بيان
اتصال الآيات ظاهر لا غبار عليه، فإنها سلسلة خطابات للمؤمنين فيما يهمهم من كليات أمورهم في آخرتهم و دنياهم منفردين و مجتمعين.
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط و لا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا» الآية نظيره الآية التي في سورة النساء «يا أيها الذين ءامنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله و لو على أنفسكم أو الوالدين و الأقربين إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا»: النساء: 153.
و إنما الفرق بين الآيتين أن آية النساء في مقام النهي عن الانحراف عن العدل في الشهادة لاتباع الهوى بأن يهوى الشاهد المشهود له لقرابة و نحوها، فيشهد له بما ينتفع به على خلاف الحق، و هذه الآية - أعني آية المائدة - في مقام الردع عن الانحراف عن العدل في الشهادة لشنآن و بغض من الشاهد للمشهود عليه، فيقيم الشهادة عليه يريد بها نوع انتقام منه و دحض لحقه.
و هذا الاختلاف في غرض البيان هو الذي أوجب اختلاف القيود في الآيتين: فقال في آية النساء: «كونوا قوامين بالقسط شهداء لله» و في آية المائدة: «كونوا قوامين لله شهداء بالقسط.
و ذلك أن الغرض في آية المائدة لما كان هو الردع عن الظلم في الشهادة لسابق عداوة من الشاهد للمشهود عليه قيد الشهادة بالقسط، فأمر بالعدل في الشهادة و أن لا يشتمل على ظلم حتى على العدو بخلاف الشهادة لأحد بغير الحق لسابق حب و هوى، فإنها لا تعد ظلما في الشهادة و انحرافا عن العدل و إن كانت في الحقيقة لا تخلو عن ظلم و حيف، و لذلك أمر في آية المائدة بالشهادة بالقسط، و فرعه على الأمر بالقيام لله، و أمر في آية النساء بالشهادة لله أي أن لا يتبع فيها الهوى، و فرعه على الأمر بالقيام بالقسط.
و لذلك أيضا فرع في آية المائدة على الأمر بالشهادة بالقسط قوله: «اعدلوا هو أقرب للتقوى و اتقوا الله» فدعا إلى العدل، و عده ذريعة إلى حصول التقوى، و عكس الأمر في آية النساء ففرع على الأمر بالشهادة لله قوله: «فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا» فنهى عن اتباع الهوى و ترك التقوى، و عده وسيلة سيئة إلى ترك العدل.
ثم حذر في الآيتين جميعا في ترك التقوى تحذيرا واحدا فقال في آية النساء: «و إن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا» أي إن لم تتقوا، و قال في آية المائدة: «و اتقوا الله إن الله خبير بما تعملون» و أما معنى القوامين لله شهداء بالقسط إلخ فقد ظهر في الكلام على الآيات السابقة.
قوله تعالى: «اعدلوا هو أقرب للتقوى»، الضمير راجع إلى العدل المدلول عليه بقوله: «اعدلوا» و المعنى ظاهر.
قوله تعالى: «وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات لهم مغفرة و أجر عظيم» الجملة الثانية أعني قوله: «لهم مغفرة»، إنشاء للوعد الذي أخبر عنه بقوله: «وعد الله»، و هذا كما قيل: آكد بيانا من قوله: «وعد الله الذين ءامنوا و عملوا الصالحات منهم مغفرة و أجرا عظيما»: الفتح: 29 لا لما قيل: إنه لكونه خبرا، بعد خبر فإن ذلك خطأ، بل لكونه تصريحا بإنشاء الوعد من غير أن يدل عليه ضمنا كآية سورة الفتح.
قوله تعالى: «و الذين كفروا و كذبوا بآياتنا أولئك أصحاب الجحيم» قال الراغب: الجحمة شدة تأجج النار و منه الجحيم، و الآية تشتمل على نفس الوعيد، و تقابل قوله تعالى في الآية السابقة: «لهم مغفرة و أجر عظيم».
