بيان
لما ذكر تعالى أخذه الميثاق من أهل الكتاب على نصرة رسله و تعزيرهم و على حفظ ما آتاهم من الكتاب ثم نقضهم ميثاقه تعالى الذي واثقهم به دعاهم إلى الإيمان برسوله الذي أرسله و كتابه الذي أنزله، بلسان تعريفهما لهم و إقامة البينة على صدق الرسالة و حقية الكتاب، و إتمام الحجة عليهم في ذلك: أما التعريف فهو الذي يشتمل عليه قوله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا» إلخ، و قوله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة» إلخ.
و أما إقامة البينة فما في قوله: «يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون» إلخ فإن ذلك نعم الشاهد على صدق الرسالة من أمي يخبر بما لا سبيل إليه إلا للأخصاء من علمائهم، و كذا قوله: «يهدي به الله من اتبع رضوانه» إلخ فإن المطالب الحقة التي لا غبار على حقيتها هي نعم الشاهد على صدق الرسالة و حقية الكتاب.
و أما إتمام الحجة فما يتضمنه قوله: «أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير فقد جاءكم بشير و نذير و الله على كل شيء قدير».
و قد رد الله تعالى عليهم في ضمن الآيات قول البعض: «إن الله هو المسيح بن مريم» و قول اليهود و النصارى.
«نحن أبناء الله و أحباؤه». قوله تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب و يعفوا عن كثير» أما بيانه كثيرا كانوا يخفون من الكتاب فكبيانه آيات النبوة و بشاراتها كما يشير إليه قوله تعالى: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الآية الأعراف: 175 و قوله تعالى: «يعرفونه كما يعرفون أبناءهم» الآية: البقرة: 164 و قوله: «محمد رسول الله و الذين معه أشداء على الكفار رحماء بينهم - إلى قوله - ذلك مثلهم في التوراة و مثلهم في الإنجيل» الآية: الفتح: 29 و كبيانه (صلى الله عليه وآله وسلم) حكم الرجل الذي كتموه و كابروا فيه الحق على ما يشير إليه قوله تعالى فيما سيأتي: «لا يحزنك الذين يسارعون في الكفر» الآيات: المائدة: 41 و هذا الحكم أعني حكم الرجم موجود الآن في الإصحاح الثاني و العشرين من سفر التثنية من التوراة الدائرة بينهم.
و أما عفوه عن كثير فهو تركه كثيرا مما كانوا يخفونه من الكتاب، و يشهد بذلك الاختلاف الموجود في الكتابين، كاشتمال التوراة على أمور في التوحيد و النبوة لا يصح استنادها إليه تعالى كالتجسم و الحلول في المكان و نحو ذلك، و ما لا يجوز العقل نسبته إلى الأنبياء الكرام من أنواع الكفر و الفجور و الزلات، و كفقدان التوراة ذكر المعاد من رأس و لا يقوم دين على ساق إلا بمعاد، و كاشتمال ما عندهم من الأناجيل و لا سيما إنجيل يوحنا على عقائد الوثنية.
قوله تعالى: «قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين» ظاهر قوله: «قد جاءكم من الله» كون هذا الجائي قائما به تعالى نحو قيام كقيام البيان أو الكلام بالمبين و المتكلم و هذا يؤيد كون المراد بالنور هو القرآن، و على هذا فيكون قوله: «و كتاب مبين» معطوفا عليه عطف تفسير، و المراد بالنور و الكتاب المبين جميعا القرآن، و قد سمى الله تعالى القرآن نورا في موارد من كلامه كقوله تعالى: «و اتبعوا النور الذي أنزل معه»: الأعراف: 175 و قوله: «فآمنوا بالله و رسوله و النور الذي أنزلنا»: التغابن: 8 و قوله: «و أنزلنا إليكم نورا مبينا»: النساء: 147.
و من المحتمل أن يكون المراد بالنور النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) على ما ربما أفاده صدر الكلام في الآية، و قد عده الله تعالى نورا في قوله: «و سراجا منيرا»: الأحزاب: 46.
قوله تعالى: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام» الباء في قوله: «به» للآلة و الضمير عائد إلى الكتاب أو إلى النور سواء أريد به النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أو القرآن فمآل الجميع واحد فإن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أحد الأسباب الظاهرية في مرحلة الهداية، و كذا القرآن و حقيقة الهداية قائمة به قال تعالى: «إنك لا تهدي من أحببت و لكن الله يهدي من يشاء»: القصص: 56، و قال: «و كذلك أوحينا إليك روحا من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب و لا الإيمان و لكن جعلناه نورا نهدي به من نشاء من عبادنا و إنك لتهدي إلى صراط مستقيم صراط الله الذي له ما في السموات و ما في الأرض ألا إلى الله تصير الأمور»: الشورى: 53 و الآيات كما ترى تنسب الهداية إلى القرآن و إلى الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) في عين أنها ترجعها إلى الله سبحانه فهو الهادي حقيقة و غيره سبب ظاهري مسخر لإحياء أمر الهداية.
و قد قيد تعالى قوله: «يهدي به الله» بقوله: «من اتبع رضوانه» و يئول إلى اشتراط فعلية الهداية الإلهية باتباع رضوانه، فالمراد بالهداية هو الإيصال إلى المطلوب، و هو أن يورده الله تعالى سبيلا من سبل السلام أو جميع السبل أو أكثرها واحدا بعد آخر.
و قد أطلق تعالى السلام فهو السلامة و التخلص من كل شقاء يختل به أمر سعادة الحياة في دنيا أو آخرة، فيوافق ما وصف القرآن الإسلام لله و الإيمان و التقوى بالفلاح و الفوز و الأمن و نحو ذلك، و قد تقدم في الكلام على قوله تعالى: «اهدنا الصراط المستقيم»: الحمد: 6 في الجزء الأول من الكتاب أن لله سبحانه بحسب اختلاف حال السائرين من عباده سبلا كثيرة تتحد الجميع في طريق واحد منسوب إليه تعالى يسميه في كلامه بالصراط المستقيم قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت: 69، و قال تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله»: الأنعام:. 135 فدل على أن له سبلا كثيرة لكن الجميع تتحد في الإيصال إلى كرامته تعالى من غير أن تفرق سالكيها و يبين كل سبيل سالكيه عن سالكي غيره من السبل كما هو شأن غير صراطه تعالى من السبل.
فمعنى الآية - و الله العالم -: يهدي الله سبحانه و يورد بسبب كتابه أو بسبب نبيه من اتبع رضاه سبلا من شأنها أنه يسلم من سار فيها من شقاء الحياة الدنيا و الآخرة، و كل ما تتكدر به العيشة السعيدة.
فأمر الهداية إلى السلام و السعادة يدور مدار اتباع رضوان الله، و قد قال تعالى: «و لا يرضى لعباده الكفر»: الزمر: 7، و قال: «فإن الله لا يرضى عن القوم الفاسقين»: التوبة: 96 و يتوقف بالآخرة على اجتناب سبيل الظلم و الانخراط في سلك الظالمين، و قد نفى الله سبحانه عنهم هدايته و آيسهم من نيل هذه الكرامة الإلهية بقوله: «و الله لا يهدي القوم الظالمين»: الجمعة: 5 فالآية أعني قوله: «يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام» تجري بوجه مجرى قوله: «و الذين ءامنوا و لم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن و هم مهتدون»: الأنعام: 82.
قوله تعالى: «و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه» في جمع الظلمات و إفراد النور إشارة إلى أن طريق الحق لا اختلاف فيه و لا تفرق و إن تعددت بحسب المقامات و المواقف بخلاف طريق الباطل.
و الإخراج من الظلمات إلى النور إذا نسب إلى غيره تعالى كنبي أو كتاب فمعنى إذنه تعالى فيه إجازته و رضاه كما قال تعالى: «كتاب أنزلناه إليك لتخرج الناس من الظلمات إلى النور بإذن ربهم»: إبراهيم: 1 فقيد إخراجه إياهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم ليخرج بذلك عن الاستقلال في السببية فإن السبب الحقيقي لذلك هو الله سبحانه و قال: «و لقد أرسلنا موسى بآياتنا أن أخرج قومك من الظلمات إلى النور»: إبراهيم: 5 فلم يقيده بالإذن لاشتمال الأمر على معناه.
و إذا نسب ذلك إلى الله تعالى فمعنى إخراجهم بإذنه إخراجهم بعلمه و قد جاء الإذن بمعنى العلم يقال: أذن به أي علم به، و من هذا الباب قوله تعالى: «و أذان من الله و رسوله»: التوبة: 3: «فقل ءاذنتكم على سواء»: الأنبياء: 190، و قوله: «و أذن في الناس بالحج»: الحج: 27 إلى غيرها من الآيات.
و أما قوله تعالى: «و يهديهم إلى صراط مستقيم، فقد أعيد فيه لفظ الهداية لحيلولة قوله: «و يخرجهم»، بين قوله «يهدي به الله»، و بين هذه الجملة، و لأن الصراط المستقيم كما تقدم بيانه في سورة الفاتحة طريق مهيمن على الطرق كلها فالهداية إليه أيضا هداية مهيمنة على سائر أقسام الهداية التي تتعلق بالسبل الجزئية.
و لا ينافي تنكير قوله: «صراط مستقيم» كون المراد به هو الصراط المستقيم الوحيد الذي نسبه الله تعالى في كلامه إلى نفسه - إلا في سورة الفاتحة - لأن قرينة المقام تدل على ذلك، و إنما التنكير لتعظيم شأنه و تفخيم أمره.
قوله تعالى: «لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم» هؤلاء إحدى الطوائف الثلاثة التي تقدم نقل أقوالهم في سورة آل عمران، و هي القائلة باتحاد الله سبحانه بالمسيح فهو إله و بشر بعينه، و يمكن تطبيق الجملة أعني قولهم: «إن الله هو المسيح بن مريم» على القول بالبنوة و على القول بثالث ثلاثة أيضا غير أن ظاهر الجملة هو حصول العينية بالإتحاد.
قوله تعالى: «قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم» و أمه و من في الأرض جميعا» الآية هذا برهان على إبطال قولهم: من جهة مناقضة بعضه بعضا لأنهم لما وضعوا أن المسيح مع كونه إلها بشر كما وصفوه بأنه ابن مريم جوزوا له ما يجوز على أي بشر مفروض من سكان هذه الأرض، و هم جميعا كسائر أجزاء السماوات و الأرض و ما بينهما مملوكون لله تعالى مسخرون تحت ملكه و سلطانه، فله تعالى أن يتصرف فيهم بما أراد، و أن يحكم لهم أو عليهم كيفما شاء، فله أن يهلك المسيح كما له أن يهلك أمه و من في الأرض على حد سواء من غير مزية للمسيح على غيره، و كيف يجوز الهلاك على الله سبحانه؟! فوضعهم أن المسيح بشر يبطل وضعهم أنه هو الله سبحانه للمناقضة.
فقوله: «فمن يملك من الله شيئا» كناية عن نفي المانع مطلقا فملك شيء من الله هو السلطنة عليه تعالى في بعض ما يرجع إليه، و لازمها انقطاع سلطنته عن ذلك الشيء، و هو أن يكون سبب من الأسباب يستقل في التأثير في شيء بحيث يمانع تأثيره تعالى أو يغلب عليه فيه، و لا ملك إلا لله وحده لا شريك له إلا ما ملك غيره تمليكا لا يبطل ملكه و سلطانه.
و قوله: «إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم و أمه و من في الأرض جميعا» إنما قيد المسيح بقوله: «ابن مريم» للدلالة على كونه بشرا تاما واقعا تحت التأثير الربوبي كسائر البشر، و لذلك بعينه عطف عليه «أمه» لكونها مسانخة له من دون ريب، و عطف عليه «من في الأرض جميعا» لكون الحكم في الجميع على حد سواء.
و من هنا يظهر أن في هذا التقييد و العطف تلويحا إلى برهان الإمكان، و محصله أن المسيح يماثل غيره من أفراد البشر كأمه و سائر من في الأرض فيجوز عليه ما يجوز عليهم لأن حكم الأمثال فيما يجوز و فيما لا يجوز واحد، و يجوز على غيره أن يقع تحت حكم الهلاك فيجوز عليه ذلك و لا مانع هناك يمنع، و لو كان هو الله سبحانه لما جاز عليه ذلك.
و قوله: «و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما» في مقام التعليل للجملة السابقة، و التصريح بقوله: «و ما بينهما» مع أن القرآن كثيرا ما يعبر عن عالم الخلقة بالسماوات و الأرض فقط إنما هو ليكون الكلام أقرب من التصريح، و أسلم من ورود التوهمات و الشبهات فليس لمتوهم أن يتوهم أنه إنما ذكر السماوات و الأرض و لم يذكر ما بينهما، و مورد الكلام مما بينهما.
و تقديم الخبر أعني قوله: «و لله» للدلالة على الحصر، و بذلك يتم البيان، و المعنى: كيف يمكن أن يمنع مانع من إرادته تعالى إهلاك المسيح و غيره و وقوع ما أراده من ذلك، و الملك و السلطنة المطلقة في السماوات و الأرض و ما بينهما لله تعالى لا ملك لأحد سواه؟ فلا مانع من نفوذ حكمه و مضي أمره.
و قوله: «يخلق ما يشاء و الله على كل شيء قدير» في مقام التعليل للجملة السابقة عليه أعني قوله: «و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما» فإن الملك - بضم الميم - و هو نوع سلطنة و مالكية على سلطنة الناس و ما يملكونه إنما يتقوم بشمول القدرة و نفوذ المشيئة، و لله سبحانه ذلك في جميع السماوات و الأرض و ما بينهما، فله القدرة على كل شيء و هو يخلق ما يشاء من الأشياء فله الملك المطلق في السماوات و الأرض و ما بينهما فخلقه ما يشاء و قدرته على كل شيء هو البرهان على ملكه كما أن ملكه هو البرهان على أن له أن يريد إهلاك الجميع ثم يمضي إرادته لو أراد، و هو البرهان على أنه لا يشاركه أحد منهم في ألوهيته.
و أما البرهان على نفوذ مشيته و شمول قدرته فهو أنه الله عز اسمه، و لعله لذلك كرر لفظ الجلالة في الآية مرات فقد آل فرض الألوهية في شيء إلى أنه لا شريك له في ألوهيته.
