آخر الآية، أمر للمؤمنين بتقوى الله و بأمر آخر و هو النظر في الأعمال التي قدموها ليوم الحساب أ هي صالحة فليرج بها ثواب الله أو طالحة فليخش عقاب الله عليها و يتدارك بالتوبة و الإنابة و هو محاسبة النفس.
أما التقوى و قد فسر في الحديث بالورع عن محارم الله فحيث تتعلق بالواجبات و المحرمات جميعا كانت هي الاجتناب عن ترك الواجبات و فعل المحرمات.
و أما النظر فيما قدمت النفس لغد فهو أمر آخر وراء التقوى نسبته إلى التقوى كنسبة النظر الإصلاحي ثانيا من عامل في عمله أو صانع فيما صنعه لتكميله و رفع نواقصه التي غفل عنها أو أخطأ فيها حين العمل و الصنع.
فعلى المؤمنين جميعا أن يتقوا الله فيما وجه إليهم من التكاليف فيطيعوه و لا يعصوه ثم ينظروا فيما قدموه من الأعمال التي يعيشون بها في غد بعد ما حوسبوا بها أ صالح فيرجى ثوابه أم طالح فيخاف عقابه فيتوبوا إلى الله و يستغفروه.
و هذا تكليف عام يشمل كل مؤمن لحاجة الجميع إلى إصلاح العمل و عدم كفاية نظر بعضهم عن نظر الآخرين غير أن القائم به من أهل الإيمان في نهاية القلة بحيث يكاد يلحق بالعدم و إلى ذلك يلوح لفظ الآية «و لتنظر نفس».
فقوله: «و لتنظر نفس ما قدمت لغد» خطاب عام لجميع المؤمنين لكن لما كان المشتغل بهذا النظر من بين أهل الإيمان بل من بين أهل التقوى منهم في غاية القلة بل يكاد يلحق بالعدم لاشتغالهم بأعراض الدنيا و استغراق أوقاتهم في تدبير المعيشة و إصلاح أمور الحياة ألقى الخطاب في صورة الغيبة و علقه بنفس ما منكرة فقال: «و لتنظر نفس» و في هذا النوع من الخطاب مع كون التكليف عاما بحسب الطبع عتاب و تقريع للمؤمنين مع التلويح إلى قلة من يصلح لامتثاله منهم.
و قوله: «ما قدمت لغد» استفهام من ماهية العمل الذي قدمت لغد و بيان للنظر، و يمكن أن تكون «ما» موصولة و هي و صلتها متعلقا بالنظر.
و المراد بغد يوم القيامة و هو يوم حساب الأعمال و إنما عبر عنه بغد للإشارة إلى قربه منهم كقرب الغد من أمسه، قال تعالى: «إنهم يرونه بعيدا و نراه قريبا»: المعارج: 7.
و المعنى: يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله بطاعته في جميع ما يأمركم به و ينهاكم عنه، و لتنظر نفس منكم فيما عملته من عمل و لتر ما الذي قدمته من عملها ليوم الحساب أ هو عمل صالح أو طالح و هل عملها الصالح صالح مقبول أو مردود.
و قوله: «و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» أمر بالتقوى ثانيا و «إن الله خبير» إلخ، تعليل له و تعليل هذه التقوى بكونه تعالى خبيرا بالأعمال يعطي أن المراد بهذه التقوى المأمور بها ثانيا هي التقوى في مقام المحاسبة و النظر فيها من حيث إصلاحها و إخلاصها لله سبحانه و حفظها عما يفسدها، و أما قوله في صدر الآية: «اتقوا الله» فالمراد به التقوى في أصل إتيان الأعمال بقصرها في الطاعات و تجنب المعاصي.
و من هنا تبين أن المراد بالتقوى في الموضعين مختلف فالأولى هي التقوى في أصل إتيان الأعمال، و الثانية هي التقوى في الأعمال المأتية من حيث إصلاحها و إخلاصها.
