بيان
اتصال الآيات بما قبلها واضح لا غبار عليه، و الكلام مسرود في التوحيد.
قوله تعالى: «اتبع ما أوحي إليك من ربك لا إله إلا هو و أعرض عن المشركين» أمر باتباع ما أوحي إليه من ربه من أمر التوحيد و أصول شرائع الدين من غير أن يصده ما يشاهده من استكبار المشركين عن الخضوع لكلمة الحق و الإعراض عن دعوة الدين.
و في قوله: «من ربك» المشعر بمزيد الاختصاص تلويح إلى شمول العناية الخاصة الإلهية إلا أن قوله: «من ربك» لما كان ملحوقا بقوله: «و أعرض عن المشركين» و كان ذلك ربما يوهم أن المراد: اتبع الوحي و اعبد ربك، و أعرض عنهم يعبدوا أربابهم، و لا يخلو ذلك عن إمضاء لطريقتهم و شركهم قدم على قوله: «و أعرض» إلخ، قوله: «لا إله إلا هو» ليندفع به هذا الوهم، و يجلو معنى قوله: «و أعرض» إلخ، و يأخذ موضعه.
فالمعنى: اتبع ما أوحي إليك من ربك الذي له العناية البالغة بك و الرحمة المشتملة عليك إذ خصك بوحيه و أيدك بروح الاتباع، و أعرض عن هؤلاء المشركين لا بأن تدعهم و ما يعبدون و تسكت راضيا بما يشركون فيكون ذلك إمضاء للوثنية فإنما الإله واحد و هو ربك الذي يوحي إليك لا إله إلا هو بل إن تعرض عنهم فلا تجهد نفسك في حملهم على التوحيد و لا تتحمل شقا فوق طاقتك فإنما عليك البلاغ و لست عليهم بحفيظ و لا وكيل، و إنما الحفيظ الوكيل هو الله و لم يشأ لهم التوحيد و لو شاء ما أشركوا لكنه تركهم و ضلالهم لأنهم أعرضوا عن الحق و استنكفوا عن الخضوع له.
قوله تعالى: «و لو شاء الله ما أشركوا و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم بوكيل» تطييب لقلب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن لا يجد لشركهم و لا يحزن لخيبة المسعى في دعوتهم فإنهم غير معجزين لله فيما أشركوا فإنما المشية لله لو شاء ما أشركوا بل تلبسوا بالإيمان عن طوع و رغبة كما تلبس من وفق للإيمان و ذلك أنهم استكبروا في الأرض و استعلوا على الله و مكروا به و قد أهلكوا بذلك أنفسهم فرد الله مكرهم إليهم و حرمهم التوفيق للإيمان و الاهتداء إذ كما أن السنة الجارية في التكوين هي سنة الأسباب و قانون العلية و المعلولية العام، و المشية الإلهية إنما تتعلق بالأشياء و تقع على الحوادث على وفقها فما تمت فيه العلل و الشرائط و ارتفعت عن وجوده الموانع كان هو الذي تتعلق بتحققه المشية الإلهية و إن كان الله سبحانه له فيه المشية مطلقا إن لم يشأه لم يكن و إن شاء كان، كذلك السنة في نظام التشريع و الهداية هي سنة الأسباب فمن استرحم الله رحمه و من أعرض عن رحمته حرمه، و الهداية بمعنى إراءة الطريق تعم الجميع فمن تعرض لهذه النفحة الإلهية و لم يقطع طريق وصولها إليه بالفسق و الكفر و العناد شملته و أحيته بأطيب الحياة، و من اتبع هواه و عاند الحق و استعلى على الله، و أخذ يمكر بالله و يستهزىء بآياته حرمه الله السعادة و أنزل الله عليه الشقوة و أضله على علم و طبع عليه بالكفر فلا ينجو أبدا.
و لو لا جريان المشية الإلهية على هذه السنة بطل نظام الأسباب و قانون العلية و المعلولية و حلت الإرادة الجزافية محله و لغت المصالح و الحكم و الغايات، و أدى فساد هذا النظام إلى فساد نظام التكوين لأن التشريع ينتهي بالأخرة إلى التكوين بوجه و دبيب الفساد إليه يؤدي إلى فساد أصله.