قوله تعالى: «و قالت اليهود و النصارى نحن أبناء الله و أحباؤه» لا ريب أنهم لم يكونوا يدعون النبوة الحقيقية كما يدعيه معظم النصارى للمسيح (عليه السلام) فلا اليهود كانت تدعي ذلك حقيقة و لا النصارى، و إنما كانوا يطلقونها على أنفسهم إطلاقا تشريفيا بنوع من التجوز، و قد ورد في كتبهم المقدسة هذا الإطلاق كثيرا كما في حق آدم و يعقوب و داود و إقرام و عيسى و أطلق أيضا على صلحاء المؤمنين.
و كيف كان فإنما أريد بالأبناء أنهم من الله سبحانه بمنزلة الأبناء من الأب، فهم بمنزلة أبناء الملك بالنسبة إليه المنحازين عن الرعية المخصوصين بخصيصة القرب المقتضية أن لا يعامل معهم معاملة الرعية كأنهم مستثنون عن إجراء القوانين و الأحكام المجراة بين الناس لأن تعلقهم بعرش الملك لا يلائم مجازاتهم بما يجازي به غيرهم و لا إيقافهم موقفا توقف فيه سائر الرعية، فلا يستهان بهم كما يستهان بغيرهم فكل ذلك لما تتعقبه علقة النسب من علقة الحب و الكرامة.
فالمراد بهذه النبوة الاختصاص و التقرب، و يكون عطف قوله: «و أحباؤه» على قوله: «أبناء الله» كعطف التفسير و ليس به حقيقة، و غرضهم من دعوى هذا الاختصاص و المحبوبية إثبات لازمه و هو أنه لا سبيل إلى تعذيبهم و عقوبتهم فلن يصيروا إلا إلى النعمة و الكرامة لأن تعذيبه تعالى إياهم يناقض ما خصهم به من المزية، و حباهم به من الكرامة.
و الدليل عليه ما ورد في الرد عليهم من قوله تعالى: «يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء»، إذ لو لا أنهم كانوا يريدون بقولهم: «نحن أبناء الله و أحباؤه» أنه لا سبيل إلى عذابهم و إن لم يستجيبوا الدعوة الحقة لم يكن وجه لذكر هذه الجملة: «يغفر»، ردا عليهم و لا لقوله: «بل أنتم بشر ممن خلق» موقع حسن مناسب فمعنى قولهم: «نحن أبناء الله و أحباؤه» أنا خاصة الله و محبوبوه لا سبيل له تعالى إلى تعذيبنا و إن فعلنا، ما فعلنا و تركنا ما تركنا لأن انتفاء السبيل و وقوع الأمن التام من كل مكروه و محذور هو لازم معنى الاختصاص و الحب.
قوله تعالى: «قل فلم يعذبكم بذنوبكم» أمر نبيه بالاحتجاج عليهم و رد دعواهم بالحجة، و تلك حجتان: إحداهما: النقض عليهم بالتعذيب الواقع عليهم، و ثانيتهما: معارضتهم بحجة تنتج نقيض دعواهم.
و محصل الحجة الأولى التي يشتمل عليها قوله: «فلم يعذبكم بذنوبكم» أنه لو صحت دعواكم أنكم أبناء الله و أحباؤه مأمونون من التعذيب الإلهي لا سبيل إليه فيكم لكنتم مأمونين من كل عذاب أخروي أو دنيوي فما هذا العذاب الواقع عليكم المستمر فيكم بسبب ذنوبكم؟ فأما اليهود فلم تزل تذنب ذنوبا كقتلهم أنبياءهم و الصالحين من شعبهم و تفجر بنقض المواثيق الإلهية المأخوذة منهم، و تحريف الكلم عن مواضعه و كتمان آيات الله و الكفر بها و كل طغيان و اعتداء، و تذوق وبال أمرها نكالا عليها من مسخ بعضهم و ضرب الذلة و المسكنة على آخرين، و تسلط الظالمين عليهم يقتلون أنفسهم و يهتكون أعراضهم و يخربون بلادهم، و ما لهم من العيش إلا عيشة الحرض الذي لا هو حي فيرجى و لا ميت فينسى.
و أما النصارى فلا فساد المعاصي و الذنوب الواقعة في أممهم يقل مما كان من اليهود، و لا أنواع العذاب النازل عليهم قبل البعثة و في زمانها و بعدها حتى اليوم، فهو ذا التاريخ يحفظ عليهم جميع ذلك أو أكثرها، و القرآن يقص من ذلك شيئا كثيرا كما في سورة البقرة و آل عمران و النساء و المائدة و الأعراف و غيرها.
و ليس لهؤلاء أن يقول: هذه المصائب و البلايا و الفتن النازلة بنا إنما هي من قبيل «البلاء للولاء» و لا دليل على كونها عن سخط إلهي يسحب نكالا و وبالا و قد نزل أمثالها على صالحي عباد الله من الأنبياء و الرسل كإبراهيم و إسماعيل و يعقوب و يوسف و زكريا و يحيى و غيرهم، و نزل عليكم معاشر المسلمين نظائرها كما في غزوة أحد و مؤته و غيرهما، فما بال هذه المكاره إذا حلت بنا عدت أعذبة إلهية و إذا حلت بكم عادت نعما و كرامات؟ و ذلك أنه لا ريب لأحد أن هذه المكاره الجسمانية و المصائب و البلايا الدنيوية توجد عند المؤمنين كما توجد عند الكافرين، و تأخذ الصالحين و الطالحين معا، سنة الله التي قد خلت في عباده إلا أنها تختلف عنوانا و أثرا باختلاف موقف الإنسان من الصلاح، و الطلاح مقام العبد من ربه.
فلا ريب أن من استقر الصلاح في نفسه و تمكنت الفضيلة الإنسانية من جوهره كالأنبياء الكرام و من يتلوهم لا تؤثر المصائب و المحن الدنيوية النازلة عليه إلا فعلية الفضائل الكامنة في نفسه مما ينتفع به و بآثاره الحسنة هو و غيره فهذا النوع من المحن المشتملة على ما يستكرهه الطبع ليس إلا تربية إلهية و إن شئت فقل ترفيعا للدرجة.
و من لم يثبت على سعادة أو شقاوة و لم يركب طريق السعادة اللازمة بعد إذا نزلت به النوازل و دارت عليه الدوائر عقبت تعين طريقه و تميز موقفه من كفر أو إيمان، و صلاح أو طلاح، و لا ينبغي أن يسمى هذا النوع من البلايا و المحن إلا امتحانات و ابتلاءات إلهية تخد للإنسان خده إلى الجنة أو إلى النار.
و من لم يعتمد في حياته إلا على هوى النفس و لم يألف إلا الفساد و الإفساد و الانغمار في لجج الشهوة و الغضب، و لم يزل يختار الرذيلة على الفضيلة، و الاستعلاء على الله على الخضوع للحق كما يقصه القرآن من عاقبة أمر الأمم الظالمة كقوم نوح و عاد و ثمود و قوم فرعون و أصحاب مدين و قوم لوط، إثر ما فرطوا في جنب الله.
فالنوائب المنصبة عليهم المبيدة لجمعهم لا يستقيم إلا أن تعد تعذيبات إلهية و نكالات و وبالات عليهم لا غير.
و قد جمع الله تعالى هذه المعاني في قوله عز من قائل: «و تلك الأيام نداولها بين الناس و ليعلم الله الذين آمنوا و يتخذ منكم شهداء و الله لا يحب الظالمين و ليمحص الذين ءامنوا و يمحق الكافرين»: آل عمران: 114.
و تاريخ اليهود من لدن بعثة موسى (عليه السلام) إلى أن بعث الله محمدا (صلى الله عليه وآله وسلم) - فيما يزيد على ألفي سنة - و كذا تاريخ النصارى من لدن رفع المسيح إلى ظهور الإسلام - فيما يقرب من ستة قرون على ما يقال - مملوء من أنواع الذنوب التي أذنبوها، و جرائم ارتكبوها، و لم يبقوا منها باقية ثم أصروا و استكبروا من غير ندم، فالنوائب الحالة بساحتهم لا تستحق إلا اسم العذاب و النكال.
و أما أن المسلمين ابتلوا بأمثال ما ابتليت به هؤلاء الأمم فهذه الابتلاءات بالنظر إلى طبيعتها الكونية ليست إلا حوادث ساقتها يد التدبير الإلهي سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلا، و بالنظر إلى حال المسلمين المبتلين بها فيما كانوا على طريق الحق لم تكن إلا امتحانات إلهية، و فيما انحرفوا عنه من قبيل النكال و العذاب، و ليس لأحد على الله كرامة، و لا لمتحكم عليه حق و لم يثبت القرآن لهم على ربهم كرامة، و لا عدهم أبناء الله و أحباءه، و لا اعتنى بما تسموا به من أسماء أو ألقاب.
قال تعالى مخاطبا لهم: «أم حسبتم أن تدخلوا الجنة و لما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين - إلى أن قال - و ما محمد إلا رسول قد خلت من قبله الرسل أ فإن مات أو قتل انقلبتم على أعقابكم و من ينقلب على عقبيه فلن يضر الله شيئا و سيجزي الله الشاكرين»: آل عمران: 144، و قال تعالى: «ليس بأمانيكم و لا أماني أهل الكتاب من يعمل سوءا يجز به و لا يجد له من دون الله وليا و لا نصيرا»: النساء: 132.
و في الآية أعني قوله: «قل فلم يعذبكم بذنوبكم» وجه آخر و هو أن يكون المراد بالعذاب الأخروي، و المضارع يعذبكم بمعنى الاستقبال دون الاستمرار كما في الوجه السابق فإن أهل الكتاب معترفون بالعذاب بحذاء ذنوبهم في الجملة: أما اليهود فقد نقل القرآن عنهم قولهم: «لن تمسنا النار إلا أياما معدودة»: البقرة: 80 و أما النصارى فإنهم و إن قالوا بالفداء لمغفرة الذنوب لكنه إثبات في نفسه للذنوب و العذاب الذي أصاب المسيح بالصلب و الأناجيل مع ذلك تثبت ذنوبا كالزنا و نحوه، و الكنيسة كانت تثبته عملا بما كانت تصدره من صكوك المغفرة.
هذا.
لكن الوجه هو الأول.
قوله تعالى: «بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما و إليه المصير» حجة ثانية مسوقة على نحو المعارضة محصلها: أن النظر في حقيقتكم يؤدي إلى بطلان دعواكم أنكم أبناء الله و أحباؤه، فإنكم بشر من جملة من خلقه الله من بشر أو غيره لا تمتازون عن سائر من خلقه الله منهم، و لا يزيد أحد من الخليقة من السماوات و الأرض و ما بينهما على أنه مخلوق لله الذي هو المليك الحاكم فيه و في غيره بما شاء و كيفما شاء و سيصير إلى ربه المليك الحاكم فيه و في غيره، و إذا كان كذلك كان لله سبحانه أن يغفر لمن شاء منهم، و يعذب من شاء منهم من غير أن تمانعه مزية أو كرامة أو غير ذلك من أن يريد في شيء ما يريده من مغفرة أو عذاب أو يقطع سبيله قاطع أو يضرب دونه حجاب يحجبه عن نفوذ المشيئة و مضي الحكم.
فقوله: «بل أنتم بشر ممن خلق» بمنزلة إحدى مقدمات الحجة، و قوله: «و لله ملك السموات و الأرض و ما بينهما» مقدمة أخرى و قوله: «و إليه المصير» مقدمة ثالثة، و قوله: «يغفر لمن يشاء و يعذب من يشاء» بمنزلة نتيجة البيان التي تناقض دعواهم: أنه لا سبيل إلى تعذيبهم.
قوله تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل» قال الراغب: الفتور سكون بعد حدة و لين بعد شدة، و ضعف بعد قوة قال تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم على فترة من الرسل» أي سكون خال عن مجيء رسول الله.
و الآية خطاب ثان لأهل الكتاب متمم للخطاب السابق فإن الآية الأولى بينت لهم أن الله أرسل إليهم رسولا أيده بكتاب مبين يهدي بإذن الله إلى كل خير و سعادة، و هذه الآية تبين أن ذلك البيان الإلهي أنما هو لإتمام الحجة عليهم أن يقولوا: ما جاءنا من بشير و لا نذير.
و بهذا البيان يتأيد أن يكون متعلق الفعل يبين لكم في هذه الآية هو الذي في الآية السابقة، و التقدير: يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب أي إن هذا الدين الذي تدعون إليه هو بعينه دينكم الذي كنتم تدينون به مصدقا لما معكم و الذي يرى فيه من موارد الاختلاف فإنما هو بيان لما أخفيتموه من معارف الدين التي بينته الكتب الإلهية، و لازم هذا الوجه أن يكون قوله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا يبين لكم من قبيل إعادة عين الخطاب السابق لضم بعض الكلام المفصول عن الخطاب السابق المتعلق به و هو قوله: «أن تقولوا ما جاءنا» إلخ إليه و إنما جوز ذلك وقوع الفصل الطويل بين المتعلق و المتعلق به و هو شائع في اللسان، قال: قربا مربط النعامة مني.
لقحت حرب وائل عن حيال.
قربا مربط النعامة مني.
إن بيع الكريم بالشسع غال.
و يمكن أن يكون خطابا مستأنفا و الفعل يبين لكم إنما حذف متعلقه.
للدلالة على العموم أي يبين لكم جميع ما يحتاج إلى البيان، أو لتفخيم أمره أي يبين لكم أمرا عظيما تحتاجون إلى بيانه، و قوله: «على فترة من الرسل» لا يخلو عن إشعار أو دلالة على هذه الحاجة فإن المعنى: يبين لكم ما مست حاجتكم إلى بيانه و الزمان خال من الرسل حتى يبينوا لكم ذلك.
و قوله: «أن تقولوا ما جاءنا من بشير و لا نذير»، متعلق بقوله: «قد جاءكم» بتقدير: حذر أن تقولوا، أو لئلا تقولوا.
و قوله: «و الله على كل شيء قدير» كأنه لدفع الدخل فإن اليهود كانت لا ترى جواز تشريع شريعة بعد شريعة التوراة لذهابهم إلى امتناع النسخ و البداء فرد الله سبحانه مزعمتهم بأنها تنافي عموم القدرة، و قد تقدم الكلام في النسخ في تفسير قوله تعالى: «ما ننسخ من آية» الآية: البقرة: 160 في الجزء الأول من الكتاب.
كلام في طريق التفكر الذي يهدي إليه القرآن و هو بحث مختلط
مما لا نرتاب فيه أن الحياة الإنسانية حياة فكرية لا تتم له إلا بالإدراك الذي نسميه فكرا، و كان من لوازم ابتناء الحياة على الفكر أن الفكر كلما كان أصح و أتم كانت الحياة أقوم، فالحياة القيمة - بأية سنة من السنن أخذ الإنسان، و في أي طريق من الطرق المسلوكة و غير المسلوكة سلك الإنسان - ترتبط بالفكر القيم و تبتني عليه، و بقدر حظها منه يكون حظها من الاستقامة.
