بيان
قوله تعالى: «يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات» سؤال مطلق أوجب عنه بجواب عام مطلق فيه إعطاء الضابط الكلي الذي يميز الحلال من الحرام، و هو أن يكون ما يقصد التصرف فيه بما يعهد في مثله من التصرفات أمرا طيبا، و إطلاق الطيب أيضا من غير تقييده بشيء يوجب أن يكون المعتبر في تشخيص طيبه استطابة الأفهام المتعارفة ذلك فما يستطاب عند الأفهام العادية فهو طيب، و جميع ما هو طيب حلال.
و إنما نزلنا الحلية و الطيب على المتعارف المعهود لمكان أن الإطلاق لا يشمل غيره على ما بين في فن الأصول.
قوله تعالى: «و ما علمتم من الجوارح مكلبين تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم و اذكروا اسم الله عليه» قيل: إن الكلام معطوف على موضع الطيبات أي و أحل لكم ما علمتم من الجوارح أي صيد ما علمتم من الجوارح، فالكلام بتقدير مضاف محذوف اختصارا لدلالة السياق عليه.
و الظاهر أن الجملة معطوفة على موضع الجملة الأولى.
و «ما» في قوله: «و ما علمتم» شرطية و جزاؤها قوله «فكلوا مما أمسكن عليكم» من غير حاجة إلى تكلف التقدير.
و الجوارح جمع جارحة و هي التي تكسب الصيد من الطير و السباع كالصقر و البازي و الكلاب و الفهود، و قوله: «مكلبين» حال، و أصل التكليب تعليم الكلاب و تربيتها للصيد أو اتخاذ كلاب الصيد و إرسالها لذلك، و تقييد الجملة بالتكليب لا يخلو من دلالة على كون الحكم مختصا بكلب الصيد لا يعدوه إلى غيره من الجوارح.
و قوله: «مما أمسكن عليكم» التقييد بالظرف للدلالة على أن الحل محدود بصورة صيدها لصاحبها لا لنفسها.
و قوله: «و اذكروا اسم الله عليه» تتميم لشرائط الحل و أن يكون الصيد مع كونه مصطادا بالجوارح و من طريق التكليب و الإمساك على الصائد مذكورا عليه اسم الله تعالى.
و محصل المعنى أن الجوارح المعلمة بالتكليب - أي كلاب الصيد - إذا كانت معلمة و اصطادت لكم شيئا من الوحش الذي يحل أكله بالتذكية و قد سميتم عليه فكلوا منه إذا قتلته دون أن تصلوا إليه فذلك تذكية له، و أما دون القتل فالتذكية بالذبح و الإهلال به لله يغني عن هذا الحكم.
ثم ذيل الكلام بقوله: «و اتقوا الله إن الله سريع الحساب» إشعارا بلزوم اتقاء الله فيه حتى لا يكون الاصطياد إسرافا في القتل، و لا عن تله و تجبر كما في صيد اللهو و نحوه فإن الله سريع الحساب يجازي سيئة الظلم و العدوان في الدنيا قبل الآخرة، و لا يسلك أمثال هذه المظالم و العدوانات بالاغتيال و الفك بالحيوان العجم إلا إلى عاقبة سوأى على ما شاهدنا كثيرا.
قوله تعالى: «اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم» إعادة ذكر حل الطيبات مع ذكره في الآية السابقة، و تصديره بقوله: «اليوم» للدلالة على الامتنان منه تعالى على المؤمنين بإحلال طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين.
و كان ضم قوله: «أحل لكم الطيبات» إلى قوله: «و طعام الذين أوتوا الكتاب» إلخ من قبيل ضم المقطوع به إلى المشكوك فيه لإيجاد الطمأنينة في نفس المخاطب و إزالة ما فيه من القلق و الاضطراب كقول السيد لخادمه: لك جميع ما ملكتكه و زيادة هي كذا و كذا فإنه إذا ارتاب في تحقق ما يعده سيده من الإعطاء شفع ما يشك فيه بما يقطع به ليزول عن نفسه أذى الريب إلى راحة العلم، و من هذا الباب يوجه قوله تعالى: «للذين أحسنوا الحسنى و زيادة»: يونس: 26 و قوله تعالى: «لهم ما يشاءون فيها و لدينا مزيد»: ق: 35.
فكان نفوس المؤمنين لا تسكن عن اضطراب الريب في أمر حل طعام أهل الكتاب لهم بعد ما كانوا يشاهدون التشديد التام في معاشرتهم و مخالطتهم و مساسهم و ولايتهم حتى ضم إلى حديث حل طعامهم أمر حل الطيبات بقول مطلق ففهموا منه أن طعامهم من سنخ سائر الطيبات المحللة فسكن بذلك طيش نفوسهم، و اطمأنت قلوبهم و كذلك القول في قوله: «و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم». و أما قوله: «و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم و طعامكم حل لهم» فالظاهر أنه كلام واحد ذو مفاد واحد، إذ من المعلوم أن قوله: «و طعامكم حل لهم» ليس في مقام تشريع حكم الحل لأهل الكتاب، و توجيه التكليف إليهم و إن قلنا بكون الكفار مكلفين بالفروع الدينية كالأصول، فإنهم غير مؤمنين بالله و رسوله و بما جاء به رسوله و لا هم يسمعون و لا هم يقبلون، و ليس من دأب القرآن أن يوجه خطابا أو يذكر حكما إذا استظهر من المقام أن الخطاب معه يكون لغوا و التكليم معه يذهب سدى.