و هذا كما أن الله سبحانه لو اضطر المشركين على الإيمان و خرج بذلك النوع الإنساني عن منشعب طريقي الإيمان و الكفر، و سقط الاختيار الموهوب له و لازم بحسب الخلقة الإيمان، و استقر في أول وجوده على أريكة الكمال، و تساوى الجميع في القرب و الكرامة كان لازم ذلك بطلان نظام الدعوة و لغو التربية و التكميل، و ارتفع الاختلاف بين الدرجات، و أدى ذلك إلى بطلان اختلاف الاستعدادات و الأعمال و الأحوال و الملكات و انقلب بذلك النظام الإنساني و ما يحيط به و يعمل فيه من نظام الوجود إلى نظام آخر لا خبر فيه عن إنسان أو ما يشعر به فافهم ذلك.
و من هنا يظهر أن لا حاجة إلى حمل قوله: «و لو شاء الله ما أشركوا» على الإيمان الاضطراري، و أن المراد أن لو شاء الله أن يتركوا الشرك قهرا و إجبارا لاضطرهم إلى ذلك و ذلك أن الذي تقدم من أن المراد تعلق المشية الإلهية على تركهم الشرك اختيارا كما تعلقت بذلك في المؤمنين سواء هو الأوفق بكمال القدرة، و الأنسب بتسلية النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و تطييب قلبه.
فالمعنى: أعرض عنهم و لا يأخذك من جهة شركهم وجد و لا حزن فإن الله قادر أن يشاء منهم الإيمان فيؤمنوا كما شاء ذلك من المؤمنين فآمنوا.
على أنك لست بمسئول عن أمرهم لا تكوينا و لا غيره فلتطب نفسك.
و يظهر من ذلك أيضا أن قوله: «و ما جعلناك عليهم حفيظا و ما أنت عليهم بوكيل» أيضا مسوق سوق التسلية و تطييب النفس، و كأن المراد بالحفيظ القائم على إدارة شئون وجودهم كالحياة و النشوء و الرزق و نحوها، و بالوكيل القائم على إدارة الأعمال ليجلب بذلك المنافع و يدفع المضار المتوجهة إلى الموكل عنه من ناحيتها فمحصل المراد بقوله: «و ما جعلناك» إلخ، أن ليس إليك أمر حياتهم الكونية و لا أمر حياتهم الدينية حتى يحزنك ردهم لدعوتك و عدم إجابتهم إلى طلبتك.
و ربما يقال: إن المراد بالحفيظ من يدفع الضرر ممن يحفظه و بالوكيل من يجلب المنافع إلى من يتوكل عنه، و لا يخلو عن بعد فإن الحفيظ فيما يتبادر من معناه يختص بالتكوين و الوكيل يعم التكوين و غيره، و لا كثير جدوى في حمل إحدى الجملتين على جهة تكوينية، و الأخرى على ما يعمها و غيرها بل الوجه حمل الأولى على إحدى الجهتين، و الأخرى على الأخرى.
قوله تعالى: «و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدوا بغير علم» السب معروف، قال الراغب في المفردات،: العدو التجاوز و منافاة الالتيام فتارة يعتبر بالقلب فيقال له: العداوة و المعاداة، و تارة بالمشي فيقال له العدو، و تارة في الإخلال بالعدالة في المعاملة فيقال له العدوان و العدو قال: فيسبوا الله عدوا بغير علم و تارة بأجزاء المقر فيقال له العدواء يقال مكان ذو عدواء أي غير متلائم الأجزاء.
انتهى.
و الآية تذكر أدبا دينيا تصان به كرامة مقدسات المجتمع الديني و تتوقى ساحتها أن يتلوث بدرن الإهانة و الإزراء بشنيع القول و السب و الشتم و السخرية و نحوها فإن الإنسان مغروز على الدفاع عن كرامة ما يقدسه، و المقابلة في التعدي على من يحسبه متعديا إلى نفسه، و ربما حمله الغضب على الهجر و السب لما له عنده أعلى منزلة العزة و الكرامة فلو سب المؤمنون آلهة المشركين حملتهم عصبية الجاهلية أن يعارضوا المؤمنين بسب ما له عندهم كرامة الألوهية و هو الله عز اسمه ففي سب آلهتهم نوع تسبيب إلى ذكره تعالى بما لا يليق بساحة قدسه و كبريائه.