و قد ذكر الله سبحانه في كتابه العزيز بطرق مختلفة و أساليب متنوعة كقوله: «أ و من كان ميتا فأحييناه و جعلنا له نورا يمشي به في الناس كمن مثله في الظلمات ليس بخارج منها»: الأنعام: 122، و قوله: «هل يستوي الذين يعلمون و الذين لا يعلمون»: الزمر: 9، و قوله: «يرفع الله الذين آمنوا منكم و الذين أوتوا العلم درجات»: المجادلة: 11 و قوله: «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر: 18 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة التي لا تحتاج إلى الإيراد.
فأمر القرآن في الدعوة إلى الفكر الصحيح و ترويج طريق العلم مما لا ريب فيه.
و القرآن الكريم مع ذلك يذكر أن ما يهدي إليه طريق من الطرق الفكرية، قال تعالى: «إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم»: إسراء: 9 أي الملة أو السنة أو الطريقة التي هي أقوم، و على أي حال هي صراط حيوي كونه أقوم يتوقف على كون طريق الفكر فيه أقوم، و قال تعالى: «قد جاءكم من الله نور و كتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام و يخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه و يهديهم إلى صراط مستقيم»: المائدة: 16 و الصراط المستقيم هو الطريق البين الذي لا اختلاف فيه و لا تخلف أي لا يناقض الحق المطلوب، و لا يناقض بعض أجزائه بعضا.
و لم يعين في الكتاب العزيز هذا الفكر الصحيح القيم الذي يندب إليه إلا أنه أحال فيه إلى ما يعرفه الناس بحسب عقولهم الفطرية، و إدراكهم المركوز في نفوسهم، و أنك لو تتبعت الكتاب الإلهي ثم تدبرت في آياته وجدت ما لعله يزيد على ثلاثمائة آية تتضمن دعوة الناس إلى التفكر أو التذكر أو التعقل، أو تلقن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) الحجة لإثبات حق أو لإبطال باطل كقوله: «قل فمن يملك من الله شيئا إن أراد أن يهلك المسيح ابن مريم و أمه» الآية أو تحكي الحجة عن أنبيائه و أوليائه كنوح و إبراهيم و موسى و سائر الأنبياء العظام، و لقمان و مؤمن آل فرعون و غيرهما ع كقوله: «قالت رسلهم أ في الله شك فاطر السموات و الأرض»: إبراهيم: 10، و قوله: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم»: لقمان: 13، و قوله: «و قال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم إيمانه أ تقتلون رجلا أن يقول ربي الله و قد جاءكم بالبينات من ربكم» الآية: غافر: 28، و قوله حكاية عن سحرة فرعون: «قالوا لن نؤثرك على ما جاءنا من البينات و الذي فطرنا فاقض ما أنت قاض إنما تقضي هذه الحياة الدنيا» إلى آخر ما احتجوا به: طه: 72.
و لم يأمر الله تعالى عباده في كتابه و لا في آية واحدة أن يؤمنوا به أو بشيء مما هو من عنده أو يسلكوا سبيلا على العمياء و هم لا يشعرون، حتى أنه علل الشرائع و الأحكام التي جعلها لهم مما لا سبيل للعقل إلا تفاصيل ملاكاته بأمور تجري مجرى الاحتجاجات كقوله: «إن الصلاة تنهى عن الفحشاء و المنكر و لذكر الله أكبر»: العنكبوت: 45 و قوله: «كتب عليكم الصيام كما كتب على الذين من قبلكم لعلكم تتقون»: البقرة: 138، و قوله في آية الوضوء: «ما يريد الله ليجعل عليكم من حرج و لكن يريد ليطهركم و ليتم نعمته عليكم لعلكم تشكرون»: المائدة: 6 إلى غير ذلك من الآيات.
و هذا الإدراك العقلي أعني طريق الفكر الصحيح الذي يحيل إليه القرآن الكريم و يبني على تصديقه ما يدعو إليه من حق أو خير أو نفع، و يزجر عنه من باطل أو شر أو ضر أنما هو الذي نعرفه بالخلقة و الفطرة مما يتغير و لا يتبدل و لا يتنازع فيه إنسان و إنسان، و لا يختلف فيه اثنان، و إن فرض فيه اختلاف أو تنازع فإنما هو من قبيل المشاجرة في البديهيات ينتهي إلى عدم تصور أحد المتشاجرين أو كليهما حق المعنى المتشاجر فيه لعدم التفاهم الصحيح.
و أما أن هذا الطريق الذي نعرفه بحسب فطرتنا الإنسانية ما هو؟ فلئن شككنا في شيء لسنا نشك أن هناك حقائق خارجية واقعية مستقلة منفكة عن أعمالنا كمسائل المبدأ و المعاد، و مسائل أخرى رياضية أو طبيعية و نحو ما إذا أردنا أن نحصل عليها حصولا يقينيا استرحنا في ذلك إلى قضايا أولية بديهة غير قابلة للشك، و أخرى تلزمها لزوما كذلك، و نرتبها ترتيبا فكريا خاصا نستنتج منها ما نطلبه كقولنا: ا.
ب، و كل ب.
ج، ف أ.
ج، و كقولنا: لو كان ا.
ب ف ج.
د، و لو كان ج د ف ه.
ز ينتج: لو كان ا ب، ف ه.
ز و كقولنا: إن كان ا.
ب فج.
د و لو كان ج.
د، ف ه.
ز لكن ا.
ليس ب، ينتج: ه ليس ز.
و هذه الأشكال التي ذكرناها و المواد الأولية التي أشرنا إليها أمور بديهية يمتنع أن يرتاب فيها إنسان ذو فطرة سليمة إلا عن آفة عقلية أو لاختلاط في الفهم مقتض لعدم تعقل هذه الأمور الضرورية بأخذ مفهوم تصوري أو تصديقي آخر مكان التصور أو التصديق البديهي، كما هو الغالب فيمن يتشكك في البديهيات.
و نحن إذا راجعنا التشكيكات و الشبه التي أوردت على هذا الطريق المنطقي المذكور وجدنا أنهم يعتمدون في استنتاج دعاويهم و مقاصدهم على مثل القوانين المدونة في المنطق الراجعة إلى الهيئة و المادة بحيث لو حللنا كلامهم إلى المقدمات الابتدائية المأخوذة فيه عاد إلى مواد و هيئات منطقية، و لو غيرنا بعض تلك المقدمات أو الهيئات إلى ما يهتف المنطق بعدم إنتاجها عاد الكلام غير منتج، و رأيتهم لا يرضون بذلك، و هذا بعينه أوضح شاهد على أن هؤلاء معترفون بحسب فطرتهم الإنسانية بصحة هذه الأصول المنطقية مسلمون لها مستعملون إياها، جحدوا بها و استيقنتها أنفسهم.
1 - كقول بعض المتكلمين: «لو كان المنطق طريقا موصلا لم يقع الاختلاف بين أهل المنطق لكنا نجدهم مختلفين في آرائهم» فقد استعمل القياس الاستثنائي من حيث لا يشعر، و قد غفل هذا القائل عن أن معنى كون المنطق آلة الاعتصام أن استعماله كما هو حقه يعصم الإنسان من الخطإ، و أما أن كل مستعمل له فإنما يستعمله صحيحا فلا يدعيه أحد، و هذا كما أن السيف آلة القطع لكن لا يقطع إلا عن استعمال صحيح.
2 - و قول بعضهم: «إن هذه القوانين دونت ثم كملت تدريجا فكيف يبتنى عليها ثبوت الحقائق الواقعية؟ و كيف يمكن إصابة الواقع لمن لم يعرفها أو لم يتسعملها؟ و هذا كسابقه قياس استثنائي و من أردإ المغالطة.
و قد غلط القائل في معنى التدوين، فإن معناه الكشف التفصيلي عن قواعد معلومة للإنسان بالفطرة إجمالا لا إن معنى التدوين هو الإيجاد.
3 - و قول بعضهم: «إن هذه الأصول إنما روجت بين الناس لسد باب أهل البيت أو لصرف الناس عن اتباع الكتاب و السنة فيجب على المسلمين اجتنابها» و هذا كلام منحل إلى أقيسة اقترانية و استثنائية.
و لم يتفطن المستدل به أن تسوية طريق لغرض فاسد أو سلوكه لغاية غير محمودة لا ينافي استقامته في نفسه كالسيف يقتل به المظلوم، و كالدين يستعمل لغير مرضاة الله سبحانه.
4 - و قول بعضهم: «إن السلوك العقلي ربما انتهى بسالكه إلى ما يخالف صريح الكتاب و السنة كما نرى من آراء كثير من المتفلسفين» و هذا قياس اقتراني مؤلف غولط فيه من جهة أن هذا المنهي ليس هو شكل القياس و لا مادة بديهية بل مادة فاسدة غريبة داخلت المواد الصحيحة.
5 - و قول بعضهم: «المنطق إنما يتكفل تمييز الشكل المنتج من الشكل الفاسد و أما المواد فليس فيها قانون يعصم الإنسان من الخطإ فيها و لا يؤمن الوقوع في الخطإ لو راجعنا غير أهل العصمة، فالمتعين هو الرجوع إليهم» و فيه مغالطة من جهة أنه سيق لبيان حجية أخبار الآحاد أو مجموع الآحاد و الظواهر الظنية من الكتاب، و من المعلوم أن الاعتصام بعصمة أهل العصمة (عليهم السلام) إنما يحصل فيما أيقنا من كلامهم بصدوره و المراد منه معا يقينا صادقا، و أنى يحصل ذلك في أخبار الآحاد التي هي ظنية صدورا و دلالة؟ و كذا في كل ما دلالته ظنية، و إذا كان المناط في الاعتصام هو المادة اليقينية فما الفرق بين المادة اليقينية المأخوذة من كلامهم و المادة اليقينية المأخوذة من المقدمات العقلية؟ و اعتبار الهيئة مع ذلك على حاله.
و قولهم: «لا يحصل لنا اليقين بالمواد العقلية بعد هذه الاشتباهات كلها» فيه: أولا أنه مكابرة.
و ثانيا: أن هذا الكلام بعينه مقدمة عقلية يراد استعمالها يقينية، و الكلام مشتمل على الهيئة.
6 - و قول بعضهم: «إن جميع ما يحتاج إليه النفوس الإنسانية مخزونة في الكتاب العزيز، مودعة في أخبار أهل العصمة (عليهم السلام) فما الحاجة إلى أسآر الكفار و الملاحدة؟».
و الجواب عنه أن الحاجة إليها عين الحاجة التي تشاهد في هذا الكلام بعينه، فقد ألف تأليفا اقترانيا منطقيا، و استعملت فيه المواد اليقينية لكن غولط فيه أولا بأن تلك الأصول المنطقية بعض ما هو مخزون مودع في الكتاب و السنة، و لا طريق إليها إلا البحث المستقل.
و ثانيا: أن عدم حاجة الكتاب و السنة و استغناءهما عن ضميمة تنضم إليهما غير عدم حاجة المتمسك بهما و المتعاطي لهما، و فيه المغالطة، و ما مثل هؤلاء إلا كمثل الطبيب الباحث عن بدن الإنسان لو ادعى الاستغناء عن تعلم العلوم الطبيعية و الاجتماعية و الأدبية، لأن الجميع متعلق بالإنسان.
أو كمثل الإنسان الجاهل إذا استنكف عن تعلم العلوم معتذرا أن جميع العلوم مودعة في الفطرة الإنسانية.
و ثالثا: أن الكتاب و السنة هما الداعيان إلى التوسع في استعمال الطرق العقلية الصحيحة و ليست إلا المقدمات البديهية أو المتكئة على البديهية قال تعالى: «فبشر عبادي الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه أولئك الذين هداهم الله و أولئك هم أولوا الألباب»: الزمر: 18 إلى غير ذلك من الآيات و الأخبار الكثيرة، نعم الكتاب و السنة ينهيان عن اتباع ما يخالفهما مخالفة صريحة قطعية لأن الكتاب و السنة القطعية من مصاديق ما دل صريح العقل على كونهما من الحق و الصدق، و من المحال أن يبرهن العقل ثانيا على بطلان ما برهن على حقيته أولا، و الحاجة إلى تمييز المقدمات العقلية الحقة من الباطلة ثم التعلق بالمقدمات الحقة كالحاجة إلى تمييز الآيات و الأخبار المحكمة من المتشابهة ثم التعلق بالمحكمة منهما، و كالحاجة إلى تمييز الأخبار الصادرة حقا من الأخبار الموضوعة و المدسوسة و هي أخبار جمة.
و رابعا: أن الحق حق أينما كان و كيفما أصيب و عن أي محل أخذ، و لا يؤثر فيه إيمان حامله و كفره، و لا تقواه و فسقه، و الإعراض عن الحق بغضا لحامله ليس إلا تعلقا بعصبية الجاهلية التي ذمها الله سبحانه و ذم أهلها في كتابه العزيز و بلسان رسله (عليهم السلام).
7 - و قول بعضهم: «إن طريق الاحتياط في الدين المندوب إليه في الكتاب و السنة الاقتصار على ظواهر الكتاب و السنة و الاجتناب عن تعاطي الأصول المنطقية و العقلية فإن فيه التعرض للهلاك الدائم و الشقوة التي لا سعادة بعدها أبدا».
و فيه أن هذا البيان بعينه قد تعوطي فيه الأصول المنطقية و العقلية فإنه مشتمل على قياس استثنائي أخذ فيه مقدمات عقلية متبينة عند العقل و لو لم يكن كتاب و لا سنة.
على أن البيان إنما يتم فيمن لا يفي استعداده بفهم الأمور الدقيقة العقلية و أما المستعد الذي يطيق ذلك فلا دليل من كتاب و لا سنة و لا عقل على حرمانه من نيل حقائق المعارف التي لا كرامة للإنسان و لا شرافة إلا بها، و قد دل على ذلك الكتاب و السنة و العقل جميعا.
8 - و قول بعضهم - فيما ذكره -: «إن طريق السلف الصالح كان مباينا لطريق الفلسفة و العرفان و كانوا يستغنون بالكتاب و السنة عن استعمال الأصول المنطقية و العقلية كالفلاسفة، و عن استعمال طرق الرياضة كالعرفاء.