اللهم إلا إذا أصلح ذلك بشيء من فنون التكليم كالالتفات من خطاب الناس إلى خطاب النبي و نحو ذلك كقوله: «قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا و بينكم»: آل عمران: 64 و قوله: «قل سبحان ربي هل كنت إلا بشرا رسولا»: إسراء: 93 إلى غير ذلك من الآيات.
و بالجملة ليس المراد بقوله: «و طعام الذين»، بيان حل طعام أهل الكتاب للمسلمين حكما مستقلا و حل طعام المسلمين لأهل الكتاب حكما مستقلا آخر، بل بيان حكم واحد و هو ثبوت الحل و ارتفاع الحرمة عن الطعام، فلا منع في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين نظير قوله تعالى: «فإن علمتموهن مؤمنات فلا ترجعوهن إلى الكفار لا هن حل لهم و لا هم يحلون لهن»: الممتحنة: 10 أي لا حل في البين حتى يتعلق بأحد الطرفين.
ثم إن الطعام بحسب أصل اللغة كل ما يقتات به و يطعم لكن قيل: إن المراد به البر و سائر الحبوب ففي لسان العرب: و أهل الحجاز إذا أطلقوا اللفظ بالطعام عنوا به البر خاصة.
قال: و قال الخليل: العالي في كلام العرب أن الطعام هو البر خاصة، انتهى.
و هو الذي يظهر من كلام ابن الأثير في النهاية، و لهذا ورد في أكثر الروايات المروية عن أئمة أهل البيت (عليهم السلام): أن المراد بالطعام في الآية هو البر و سائر الحبوب إلا ما في بعض الروايات مما يظهر به معنى آخر و سيجيء الكلام فيه في البحث الروائي الآتي.
و على أي حال لا يشمل هذا الحل ما لا يقبل التذكية من طعامهم كلحم الخنزير، أو يقبلها من ذبائحهم لكنهم لم يذكوها كالذي لم يهل به لله، و لم يذك تذكية إسلامية فإن الله سبحانه عد هذه المحرمات المذكورة في آيات التحريم - و هي الآي الأربع التي في سور البقرة و المائدة و الأنعام و النحل - رجسا و فسقا و إثما كما بيناه فيما مر، و حاشاه سبحانه أن يحل ما سماه رجسا أو فسقا أو إثما امتنانا بمثل قوله «اليوم أحل لكم الطيبات».
على أن هذه المحرمات بعينها واقعة قبيل هذه الآية في نفس السورة، و ليس لأحد أن يقول في مثل المورد بالنسخ و هو ظاهر، و خاصة في مثل سورة المائدة التي ورد فيها أنها ناسخة غير منسوخة.
قوله تعالى: «و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم»، الإتيان في متعلق الحكم بالوصف أعني ما في قوله: «الذين أوتوا الكتاب» من غير أن يقال: من اليهود و النصارى مثلا أو يقال: من أهل الكتاب، لا يخلو من إشعار بالعلية و اللسان لسان الامتنان، و المقام مقام التخفيف و التسهيل، فالمعنى: أنا نمتن عليكم بالتخفيف و التسهيل في رفع حرمة الازدواج بين رجالكم و المحصنات من نساء أهل الكتاب لكونهم أقرب إليكم من سائر الطوائف غير المسلمة، و هم أوتوا الكتاب و أذعنوا بالتوحيد و الرسالة بخلاف المشركين و الوثنيين المنكرين للنبوة، و يشعر بما ذكرنا أيضا تقييد قوله: «أوتوا الكتاب» بقوله: «من قبلكم» فإن فيه إشعارا واضحا بالخطط و المزج و التشريك.
و كيف كان لما كانت الآية واقعة موقع الامتنان و التخفيف لم تقبل النسخ بمثل قوله تعالى: «و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن»: البقرة: 212 و قوله تعالى: «و لا تمسكوا بعصم الكوافر»: الممتحنة: 10 و هو ظاهر.
على أن الآية الأولى واقعة في سورة البقرة، و هي أول سورة مفصلة نزلت بالمدينة قبل المائدة: و كذا الآية الثانية واقعة في سورة الممتحنة، و قد نزلت بالمدينة قبل الفتح، فهي أيضا قبل المائدة نزولا، و لا وجه لنسخ السابق للاحق مضافا إلى ما ورد: أن المائدة آخر ما نزلت على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فنسخت ما قبلها، و لم ينسخها شيء.
على أنك قد عرفت في الكلام على قوله تعالى: «و لا تنكحوا المشركات حتى يؤمن»: الآية البقرة: 212 في الجزء الثاني من الكتاب أن الآيتين أعني آية البقرة و آية الممتحنة أجنبيتان من الدلالة على حرمة نكاح الكتابية.
و لو قيل بدلالة آية الممتحنة بوجه على التحريم كما يدل على سبق المنع الشرعي ورود آية المائدة في مقام الامتنان و التخفيف - و لا امتنان و لا تخفيف لو لم يسبق منع - كانت آية المائدة هي الناسخة لآية الممتحنة لا بالعكس لأن النسخ شأن المتأخر، و سيأتي في البحث الروائي كلام في الآية الثانية.
ثم المراد بالمحصنات في الآية: العفائف و هو أحد معان الإحصان، و ذلك أن قوله: «و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، يدل على أن المراد بالمحصنات غير ذوات الأزواج و هو ظاهر، ثم الجمع بين المحصنات من أهل الكتاب و المؤمنات على ما مر من توضيح معناها يقضي بأن المراد بالمحصنات في الموضعين معنى واحد، و ليس هو الإحصان بمعنى الإسلام لمكان قوله: و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب، و ليس المراد بالمحصنات الحرائر فإن الامتنان المفهوم من الآية لا يلائم تخصيص الحل بالحرائر دون الإماء، فلم يبق من معاني الإحصان إلا العفة فتعين أن المراد بالمحصنات العفائف.