و تقييد الكفر بتكذيب الآيات للاحتراز عن الكفر الذي لا يقارن تكذيب الآيات الدالة، و لا ينتهي إلى إنكار الحق مع العلم بكونه حقا كما في صورة الاستضعاف، فإن أمره إلى الله إن يشأ يغفره و إن يشأ يعذب عليه فهاتان الآيتان وعد جميل للذين آمنوا و عملوا الصالحات، و إيعاد شديد للذين كفروا و كذبوا بآيات الله، و بين المرحلتين مراحل متوسطة و منازل متخللة أبهم الله سبحانه أمرها و عقباها.
قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا اذكروا نعمة الله عليكم إذ هم قوم أن يبسطوا» إلخ هذا المضمون يقبل الانطباق على وقائع متعددة مختلفة وقعت بين الكفار و المسلمين كغزوات بدر و أحد و الأحزاب و غير ذلك، فالظاهر أن المراد به مطلق ما هم به المشركون من قتل المؤمنين و إمحاء أثر الإسلام و دين التوحيد.
و ما ذكره بعض المفسرين أن المراد به ما هم بعض المشركين من قتل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو ما هم به بعض اليهود من الفتك به - و سيجيء قصتهما - فبعيد من ظاهر اللفظ كما لا يخفى.
قوله تعالى: «و اتقوا الله و على الله فليتوكل المؤمنون» أمر بالتقوى و التوكل على الله، و المراد بالحقيقة النهي و التحذير الشديد عن ترك التقوى و ترك التوكل على الله سبحانه، و الدليل على ذلك ما سرده تعالى من قصة أخذ الميثاق من بني إسرائيل و من الذين قالوا إنا نصارى، ثم نقض الطائفتين الميثاق الإلهي و ابتلاء الله إياهم باللعن و تقسية القلوب، و نسيان حظ من دينهم، و إغراء العداوة و البغضاء بينهم إلى يوم القيامة.
و لم يذكر القصة إلا ليستشهد بها على المؤمنين، و يجعلها نصب أعينهم ليعتبروا بها و ينتبهوا بأن اليهود و النصارى إنما ابتلوا بما ابتلوا به لنسيانهم ميثاق الله سبحانه و لم يكن إلا ميثاقا بالإسلام لله، واثقوه بالسمع و الطاعة، و كان لازم ذلك أن يتقوا مخالفة ربهم و أن يتوكلوا عليه في أمور دينهم أي يتخذوه وكيلا فيها يختارون ما يختاره لهم، و يتركون ما يكرهه لهم، و طريقه طاعة رسلهم بالإيمان بهم، و ترك متابعة غير الله و رسله، ممن يدعو إلى نفسه و الخضوع لأمره من الجبابرة و الطغاة و غيرهم حتى الأحبار و الرهبان فلا طاعة إلا لله أو من أمر بطاعته.
لكنهم نبذوه وراءهم ظهريا فأبعدوا من رحمة الله و حرفوا الكلم عن مواضعه و فسروها بغير ما أريد بها فأوجب ذلك أن نسوا حظا من الدين و لم يكن إلا حظا و سهما يرتحل بارتحاله عنهم كل خير و سعادة و أفسد ذلك ما بقي بأيديهم من الدين فإن الدين مجموع من معارف و أحكام مرتبط بعضها ببعض يفسد بعضه بفساد بعض آخر سيما الأركان و الأصول و ذلك كمن يصلي لكن لا لوجه الله، أو ينفق لا لمرضاة الله، أو يقاتل لا لإعلاء كلمة الحق.
فلا ما بقي في أيديهم نفعهم، إذ كان محرفا فاسدا، و لا ما نسوه من الدين أمكنهم أن يستغنوا عنه، و لا غنى عن الدين و لا سيما أصوله و أركانه.