ثم لما نقلت فلسفة يونان في عصر الخلفاء إلى العربية رام المتكلمون من المسلمين و قد كانوا من تبعة القرآن إلى تطبيق المطالب الفلسفية على المعارف القرآنية فتفرقوا بذلك إلى فرقتي الأشاعرة و المعتزلة، ثم نبغ آخرون في زمان الخلفاء تسموا بالصوفية و العرفاء كانوا يدعون كشف الأسرار و العلم بحقائق القرآن و كانوا يزعمون أنهم في غنى عن الرجوع إلى أهل العصمة و الطهارة، و بذلك امتازت الفقهاء و الشيعة - و هم المتمسكون بذيلهم (عليهم السلام) - عنهم، و لم يزل الأمر على ذلك إلى ما يقرب من أواسط القرن الثالث عشر من الهجرة قبل مائة سنة تقريبا و عند ذلك أخذ هؤلاء يعني الفلاسفة و العرفاء في التدليس و التلبيس و تأويل مقاصد القرآن و الحديث إلى ما يوافق المطالب الفلسفية و العرفانية حتى اشتبه الأمر على الأكثرين.
و استنتج من ذلك أن هذه الأصول مخالفة للطريقة الحقة التي يهدي إليها الكتاب و السنة.
ثم أورد بعض الإشكالات على المنطق - مما أوردناه - كوجود الاختلاف بين المنطقيين أنفسهم، و وقوع الخطإ مع استعماله، و عدم وجود البديهيات و اليقينيات بمقدار كاف في المسائل الحقيقية، ثم ذكر مسائل كثيرة من الفلسفة و عدها جميعا مناقضة لصريح ما يستفاد من الكتاب و السنة.
هذا محصل كلامه و قد لخصناه تلخيصا.
و ليت شعري أي جهة من الجهات الموضوعة في هذا الكلام على كثرتها تقبل الإصلاح و الترميم فقد استظهر الداء على الدواء.
أما ما ذكره من تاريخ المتكلمين و انحرافهم عن الأئمة (عليهم السلام) و قصدهم إلى تطبيق الفلسفة على القرآن و انقسامهم بذلك إلى فرقتي الأشاعرة و المعتزلة و ظهور الصوفية و زعمهم أنهم و متبعيهم في غنى عن الكتاب و السنة و بقاء الأمر على هذا الحال و ظهور الفلسفة العرفانية في القرن الثالث عشر كل ذلك مما يدفعه التاريخ القطعي، و سيجيء إشارة إلى ذلك كله إجمالا.
على أن فيه خطأ فاحشا بين الكلام و الفلسفة فإن الفلسفة تبحث بحثا حقيقيا و يبرهن على مسائل مسلمة بمقدمات يقينية و الكلام يبحث بحثا أعم من الحقيقي و الاعتباري، و يستدل على مسائل موضوعة مسلمة بمقدمات هي أعم من اليقينية و المسلمة، فبين الفنين أبعد مما بين السماء و الأرض، فكيف يتصور أن يروم أهل الكلام في كلامهم تطبيق الفلسفة على القرآن؟ على أن المتكلمين لم يزالوا منذ أول ناجم نجم منهم إلى يومنا هذا في شقاق مع الفلاسفة و العرفاء، و الموجود من كتبهم و رسائلهم و المنقول من المشاجرات الواقعة بينهم أبلغ شاهد يشهد بذلك.
و لعل هذا الإسناد مأخوذ من كلام بعض المستشرقين القائل بأن نقل الفلسفة إلى الإسلام هو الذي أوجد علم الكلام بين المسلمين.
هذا، و قد جهل هذا القائل معنى الكلام و الفلسفة و غرض الفنين و العلل الموجبة لظهور التكلم و رمي من غير مرمى.
و أعجب من ذلك كله أنه ذكر بعد ذلك: الفرق بين الكلام و الفلسفة بأن البحث الكلامي يروم إثبات مسائل المبدأ و المعاد مع مراعاة جانب الدين و البحث الفلسفي يروم ذلك من غير أن يعتني بأمر الدين ثم جعل ذلك دليلا على كون السلوك من طريق الأصول المنطقية و العقلية سلوكا مباينا لسلوك الدين مناقضا للطريق المشروع فيه هذا.
فزاد في الفساد، فكل ذي خبرة يعلم أن كل من ذكر هذا الفرق بين الفنين أراد أن يشير إلى أن القياسات المأخوذة في الأبحاث الكلامية جدلية مركبة من مقدمات مسلمة: المشهورات و المسلمات لكون الاستدلال بها على مسائل مسلمة، و ما أخذ في الأبحاث الفلسفية منها قياسات برهانية يراد بها إثبات ما هو الحق لا إثبات ما سلم ثبوتها تسليما، و هذا غير أن يقال.
إن أحد الطريقين طريق الكلام طريق الدين و الآخر طريق مباين لطريق الدين لا يعتنى به و إن كان حقا.
و أما ما ذكره من الإشكال على المنطق و الفلسفة و العرفان فما اعترض به على المنطق قد تقدم الكلام فيه، و أما ما ذكره في موضوع الفلسفة و العرفان فإن كان ما ذكره على ما ذكره و فهم منه ثم ناقض ما هو صريح الدين الحق فلا ريب لمرتاب في أنه باطل و من هفوات الباحثين في الفلسفة أو السالكين مسلك العرفان و أغلاطهم، لكن الشأن في أن هفوات أهل فن و سقطاتهم و انحرافهم لا تحمل على عاتق الفن، و إنما يحمل على قصور الباحثين في بحثهم.
و كان عليه أن يتأمل الاختلافات الناشئة بين المتكلمين: أشعريهم و معتزليهم و إماميهم فقد اقتسمت هذه الاختلافات الكلمة الواحدة الإسلامية فجعلتها بادىء بدء ثلاثة و سبعين فرقة ثم فرقت كل فرقة إلى فرق، و لعل فروع كل أصل لا ينقص عددا من أصولها.
فليت شعري هل أوجد الاختلافات شيء غير سلوك طريق الدين؟ و هل يسع لباحث أن يستدل بذلك على بطلان الدين و فساد طريقه؟ أو يأتي هاهنا بعذر لا يجري هناك أو يرمي أولئك برذيلة معنوية لا توجد عينها أو مثلها في هؤلاء؟! و نظير فن الكلام في ذلك الفقه الإسلامي و انشعاب الشعب و الطوائف فيه ثم الاختلافات الناشئة بين كل طائفة أنفسهم، و كذلك سائر العلوم و الصناعات على كثرتها و اختلافها.
و أما ما استنتج من جميع كلامه من بطلان جميع الطرق المعمولة و تعين طريق الكتاب و السنة و هو مسلك الدين فلا يسعه إلا أن يرى طريق التذكر و هو الذي نسب إلى أفلاطون اليوناني و هو أن الإنسان لو تجرد عن الهوسات النفسانية و تحلى بحلية التقوى و الفضائل الروحية ثم رجع إلى نفسه في أمر بان له الحق فيه.
هذا هو الذي ذكروه، و قد اختاره بعض القدماء من يونان و غيرهم و جمع من المسلمين و طائفة من فلاسفة الغرب غير أن كلا من القائلين به قرره بوجه آخر: فمنهم من قرره على أن العلوم الإنسانية فطرية بمعنى أنها حاصلة له، موجودة معه بالفعل في أول وجوده، فلا جرم يرجع معنى حدوث كل علم له جديد إلى حصول التذكر.
و منهم من قرره على أن الرجوع إلى النفس بالانصراف عن الشواغل المادية يوجب انكشاف الحقائق لا بمعنى كون العلوم عند الإنسان بالفعل بل هي له بالقوة و إنما الفعلية في باطن النفس الإنسانية المفصولة عن الإنسان عند الغفلة الموصولة به عند التذكر، و هذا ما يقول به العرفاء و أهل الإشراق و أترابهم من سائر الملل و النحل.
و منهم من قرره على نحو ما قرره العرفاء غير أنه اشتراط في ذلك التقوى و اتباع الشرع علما و عملا كعدة من المسلمين ممن عاصرناهم و غيرهم زعما منهم أن اشتراط اتباع الشرع يفرق ما بينهم و بين العرفاء و المتصوفة، و قد خفي عليهم أن العرفاء سبقوهم في هذا الاشتراط كما يشهد به كتبهم المعتبرة الموجودة، فالقول عين ما قال به المتصوفة، و إنما الفرق بين الفريقين في كيفية الاتباع و تشخيص معنى التبعية، و هؤلاء يعتبرون في التبعية مرحلة الجمود على الظواهر محضا، فطريقهم طريق مولد من تناكح طريقي المتصوفة و الأخبارية إلى غير ذلك من التقريرات.
و القول بالتذكر إن لم يرد به إبطال الرجوع إلى الأصول المنطقية و العقلية لا يخلو من وجه صحة في الجملة فإن الإنسان حينما يوجد بهويته يوجد شاعرا بذاته و قوى ذاته و بعلله، عالما بها علما حضوريا، و معه من القوى ما يبدل علمه الحضوري إلى علم حصولي.
و لا توجد قوة هي مبدأ الفعل إلا و هي تفعل فعلها فللإنسان في أول وجوده شيء من العلوم و إن كانت متأخرة عنه بحسب الطبع لكنه معه بالزمان.
هذا، و أيضا حصول بعض العلوم للإنسان إذا انصرف عن التعلقات المادية بعض الانصراف لا يسع لأحد إنكاره.
و إن أريد بالقول بالتذكر إبطال أثر الرجوع إلى الأصول المنطقية و العقلية بمعنى أن ترتيب المقدمات البديهية المتناسبة يوجب خروج الإنسان من القوة إلى الفعل بالنسبة إلى العلم بما يعد نتيجة لها، أو بمعنى أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالتخلية يغني الإنسان عن ترتيب المقدمات العلمية لتحصيل النتائج فهو من أسخف القول الذي لا يرجع إلى محصل.
أما القول بالتذكر بمعنى إبطاله الرجوع إلى الأصول المنطقية و العقلية فيبطله أولا: أن البحث العميق في العلوم و المعارف الإنسانية يعطي أن علومه التصديقية تتوقف على علومه التصورية و العلوم التصورية تنحصر في العلوم الحسية أو المنتزع منها بنحو من الأنحاء و قد دل القياس و التجربة على أن فاقد حس من الحواس فاقد لجميع العلوم المنتهية إلى ذلك الحس، تصورية كانت أو تصديقية، نظرية كانت أو بديهية، و لو كانت العلوم موجودة للهوية الإنسانية بالفعل لم يؤثر الفقد المفروض في ذلك، و القول بأن العمى و الصمم و نحوهما مانعة عن التذكر رجوع عن أصل القول و هو أن التذكر بمعنى الرجوع إلى النفس بالانصراف عن التعلقات المادية مفيد لذكر المطلوب بارتفاع الغفلة.
و ثانيا: أن التذكر أنما يوفق له بعض أفراد هذا النوع، و عامة الأفراد يستعملون في مقاصدهم الحيوية سنة التأليف و الاستنتاج و يستنتجون من ذلك الألوف بعد الألوف من النتائج المستقيمة، و على ذلك يجري الحال في جميع العلوم و الصناعات، و إنكار شيء من ذلك مكابرة، و حمل ذلك على الاتفاق مجازفة فالأخذ بهذه السنة أمر فطري للإنسان لا محيد عنه، و من المحال أن يجهز نوع من الأنواع بجهاز فطري تكويني ثم يخبط في عمله و لا ينجح في مسعاه.
و ثالثا: أن جميع ما ينال هؤلاء بما يسمونه تذكرا يعود بالتحليل إلى مقدمات مترتبة ترتيبا منطقيا بحيث يختل أمر النتيجة فيها باختلال شيء من الأصول المقررة في هيئتها و مادتها، فهم يستعملون الأصول المنطقية من حيث لا يحسون به، و الاتفاق و الصحابة الدائمان لا محصل لهما، و عليهم أن يأتوا بصورة علمية تذكرية صحيحة لا تجري فيها أصول المنطق.
و أما القول بالتذكر بمعنى إغنائه عن الرجوع إلى الأصول المنطقية - و يرجع محصله إلى أن هناك طريقين: طريق المنطق و طريق التذكر باتباع الشرع مثلا، و الطريقان سواء في الإصابة أو إن طريق التذكر أفضل و أولى لإصابته دائما لموافقته قول المعصوم بخلاف طريق المنطق و العقل - ففيه خطر الوقوع في الغلط دائما أو غالبا.
و كيف كان يرد عليه الإشكال الثاني الوارد على ما تقدمه فإن الإحاطة بجميع مقاصد الكتاب و السنة و رموزها و أسرارها على سعة نطاقها العجيبة غير متأت إلا للآحاد من الناس المتوغلين في التدبر في المعارف الدينية على ما فيها من الارتباط العجيب، و التداخل البالغ بين أصولها و فروعها و ما يتعلق منها بالاعتقاد و ما يتعلق منها بالأعمال الفردية و الاجتماعية، و من المحال أن يكلف الإنسان تكوينا بالتجهيز التكويني بما وراء طاقته و استطاعته أو يكلف بذلك تشريعا فليس على الناس إلا أن يعقلوا مقاصد الدين بما هو الطريق المألوف عندهم في شئون حياتهم الفردية و الاجتماعية، و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و المعلوم من الشرع بعض أفراد المعلومات لقيام البرهان على صدقه.
و من العجيب أن بعض القائلين بالتذكر جعل هذا بعينه وجها للتذكر على المنطق فذكر أن العلم بالحقائق الواقعية إن صح حصوله باستعمال المنطق و الفلسفة - و لن يصح - فإنما يتأتى ذلك لمثل أرسطو و ابن سينا من أوحديي الفلسفة، و ليس يتأتى لعامة الناس فكيف يمكن أن يأمر الشارع باستعمال المنطق و الأصول الفلسفية طريقا إلى نيل الواقعيات؟ و لم يتفطن أن الإشكال بعينه مقلوب عليه فإن أجاب بأن استعمال التذكر ميسور لكل أحد على حسب اتباعه أجيب بأن استعمال المنطق قليلا أو كثيرا ميسور لكل أحد على حسب استعداده لنيل الحقائق و لا يجب لكل أحد أن ينال الغاية، و يركب ما فوق الطاقة.
و يرد عليه ثانيا: الإشكال الثالث السابق فإن هؤلاء يستعملون طريق المنطق في جميع المقاصد التي يبدونها باسم التذكر كما تقدم حتى في البيان الذي أوردوه لإبطال طريق المنطق و تحقيق طريق التذكر و كفى به فسادا.