و بعد ذلك كله إنما تصرح الآية بتشريع حل المحصنات من أهل الكتاب للمؤمنين من غير تقييد بدوام أو انقطاع إلا ما ذكره من اشتراط الأجر و كون التمتع بنحو الإحصان لا بنحو المسافحة و اتخاذ الأخدان، فينتج أن الذي أحل للمؤمنين منهن أن يكون على طريق النكاح عن مهر و أجر دون السفاح، من غير شرط آخر من نكاح دوام أو انقطاع، و قد تقدم في قوله تعالى: «فما استمتعتم به منهن فأتوهن»: الآية النساء: 24 في الجزء الرابع من الكتاب أن المتعة نكاح كالنكاح الدائم، و للبحث بقايا تطلب من علم الفقه.
قوله تعالى: «إذا آتيتموهن أجورهن محصنين غير مسافحين و لا متخذي أخدان» الآية في مساق قوله تعالى في آيات محرمات النكاح: «و أحل لكم ما وراء ذلك أن تبتغوا بأموالكم محصنين غير مسافحين»: النساء: 24. و الجملة قرينة على كون المراد بالآية بيان حلية التزوج بالمحصنات من أهل الكتاب من غير شمول منها لملك اليمين.
قوله تعالى: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله و هو في الآخرة من الخاسرين» الكفر في الأصل هو الستر فتحقق مفهومه يتوقف على أمر ثابت يقع عليه الستر كما أن الحجاب لا يكون حجابا إلا إذا كان هناك محجوب فالكفر يستدعي مكفورا به ثابتا كالكفر بنعمة الله و الكفر بآيات الله و الكفر بالله و رسوله و اليوم الآخر.
فالكفر بالإيمان يقتضي وجود إيمان ثابت، و ليس المراد به المعنى المصدري من الإيمان بل معنى اسم المصدر و هو الأثر الحاصل و الصفة الثابتة في قلب المؤمن أعني الاعتقادات الحقة التي هي منشأ الأعمال الصالحة، فيئول معنى الكفر بالإيمان إلى ترك العمل بما يعلم أنه حق كتولي المشركين، و الاختلاط بهم، و الشركة في أعمالهم مع العلم بحقية الإسلام، و ترك الأركان الدينية من الصلاة و الزكاة و الصوم و الحج مع العلم بثبوتها أركانا للدين.
فهذا هو المراد من الكفر بالإيمان لكن هاهنا نكتة و هي أن الكفر لما كان سترا و ستر الأمور الثابتة لا يصدق بحسب ما يسبق إلى الذهن إلا مع المداومة و المزاولة فالكفر بالإيمان إنما يصدق إذا ترك الإنسان العمل بما يقتضيه إيمانه، و يتعلق به علمه، و دام عليه، و أما إذا ستر مرة أو مرتين من غير أن يدوم عليه فلا يصدق عليه الكفر و إنما هو فسق أتى به.
و من هنا يظهر أن المراد بقوله: «و من يكفر بالإيمان» هو المداومة و الاستمرار عليه و إن كان عبر بالفعل دون الوصف.
فتارك الاتباع لما حق عنده من الحق، و ثبت عنده من أركان الدين كافر بالإيمان، حابط العمل كما قال تعالى: «فقد حبط عمله».
فالآية تنطبق على قوله تعالى: «و إن يروا سبيل الرشد لا يتخذوه سبيلا و إن يروا سبيل الغي يتخذوه سبيلا ذلك بأنهم كذبوا بآياتنا و كانوا عنها غافلين و الذين كذبوا بآياتنا و لقاء الآخرة حبطت أعمالهم هل يجزون إلا ما كانوا يعملون»: الأعراف: 174 فوصفهم باتخاذ سبيل الغي و ترك سبيل الرشد بعد رؤيتهما و هي العلم بهما ثم بدل ذلك بتوصيفهم بتكذيب الآيات، و الآية إنما تكون آية بعد العلم بدلالتها، ثم فسره بتكذيب الآخرة لما أن الآخرة لو لم تكذب منع العلم بها عن ترك الحق، ثم أخبر بحبط أعمالهم.
و نظير ذلك قوله تعالى: «قل هل ننبئكم بالأخسرين أعمالا الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا و هم يحسبون أنهم يحسنون صنعا أولئك الذين كفروا بآيات ربهم و لقائه فحبطت أعمالهم فلا نقيم لهم يوم القيامة وزنا»: الكهف: 150 و انطباق الآيات على مورد الكفر بالإيمان بالمعنى الذي تقدم بيانه ظاهر.
و بالتأمل فيما ذكرنا يظهر وجه اتصال الجملة أعني قوله: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله»، بما قبله فالجملة متممة للبيان السابق، و هي في مقام التحذير عن الخطر الذي يمكن أن يتوجه إلى المؤمنين بالتساهل في أمر الله، و الاسترسال مع الكفار فإن الله سبحانه إنما أحل طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم للمؤمنين ليكون ذلك تسهيلا و تخفيفا منه لهم، و ذريعة إلى انتشار كلمة التقوى، و سراية الأخلاق الطاهرة الإسلامية من المسلمين المتخلقين بها إلى غيرهم، فيكون داعية إلى العلم النافع، و باعثة نحو العمل الصالح.