و عموم التعليل المفهوم من قوله: «كذلك زينا لكل أمة عملهم» يفيد عموم النهي لكل قول سيىء يؤدي إلى ذكر شيء من المقدسات الدينية بالسوء بأي وجه أدى.
قوله تعالى: «كذلك زينا لكل أمة عملهم ثم إلى ربهم مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون» الزينة أمر جميل محبوب يضم إلى شيء ضما يجلب الرغبة إليه و يحببه عند طالبه فيتحرك نحو الزينة و ينتهي إلى الشيء المتزين بها كاللباس المزين بهيئته الحسنة الذي يلبسه الإنسان لزينته فيصان به بدنه عن الحر و البرد.
و قد أراد الله سبحانه أن يعيش الإنسان هذه العيشة الدنيوية ذات الشعب و الفروع و يديم حياته الأرضية الخاصة به من طريق إعمال قواه الفعالة فيدرك ما ينفعه و ما يضره بحواسه الظاهرة ثم يتصرف فيها بحواسه و قواه الباطنة ثم يتغذى بأكل أشياء و شرب أشياء و يهيج إلى النكاح بأعمال خاصة و يلبس و يأوي و يجلب و يدفع و هكذا.
و له في جميع هذه الأعمال و ما يتعلق بها لذائذ يقارنها و غايات حيوية ينتهي إليها و آخر ما ينتهي إليه الحياة السعيدة الحقيقية التي خلق لها أو الحياة التي يظنها الحياة السعيدة الحقيقية.
و هو إنما يقصد بما يعمله من عمل ما يتصل به من اللذة المادية كلذة الطعام و الشراب و النكاح و غير ذلك أو اللذة الفكرية كلذة الدواء و لذة التقدم و الأنس و المدح و الفخر و الذكر الخالد و الانتقام و الثروة و الأمن و غير ذلك مما لا يحصى.
و هذه اللذائذ أمور زينت بها هذه الأعمال و متعلقاتها، و قد سخر الله سبحانه بها الإنسان فهو يوقع الأفعال و يتوخى الأعمال لأجلها، و بتحققها يتحقق الغايات الإلهية و الأغراض التكوينية كبقاء الشخص، و دوام النسل، و لو لا ما في الأكل و الشرب و النكاح من اللذة المطلوبة لم يكن الإنسان ليتعب نفسه بهذه الحركات الشاقة المتعبة لجسمه و الثقيلة على روحه فاختل بذلك نظام الحياة، و فنى الشخص، و انقطع النسل فانقرض النوع، و بطلت حكمة التكوين بلا ريب في ذلك.
و ما كان من هذه الزينة طبيعية مغروزة في طبائع الأشياء كالطعوم اللذيذة التي في أنواع الأغذية و لذة النكاح فهي مستندة إلى الخلقة منسوبة إلى الله سبحانه واقعة في طريق سوق الأشياء إلى غاياتها التكوينية، و لا سائق لها إليها إلا الله سبحانه فهو الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى.
و ما كان منها لذة فكرية تصلح حياة الإنسان في دنياه و لا تضره في آخرته فهي منسوبة أيضا إلى الله سبحانه لأنها ناشئة عن الفطرة السليمة التي فطر الله الناس عليها لا تبديل لخلق الله قال تعالى: «حبب إليكم الإيمان و زينه في قلوبكم»: الحجرات: 7.