و يرد عليه ثالثا: أن الوقوع في الخطإ واقع بل غالب في طريق التذكر الذي ذكروه فإن التذكر كما زعموه هو الطريق الذي كان يسلكه السلف الصالح دون طريق المنطق، و قد نقل الاختلاف و الخطإ فيما بينهم بما ليس باليسير كعدة من أصحاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ممن اتفق المسلمون على علمه و اتباعه الكتاب و السنة، أو اتفق الجمهور على فقهه و عدالته، و كعدة من أصحاب الأئمة على هذه النعوت كأبي حمزة و زرارة و أبان و أبي خالد و الهشامين و مؤمن الطاق و الصفوانين و غيرهم، فالاختلافات الأساسية بينهم مشهورة معروفة و من البين أن المختلفين لا ينال الحق إلا أحدهما، و كذلك الفقهاء و المحدثون من القدماء كالكليني و الصدوق و شيخ الطائفة و المفيد و المرتضى و غيرهم رضوان الله عليهم، فما هو مزية التذكر على التفكر المنطقي؟ فكان من الواجب حينئذ التماس مميز آخر غير التذكر يميز بين الحق و الباطل، و ليس إلا التفكر المنطقي فهو المرجع و الموئل.
و يرد عليه رابعا: أن محصل الاستدلال أن الإنسان إذا تمسك بذيل أهل العصمة و الطهارة لم يقع في خطإ، و لازمه ما تقدم أن الرأي المأخوذ من المعصوم فيما سمعه منه سمعا يقينيا و علم بمراده علما يقينيا لا يقع فيه خطأ، و هذا مما لا كلام فيه لأحد.
و في الحقيقة المسموع من المعصوم أو المأخوذ منه مادة ليس هو عين التذكر و لا الفكر المنطقي ثم يعقبه هو أن: هذا ما يراه المعصوم، و كل ما يراه حق فهذا حق و هذا برهان قطعي النتيجة، و أما غير هذه الصورة من مؤديات أخبار الآحاد أو ما يماثلها مما لا يفيد إلا الظن فإن ذلك لا يفيد شيئا و لا يوجد دليل على حجية الآحاد في غير الأحكام إلا مع موافقة الكتاب و لا الظن يحصل على شيء مع فرض العلم على خلافه من دليل علمي.
9 - و قول بعضهم: «إن الله سبحانه خاطبنا في كلامه بما نألفه من الكلام الدائر بيننا، و النظم و التأليف الذي يعرفه أهل اللسان، و ظاهر البيانات المشتملة على الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و القصص و الحكمة و الموعظة و الجدال بالتي هي أحسن، و هذه أمور لا حاجة في فهمها و تعقلها إلى تعلم المنطق و الفلسفة و سائر ما هو تراث الكفار و المشركين و سبيل الظالمين، و قد نهانا عن ولايتهم و الركون إليهم و اتخاذ دئوبهم و اتباع سبلهم، فليس على من يؤمن بالله و رسوله إلا أن يأخذ بظواهر البيانات الدينية، و يقف على ما يتلقاه الفهم العادي من تلك الظواهر من غير أن يأولها أو يتعداها إلى غيرها» و هذا ما يراه الحشوية و المشبهة و عدة من أصحاب الحديث.
و هو فاسد أما من حيث الهيئة فقد استعمل فيه الأصول المنطقية و قد أريد بذلك المنع عن استعمالها بعينها، و لم يقل القائل بأن القرآن يهدي إلى استعمال أصول المنطق: أنه يجب على كل مسلم أن يتعلم المنطق، لكن نفس الاستعمال مما لا محيص عنه، فما مثل هؤلاء في قولهم هذا إلا مثل من يقول: إن القرآن إنما يريد أن يهدينا إلى مقاصد الدين فلا حاجة لنا إلى تعلم اللسان الذي هو تراث أهل الجاهلية، فكما أنه لا وقع لهذا الكلام بعد كون اللسان طريقا يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التخاطب بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته كذلك لا معنى لما اعترض به على المنطق بعد كونه طريقا معنويا يحتاج إليه الإنسان في مرحلة التعقل بحسب الطبع و قد استعمله الله سبحانه في كتابه و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في سنته.
و أما بحسب المادة فقد أخذت فيه مواد عقلية، غير أنه غولط فيه من حيث التسوية بين المعنى الظاهر من الكلام و المصاديق التي تنطبق عليها المعاني و المفاهيم، فالذي على المسلم المؤمن بكتاب الله أن يفهمه من مثل العلم و القدرة و الحياة و السمع و البصر و الكلام و المشيئة و الإرادة مثلا أن يفهم معاني تقابل الجهل و العجز و الممات و الصمم و العمى و نحوها، و أما أن يثبت لله سبحانه علما كعلمنا و قدرة كقدرتنا و حياة كحياتنا و سمعا و بصرا و كلاما و مشيئة و إرادة كذلك فليس له ذلك لا كتابا و لا سنة و لا عقلا، و قد تقدم شطر من الكلام المتعلق بهذا الباب في بحث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
10 - و قول بعضهم: «إن الدليل على حجية المقدمات التي قامت عليها الحجج العقلية ليس إلا المقدمة العقلية القائلة بوجوب اتباع الحكم العقلي، و بعبارة أخرى لا حجة على حكم العقل إلا نفس العقل و هذا دور مصرح فلا محيص في المسائل الخلافية عن الرجوع إلى قول المعصوم من نبي أو إمام من غير تقليد».
هذا، و هو أسخف تشكيك أورد في هذا الباب و إنما أريد به تشييد بنيان فأنتج هدمه، فإن القائل أبطل به حكم العقل بالدور المصرح على زعمه ثم لما عاد إلى حكم الشرع لزمه إما أن يستدل عليه بحكم العقل و هو الدور، أو بحكم الشرع و هو الدور فلم يزل حائرا يدور بين دورين.
إلا أن يرجع إلى التقليد و هو حيرة ثانية.
و قد اشتبه عليه الأمر في تحصيل معنى وجوب متابعة حكم العقل» فإن أريد بوجوب متابعة حكم العقل ما يقابل الحظر و الإباحة و يستتبع مخالفته ذما أو عقابا نظير وجوب متابعة الناصح المشفق، و وجوب العدل في الحكم و نحو ذلك فهو حكم العقل العملي و لا كلام لنا فيه، و إن أريد بوجوب المتابعة أن الإنسان مضطر على تصديق النتيجة إذا استدل عليه بمقدمات علمية و شكل صحيح علمي مع التصور التام لأطراف القضايا فهذا أمر يشاهده الإنسان بالوجدان، و لا معنى عندئذ لأن يسأل العقل عن الحجة، لحجية حجته لبداهة حجيته.
و هذا نظير سائر البديهيات، فإن الحجة على كل بديهي إنما هي نفسه، و معناه أنه مستغن عن الحجة.
11 - و قول بعضهم: «إن غاية ما يرومه المنطق هو الحصول على الماهيات الثابتة للأشياء، و الحصول على النتائج بالمقدمات الكلية الدائمة الثابتة، و قد ثبت بالأبحاث العلمية اليوم أن لا كلي و لا دائم و لا ثابت في خارج و لا ذهن و إنما هي الأشياء تجري تحت قانون التحول العام من غير أن يثبت شيء بعينه على حال ثابتة أو دائمة أو كلية».
و هذا فاسد من جهة أنه استعمل فيه الأصول المنطقية هيئة و مادة كما هو ظاهر لمن تأمل فيه.
على أن المعترض يريد بهذا الاعتراض بعينه أن يستنتج أن المنطق القديم غير صحيح البتة، و هي نتيجة كلية دائمة ثابتة مشتملة على مفاهيم ثابتة، و إلا لم يفده شيئا فالاعتراض يبطل نفسه.
و لعلنا خرجنا عما هو شريطة هذا الكتاب من إيثار الاختصار مهما أمكن فلنرجع إلى ما كنا فيه أولا: القرآن الكريم يهدي العقول إلى استعمال ما فطرت على استعماله و سلوك ما تألفه و تعرفه بحسب طبعها و هو ترتيب المعلومات لاستنتاج المجهولات، و الذي فطرت العقول عليه هو أن تستعمل مقدمات حقيقية يقينية لاستنتاج المعلومات التصديقية الواقعية و هو البرهان، و أن تستعمل فيما له تعلق بالعمل من سعادة و شقاوة و خير و شر و نفع و ضرر و ما ينبغي أن يختار و يؤثر و ما لا ينبغي، و هي الأمور الاعتبارية، المقدمات المشهورة أو المسلمة، و هو الجدل، و أن تستعمل في موارد الخير و الشر المظنونين مقدمات ظنية لإنتاج الإرشاد و الهداية إلى خير مظنون، أو الردع عن شر مظنون، و هي العظة قال تعالى: «ادع إلى سبيل ربك بالحكمة و الموعظة الحسنة و جادلهم بالتي هي أحسن»: النحل: 152 و الظاهر أن المراد بالحكمة هو البرهان كما ترشد إلى ذلك مقابلته الموعظة الحسنة و الجدال.
فإن قلت: طريق التفكر المنطقي مما يقوى عليه الكافر و المؤمن، و يتأتى من الفاسق و المتقي، فما معنى نفيه تعالى العلم المرضي و التذكر الصحيح عن غير أهل التقوى و الاتباع كما في قوله تعالى: «و ما يتذكر إلا من ينيب»: غافر: 13، و قوله: «و من يتق الله يجعل له مخرجا»: الطلاق: 2، و قوله: «فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحيوة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدى»: النجم: 30 و الروايات الناطقة بأن العلم النافع لا ينال إلا بالعمل الصالح كثيرة مستفيضة.
قلت: اعتبار الكتاب و السنة التقوى في جانب العلم مما لا ريب فيه، غير أن ذلك ليس لجعل التقوى أو التقوى الذي معه التذكر طريقا مستقلا لنيل الحقائق وراء الطريق الفكري الفطري الذي يتعاطاه الإنسان تعاطيا لا مخلص له منه، إذ لو كان الأمر على ذلك لغت جميع الاحتجاجات الواردة في الكتاب على الكفار و المشركين و أهل الفسق و الفجور ممن لا يتبع الحق، و لا يدري ما هو التقوى و التذكر فإنهم لا سبيل لهم على هذا الفرض إلى إدراك المطلوب و حالهم هذا الحال، و مع فرض تبدل الحال يلغو الاحتجاج معهم، و نظيرها ما ورد في السنة من الاحتجاج مع شتى الفرق و الطوائف الضالة.
بل اعتبار التقوى لرد النفس الإنسانية المدركة إلى استقامتها الفطرية، توضيح ذلك: أن الإنسان بحسب جسميته مؤلف من قوى متضادة بهيمية و سبعية محتدها البدن العنصري، و كل واحدة منها تعمل عملها الشعوري الخاص بها من غير أن ترتبط بغيرها من القوى ارتباطا تراعي به حالها في عملها إلا بنحو الممانعة و المضادة فشهوة الغذاء تبعث الإنسان إلى الأكل و الشرب من غير أن يحد بحد أو يقدر بقدر من ناحية هذه القوة إلا أن يمتنع منهما المعدة مثلا لأنها لا تسع إلا مقدارا محدودا، أو يمتنع الفك مثلا لتعب و كلال يصيب عضلته من المضغ إذا أكثر من الأكل و أمثال ذلك، فهذه أمور نشاهدها من أنفسنا دائما.
و إذا كان كذلك كان تمايل الإنسان إلى قوة من القوى، و استرساله في طاعة أوامرها، و الانبعاث إلى ما تبعث إليه يوجب طغيان القوة المطاعة، و اضطهاد القوة المضادة لها اضطهادا ربما بلغ بها إلى حد البطلان أو كاد يبلغ، فالاسترسال في شهوة الطعام أو شهوة النكاح يصرف الإنسان عن جميع مهمات الحياة من كسب و عشرة و تنظيم أمر منزل و تربية أولاد و سائر الواجبات الفردية و الاجتماعية التي يجب القيام بها، و نظيره الاسترسال في طاعة سائر القوى الشهوية و القوى الغضبية، و هذا أيضا مما لا نزال نشاهدها من أنفسنا و من غيرنا خلال أيام الحياة.
و في هذا الإفراط و التفريط هلاك الإنسانية فإن الإنسان هو النفس المسخرة لهذه القوى المختلفة، و لا شأن له إلا سوق المجموع من القوى بأعمالها في طريق سعادته في الحياة الدنيا و الآخرة، و ليست إلا حياة علمية كمالية، فلا محيص له عن أن يعطي كلا من القوى من حظها ما لا تزاحم به القوى الأخرى و لا تبطل من رأس.
فالإنسان لا يتم له معنى الإنسانية إلا إذا عدل قواه المختلفة تعديلا يورد كلا منها وسط الطريق المشروع لها، و ملكة الاعتدال في كل واحدة من القوى هي التي نسميها بخلقها الفاضل كالحكمة و الشجاعة و العفة و غيرها، و يجمع الجميع العدالة.
و لا ريب أن الإنسان إنما يحصل على هذه الأفكار الموجودة عنده و يتوسع في معارفه و علومه الإنسانية باقتراح هذه القوى الشعورية أعمالها و مقتضياتها، بمعنى أن الإنسان في أول كينونته صفر الكف من هذه العلوم و المعارف الوسيعة حتى تشعر قواه الداخلة بحوائجها، و تقترح عليه ما تشتهيها و تطلبها، و هذه الشعورات الابتدائية هي مبادىء علوم الإنسان ثم لا يزال الإنسان يعمم و يخصص و يركب و يفصل حتى يتم له أمر الأفكار الإنسانية.
و من هنا يحدس اللبيب أن توغل الإنسان في طاعة قوة من قواه المتضادة و إسرافه في إجابة ما تقترح عليه يوجب انحرافه في أفكاره و معارفه بتحكيم جميع ما تصدقه هذه القوة على ما يعطيه غيرها من التصديقات و الأفكار، و غفلته عما يقتضيه غيرها.