فهذا هو الغرض من التشريع لا لأن يتخذ ذلك وسيلة إلى السقوط في مهابط الهوى، و الإصعاد في أودية الهوسات، و الاسترسال في حبهن و الغرام بهن، و التوله في جمالهن، فيكن قدوة تتسلط بذلك أخلاقهن و أخلاق قومهن على أخلاق المسلمين، و يغلب فسادهن على صلاحهم، ثم يكون البلوى و يرجع المؤمنون إلى أعقابهم القهقرى، و مآل ذلك عود هذه المنة الإلهية فتنة و محنة مهلكة، و صيرورة هذا التخفيف الذي هو نعمة نقمة.
فحذر الله المؤمنين بعد بيان حلية طعامهم و المحصنات من نسائهم أن لا يسترسلوا في التنعم بهذه النعمة استرسالا يؤدي إلى الكفر بالإيمان، و ترك أركان الدين، و الإعراض عن الحق فإن ذلك يوجب حبط العمل، و ينجر إلى خسران السعي في الآخرة.
و اعلم أن للمفسرين في هذه الآية أعني قوله: «اليوم أحل لكم الطيبات» إلى آخر الآية خوضا عظيما ردهم إلى تفاسير عجيبة لا يحتملها ظاهر اللفظ، و ينافيها سياق الآية كقول بعضهم: إن قوله: «أحل لكم الطيبات» يعني من الطعام كالبحيرة و السائبة و الوصيلة و الحامي، و قول بعضهم: إن قوله: «و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم» أي بمقتضى الأصل الأولي لم يحرمه الله عليكم قط، و إن اللحوم من الحل و إن لم يذكوها إلا بما عندهم من التذكية، و قول بعضهم: إن المراد بقوله: «و طعام الذين» هو مؤاكلتهم، و قول بعضهم: إن المراد بقوله: و المحصنات من المؤمنات و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» بيان الحلية بحسب الأصل من غير أن يكون محرما قبل ذلك بل قوله تعالى: «و أحل لكم ما وراء ذلكم»: النساء: 24 كاف في إحلالهن، و قول بعضهم: إن المراد بقوله: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله» التحذير عن رد ما في صدر الآية من قضية حل طعام أهل الكتاب و المحصنات من نسائهم.
فهذه و أمثالها معان احتملوها، و هي بين ما لا يخلو من مجازفة و تحكم كتقييد قوله: «اليوم أحل»، بما تقدم من غير دليل عليه و بين ما يدفعه ظاهر السياق من التقييد باليوم و الامتنان و التخفيف و غير ذلك مما تقدم بيانه و البيان السابق الذي استظهرنا فيه باعتبار ظواهر الآيات الكريمة كاف في إبطالها و إبانة وجه الفساد فيها.
و أما كون آية: «و أحل لكم ما وراء ذلكم» دالة على حل نكاح الكتابية فظاهر البطلان لظهور كون الآية في مقام بيان محرمات النساء و محللاتهن بحسب طبقات النسب و السبب لا بحسب طبقات الأديان و المذاهب.
بحث روائي
في الدر المنثور،: في قوله تعالى: «يسألونك ما ذا أحل لهم» الآية: أخرج ابن جرير عن عكرمة: أن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أبا رافع في قتل الكلاب فقتل حتى بلغ العوالي، فدخل عاصم بن عدي و سعد بن خيثمة و عويم بن ساعدة فقالوا: ما ذا أحل لنا يا رسول الله؟ فنزلت: «يسألونك ما ذا أحل لهم» الآية.
و فيه، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: لما أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بقتل الكلاب قالوا: يا رسول الله ما ذا أحل لنا من هذه الأمة؟ فنزلت: «يسألونك ما ذا أحل لهم» الآية.
أقول: الروايتان يشرح بعضهما بعضا فالمراد السؤال عما يحل لهم من الكلاب من حيث اتخاذها و استعمالها في مآرب مختلفة كالصيد و نحوه، و قوله تعالى: «يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات» لا يلائم هذا المعنى لتقيدها و إطلاق الآية.
على أن ظاهر الروايتين و الرواية الآتية إن قوله: «و ما علمتم من الجوارح» معطوف على موضع الطيبات، و المعنى: و أحل لكم ما علمتم، و لذلك التزم جمع من المفسرين على تقدير ما فيه كما تقدم، و قد تقدم أن الظاهر كون قوله: «و ما علمتم» شرطا جزاؤه قوله: «فكلوا مما أمسكن عليكم.
و المراد بالأمة المسئول عنها في الرواية نوع الكلاب على ما تفسره الرواية الآتية.
و فيه، أخرج الفاريابي و ابن جرير و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و الطبراني و الحاكم و صححه و البيهقي في سننه عن أبي رافع قال: جاء جبرئيل إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فاستأذن عليه فأذن له فأبطأ فأخذ رداءه فخرج فقال: قد أذنا لك قال: أجل و لكنا لا ندخل بيتا فيه كلب و لا صورة فنظروا فإذا في بعض بيوتهم جرو. قال أبو رافع: فأمرني أن أقتل كل كلب بالمدينة ففعلت، و جاء الناس فقالوا: يا رسول الله ما ذا يحل لنا من هذه الأمة التي أمرت بقتلها؟ فسكت النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل الله: «يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات - و ما علمتم من الجوارح مكلبين» فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): إذا أرسل الرجل كلبه و ذكر اسم الله فأمسك عليه فليأكل ما لم يأكل.
أقول ما ذكر في الرواية من كيفية نزول جبرئيل غريب في بابه على أن الرواية لا تخلو عن اضطراب حيث تدل على إمساك جبرائيل عن الدخول على النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) لوجود جرو في بعض بيوتهم على أنها لا تنطبق على ظاهر الآية من إطلاق السؤال و الجواب و العطف الذي في قوله و ما علمتم من الجوارح فالرواية أشبه بالموضوعة.