و ما كان منها لذة فكرية توافق الهوى و تشقي في الأخرى و الأولى بإبطال العبودية و إفساد الحياة الطيبة فهي لذة منحرفة عن طريق الفطرة السليمة فإن الفطرة هي الخلقة الإلهية التي نظمها الله بحيث تسلك إلى السعادة و الأحكام الناشئة منها و الأفكار المنبعثة منها لا تخالف أصلها الباعث لها فإذا خالفت الفطرة و لم تؤمن السعادة فليست بالمترشحة منها بل إنما نشأت من نزعة شيطانية و عثرة نفسانية فهي منسوبة إلى الشيطان كاللذائذ الوهمية الشيطانية التي في الفسوق بأنواعه من حيث إنه فسوق فإنها زينة منسوبة إلى الشيطان غير منسوبة إلى الله سبحانه إلا بالإذن قال تعالى حكاية عن قول إبليس: «لأزينن لهم في الأرض و لأغوينهم أجمعين»: الحجر: 39 و قال تعالى: «فزين لهم الشيطان أعمالهم»: النحل: 63.
أما أنها لا تنسب إلى الله سبحانه بلا واسطة فإنه تعالى هو الذي نظم نظام التكوين فساق الأشياء فيه إلى غاياتها و هداها إلى سعادتها ثم فرع على فطرة الإنسان الكونية السليمة عقائد و آراء فكرية يبني عليها أعماله فتسعده و تحفظه عن الشقاء و خيبة المسعى، و جلت ساحته عز اسمه أن يعود فيأمر بالفحشاء و ينهى عن المعروف و يبعث إلى كل قبيح شنيع فيأمر الناس جميعا بالحسن و القبيح معا و ينهى الناس جميعا عن القبيح و الحسن معا فيختل بذلك نظام التكليف و التشريع ثم الثواب و العقاب ثم يصف الدين الذي هذه صفته بأنه دين قيم فطرة الله التي فطر الناس عليها، و الفطرة بريئة من هذا التناقض و أمثاله متأبية مستنكفة من أن ينسب إليها ما تعده من السفه و العتاهية.
فإن قلت: ما المانع من أن تنسب الدعوة إلى الطاعة و المعصية إليه تعالى بمعنى أن النفوس التي تزينت بالتقوى و تجهزت بسريرة صالحة يبعثها الله إلى الطاعة و العمل الصالح، و النفوس التي تلوثت بقذارة الفسوق و اكتست بخباثة الباطن يدعوها الله سبحانه إلى الفجور و الفسق بحسب اختلاف استعداداتها فالداعي إلى الخير و الشر و الباعث إلى الطاعة و المعصية جميعا هو الله سبحانه.
قلت: هذا نظر آخر غير النظر الذي كنا نبحث عنه و هذا هو النظر في الطاعة و المعصية من حيث توسيط أسباب متخللة بينهما و بينه تعالى فلا شك أن الحالات الحسنة أو السيئة النفسانية لها دخل في تحقق ما يناسبها من الطاعات أو المعاصي، و على تقديرها تنسب الطاعة و المعصية إليها بلا واسطة و إلى الله سبحانه بالإذن فالله سبحانه هو الذي أذن لكل سبب أن يتسبب إلى مسببه.
و أما الذي نحن فيه من النظر فهو النظر في حال الطاعة و المعصية من حيث تشريع الأحكام، و من حيث انبعاث النفوس إليهما مع قطع النظر عن سائر الأسباب الباعثة الداعية إليهما فهل من الممكن أن يقال: إن الله سبحانه يدعو إلى الإيمان و الكفر جميعا أو يبعث إلى الطاعة و المعصية معا؟ و هو الذي يصف دينه بأنه الدين القيم على المجتمع الإنساني المبني على الفطرة الإلهية و هذه الشرائع الإلهية ثم الدواعي النفسانية الموافقة لها كلها فطرية و الدواعي النفسانية الموافقة لهوى النفس المخالفة لأحكام الشريعة مخالفة للفطرة لا تنسب الدعوة إليها إلى ذي فطرة سليمة فمن المحال أن تنسب إليه تعالى قال تعالى: «و إذا فعلوا فاحشة قالوا وجدنا عليها آباءنا و الله أمرنا بها قل إن الله لا يأمر بالفحشاء أ تقولون على الله ما لا تعلمون، قل أمر ربي بالقسط»: الأعراف: 29.