و التجربة تصدق ذلك فإن هذا الانحراف هو الذي نشاهده في الأفراد المسرفين المترفين من حلفاء الشهوة، و في البغاة الطغاة الظلمة المفسدين أمر الحياة في المجتمع الإنساني فإن هؤلاء الخائضين في لجج الشهوات، العاكفين على لذائذ الشرب و السماع و الوصال لا يكادون يستطيعون التفكر في واجبات الإنسانية، و مهام الأمور التي يتنافس فيها أبطال الرجال و قد تسربت روح الشهوة في قعودهم و قيامهم و اجتماعهم و افتراقهم و غير ذلك و كذلك الطغاة المستكبرون أقسياء القلوب لا يتأتى لهم أن يتصوروا رأفة و شفقة و رحمة و خضوعا و تذللا حتى فيما يجب فيه ذلك، و حياتهم تمثل حالهم الخبيث الذي هم عليه في جميع مظاهرها من تكلم و سكوت و نظر و غض و إقبال و إدبار، فهؤلاء جميعا سالكوا طريق الخطإ في علومهم، كل طائفة منهم مكبة على ما تناله من العلوم و الأفكار المحرفة المنحرفة المتعلقة بما عنده، غافلون عما وراءه و فيما وراءه، العلوم النافعة و المعارف الحقة الإنسانية فالمعارف الحقة و العلوم النافعة لا تتم للإنسان إلا إذا صلحت أخلاقه و تمت له الفضائل الإنسانية القيمة و هو التقوى.
فقد تحصل أن الأعمال الصالحة هي التي تحفظ الأخلاق الحسنة، و الأخلاق الحسنة هي التي تحفظ المعارف الحقة و العلوم النافعة و الأفكار الصحيحة، و لا خير في علم لا عمل معه.
و هذا البحث و إن سقناه سوقا علميا أخلاقيا لمسيس الحاجة إلى التوضيح إلا أنه هو الذي جمعه الله تعالى في كلمة حيث قال: «و اقصد في مشيك»: لقمان: 19 فإنه كناية عن أخذ وسط الاعتدال في مسير الحياة، و قال: «إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا»: الأنفال: 29 و قال: «و تزودوا فإن خير الزاد التقوى و اتقون يا أولي الألباب»: البقرة: 179، أي لأنكم أولوا الألباب تحتاجون في عمل لبكم إلى التقوى و الله أعلم، و قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها قد أفلح من زكاها و قد خاب من دساها»: الشمس: 10 و قال: «و اتقوا الله لعلكم تفلحون: آل عمران: 103.
و من طريق آخر: قال تعالى: «فخلف من بعدهم خلف أضاعوا الصلوة و اتبعوا الشهوات فسوف يلقون غيا إلا من تاب و ءامن و عمل صالحا»: مريم: 60 فذكر أن اتباع الشهوات يسوق إلى الغي، و قال تعالى: «سأصرف عن ءاياتي الذين يتكبرون في الأرض بغير الحق و إن يروا كل ءاية لا يؤمنوا بها و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين»: الأعراف: 164 فذكر أن أسراء القوى الغضبية ممنوعون من اتباع الحق مسوقون إلى سبيل الغي، ثم ذكر أن ذلك بسبب غفلتهم عن الحق، و قال تعالى: «و لقد ذرأنا لجهنم كثيرا من الجن و الإنس لهم قلوب لا يفقهون بها و لهم أعين لا يبصرون بها و لهم ءاذان لا يسمعون بها أولئك كالأنعام بل هم أضل أولئك هم الغافلون: الأعراف: 197 فذكر أن هؤلاء الغافلين إنما هم غافلون عن حقائق المعارف التي للإنسان، فقلوبهم و أعينهم و آذانهم بمعزل عن نيل ما يناله الإنسان، السعيد في إنسانيته، و إنما ينالون بها ما تناله الأنعام أو ما هو أضل من الأنعام و هي الأفكار التي إنما تصوبها و تميل إليها و تألف بها البهائم السائمة و السباع الضارية.
فظهر من جميع ما تقدم أن القرآن الكريم إنما اشترط التقوى في التفكر و التذكر و التعقل، و قارن العلم بالعمل للحصول على استقامة الفكر و إصابة العلم و خلوصه من شوائب الأوهام الحيوانية و الإلقاءات الشيطانية.
نعم هاهنا حقيقة قرآنية لا مجال لإنكارها، و هو أن دخول الإنسان في حظيرة الولاية الإلهية، و تقربه إلى ساحة القدس و الكبرياء يفتح له بابا إلى ملكوت السماوات و الأرض يشاهد منه ما خفي على غيره من آيات الله الكبرى، و أنوار جبروته التي لا تطفأ، قال الصادق (عليه السلام): لو لا أن الشياطين يحومون حول قلوب بني آدم لرأوا ملكوت السماوات و الأرض، و فيما رواه الجمهور عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: لو لا تكثير في كلامكم و تمريج في قلوبكم لرأيتم ما أرى و لسمعتم ما أسمع، و قد قال تعالى: «و الذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا و إن الله لمع المحسنين»: العنكبوت: 69 و يدل على ذلك ظاهر قوله تعالى: «و اعبد ربك حتى يأتيك اليقين»: الحجر: 99 حيث فرع اليقين على العبادة، و قال تعالى: «و كذلك نري إبراهيم ملكوت السموات و الأرض و ليكون من الموقنين»: الأنعام: 75 فربط وصف الإيقان بمشاهدة الملكوت، و قال تعالى: «كلا لو تعلمون علم اليقين لترون الجحيم ثم لترونها عين اليقين»: التكاثر: 7 و قال تعالى: «إن كتاب الأبرار لفي عليين و ما أدراك ما عليون كتاب مرقوم يشهده المقربون»: المطففين: 21 و ليطلب البحث المستوفى في هذا المعنى مما سيجيء من الكلام في قوله تعالى: «إنما وليكم الله و رسوله» الآية: المائدة: 55 و في قوله تعالى: «يا أيها الذين ءامنوا عليكم أنفسكم» الآية: المائدة: 150.
و لا ينافي ثبوت هذه الحقيقة ما قدمناه أن القرآن الكريم يؤيد طريق التفكر الفطري الذي فطر عليه الإنسان و بني عليه بنية الحياة الإنسانية، فإن هذا طريق غير فكري، و موهبة إلهية يختص بها من يشاء من عباده و العاقبة للمتقين.
بحث تاريخي
ننظر فيه نظرا إجماليا في تاريخ التفكير الإسلامي و الطريق الذي سلكته الأمة الإسلامية على اختلاف طوائفها و مذاهبها، و لا نلوي فيه إلى مذهب من المذاهب بإحقاق أو إبطال، و إنما نعرض الحوادث الواقعة على منطق القرآن و نحكمه في الموافقة و المخالفة، و أما ما باهى به موافق و ما اعتذر به مخالف فلا شأن لنا في الغور في أصوله و جذوره، فإنما ذلك طريق آخر من البحث مذهبي أو غيره.
القرآن الكريم يتعرض بمنطقه في سنته المشروعة لجميع شئون الحياة الإنسانية من غير أن تتقيد بقيد أو تشترط بشرط، يحكم على الإنسان منفردا أو مجتمعا، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، على الأبيض و الأسود، و العربي و العجمي، و الحاضر و البادي، و العالم و الجاهل، و الشاهد و الغائب، في أي زمان كان و في أي مكان كان و يداخل كل شأن من شئونه من اعتقاد أو خلق أو عمل من غير شك.
فللقرآن اصطكاك مع جميع العلوم و الصناعات المتعلقة بأطراف الحياة الإنسانية و من الواضح اللائح من خلال آياته النادبة إلى التدبر و التفكر و التذكر و التعقل أنه يحث حثا بالغا على تعاطي العلم و رفض الجهل في جميع ما يتعلق بالسماويات و الأرضيات و النبات و الحيوان و الإنسان، من أجزاء عالمنا و ما وراءه من الملائكة و الشياطين و اللوح و القلم و غير ذلك ليكون ذريعة إلى معرفة الله سبحانه، و ما يتعلق نحوا من التعلق بسعادة الحياة الإنسانية الاجتماعية من الأخلاق و الشرائع و الحقوق و أحكام الاجتماع.
و قد عرفت أنه يؤيد الطريق الفطري من التفكر الذي تدعو إليه الفطرة دعوة اضطرارية لا معدل عنها على حق ما تدعو إليه الفطرة من السير المنطقي.
و القرآن نفسه يستعمل هذه الصناعات المنطقية من برهان و جدل و موعظة، و يدعو الأمة التي يهديها إلى أن يتبعوه في ذلك فيتعاطوا البرهان فيما كان من الواقعيات الخارجة من باب العمل و يستدلوا بالمسلمات في غير ذلك أو بما يعتبر به.
و قد اعتبر القرآن في بيان مقاصده السنة النبوية، و عين لهم الأسوة في رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فكانوا يحفظون عنه، و يقلدون مشيته العلمية تقليد المتعلم معلمه في السلوك العلمي.
كان القوم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و نعني به أيام إقامته بالمدينة حديثي عهد بالتعليم الإسلامي، حالهم أشبه بحال الإنسان القديم في تدوين العلوم و الصناعات، يشتغلون بالأبحاث العلمية اشتغالا ساذجا غير فني على عناية منهم بالتحصيل و التحرير، و قد اهتموا أولا بحفظ القرآن و قراءته، و حفظ الحديث عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) من غير كتابة، و نقله، و كان لهم بعض المطارحات الكلامية فيما بينهم أنفسهم، و احتجاجات مع بعض أرباب الملل الأجنبية و لا سيما اليهود و النصارى لوجود أجيال منهم في الجزيرة و الحبشة و الشام، و من هنا يبتدىء ظهور علم الكلام و كانوا، يشتغلون برواية الشعر و قد كانت سنة عربية لم يهتم بأمرها الإسلام و لم يمدح الكتاب الشعر و الشعراء بكلمة، و لا السنة بالغت في أمره.
ثم لما ارتحل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) كان من أمر الخلافة ما هو معروف و زاد الاختلاف الحادث عند ذلك بابا على الأبواب الموجودة.
و جمع القرآن في زمن الخليفة الأول بعد غزوة يمامة و شهادة جماعة من القراء فيها.
و كان الأمر على هذا في عهد خلافته - و هي سنتان تقريبا - ثم في عهد الخليفة الثاني.
و الإسلام و إن انتشر صيته و اتسع نطاقه بما رزق المسلمون من الفتوحات العظيمة في عهده لكن الاشتغال بها كان يعوقهم عن التعمق في إجالة النظر في روابط العلوم و التماس الارتقاء في مدارجها، أو إنهم ما كانوا يرون لما عندهم من المستوى العلمي حاجة إلى التوسع و التبسط.
و ليس العلم و فضله أمرا محسوسا يعرفه أمة من أمة أخرى إلا أن يرتبط بالصنعة فيظهر أثره على الحس فيعرفه العامة.
و قد أيقظت هذه الفتوحات المتوالية الغزيرة العرب الجاهلية من الغرور و النخوة بعد ما كانت في سكن بالتربية النبوية، فكانت تتسرب فيهم روح الأمم المستعلية الجبارة، و تتمكن منهم رويدا، يشهد به شيوع تقسيم الأمة المسلمة يومئذ إلى العرب و الموالي، و سير معاوية - و هو والي الشام يومذاك - بين المسلمين بسيرة ملوكية قيصرية، و أمور أخرى كثيرة ذكرها التاريخ عن جيوش المسلمين، و هذه نفسيات لها تأثير في السير العلمي و لا سيما التعليمات القرآنية.
و أما الذي كان عندهم من حاضر السير العلمي فالاشتغال بالقرآن كان على حاله و قد صار مصاحف متعددة تنسب إلى زيد و أبي و ابن مسعود و غيرهم.
و أما الحديث فقد راج رواجا بينا و كثر النقل و الضبط إلى حيث نهى عمر بعض الصحابة عن التحديث لكثرة ما روى، و قد كان عدة من أهل الكتاب دخلوا في الإسلام و أخذ عنهم المحدثون شيئا كثيرا من أخبار كتبهم و قصص أنبيائهم و أممهم، فخلطوها بما كان عندهم من الأحاديث المحفوظة عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أخذ الوضع و الدس يدوران في الأحاديث، و يوجد اليوم في الأحاديث المقطوعة المنقولة عن الصحابة و رواتهم في الصدر الأول شيء كثير من ذلك يدفعه القرآن بظاهر لفظه.
و جملة السبب في ذلك أمور ثلاثة: 1 - المكانة الرفيعة التي كانت تعتقدها الناس لصحبة النبي و حفظ الحديث عنه، و كرامة الصحابة و أصحابهم النقلة عنهم على الناس، و تعظيمهم لأمرهم، فدعا ذلك الناس إلى الأخذ و الإكثار حتى عن مسلمي أهل الكتاب و الرقابة الشديدة بين حملة الحديث في حيازة التقدم و الفخر.
2 - إن الحرص الشديد منهم على حفظ الحديث و نقله منعهم عن تمحيصه و التدبر في معناه و خاصة في عرضه على كتاب الله و هو الأصل الذي تبتني عليه بنية الدين و تستمد منه فروعه، و قد وصاهم بذلك النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما صح من قوله: «ستكثر علي القالة» الحديث، و غيره.
و حصلت بذلك فرصة لأن تدور بينهم أحاديث موضوعة في صفات الله و أسمائه و أفعاله، و زلات منسوبة إلى الأنبياء الكرام، و مساوىء مشوهة تنسب إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و خرافات في الخلق و الإيجاد، و قصص الأمم الماضية، و تحريف القرآن و غير ذلك مما لا تقصر عما تتضمنه التوراة و الإنجيل من هذا القبيل.
و اقتسم القرآن و الحديث عند ذلك التقدم و العمل: فالتقدم الصوري للقرآن و الأخذ و العمل بالحديث فلم يلبث القرآن دون أن هجر عملا، و لم تزل تجري هذه السيرة و هي الصفح عن عرض الحديث على القرآن مستمرة بين الأمة عملا حتى اليوم و إن كانت تنكرها قولا و قال الرسول يا رب إن قومي اتخذوا هذا القرآن مهجورا» اللهم إلا آحاد بعد آحاد.
و هذا التساهل بعينه هو أحد الأسباب في بقاء كثير من الخرافات القومية القديمة بين الأمم الإسلامية بعد دخولهم في الإسلام و الداء يجر الداء.
3 - إن ما جرى في أمر الخلافة بعد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أوجب اختلاف آراء عامة المسلمين في أهل بيته فمن عاكف عليهم هائم بهم، و من معرض عنهم لا يعبأ بأمرهم و مكانتهم من علم القرآن أو مبغض شانىء لهم، و قد وصاهم النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما لا يرتاب في صحته و دلالته مسلم أن يتعلموا منهم و لا يعلموهم و هم أعلم منهم بكتاب الله، و ذكر لهم أنهم لن يغلطوا في تفسيره و لن يخطئوا في فهمه قال في حديث الثقلين المتواتر: إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله و عترتي و لن يفترقا حتى يردا علي الحوض الحديث.
و في بعض طرقه: لا تعلموهم فإنهم أعلم منكم. و قال في المستفيض من كلامه: «من فسر القرآن برأيه فليتبوأ مقعده من النار» و قد تقدم في أبحاث المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب.