و فيه، أخرج عبد بن حميد و ابن جرير عن عامر: أن عدي بن حاتم الطائي أتى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فسأله عن صيد الكلاب فلم يدر ما يقول له حتى أنزل الله عليه هذه الآية في المائدة تعلمونهن مما علمكم الله.
أقول و في معناه غيره من الأخبار و الإشكال المتقدم آت فيه و الظاهر أن هذه الروايات و ما في معناها من تطبيق الحوادث على الآية غير أنه تطبيق غير تام و الظاهر أنهم ذكروا له (صلى الله عليه وآله وسلم) صيد الكلاب ثم سألوه عن ضابط كلي في تمييز الحلال من الحرام فذكر في الآية سؤالهم ثم أجيب بإعطاء الضابط الكلي بقوله يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات ثم أجيبوا في خصوص ما تذاكروا فيه فهذا هو الذي يفيده لحن القول في الآية.
و في الكافي، بإسناده عن حماد عن الحلبي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: في كتاب علي (عليه السلام) في قوله عز و جل و ما علمتم من الجوارح مكلبين قال هي الكلاب: أقول: و رواه العياشي في تفسيره، عن سماعة بن مهران عنه (عليه السلام). و فيه، بإسناده عن ابن مسكان عن الحلبي قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي يفتي و كان يتقي و نحن نخاف في صيد البزاة و الصقور، فأما الآن فإنا لا نخاف و لا يحل صيدها إلا أن تدرك ذكاته، فإنه في كتاب علي (عليه السلام): أن الله عز و جل قال: «و ما علمتم من الجوارح مكلبين» في الكلاب. و فيه، بإسناده عن أبي بكر الحضرمي عن أبي عبد الله (عليه السلام)، قال: سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب قال لا تأكلوا إلا ما ذكيتم إلا الكلاب، قلت: فإن قتله؟ قال: كل فإن الله يقول: «و ما علمتم من الجوارح مكلبين - تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم، ثم قال: كل شيء من السباع يمسك الصيد على نفسها إلا الكلاب معلمة؟ فإنها تمسك على صاحبها قال: و إذا أرسلت الكلب فاذكر اسم الله عليه فهو ذكاته. و في تفسير العياشي، عن أبي عبيدة عن أبي عبد الله (عليه السلام): عن الرجل سرح الكلب المعلم، و يسمي إذا سرحه، قال: يأكل مما أمسكن عليه و إن أدركه و قتله. و إن وجد معه كلب غير معلم فلا تأكل منه. قلت: فالصقور و العقاب و البازي؟ قال: إن أدركت ذكاته فكل منه، و إن لم تدرك ذكاته فلا تأكل منه. قلت: فالفهد ليس بمنزلة الكلب؟ قال: فقال: لا، ليس شيء مكلب إلا الكلب. و فيه، عن أبي بصير عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله: «ما علمتم من الجوارح مكلبين - تعلمونهن مما علمكم الله فكلوا مما أمسكن عليكم - و اذكروا اسم الله عليه قال: لا بأس بأكل ما أمسك الكلب مما لم يأكل الكلب منه فإذا أكل الكلب منه قبل أن تدركه فلا تأكله.
أقول: و الخصوصيات المأخوذة في الروايات كاختصاص الحل عند القتل بصيد الكلب لقوله تعالى: «مكلبين» و قوله: «مما أمسكن عليكم» و اشتراط أن لا يشاركه كلب غير معلم كل ذلك مستفاد من الآية.
و قد تقدم بعض الكلام في ذلك.
و فيه، عن حريز عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن كلب المجوس يكلبه المسلم و يسمي و يرسله قال: نعم إنه مكلب إذا ذكر اسم الله عليه فلا بأس.
أقول: و فيه الأخذ بإطلاق قوله «مكلبين» و قد روي في الدر المنثور، عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس: في المسلم يأخذ كلب المجوسي المعلم أو بازه أو صقره مما علمه المجوسي فيرسله فيأخذه قال: لا تأكله و إن سميت لأنه من تعليم المجوسي و إنما قال: «تعلمونهن مما علمكم الله» و ضعفه ظاهر، فإن الخطاب في قوله: «مما علمكم الله» و إن كان متوجها إلى المؤمنين ظاهرا إلا أن الذي علمهم الله مما يعلمونه الكلاب ليس غير ما علمه الله المجوس و غيرهم.
و هذا المعنى يساعد فهم السامع أن يفهم أن لا خصوصية لتعليم المؤمن من حيث إنه تعليم المؤمن، فلا فرق في الكلب المعلم بين أن يكون معلمه مسلما أو غير مسلم كما لا فرق من جهة الملك بين كونه مملوكا للمسلم و مملوكا لغيره.
و في تفسير العياشي، عن هشام بن سالم عن أبي عبد الله (عليه السلام): في قول الله تبارك و تعالى: «و طعامهم حل لكم» قال: العدس و الحبوب و أشباه ذلك يعني أهل الكتاب أقول: و رواه في التهذيب، عنه، و لفظه: قال: العدس و الحمص و غير ذلك و في الكافي، و التهذيب، في روايات عن عمار بن مروان و سماعة عن أبي عبد الله (عليه السلام): في طعام أهل الكتاب و ما يحل منه، قال: الحبوب و في الكافي، بإسناده عن ابن مسكان، عن قتيبة الأعشى قال: سأل رجل أبا عبد الله و أنا عنده فقال له: الغنم يرسل فيها اليهودي و النصراني فتعرض فيها العارضة فتذبح أ يؤكل ذبيحته؟ فقال أبو عبد الله (عليه السلام): لا تدخل ثمنها في مالك و لا تأكلها فإنما هي الاسم و لا يؤمن عليها إلا مسلم، فقال له الرجل: قال الله تعالى: «اليوم أحل لكم الطيبات و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم» فقال أبو عبد الله (عليه السلام): كان أبي يقول: إنما هي الحبوب و أشباهها:. أقول: و رواه الشيخ في التهذيب، و العياشي في تفسيره عن قتيبة الأعشى عنه (عليه السلام).