و أما أنها منسوبة إليه تعالى بالإذن فإن الملك عام و السلطنة الإلهية مطلقة و حاشا أن يتأتى لأحد أن يتصرف في شيء من ملكه إلا بإذنه فما يزينه الشيطان في قلوب أوليائه من الشرك و الفسق و جميع ما ينتهي بوجه من الوجوه إلى سخط الله سبحانه فإنما ذلك عن إذن إلهي تتم به سنة الامتحان و الاختبار الذي لا يتم دونه نظام التشريع و مسلك الدعوة و الهداية، قال تعالى: «ما من شفيع إلا من بعد إذنه»: يونس: 3 و قال: «و ليمحص الله الذين آمنوا و يمحق الكافرين»: آل عمران: 141.
فتبين أن لزينة الأعمال نسبة إليه تعالى أعم مما بواسطة الإذن أو بلا واسطة، و عليه يجري قوله تعالى: «كذلك زينا لكل أمة عملهم»: الآية: 108 و أوضح منه في الانطباق على ما تقدم قوله تعالى: «إنا جعلنا ما على الأرض زينة لها لنبلوهم أيهم أحسن عملا»: الكهف: 7.
و للمفسرين بحسب اختلافهم في نسبة الأفعال إليه تعالى أقوال في الآية.
منها: أن المراد هو التزيين بالأمر و النهي و بيان الحسن و القبح فالمعنى: كما زينا لكم أيها المؤمنون أعمالكم زينا لكل أمة من قبلكم أعمالهم من حسن الدعاء إلى الله و ترك سب الأصنام و نهيناهم أن يأتوا من الأفعال ما ينفر الكفار عن قبول الحق.
و فيه أنه مخالف لظهور الآية في العموم، و لا دليل على تخصيصها بما ذكروه كما ظهر مما تقدم.
و منها: أن المعنى: و كذلك زينا لكل أمة عملهم بميل الطباع إليه و لكن قد عرفناهم الحق مع ذلك ليأتوا الحق و يجتنبوا الباطل.
و فيه أنه كما لا يصح إسناد الدعوة إلى الطاعة و المعصية و الإيمان و الكفر إليه تعالى بلا واسطة كذلك لا تصح نسبة ميل الطباع إلى الأعمال الحسنة و السيئة على وتيرة واحدة إليه تعالى فالفرق بين الدعوة التكوينية و ما يشابهها و بين الدعوة التشريعية إلى القبائح و المساوي، و نسبة الأول إليه تعالى دون الثاني ليس في محله.
و منها: أن المراد هو التزيين بذكر الثواب فهو كقوله و لكن الله حبب إليكم الإيمان و زينة في قلوبكم و كره إليكم الكفر و الفسوق و العصيان»: الحجرات: 7 أي حبب إليكم الإيمان بذكر ثوابه و مدح فاعليه على فعله، و كره الكفر بذكر عقابه و ذم فاعليه.
و فيه: أن فيه تقييدا للأعمال بالحسنة من غير مقيد.
على أنه معنى بعيد من السياق و من ظاهر لفظ التزيين.
على أن التزيين بهذا المعنى لا يختص بالمؤمنين.
و منها: أن المراد التزيين لمطلق الأعمال حسناتها و سيئاتها ابتداء من غير واسطة و الدعوة منه تعالى إلى الطاعة و المعصية جميعا بناء على أن الإنسان مجبر في الأفعال المنسوبة إليه.
و فيه: أن ظاهر الآية أوفق بالاختيار منه بالإجبار فإن الشيء إنما تضم إليه الزينة ليرغب فيه الإنسان و يحبب إليه فتكون مرجحة لتعلقه به و ترك غيره، و لو لم تكن نسبة فعله و تركه إليه على السواء لم يكن وجه لترجيحه فتزين الفعل بما يرغب فيه الفاعل نوع من الحيلة يتوسل بها إلى وقوعه، و هو ينطبق في الطاعات و حسنات الأعمال على ما يسمى في لسان الشرع هداية و توفيقا، و في المعاصي و سيئات الأعمال على ما يعد إضلالا و مكرا إلهيا، و لا مانع من نسبة الإضلال و المكر إليه تعالى إذا كانا بعنوان المجازاة دون الإضلال و المكر الابتدائيين، و قد تقدم البحث عن هذه المعاني في مواضع من هذا الكتاب و تقدم البحث عن الجبر و ما يقابله من التفويض و الأمر بين الأمرين في الجزء الأول من الكتاب.