فمن هنا يعلم أن المقام يقتضي أن يحذر المؤمنون عن مخالفة التقوى و ترك التوكل على الله بذكر هذه القصة و دعوتهم إلى الاعتبار بها.
و من هنا يظهر أيضا: أن المراد بالتوكل ما يشمل الأمور التشريعية و التكوينية جميعا أو ما يختص بالتشريعيات بمعنى أن الله سبحانه يأمر المؤمنين بأن يطيعوا الله و رسوله في أحكامه الدينية و ما أتاهم به و بينه لهم رسوله و يكلوا أمر الدين و القوانين الإلهية إلى ربهم، و يكفوا عن الاستقلال بأنفسهم، و التصرف فيما أودعه عندهم من شرائعه كما يأمرهم أن يطيعوه فيما سن لهم من سنة الأسباب و المسببات فيجروا على هذه السنة من غير اعتماد بها و إعطاء استقلال و ربوبية لها، و ينتظروا ما يريده الله و يختاره لهم من النتائج بتدبيره و مشيئته.
قوله تعالى: «و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا» الآية قال الراغب: النقب في الحائط و الجلد كالثقب في الخشب.
قال: و النقيب الباحث عن القوم و عن أحوالهم، و جمعه نقباء.
و الله سبحانه يقص على المؤمنين من هذه الأمة ما جرى على بني إسرائيل من إحكام دينهم و تثبيت أمرهم بأخذ الميثاق، و بعث النقباء، و إبلاغ البيان، و إتمام الحجة ثم ما قابلوه به من نقض الميثاق، و ما قابلهم به الله سبحانه من اللعن و تقسية القلوب إلخ.
فقال: «و لقد أخذ الله ميثاق بني إسرائيل» و هو الذي يذكره كثيرا في سورة البقرة و غيرها: «و بعثنا منهم اثني عشر نقيبا» و الظاهر أنهم رؤساء الأسباط الاثني عشر، كانوا كالولاة عليهم يتولون أمورهم فنسبتهم إلى أسباطهم بوجه كنسبة أولي الأمر إلى الأفراد في هذه الأمة لهم المرجعية في أمور الدين و الدنيا غير أنهم لا يتلقون وحيا، و لا يشرعون شريعة و إنما ذلك إلى الله و رسوله «و قال الله إني معكم» إيذان بالحفظ و المراقبة فيتفرع عليه أن ينصرهم إن أطاعوه و يخذلهم إن عصوه و لذلك ذكر الأمرين جميعا فقال: «لئن أقمتم الصلاة و ءاتيتم الزكاة و ءامنتم برسلي و عزرتموهم» و التعزير هو النصرة مع التعظيم، و المراد بالرسل ما سيستقبلهم ببعثته و دعوته كعيسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و سائر من بعثه الله بين موسى و محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) «و أقرضتم الله قرضا حسنا» و هو الإنفاق المندوب دون الزكاة الواجبة «لأكفرن عنكم سيئاتكم و لأدخلنكم جنات تجري من تحتها الأنهار» فهذا ما يرجع إلى جميل الوعد.
ثم قال: «فمن كفر بعد ذلك منكم فقد ضل سواء السبيل». قوله تعالى: «فبما نقضهم ميثاقهم لعناهم و جعلنا قلوبهم قاسية»، ذكر تعالى جزاء الكفر بالميثاق المذكور ضلال سواء السبيل، و هو ذكر إجمالي يفصله ما في هذه الآية من أنواع النقم التي نسب الله سبحانه بعضها إلى نفسه كاللعن و تقسية القلوب مما تستقيم فيه النسبة، و بعضها إلى أنفسهم مما وقع باختيارهم كالذي يعني بقوله: «و لا تزال تطلع على خائنة منهم» فهذا كله جزاؤهم بما كفروا بآيات الله التي على رأسها الميثاق المأخوذ منهم، أو جزاء كفرهم بالميثاق خاصة فإن سواء السبيل الذي ضلوه هو سبيل السعادة التي بها عمارة دنياهم و أخراهم.