و ظهر أيضا أن قول بعضهم: إن الأولى للتوبة عما مضى من الذنوب و الثانية لاتقاء المعاصي في المستقبل غير سديد و مثله ما قيل: إن الأولى في أداء الواجبات و الثانية في ترك المحرمات، و مثله ما قيل: إن الأمر الثاني لتأكيد الأمر الأول فحسب.
قوله تعالى: «و لا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم» إلخ، النسيان زوال صورة المعلوم عن النفس بعد حصولها فيها مع زوال مبدئه و يتوسع فيه مطلق على مطلق الإعراض عن الشيء بعدم ترتيب الأثر عليه قال تعالى: «و قيل اليوم ننساكم كما نسيتم لقاء يومكم هذا و مأواكم النار و ما لكم من ناصرين»: الجاثية: 34.
و الآية بحسب لب معناها كالتأكيد لمضمون الآية السابقة كأنه قيل: قدموا ليوم الحساب و الجزاء عملا صالحا تحيى به أنفسكم و لا تنسوه.
ثم لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى إذ بنسيانه تعالى تنسى أسماؤه الحسنى و صفاته العليا التي ترتبط بها صفات الإنسان الذاتية من الذلة و الفقر و الحاجة فيتوهم الإنسان نفسه مستقلة في الوجود و يخيل إليه أن له لنفسه حياة و قدرة و علما و سائر ما يتراءى له من الكمال و نظراؤه في الاستقلال سائر الأسباب الكونية الظاهرية تؤثر فيه و تتأثر عنه.
و عند ذلك يعتمد على نفسه و كان عليه أن يعتمد على ربه و يرجو و يخاف الأسباب الظاهرية و كان عليه أن يرجو و يخاف ربه، يطمئن إلى غير ربه و كان عليه أن يطمئن إلى ربه.
و بالجملة ينسى ربه و الرجوع إليه و يعرض عنه بالإقبال إلى غيره، و يتفرع عليه أن ينسى نفسه فإن الذي يخيل إليه من نفسه أنه موجود مستقل الوجود يملك ما ظهر فيه من كمالات الوجود و إليه تدبير أمره مستمدا مما حوله من الأسباب الكونية و ليس هذا هو الإنسان بل الإنسان موجود متعلق الوجود جهل كله عجز كله ذلة كله فقر كله و هكذا، و ما له من الكمال كالوجود و العلم و القدرة و العزة و الغنى و هكذا فلربه و إلى ربه انتهاؤه و نظراؤه في ذلك سائر الأسباب الكونية.
و الحاصل لما كان سبب نسيان النفس نسيان الله تعالى حول النهي عن نسيان النفس في الآية إلى النهي عن نسيانه تعالى لأن انقطاع المسبب بانقطاع سببه أبلغ و آكد، و لم يقنع بمجرد النهي الكلي عن نسيانه بأن يقال: و لا تنسوا الله فينسيكم أنفسكم بل جرى بمثل إعطاء الحكم بالمثال ليكون أبلغ في التأثير و أقرب إلى القبول فنهاهم أن يكونوا كالذين نسوا الله مشيرا به إلى من تقدم ذكرهم من يهود بني النضير و بني قينقاع و من حاله حالهم في مشاقة الله و رسوله.
فقال: «و لا تكونوا كالذين نسوا الله» ثم فرع عليه قوله: «فأنساهم أنفسهم» تفريع المسبب على سببه ثم عقبه بقوله: «أولئك هم الفاسقون» فدل على أنهم فاسقون حقا خارجون عن زي العبودية.
و الآية و إن كانت تنهى عن نسيانه تعالى المتفرع عليه نسيان النفس لكنها بورودها في سياق الآية السابقة تأمر بذكر الله و مراقبته.
فقد بان من جميع ما تقدم في الآيتين أن الآية الأولى تأمر بمحاسبة النفس و الثانية تأمر بالذكر و المراقبة.