و هذا أعظم ثلمة انثلم بها علم القرآن و طريق التفكر الذي يندب إليه.
و من الشاهد على هذا الإعراض قلة الأحاديث المنقولة عنهم (عليهم السلام) فإنك إذا تأملت ما عليه علم الحديث في عهد الخلفاء من المكانة و الكرامة، و ما كان عليه الناس من الولع و الحرص الشديد على أخذه ثم أحصيت ما نقل في ذلك عن علي و الحسن و الحسين، و خاصة ما نقل من ذلك في تفسير القرآن لرأيت عجبا: أما الصحابة فلم ينقلوا عن علي (عليه السلام) شيئا يذكر، و أما التابعون فلا يبلغ ما نقلوا عنه - إن أحصي - مائة رواية في تمام القرآن و أما الحسن (عليه السلام) فلعل المنقول عنه لا يبلغ عشرا، و أما الحسين فلم ينقل عنه شيء يذكر، و قد أنهى بعضهم الروايات الواردة في التفسير إلى سبعة عشر ألف حديث من طريق الجمهور وحده، و هذه النسبة موجودة في روايات الفقه أيضا.
فهل هذا لأنهم هجروا أهل البيت و أعرضوا عن حديثهم؟ أو لأنهم أخذوا عنهم و أكثروا ثم أخفيت و نسيت في الدولة الأموية لانحراف الأمويين عنهم؟ ما أدري.
غير أن عزلة علي و عدم اشتراكه في جمع القرآن أولا و أخيرا و تاريخ حياة الحسن و الحسين (عليهما السلام) يؤيد أول الاحتمالين.
و قد آل أمر حديثه إلى أن أنكر بعض كون ما اشتمل عليه كتاب نهج البلاغة من غرر خطبه من كلامه، و أما أمثال الخطبة البتراء لزياد بن أبيه و خمريات يزيد فلا يكاد يختلف فيها اثنان!.
و لم يزل أهل البيت مضطهدين، مهجورا حديثهم إلى أن انتهض الإمامان: محمد بن علي الباقر و جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) في برهة كالهدنة بين الدولة الأموية و الدولة العباسية فبينا ما ضاعت من أحاديث آبائهم، و جددا ما اندرست و عفيت من آثارهم.
غير أن حديثهما و غيرهما من آبائهما و أبنائهما من أئمة أهل البيت أيضا لم يسلم من الدخيل و لم يخلص من الدس و الوضع كحديث رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، و قد ذكرا ذلك في الصريح من كلامهما، و عدا رجالا من الوضاعين كمغيرة بن سعيد و ابن أبي الخطاب و غيرهما، و أنكر بعض الأئمة روايات كثيرة مروية عنهم و عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، و أمروا أصحابهم و شيعتهم بعرض الأحاديث المنقولة عنهم على القرآن و أخذ ما وافقه و ترك ما خالفه.
و لكن القوم إلا آحاد منهم لم يجروا عليها عملا في أحاديث أهل البيت (عليهم السلام) و خاصة في غير الفقه، و كان السبيل الذي سلكوه في ذلك هو السبيل الذي سلكه الجمهور في أحاديث النبي (صلى الله عليه وآله وسلم).
و قد أفرط في الأمر إلى حيث ذهب جمع إلى عدم حجية ظواهر الكتاب و حجية مثل مصباح الشريعة و فقه الرضا و جامع الأخبار! و بلغ الإفراط إلى حيث ذكر بعضهم أن الحديث يفسر القرآن مع مخالفته لصريح دلالته، و هذا يوازن ما ذكره بعض الجمهور: أن الخبر ينسخ الكتاب.
و لعل المتراءى من أمر الأمة لغيرهم من الباحثين كما ذكره بعضهم: «أن أهل السنة أخذوا بالكتاب و تركوا العترة، فآل ذلك إلى ترك الكتاب لقول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنهما لن يفترقا» و أن الشيعة أخذوا بالعترة و تركوا الكتاب، فآل ذلك منهم إلى ترك العترة لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): «إنهما لن يفترقا» فقد تركت الأمة القرآن و العترة الكتاب و السنة معا».
و هذه الطريقة المسلوكة في الحديث أحد العوامل التي عملت في انقطاع رابطة العلوم الإسلامية و هي العلوم الدينية و الأدبية عن القرآن مع أن الجميع كالفروع و الثمرات من هذه الشجرة الطيبة التي أصلها ثابت و فرعها في السماء تؤتي أكلها كل حين بإذن ربها، و ذلك أنك إن تبصرت في أمر هذه العلوم وجدت أنها نظمت تنظيما لا حاجة لها إلى القرآن أصلا حتى أنه يمكن لمتعلم أن يتعلمها جميعا: الصرف و النحو و البيان و اللغة و الحديث و الرجال و الدراية و الفقه و الأصول فيأتي آخرها، ثم يتضلع بها ثم يجتهد و يتمهر فيها و هو لم يقرأ القرآن، و لم يمس مصحفا قط، فلم يبق للقرآن بحسب الحقيقة إلا التلاوة لكسب الثواب أو اتخاذه تميمة للأولاد تحفظهم عن طوراق الحدثان! فاعتبر إن كنت من أهله.
و لنرجع إلى ما كنا فيه: كان حال البحث عن القرآن و الحديث في عهد عمر ما سمعته، و قد اتسع نطاق المباحث الكلامية في هذا العهد لما أن الفتوحات الوسيعة أفضت بالطبع إلى اختلاط المسلمين بغيرهم من الأمم و أرباب الملل و النحل و فيهم العلماء و الأحبار و الأساقفة و البطارقة الباحثون في الأديان و المذاهب فارتفع منار الكلام لكن لم يدون بعد تدوينا، فإن ما عد من التآليف فيه إنما ذكر في ترجمات من هو بعد هذا العصر.
ثم كان الأمر على ذلك في عهد عثمان على ما فيه من انقلاب الناس على الخلافة، و إنما وفق لجمع المصاحف، و الاتفاق على مصحف واحد.
ثم كان الأمر على ذلك في خلافة علي (عليه السلام) و شغله إصلاح ما فسد من مجتمع المسلمين بالاختلافات الداخلية و وقع حروب متوالية في إثر ذلك.
غير أنه (عليه السلام) وضع علم النحو و أملأ كلياته أبا الأسود الدئلي من أصحابه و أمره بجمع جزئيات قواعده، و لم يتأت له وراء ذلك إلا أن ألقى بيانات من خطب و أحاديث فيها جوامع مواد المعارف الدينية و أنفس الأسرار القرآنية، و له مع ذلك احتجاجات كلامية مضبوطة في جوامع الحديث.
ثم كان الأمر على ذلك في خصوص القرآن و الحديث في عهد معاوية و من بعده من الأمويين و العباسيين إلى أوائل القرن الرابع من الهجرة تقريبا و هو آخر عهد الأئمة الاثني عشر عند الشيعة، فلم يحدث في طريق البحث عن القرآن و الحديث أمر مهم غير ما كان في عهد معاوية من بذل الجهد في إماتة ذكر أهل البيت (عليهم السلام) و إعفاء أثرهم و وضع الأحاديث، و قد انقلبت الحكومة الدينية إلى سلطنة استبدادية، و تغيرت السنة الإسلامية إلى سيطرة إمبراطورية، و ما كان في عهد عمر بن عبد العزيز من أمره بكتابة الحديث، و قد كان المحدثون يتعاطون الحديث إلى هذه الغاية بالأخذ و الحفظ من غير تقييد بالكتابة.
و في هذه البرهة راج الأدب العربي غاية رواجه، شرع ذلك من زمن معاوية فقد كان يبالغ في ترويج الشعر ثم الذين يلونه من الأمويين ثم العباسيين، و كان ربما يبذل بإزاء بيت من الشعر أو نكتة أدبية المئات و الألوف من الدنانير، و انكب الناس على الشعر و روايته، و أخبار العرب و أيامهم، و كانوا يكتسبون بذلك الأموال الخطيرة، و كانت الأمويون ينتفعون برواجه و بذل الأموال بحذائه لتحكيم موقعهم تجاه بني هاشم ثم العباسيون تجاه بني فاطمة كما كانوا يبالغون في إكرام العلماء ليظهروا بهم على الناس، و يحملوهم ما شاءوا و تحكموا.
و بلغ من نفوذ الشعر و الأدب في المجتمع العلمي أنك ترى كثيرا من العلماء يتمثلون بشعر شاعر أو مثل سائر في مسائل عقلية أو أبحاث علمية ثم يكون له القضاء، و كثيرا ما يبنون المقاصد النظرية على مسائل لغوية و لا أقل من البحث اللغوي في اسم الموضوع أولا ثم الورود في البحث ثانيا، و هذه كلها أمور لها آثار عميقة في منطق الباحثين و سيرهم العلمي.
و في تلك الأيام راج البحث الكلامي، و كتب فيه الكتب و الرسائل، و لم يلبثوا أن تفرقوا فرقتين عظيمتين و هما الأشاعرة و المعتزلة، و كانت أصول أقوالهم موجودة في زمن الخلفاء بل في زمن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يدل على ذلك ما روي من احتجاجات علي (عليه السلام) في الجبر و التفويض و القدر و الاستطاعة و غيرها، و ما روي عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في ذلك و إنما امتازت الطائفتان في هذا الأوان بامتياز المسلكين و هو تحكيم المعتزلة ما يستقل به العقل على الظواهر الدينية كالقول بالحسن و القبح العقليين، و قبح الترجيح من غير مرجح، و قبح التكليف بما لا يطاق، و الاستطاعة، و التفويض، و غير ذلك، و تحكيم الأشاعرة الظواهر على حكم العقل بالقول بنفي الحسن و القبح، و جواز الترجيح من غير مرجح، و نفي الاستطاعة، و القول بالجبر، و قدم كلام الله، و غير ذلك مما هو مذكور في كتبهم.
ثم رتبوا الفن و اصطلحوا الاصطلاحات و زادوا مسائل قابلوا بها الفلاسفة في المباحث المعنوية بالأمور العامة، و ذلك بعد نقل كتب الفلسفة إلى العربية و انتشار دراستها بين المسلمين، و ليس الأمر على ما ذكره بعضهم: أن التكلم ظهر أو انشعب في الإسلام إلى الاعتزال و الأشعرية بعد انتقال الفلسفة إلى العرب، يدل على ذلك وجود معظم مسائلهم و آرائهم في الروايات قبل ذلك.
و لم تزل المعتزلة تتكثر جماعتهم و تزداد شوكتهم و أبهتهم منذ أول الظهور إلى أوائل العهد العباسي أوائل القرن الثالث الهجري ثم رجعوا يسلكون سبيل الانحطاط و السقوط حتى أبادتهم الملوك من بني أيوب فانقرضوا و قد قتل في عهدهم و بعدهم لجرم الاعتزال من الناس ما لا يحصيه إلا الله سبحانه و عند ذلك صفا جو البحث الكلامي للأشاعرة من غير معارض فتوغلوا فيه بعد ما كان فقهاؤهم يتأثمون بذلك أولا، و لم يزل الأشعرية رائجة عندهم إلى اليوم.
و كان للشيعة قدم في التكلم، كان أول طلوعهم بالتكلم بعد رحلة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كان جلهم من الصحابة كسلمان و أبي ذر و المقداد و عمار و عمرو بن الحمق و غيرهم و من التابعين كرشيد و كميل و ميثم و سائر العلويين أبادتهم أيدي الأمويين، ثم تأصلوا و قوي أمرهم ثانيا في زمن الإمامين: الباقر و الصادق (عليهما السلام) و أخذوا بالبحث و تأليف الكتب و الرسائل، و لم يزالوا يجدون الجد تحت قهر الحكومات و اضطهادها حتى رزقوا بعض الأمن في الدولة البويهية ثم أخنقوا ثانيا حتى صفا لهم الأمر بظهور الدولة الصفوية في إيران، ثم لم يزالوا على ذلك حتى اليوم.
و كانت سيماء بحثهم في الكلام أشبه بالمعتزلة منها بالأشاعرة، و لذلك ربما اختلط بعض الآراء كالقول بالحسن و القبح و مسألة الترجيح من غير مرجح و مسألة القدر و مسألة التفويض، و لذلك أيضا اشتبه الأمر على بعض الناس فعد الطائفتين أعني الشيعة و المعتزلة ذواتي طريقة واحدة في البحث الكلامي، كفرسي رهان، و قد أخطأ، فإن الأصول المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام) و هي المعتبرة عند القوم لا تلائم مذاق المعتزلة في شيء.
و على الجملة فن الكلام فن شريف يذب عن المعارف الحقة الدينية غير أن المتكلمين من المسلمين أساءوا في طريق البحث فلم يميزوا بين الأحكام العقلية و اختلط عندهم الحق بالمقبول على ما سيجيء إيضاحه بعض الإيضاح.
و في هذه البرهة من الزمن نقلت علوم الأوائل من المنطق و الرياضيات و الطبيعيات و الإلهيات و الطب و الحكمة العملية إلى العربية، نقل شطر منها في عهد الأمويين ثم أكمل في أوائل عهد العباسيين، فقد ترجموا مئات من الكتب من اليونانية و الرومية و الهندية و الفارسية و السريانية إلى العربية، و أقبل الناس يتدارسون مختلف العلوم و لم يلبثوا كثيرا حتى استقلوا بالنظر، و صنفوا فيها كتبا و رسائل، و كان ذلك يغيظ علماء الوقت، و لا سيما ما كانوا يشاهدونه من تظاهر الملاحدة من الدهرية و الطبيعية و المانوية و غيرهم على المسائل المسلمة في الدين، و ما كان عليه المتفلسفون من المسلمين من الوقيعة في الدين و أهله، و تلقي أصول الإسلام و معالم الشرع الطاهرة بالإهانة و الإزراء و لا داء كالجهل.
و من أشد ما كان يغيظهم ما كانوا يسمعونه منهم من القول في المسائل المبتنية على أصول موضوعة مأخوذة من الهيئة و الطبيعيات كوضع الأفلاك البطليموسية، و كونها طبيعة خامسة، و استحالة الخرق و الالتيام فيها، و قدم الأفلاك و الفلكيات بالشخص و قدم العناصر بالنوع، و قدم الأنواع و نحو ذلك فإنها مسائل مبنية على أصول موضوعة لم يبرهن عليها في الفلسفة لكن الجهلة من المتفلسفين كانوا يظهرونها في زي المسائل المبرهن عليها، و كانت الدهرية و أمثالهم و هم يومئذ منتحلون إليها يضيفون إلى ذلك أمورا أخرى من أباطيلهم كالقول بالتناسخ و نفي المعاد و لا سيما المعاد الجسماني، و يطعنون بذلك كله في ظواهر الدين و ربما قال القائل منهم: إن الدين مجموع وظائف تقليدية أتى بها الأنبياء لتربية العقول الساذجة البسيطة و تكميلها، و أما الفيلسوف المتعاطي للعلوم الحقيقية فهو في غنى عنهم و عما أتوا به، و كانوا ذوي أقدام في طرق الاستدلال.