فقوله: «فبما نقضهم ميثاقهم» الظاهر أنه هو الكفر الذي توعد الله عليه في الآية السابقة، و لفظة «ما» في قوله: «فبما» للتأكيد، و يفيد الإبهام لغرض التعظيم أو التحقير أو غيرهما، و المعنى: فبنقض ما منهم لميثاقهم «لعناهم» و اللعن هو الإبعاد من الرحمة «و جعلنا قلوبهم قاسية» و قسوة القلب مأخوذ من قسوة الحجارة و هي صلابتها و القسي من القلوب ما لا يخشع لحق و لا يتأثر برحمة، قال تعالى: «أ لم يأن للذين ءامنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله و ما نزل من الحق و لا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم و كثير منهم فاسقون»: الحديد: 16.
و بالجملة عقبت قسوة قلوبهم أنهم عادوا «يحرفون الكلم عن مواضعه» بتفسيرها بما لا يرضى به الله سبحانه و بإسقاط أو زيادة أو تغيير، فكل ذلك من التحريف، و أفضاهم ذلك إلى أن فاتهم حقائق ناصعة من الدين «و نسوا حظا مما ذكروا به» و لم يكن إلا حظا من الأصول التي تدور على مدارها السعادة، و لا يقوم مقامها إلا ما يسجل عليهم الشقوة اللازمة كقولهم بالتشبيه، و خاتمية نبوة موسى، و دوام شريعة التوراة، و بطلان النسخ و البداء إلى غير ذلك.
«و لا تزال تطلع على خائنة منهم» أي على طائفة خائنة منهم، أو على خيانة منهم «إلا قليلا منهم فاعف عنهم و اصفح إن الله يحب المحسنين» و قد تقدم مرارا أن استثناء القليل منهم لا ينافي ثبوت اللعن و العذاب للجماعة التي هي الشعب و الأمة.
قوله تعالى: «و من الذين قالوا إنا نصارى أخذنا ميثاقهم فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا»، قال الراغب: غري بكذا أي لهج به و لصق، و أصل ذلك من الغراء و هو ما يلصق به، و أغريت فلانا بكذا نحو ألهجت به.
و قد كان المسيح عيسى بن مريم نبي رحمة يدعو الناس إلى الصلح و السلم، و يندبهم إلى الإشراف على الآخرة، و الإعراض عن ملاذ الدنيا و زخارفها، و ينهاهم عن التكالب لأجل هذا العرض الأدنى فلما نسوا حظا مما ذكروا به أثبت الله سبحانه في قلوبهم مكان السلم و الصلح حربا، و بدل المؤاخاة و الموادة التي ندبوا إليها معاداة و مباغضة كما يقول: «فنسوا حظا مما ذكروا به فأغرينا بينهم العداوة و البغضاء إلى يوم القيامة».
و هذه العداوة و البغضاء اللتان ذكرهما الله تعالى صارتا من الملكات الراسخة المرتكزة بين هؤلاء الأمم المسيحية و كالنار الآخرة التي لا مناص لهم كلما أرادوا أن يخرجوا منها من غم أعيدوا فيها و ذوقوا عذاب الحريق.
و لم يزل منذ رفع عيسى بن مريم (عليهما السلام)، و اختلف حواريوه و الدعاة السائحون من تلامذتهم فيما بينهم نشب الاختلاف فيما بينهم، و لم يزل ينمو و يكثر حتى تبدل إلى الحروب و المقاتلات و الغارات و أنواع الشرد و الطرد و غير ذلك حتى انتهى إلى حروب عالمية كبرى تهدد الأرض بالخراب و الإنسانية بالفناء و الانقراض.
كل ذلك من تبدل النعمة نقمة و إنتاج السعي ضلالا «و سوف ينبئهم الله بما كانوا يصنعون.
|