و الأحاديث - كما ترى - تفسر طعام أهل الكتاب المحلل في الآية بالحبوب و أشباهها، و هو الذي يدل عليه لفظ الطعام عند الإطلاق كما هو ظاهر من الروايات و القصص المنقولة عن الصدر الأول، و لذلك ذهب المعظم من علمائنا إلى حصر الحل في الحبوبات و أشباهها و ما يتخذ منها مما يتغذى به.
و قد شدد النكير عليهم بعضهم بأن ذلك مما يخالف عرف القرآن في استعمال الطعام.
قال، ليس هذا هو الغالب في لغة القرآن، فقد قال الله تعالى في هذه السورة - أي المائدة -: «أحل لكم صيد البحر و طعامه متاعا لكم و للسيارة» و لا يقول أحد: إن الطعام من صيد البحر هو البر أو الحبوب.
و قال: «كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل إلا ما حرم إسرائيل على نفسه» و لم يقل أحد: إن الطعام هنا البر أو الحب مطلقا، إذ لم يحرم شيء منه على بني إسرائيل لا قبل التوراة و لا بعدها، فالطعام في الأصل كل ما يطعم أي يذاق أو يؤكل، قال تعالى في ماء النهر حكاية عن طالوت: «فمن شرب منه فليس مني و من لم يطعمه فإنه مني»، و قال: «فإذا طعمتم فانتشروا» أي أكلتم.
و ليت شعري ما ذا فهم من قولهم: «الطعام إذا أطلق كان المراد به الحبوب و أشباهها» فلم يلبث حتى أورد عليهم بمثل قوله: «يطعمه» و قوله: «طعمتم» من مشتقات الفعل؟ و إنما قالوا ما قالوا في لفظ الطعام، لا في الأفعال المصوغة منه.
و أورد بمثل: «و طعام البحر» و الإضافة أجلى قرينة، فليس ينبت في البحر بر و لا شعير.
و أورد بمثل: «كل الطعام كان حلا لبني إسرائيل» ثم ذكر هو نفسه أن من المعلوم من دينهم أنهم لم يحرم عليهم البر أو الحب.
و كان ينبغي عليه أن يراجع من القرآن موارد أطلق اللفظ فيها إطلاقا ثم يقول ما هو قائله كقوله: «فدية طعام مسكين»: البقرة: 148 و قوله: «أو كفارة طعام مساكين»: المائدة: 95 و قوله: «و يطعمون الطعام»: الإنسان: 8 و قوله: «فلينظر الإنسان إلى طعامه»: عبس: 24 و نحو ذلك.
ثم قال: و ليس الحب مظنة للتحليل و التحريم، و إنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك لوصف حسي كموت الحيوان حتف أنفه، أو معنوي كالتقرب به إلى غير الله و لذلك قال تعالى: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه إلا أن يكون ميتة أو دما مسفوحا»: الآية الأنعام: 154 و كله يتعلق بالحيوان و هو نص في حصر التحريم فيما ذكر، فتحريم ما عداه يحتاج إلى نص.
و كلامه هذا أعجب من سابقه: أما قوله: ليس الحب مظنة للتحليل و التحريم و إنما اللحم هو الذي يعرض له ذلك، فيقال له: في أي زمان يعني ذلك؟ أ في مثل هذه الأزمنة و قد استأنس الأذهان بالإسلام و عامة أحكامه منذ عدة قرون، أم في زمان النزول و لم يمض من عمر الدين إلا عدة سنين؟ و قد سألوا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) عن أشياء هي أوضح من حكم الحبوب و أشباهها و أجلى، و قد حكى الله تعالى بعض ذلك كما في قوله: «يسألونك ما ذا ينفقون»: البقرة: 251 و قد روى عبد بن حميد عن قتادة قال: ذكر لنا أن رجالا قالوا: كيف نتزوج نساءهم و هم على دين و نحن على دين فأنزل الله: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله» الحديث.
و قد مر و سيجيء لهذا القول نظائر في تضاعيف الروايات كما نقلناه في حج التمتع و غير ذلك.
و إذا كانوا يقولون مثل هذا القول بعد نزول الآية بحلية المحصنات من نساء أهل الكتاب فما الذي يمنعهم أن يسألوا قبل نزول الآية عن مؤاكلة أهل الكتاب، و الأكل مما يؤخذ منهم من الحبوب، و الأغذية المتخذة من ذلك كالخبز و الهريسة و سائر الأغذية التي تتخذ من الحبوب و أمثالها إذا عملها أهل الكتاب، و هم على دين، و نحن على دين و قد حذر الله المؤمنين عن موادتهم و موالاتهم و الاقتراب منهم، و الركون إليهم في آيات كثيرة؟.
بل هذا الكلام مقلوب عليه في قوله: إن اللحم هو المظنة للتحريم و التحليل فكيف يسعهم أن يسألوا عنه و قد بين الله عامة محرمات اللحوم في آية الأنعام: «قل لا أجد فيما أوحي إلي محرما على طاعم يطعمه»: الأنعام: 154 ثم في آية النحل و هما مكيتان، ثم في آية البقرة و هي قبل المائدة نزولا، ثم في قوله: «حرمت عليكم الميتة» و هي قبل هذه الآية؟.