فدعا ذلك الفقهاء و المتكلمين و حملهم على تجبيههم بالإنكار و التدمير عليهم بأي وسيلة تيسرت لهم من محاجة و دعوة عليهم و براءة منهم و تكفير لهم حتى كسروا سورتهم و فرقوا جمعهم و أفنوا كتبهم في زمن المتوكل، و كادت الفلسفة تنقرض بعده حتى جدده ثانيا المعلم الثاني أبو نصر الفارابي المتوفى سنة 393 ثم بعده الشيخ الرئيس أبو علي الحسين بن عبد الله بن سينا المتوفى سنة 482 ثم غيرهما من معاريف الفلسفة كأبي علي بن مسكويه و ابن رشد الأندلسي و غيرهما، ثم لم تزل الفلسفة تعيش على قلة من متعاطيها و تجول بين ضعف و قوة.
و هي و إن انتقلت ابتداء إلى العرب لكن لم يشتهر بها منهم إلا الشاذ النادر كالكندي و ابن رشد، و قد استقرت أخيرا في إيران، و المتكلمون من المسلمين و إن خالفوا الفلسفة و أنكروا على أهلها أشد الإنكار لكن جمهورهم تلقوا المنطق بالقبول فألفوا فيها الرسائل و الكتب لما وجدوه موافقا لطريق الاستدلال الفطري.
غير أنهم - كما سمعت - أخطئوا في استعماله فجعلوا حكم الحدود الحقيقية و أجزائها مطردا في المفاهيم الاعتبارية، و استعملوا البرهان في القضايا الاعتبارية التي لا مجرى فيها إلا للقياس الجدلي فتراهم يتكلمون في الموضوعات الكلامية كالحسن و القبح و الثواب و العقاب و الحبط و الفضل في أجناسها و فصولها و حدودها، و أين هي من الحد؟ و يستدلون في المسائل الأصولية و المسائل الكلامية من فروع الدين بالضرورة و الامتناع.
و ذلك من استخدام الحقائق في الأمور الاعتبارية و يبرهنون في أمور ترجع إلى الواجب تعالى بأنه يجب عليه كذا و يقبح منه كذا فيحكمون الاعتبارات على الحقائق، و يعدونه برهانا، و ليس بحسب الحقيقة إلا من القياس الشعري.
و بلغ الإفراط في هذا الباب إلى حد قال قائلهم: إن الله سبحانه أنزه ساحة من أن يدب في حكمه و فعله الاعتبار الذي حقيقته الوهم فكل ما كونه تكوينا أو شرعه تشريعا أمور حقيقية واقعية، و قال آخر: إن الله سبحانه أقدر من أن يحكم بحكم ثم لا يستطاع من إقامة البرهان عليه، فالبرهان يشمل التكوينيات و التشريعيات جميعا.
إلى غير ذلك من الأقاويل التي هي لعمري من مصائب العلم و أهله، ثم الاضطرار إلى وضعها و البحث عنها في المسفورات العلمية أشد مصيبة.
و في هذه البرهة ظهر التصوف بين المسلمين، و قد كان له أصل في عهد الخلفاء يظهر في لباس الزهد، ثم بان الأمر بتظاهر المتصوفة في أوائل عهد بني العباس بظهور رجال منهم كأبي يزيد و الجنيد و الشبلي و معروف و غيرهم.
يرى القوم أن السبيل إلى حقيقة الكمال الإنساني و الحصول على حقائق المعارف هو الورود في الطريقة، و هي نحو ارتياض بالشريعة للحصول على الحقيقة، و ينتسب المعظم منهم من الخاصة و العامة إلى علي (عليه السلام).
و إذا كان القوم يدعون أمورا من الكرامات، و يتكلمون بأمور تناقض ظواهر الدين و حكم العقل مدعين أن لها معاني صحيحة لا ينالها فهم أهل الظاهر ثقل على الفقهاء و عامة المسلمين سماعها فأنكروا ذلك عليهم و قابلوهم بالتبري و التكفير، فربما أخذوا بالحبس أو الجلد أو القتل أو الصلب أو الطرد أو النفي كل ذلك لخلاعتهم و استرسالهم في أقوال يسمونها أسرار الشريعة، و لو كان الأمر على ما يدعون و كانت هي لب الحقيقة و كانت الظواهر الدينية كالقشر عليها و كان ينبغي إظهارها و الجهر بها لكان مشرع الشرع أحق برعاية حالها و إعلان أمرها كما يعلنون، و إن لم تكن هي الحق فما ذا بعد الحق إلا الضلال؟.
و القوم لم يدلوا في أول أمرهم على آرائهم في الطريقة إلا باللفظ ثم زادوا على ذلك بعد أن أخذوا موضعهم من القلوب قليلا بإنشاء كتب و رسائل بعد القرن الثالث الهجري، ثم زادوا على ذلك بأن صرحوا بآرائهم في الحقيقة و الطريقة جميعا بعد ذلك فانتشر منهم ما أنشئوه نظما و نثرا في أقطار الأرض.
و لم يزالوا يزيدون عدة و عدة و وقوعا في قلوب العامة و وجاهة حتى بلغوا غاية أوجهم في القرنين السادس و السابع ثم انتكسوا في المسير و ضعف أمرهم و أعرض عامة الناس عنهم.
و كان السبب في انحطاطهم أولا أن شأنا من الشئون الحيوية التي لها مساس بحال عامة الناس إذا اشتد إقبال النفوس عليه و تولع القلوب إليه تاقت إلى الاستدرار من طريقه نفوس و جمع من أرباب المطامع فتزيوا بزيه و ظهروا في صورة أهله و خاصته فأفسدوا فيه و تعقب ذلك تنفر الناس عنه.
و ثانيا: أن جماعة من مشايخهم ذكروا أن طريقة معرفة النفس طريقة مبتدعة لم يذكرها مشرع الشريعة فيما شرعه إلا أنها طريقة مرضية ارتضاها الله سبحانه كما ارتضى الرهبانية المبتدعة بين النصارى قال تعالى: «و رهبانية ابتدعوها ما كتبناها عليهم إلا ابتغاء رضوان الله فما رعوها حق رعايتها»: الحديد: 27.
و تلقاه الجمهور منهم بالقبول فأباح ذلك لهم أن يحدثوا للسلوك رسوما و آدابا لم تعهد في الشريعة، فلم تزل تبتدع سنة جديدة و تترك أخرى شرعية، حتى آل إلى أن صارت الشريعة في جانب، و الطريقة في جانب، و آل بالطبع إلى انهماك المحرمات و ترك الواجبات من شعائر الدين و رفع التكاليف، و ظهور أمثال القلندرية و لم يبق من التصوف إلا التكدي و استعمال الأفيون و البنج و هو الفناء.
و الذي يقضي به في ذلك الكتاب و السنة - و هما يهديان إلى حكم العقل - هو أن القول بأن تحت ظواهر الشريعة حقائق هي باطنها حق، و القول بأن للإنسان طريقا إلى نيلها حق، و لكن الطريق إنما هو استعمال الظواهر الدينية على ما ينبغي من الاستعمال لا غير، و حاشا أن يكون هناك باطن لا يهدي إليه ظاهر، و الظاهر عنوان الباطن و طريقه، و حاشا أن يكون هناك شيء آخر أقرب مما دل عليه شارع الدين غفل عنه أو تساهل في أمره أو أضرب عنه لوجه من الوجوه بالمرة و هو القائل عز من قائل: «و نزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شيء»: النحل: 89 و بالجملة فهذه طرق ثلاثة في البحث عن الحقائق و الكشف عنها: الظواهر الدينية و طريق البحث العقلي و طريق تصفية النفس، أخذ بكل منها طائفة من المسلمين على ما بين الطوائف الثلاث من التنازع و التدافع، و جمعهم في ذلك كزوايا المثلث كلما زدت في مقدار واحدة منها نقصت من الأخريين و بالعكس.
و كان الكلام في التفسير يختلف اختلافا فاحشا بحسب اختلاف مشرب المفسرين بمعنى أن النظر العلمي في غالب الأمر كان يحمل على القرآن من غير عكس إلا ما شذ.
و قد عرفت أن الكتاب يصدق من كل من الطرق ما هو حق، و حاشا أن يكون هناك باطن حق و لا يوافقه ظاهره، و حاشا أن يكون هناك حق من ظاهر أو باطن و البرهان الحق يدفعه و يناقضه.
و لذلك رام جمع من العلماء بما عندهم من بضاعة العلم على اختلاف مشاربهم أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و العرفان كابن العربي و عبد الرزاق الكاشاني و ابن فهد و الشهيد الثاني و الفيض الكاشاني.
و آخرون أن يوفقوا بين الفلسفة و العرفان كأبي نصر الفارابي و الشيخ السهروردي صاحب الإشراق و الشيخ صائن الدين محمد تركه.
و آخرون أن يوفقوا بين الظواهر الدينية و الفلسفة كالقاضي سعيد و غيره.
و آخرون أن يوفقوا بين الجميع كابن سينا في تفاسيره و كتبه و صدر المتألهين الشيرازي في كتبه و رسائله و عدة ممن تأخر عنه.
و مع ذلك كله فالاختلاف العريق على حاله لا تزيد كثرة المساعي في قطع أصله إلا شدة في التعرق، و لا في إخماد ناره إلا اشتعالا: ألفيت كل تميمة لا تنفع و أنت لا ترى أهل كل فن من هذه الفنون إلا ترمي غيره بجهالة أو زندقة أو سفاهة رأي، و العامة تتبرأ منهم جميعا.
كل ذلك لما تخلفت الأمة في أول يوم عن دعوة الكتاب إلى التفكر الاجتماعي و اعتصموا بحبل الله جميعا و لا تتفرقوا و الكلام ذو شجون.
اللهم اهدنا إلى ما يرضيك عنا و اجمع كلمتنا على الحق، و هب لنا من لدنك وليا، و هب لنا من لدنك نصيرا.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم كثيرا» الآية: أخرج ابن الضريس و النسائي و ابن جرير و ابن أبي حاتم و الحاكم و صححه عن ابن عباس قال: من كفر بالرجم فقد كفر بالقرآن من حيث لا يحتسب، قال تعالى: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم كثيرا مما كنتم تخفون من الكتاب» قال: فكان الرجم مما أخفوا.
أقول: إشارة إلى ما سيجيء في تفسير قوله تعالى: «يا أيها الرسول لا يحزنك» إلى آخر الآيات: المائدة: 41 من حديث كتمان اليهود حكم الرجم في عهد النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و كشفه عن ذلك.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «يبين لكم على فترة من الرسل» الآية قال: قال: على انقطاع من الرسل. و في الكافي، بإسناده عن أبي حمزة ثابت بن دينار الثمالي و أبي الربيع قال: حججنا مع أبي جعفر (عليه السلام) في السنة التي حج فيها هشام بن عبد الملك، و كان معه نافع مولى عمر بن الخطاب فنظر إلى أبي جعفر (عليه السلام) في ركن البيت و قد اجتمع عليه الناس فقال نافع: يا أمير المؤمنين من هذا الذي تداك عليه الناس؟ فقال: هذا نبي أهل الكوفة هذا محمد بن علي، فقال: اشهد لآتينه و لأسالنه عن مسائل لا يجيبني فيها إلا نبي أو وصي نبي قال: فاذهب فاسأله لعلك تخجله. فجاء نافع حتى اتكأ على الناس ثم أشرف على أبي جعفر (عليه السلام) فقال: يا محمد بن علي إني قرأت التوراة و الإنجيل و الزبور و الفرقان، و قد عرفت حلالها و حرامها و قد جئت أسألك عن مسائل لا يجيب فيها إلا نبي أو وصي نبي قال فرفع أبو جعفر (عليه السلام) رأسه فقال: سل عما بدا لك فقال: أخبرني كم بين عيسى و محمد من سنة؟ فقال: أخبرك بقولي أو بقولك؟ قال: أخبرني بالقولين جميعا قال: أما في قولي فخمسمائة سنة، و أما في قولك فستمائة سنة.
أقول: و قد روي في أسباب نزول الآيات، أخبار مختلفة كما رواه الطبري عن عكرمة: أن اليهود سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن حكم الرجم فسأل عن أعلمهم فأشاروا إلى ابن صوريا فناشده بالله هل يجدون حكم الرجم في كتابهم؟ فقال: إنه لما كثر فينا جلدنا مائة و حلقنا الرءوس، فحكم عليهم بالرجم فأنزل الله: «يا أهل الكتاب إلى قوله - صراط مستقيم» و ما رواه أيضا عن ابن عباس قال: أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ابن أبي، و بحري بن عمرو، و شاس بن عدي فكلمهم و كلموه، و دعاهم إلى الله و حذرهم نقمته فقالوا: ما تخوفنا يا محمد؟ نحن و الله أبناء الله و أحباؤه كقول النصارى فأنزل الله فيهم: «و قالت اليهود و النصارى» إلى آخر الآية.
و ما رواه أيضا عن ابن عباس قال: دعا رسول الله اليهود إلى الإسلام فرغبهم فيه و حذرهم فأبوا عليه؟ فقال لهم معاذ بن جبل و سعد بن عبادة و عقبة بن وهب: يا معشر اليهود اتقوا الله فوالله إنكم لتعلمون أنه رسول الله لقد كنتم تذكرونه لنا قبل مبعثه، و تصفونه لنا بصفته، فقال رافع بن حريملة و وهب بن يهودا: ما قلنا لكم هذا، و ما أنزل الله من كتاب من بعد موسى، و لا أرسل بشيرا و لا نذيرا بعده فأنزل الله: «يا أهل الكتاب قد جاءكم رسولنا - يبين لكم على فترة» الآية: و قد رواها في الدر المنثور، عنه و عن غيره و روي غير ذلك.
و مضامين الروايات كغالب ما ورد في أسباب نظرية إنما هي تطبيقات للقضايا على مضامين الآيات ثم قضاء بكونها أسبابا للنزول فهي أسباب نظرية و الآيات كأنها مطلقة نزولا.
|