قوله تعالى: «لا يستوي أصحاب النار و أصحاب الجنة أصحاب الجنة هم الفائزون» قال الراغب: الفوز الظفر بالخير مع حصول السلامة انتهى.
و السياق يشهد بأن المراد بأصحاب النار هم الناسون لله و بأصحاب الجنة هم الذاكرون لله المراقبون.
و الآية حجة تامة على وجوب اللحوق بالذاكرين لله المراقبين له دون الناسين، تقريرها أن هناك قبيلين لا ثالث لهما و هما الذاكرون لله و الناسون له لا بد للإنسان أن يلحق بأحدهما و ليسا بمساويين حتى يتساوى اللحوقان و لا يبالي الإنسان بأيهما لحق؟ بل هناك راجح و مرجوح يجب اختيار الراجح على المرجوح و الرجحان لقبيل الذاكرين لأنهم الفائزون لا غير فالترجيح لجانبهم فمن الواجب لكل نفس أن يختار اللحوق بقبيل الذاكرين.
قوله تعالى: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل لرأيته خاشعا متصدعا من خشية الله» إلخ، في المجمع،: التصدع التفرق بعد التلاؤم و مثله التفطر انتهى.
و الكلام مسوق سوق المثل مبني على التخييل و الدليل عليه قوله في ذيل الآية: «و تلك الأمثال نضربها للناس» إلخ.
و المراد تعظيم أمر القرآن بما يشتمل عليه من حقائق المعارف و أصول الشرائع و العبر و المواعظ و الوعد و الوعيد و هو كلام الله العظيم، و المعنى: لو كان الجبل مما يجوز أن ينزل عليه القرآن فأنزلناه عليه لرأيته - مع ما فيه من الغلظة و القسوة و كبر الجسم و قوة المقاومة قبال النوازل - متأثرا متفرقا من خشية الله فإذا كان هذا حال الجبل بما هو عليه فالإنسان أحق بأن يخشع لله إذا تلاه أو تلي عليه، و ما أعجب حال أهل المشاقة و العناد لا تلين قلوبهم له و لا يخشعون و لا يخشون.
و الالتفات من التكلم مع الغير إلى الغيبة في قوله: «من خشية الله» للدلالة على علة الحكم فإنما يخشع و يتصدع الجبل بنزول القرآن لأنه كلام الله عز اسمه.
و قوله: «و تلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون» من وضع الحكم الكلي موضع الجزئي للدلالة على أن الحكم ليس ببدع في مورده بل جار سار في موارد أخرى كثيرة.
فقوله: «لو أنزلنا هذا القرآن على جبل» إلخ، مثل ضربه الله للناس في أمر القرآن لتقريب عظمته و جلالة قدره بما أنه كلام لله تعالى و بما يشتمل عليه من المعارف رجاء أن يتفكر فيه الناس فيتلقوا القرآن بما يليق به من التلقي و يتحققوا بما فيه من الحق الصريح و يهتدوا إلى ما يهدي إليه من طريق العبودية التي لا طريق إلى كمالهم و سعادتهم وراءها، و من ذلك ما ذكر في الآيات السابقة من المراقبة و المحاسبة.
قوله تعالى: «هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة هو الرحمن الرحيم» هذه الآية و الآيتان بعدها و إن كانت مسوقة لتعداد قبيل من أسمائه تعالى الحسنى و الإشارة إلى تسميته تعالى بكل اسم أحسن و تنزهه بشهادة ما في السماوات و الأرض لكنها بانضمامها إلى ما مر من الأمر بالذكر تفيد أن على الذاكرين أن يذكروه بأسمائه الحسنى فيعرفوا أنفسهم بما يقابلها من أسماء النقص، فافهم ذلك.
و بانضمامها إلى الآية السابقة و ما فيها من قوله: «من خشية الله» تفيد تعليل خشوع الجبل و تصدعه من خشية الله كأنه قيل: و كيف لا و هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب و الشهادة، إلى آخر الآيات.