و الآية على قول هذا القائل نص أو كالنص في عدم تحريم ذبائحهم، فكيف صح لهؤلاء أن يسألوا عن حلية ذبائح أهل الكتاب و قد نزلت الآيات مكيتها و مدنيتها مرة بعد أخرى في أمرها و دلت على حليتها، و استقر العمل على حفظها و تلاوتها و تعلمها و العمل بها؟.
و أما قوله: إن آية الأنعام نص في حصر المحرمات فيما ذكر فيها فحرمه غيرها كذبيحة أهل الكتاب يحتاج إلى دليل، فلا شك في احتياج كل حكم إلى دليل يقوم عليه، و هذا الكلام صريح منه في أن هذا الحصر إنما ينفع إذا لم يكن هناك دليل يقوم على تحريم أمر آخر وراء ما ذكر في الآية.
و على هذا فإن كان مراده بالدليل ما يشمل السنة فالقائل بتحريم ذبائح أهل الكتاب يستند في ذلك إلى ما ورد من الروايات في الآية و قد نقلنا بعضا منها فيما تقدم.
و إن أراد الدليل من الكتاب فمع أنه تحكم لا دليل عليه إذ السنة قرينة الكتاب لا يفترقان في الحجية يسأل عنه ما ذا يقول في ذبيحة الكفار غير أهل الكتاب كالوثنيين و الماديين؟ أ فيحرمها لكونها ميتة فاقدة للتذكية الشرعية؟ فما الفرق بين عدم التذكية بعدم الاستقبال و عدم ذكر الله عليه أصلا و بين التذكية التي هي غير التذكية الإسلامية و ليس يرتضيها الله سبحانه و قد نسخها؟ فالجميع خبائث في نظر الدين، و قد حرم الله الخبائث، قال تعالى: «و يحل لهم الطيبات و يحرم عليهم الخبائث»: الأعراف: 175 و قد قال تعالى في الآية: «السابقة على هذه الآية يسألونك ما ذا أحل لهم قل أحل لكم الطيبات» و لحن السؤال و الجواب فيها أوضح دليل على حصر الحل في الطيبات، و كذا ما في أول هذه الآية من قوله: «اليوم أحل لكم الطيبات» و المقام مقام الامتنان يدل على الحصر المذكور.
و إن كان تحريم ذبائح الكفار لكونها بالإهلال به لغير الله كالذبح باسم الأوثان عاد الكلام بعدم الفرق بين الإهلال به لغير الله، و الإهلال به لله على طريقة منسوخة لا يرتضيها الله سبحانه.
ثم قال: و قد شدد الله فيما كان عليه مشركوا العرب من أكل الميتة بأنواعها المتقدمة و الذبح للأصنام لئلا يتساهل به المسلمون الأولون تبعا للعادة، و كان أهل الكتاب أبعد منهم عن أكل الميتة و الذبح للأصنام.
و قد نسي أن النصارى من أهل الكتاب يأكلون لحم الخنزير، و قد ذكره الله تعالى و شدد عليه، و أنهم يأكلون جميع ما تستبيحه المشركون لارتفاع التحريم عنهم بالتفدية.
على أن هذا استحسان سخيف لا يجدي نفعا و لا يعول على مثله في تفسير كلام الله و فهم معاني آياته، و لا في فقه أحكام دينه.
ثم قال: و لأنه كان من سياسة الدين التشديد في معاملة مشركي العرب حتى لا يبقى في الجزيرة أحد إلا و يدخل في الإسلام و خفف في معاملة أهل الكتاب، ثم ذكر موارد من فتيا بعض الصحابة بحلية ما ذبحوه للكنائس و غير ذلك.
و هذا الكلام منه مبني على ما يظهر من بعض الروايات أن الله اختار العرب على غيرهم من الأمم، و أن لهم كرامة على غيرهم.
و لذلك كانوا يسمون غيرهم بالموالي، و لا يلائمه ظاهر الآيات القرآنية، و قد قال الله تعالى: «يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر و أنثى و جعلناكم شعوبا و قبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم»: الحجرات: 13 و من طرق أئمة أهل البيت (عليهم السلام) أحاديث كثيرة في هذا المعنى.
و لم يجعل الإسلام في دعوته العرب في جانب و غيرهم في جانب، بل إنما جعل غير أهل الكتاب من المشركين سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فلم يقبل منهم إلا أن يسلموا و يؤمنوا، و أهل الكتاب سواء كانوا عربا أو غيرهم في جانب، فقبل منهم الدخول في الذمة و إعطاء الجزية إلا أن يسلموا.
و هذا الوجه بعد تمامه لا يدل على أزيد من التساهل في حقهم في الجملة لإبهامه، و أما أنه يجب أن يكون بإباحة ذبائحهم إذا ذبحوها على طريقتهم و سنتهم فمن أين له الدلالة على ذلك؟ و هو ظاهر.
و أما ما ذكره من عمل بعض الصحابة و قولهم إلى غير ذلك فلا حجية فيه.
فقد تبين من جميع ما تقدم عدم دلالة الآية و لا أي دليل آخر على حلية ذبائح أهل الكتاب إذا ذبحت بغير التذكية الإسلامية.
فإن قلنا بحلية ذبائحهم للآية كما نقل عن بعض أصحابنا فلنقيدها بما إذا علم وقوع الذبح عن تذكية شرعية كما يظهر من قول الصادق (عليه السلام) في خبر الكافي، و التهذيب، المتقدم: «فإنما هي الاسم و لا يؤمن عليها إلا مسلم» الحديث.