و قوله: «هو الله الذي لا إله إلا هو» يفيد الموصول و الصلة معنى اسم من أسمائه و هو وحدانيته تعالى في ألوهيته و معبوديته، و قد تقدم بعض ما يتعلق بالتهليل في تفسير قوله تعالى: «و إلهكم إله واحد لا إله إلا هو»: البقرة: 163.
و قوله: «عالم الغيب و الشهادة» الشهادة هي المشهود الحاضر عند المدرك و الغيب خلافها و هما معنيان إضافيان فمن الجائز أن يكون شيء شهادة بالنسبة إلى شيء و غيبا بالنسبة إلى آخر و يدور الأمر مدار نوع من الإحاطة بالشيء حسا أو خيالا أو عقلا أو وجودا و هو الشهادة و عدمها و هو الغيب، و كل ما فرص من غيب أو شهادة فهو من حيث هو محاط له تعالى معلوم فهو تعالى عالم الغيب و الشهادة و غيره لا علم له بالغيب لمحدودية وجوده و عدم إحاطته إلا ما علمه تعالى كما قال: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول»: الجن: 27، و أما هو تعالى فغيب على الإطلاق لا سبيل إلى الإحاطة به لشيء أصلا كما قال: «و لا يحيطون به علما».
و قوله: «هو الرحمن الرحيم» قد تقدم الكلام في معنى الاسمين في تفسير سورة الفاتحة.
قوله تعالى: «هو الله الذي لا إله إلا هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر» إلخ، الملك هو المالك لتدبير أمر الناس و الحكم فيهم، و القدوس مبالغة في القدس و هو النزاهة و الطهارة، و السلام من يلاقيك بالسلام و العافية من غير شر و ضر، و المؤمن الذي يعطي الأمن، و المهيمن الفائق المسيطر على الشيء.
و العزيز الغالب الذي لا يغلبه شيء أو من عنده ما عند غيره من غير عكس، و الجبار مبالغة من جبر الكسر أو الذي تنفذ إرادته و يجبر على ما يشاء، و المتكبر الذي تلبس بالكبرياء و ظهر بها.
و قوله: «سبحان الله عما يشركون» ثناء عليه تعالى كما في قوله: «و قالوا اتخذ الله ولدا سبحانه»: البقرة: 116.
قوله تعالى: «هو الله الخالق البارىء المصور» إلى آخر الآية، الخالق هو الموجد للأشياء عن تقدير، و البارىء المنشىء للأشياء ممتازا بعضها من بعض، و المصور المعطي لها صورا يمتاز بها بعضها من بعض، و الأسماء الثلاثة تتضمن معنى الإيجاد باعتبارات مختلفة و بينها ترتب فالتصوير فرع البرء و البرء فرع الخلق و هو ظاهر.
و إنما صدر الآيتين السابقتين بقوله: «الذي لا إله إلا هو» فوصف به «الله» و عقبه بالأسماء بخلاف هذه الآية إذ قال: «هو الله الخالق» إلخ.
لأن الأسماء الكريمة المذكورة في الآيتين السابقتين و هي أحد عشر اسما من لوازم الربوبية و مالكية التدبير التي تتفرع عليها الألوهية و المعبودية بالحق و هي على نحو الأصالة و الاستقلال لله سبحانه وحده لا شريك له في ذلك فاتصافه تعالى وحده بها يستوجب اختصاص الألوهية و استحقاق المعبودية به تعالى.
فالأسماء الكريمة بمنزلة التعليل لاختصاص الألوهية به تعالى كأنه قيل لا إله إلا هو لأنه عالم الغيب و الشهادة هو الرحمن الرحيم، و لذا أيضا ذيل هذه الأسماء بقوله ثناء عليه: «سبحان الله عما يشركون» ردا على القول بالشركاء كما يقوله المشركون.
و أما قوله: «هو الله الخالق البارىء المصور» فالمذكور فيه من الأسماء يفيد معنى الخلق و الإيجاد و اختصاص ذلك به تعالى لا يستوجب اختصاص الألوهية به كما يدل عليه أن الوثنيين قائلون باختصاص الخلق و الإيجاد به تعالى و هم مع ذلك يدعون من دونه أربابا و آلهة و يثبتون له شركاء.
و أما وقوع اسم الجلالة في صدر الآيات الثلاث جميعا فهو علم للذات المستجمع لجميع صفات الكمال يرتبط به و يجري عليه جميع الأسماء و في التكرار مزيد تأكيد و تثبيت للمطلوب.
و قوله: «له الأسماء الحسنى» إشارة إلى بقية الأسماء الحسنى عن آخرها لكون الأسماء جمعا محلى باللام و هو يفيد العموم.
و قوله: «يسبح له ما في السماوات و الأرض» أي جميع ما في العالم من المخلوقات حتى نفس السماوات و الأرض و قد تقدم توضيح معنى الجملة مرارا.
ثم ختم الآيات بقوله: «و هو العزيز الحكيم» أي الغالب غير المغلوب الذي فعله متقن لا مجازفة فيه فلا يعجزه فيما شرعه و دعا إليه معصية العاصين و لا مشاقة المعاندين و لا يضيع عنده طاعة المطيعين و أجر المحسنين.
و العناية إلى ختم الكلام بالاسمين و الإشارة بذلك إلى كون القرآن النازل من عنده كلام عزيز حكيم هو الذي دعا إلى تكرار اسمه العزيز و ذكره مع الحكيم مع تقدم ذكره بين الأسماء.
و قد وصف القرآن أيضا بالعزة و الحكمة كما قال: «و إنه لكتاب عزيز»: حم السجدة: 41، و قال: «و القرآن الحكيم»: يس: 2.
بحث روائي
في المجمع،: في قوله تعالى: «عالم الغيب و الشهادة»: عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: الغيب ما لم يكن و الشهادة ما قد كان.
أقول: و هو تفسير ببعض المصاديق، و قد أوردنا أحاديث عنهم (عليهم السلام) في معنى اسم الجلالة و الاسمين الرحمن الرحيم في ذيل تفسير البسملة من سورة الفاتحة.
و في التوحيد، بإسناده عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام) في حديث: لم يزل حيا بلا حياة و ملكا قادرا قبل أن ينشىء شيئا و ملكا جبارا بعد إنشائه للكون.
أقول: قوله: لم يزل حيا بلا حياة أي بلا حياة زائدة على الذات، و قوله: لم يزل ملكا قادرا قبل أن ينشىء شيئا إرجاع للملك و هو من صفات الفعل إلى القدرة و هي من صفات الذات ليستقيم تحققه قبل الإيجاد.
و في الكافي، بإسناده عن هشام الجواليقي قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله: «سبحان الله» ما يعني به؟ قال: تنزيه.
و في نهج البلاغة،: و الخالق لا بمعنى حركة و نصب.
أقول: و قد أوردنا عدة من الروايات في الأسماء الحسنى و إحصائها في البحث عن الأسماء الحسنى في الجزء الثامن من الكتاب.
و في النبوي المشهور: حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا و زنوا قبل أن توزنوا و تجهزوا للغرض الأكبر.
و في الكافي، بإسناده إلى أبي الحسن الماضي (عليه السلام) قال: ليس منا من لم يحاسب نفسه في كل يوم فإن عمل حسنا ازداد لله شكرا و إن عمل سيئا استغفر الله و تاب إليه.
أقول: و فيما يقرب من هذا المعنى روايات أخر، و قد أوردنا روايات عنهم (عليهم السلام) في معنى ذكر الله في ذيل تفسير قوله تعالى: «فاذكروني أذكركم» الآية: البقرة: 152، و قوله: «يا أيها الذين آمنوا اذكروا الله ذكرا كثيرا»: الأحزاب: 21، فليراجعها من شاء.
|