و للكلام تتمة تطلب من الفقه.
و في تفسير العياشي، عن الصادق (عليه السلام): في قوله تعالى: «و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» الآية قال: هن العفائف و فيه، عنه (عليه السلام): في قوله: «و المحصنات من المؤمنات» الآية قال: هن المسلمات. و في تفسير القمي، عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) قال: و إنما يحل نكاح أهل الكتاب الذين يؤدون الجزية، و غيرهم لم تحل مناكحتهم.
أقول: و ذلك لكونهم محاربين حينئذ.
و في الكافي، و التهذيب، عن الباقر (عليه السلام): إنما يحل منهن نكاح البله. و في الفقيه، عن الصادق (عليه السلام): في الرجل المؤمن يتزوج النصرانية و اليهودية قال: إذا أصاب المسلمة فما يصنع باليهودية و النصرانية؟ فقيل: يكون له فيها الهوى فقال: إن فعل فليمنعها من شرب الخمر و أكل لحم الخنزير و اعلم أن عليه في دينه غضاضة و في التهذيب، عن الصادق (عليه السلام) قال: لا بأس أن يتمتع الرجل باليهودية و النصرانية و عنده حرة. و في الفقيه، عن الباقر (عليه السلام): أنه سئل عن الرجل المسلم أ يتزوج المجوسية؟ قال: لا، و لكن إن كانت له أمة مجوسية فلا بأس أن يطأها، و يعزل عنها، و لا يطلب ولدها. و في الكافي، بإسناده عن عبد الله بن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) في حديث: قال: و ما أحب للرجل المسلم أن يتزوج اليهودية و النصرانية مخافة أن يتهود ولده أو يتنصر. و في الكافي، بإسناده عن زرارة، و في تفسير العياشي، عن مسعدة بن صدقة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تعالى: «و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» فقال: منسوخة بقوله: «و لا تمسكوا بعصم الكوافر». أقول: و يشكل بتقدم قوله: «و لا تمسكوا» الآية على قوله: «و المحصنات» الآية نزولا و لا يجوز تقدم الناسخ على المنسوخ.
مضافا إلى ما ورد أن سورة المائدة ناسخة غير منسوخة، و قد تقدم الكلام فيه.
و من الدليل على أن الآية غير منسوخة ما تقدم من الرواية الدالة على جواز التمتع بالكتابية و قد عمل بها الأصحاب و قد تقدم في آية المتعة أن التمتع نكاح و تزويج.
نعم لو قيل بكون قوله: «و لا تمسكوا بعصم الكوافر» الآية مخصصا متقدما خرج به النكاح الدائم من إطلاق قوله: «و المحصنات من الذين أوتوا الكتاب من قبلكم» لدلالته على النهي عن الإمساك بالعصمة، و هو ينطبق على النكاح الدائم كما ينطبق على إبقاء عصمة الزوجية بعد إسلام الزوج و هو مورد نزول الآية.
و لا يصغى إلى قول من يعترض عليه بكون الآية نازلة في إسلام الزوج مع بقاء الزوجة على الكفر، فإن سبب النزول لا يقيد اللفظ في ظهوره، و قد تقدم في تفسير آية النسخ من سورة البقرة في الجزء الأول من الكتاب أن النسخ في عرف القرآن و بحسب الأصل يعم غير النسخ المصطلح كالتخصيص.
و في بعض الروايات أيضا أن الآية منسوخة بقوله: «و لا تنكحوا المشركات» الآية و قد تقدم الإشكال فيه، و للكلام تتمة تطلب من الفقه.
و في تفسير العياشي،: في قوله تعالى: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله» الآية: عن أبان بن عبد الرحمن قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: أدنى ما يخرج به الرجل من الإسلام أن يرى الرأي بخلاف الحق فيقيم عليه قال: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله»، و قال (عليه السلام): الذي يكفر بالإيمان الذي لا يعمل بما أمر الله به و لا يرضى به. و فيه، عن محمد بن مسلم عن أحدهما (عليهما السلام) قال: هو ترك العمل حتى يدعه أجمع.
أقول: و قد تقدم ما يتضح به ما في هذه الأخبار من خصوصيات التفسير.
و فيه، عن عبيد بن زرارة قال: سألت أبا عبد الله (عليه السلام) عن قول الله عز و جل: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله» قال: ترك العمل الذي أقربه، من ذلك أن يترك الصلاة من غير سقم و لا شغل.
أقول: و قد سمى الله تعالى الصلاة إيمانا في قوله: «و ما كان الله ليضيع إيمانكم» البقرة: 134 و لعله (عليه السلام) خصها بالذكر لذلك.
و في تفسير القمي، قال (عليه السلام): من آمن ثم أطاع أهل الشرك و في البصائر، عن أبي حمزة قال: سألت أبا جعفر (عليه السلام) عن قول الله تبارك و تعالى: «و من يكفر بالإيمان فقد حبط عمله - و هو في الآخرة من الخاسرين» قال: تفسيرها في بطن القرآن: و من يكفر بولاية علي. و علي هو الإيمان.
أقول: هو من البطن المقابل للظهر بالمعنى الذي بيناه في الكلام على المحكم و المتشابه في الجزء الثالث من الكتاب و يمكن أن يكون من الجري و التطبيق على المصداق، و قد سمى رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عليا (عليه السلام) إيمانا حينما برز إلى عمرو بن عبد ود يوم الخندق حيث قال (صلى الله عليه وآله وسلم): «برز الإيمان كله إلى الكفر كله».
و في هذا المعنى بعض روايات أخر
|