و قوله تعالى: «ثم إليه مرجعهم فينبئهم بما كانوا يعملون» يؤيد ما تقدم أن حكم التزيين عام شامل لجميع الأعمال الباطنية كالإيمان و الكفر و الظاهرية كأعمال الجوارح الحسنة و السيئة فإن ظاهر الآية أن الإنسان إنما يقصد هذه الأعمال و يوقعها لأجل ما يرغب فيه من زينته غافلا عن الحقائق المستورة تحت هذه الزينات المضروب عليها بحجاب الغفلة ثم إذا رجعوا إلى ربهم نبأهم بحقيقة ما كانوا يعملونه، و عاينوا ما هم مصروفون عنه، أما أولياء الرحمن فوجدوا ما لم يكن يعلم مما أخفي لهم من قرة أعين، و أما أولياء الشيطان فبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون فظهور حقائق الأعمال يوم القيامة لا يختص بأحد القبيلين من الحسنات و السيئات.
قوله تعالى: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم - إلى قوله - عند الله» الجهد بفتح الجيم الطاقة و الأيمان جمع يمين و هي القسم، و جهد الأيمان أي ما تبلغه قدرتها و هو الطاقة، و المراد أنهم بالغوا في القسم و أكدوه ما استطاعوا، و المراد بكون الآيات عند الله كونها في ملكه و تحت سلطته لا ينالها أحد إلا بإذنه.
فالمعنى: و أقسموا بالله و بالغوا فيه لئن جاءتهم آياته تدل على صدق النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فيما يدعو إليه ليؤمنن بتلك الآية - و هذا اقتراح منهم للآية كناية - قل إنما الآيات عند الله و هو الذي يملكها و يحيط بها و ليس إلي من أمرها شيء حتى أجيبكم إليها من تلقاء نفسي.
قوله تعالى: «و ما يشعركم أنها إذا جاءت لا يؤمنون» قرىء: لا يؤمنون بياء الغيبة و تاء الخطاب جميعا، و الخطاب على القراءة الأولى للمؤمنين بنوع من الالتفات، و على القراءة الثانية للمشركين و الكلام من تتمة قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و هو ظاهر.
و الظاهر أن «ما» في قوله: «و ما يشعركم» للاستفهام، و المعنى: و ما هو الذي يفيد لكم العلم بواقع الأمر و هو أنهم لا يؤمنون إذا جاءتهم الآيات؟ فالكلام في معنى قولنا: هؤلاء يحلفون بالله لئن جاءتكم الآيات ليؤمنن بها فربما آمنتم و صدقتم بحلفهم و ليس لكم علم بأنهم إذا جاءتهم الآيات لا يؤمنون بها لأن الله لم يشأ إيمانهم فالكلام من الملاحم.
و ربما قيل: إن «أن» في قوله: «أنها إذا جاءت» إلخ، بمعنى لعل و هذا معنى شاذ لا يحمل على مثله كلام الله لو ثبت لغة.
قوله تعالى: «و نقلب أفئدتهم و أبصارهم كما لم يؤمنوا به أول مرة» إلخ، ظاهر السياق أن الجملة عطف على قوله: «لا يؤمنون» و هي بمنزلة التفسير لعدم إيمانهم، و المراد بقوله: «أول مرة» الدعوة الأولى قبل نزول الآيات قبال ما يتصور له من المرة الثانية التي هي الدعوة مع نزول الآيات.
و المعنى أنهم لا يؤمنون لو نزلت عليهم الآيات، و ذلك أنا نقلب أفئدتهم فلا يعقلون بها كما ينبغي أن يعقلوه، و أبصارهم فلا يبصرون بها ما من حقهم أن يبصروه فلا يؤمنون بها كما لم يؤمنوا بالقرآن أول مرة من الدعوة قبل نزول هذه الآيات المفروضة و نذرهم في طغيانهم يترددون و يتحيرون.
هذا ما يقضي به ظاهر سياق الآية.
و للمفسرين في الآية أقوال كثيرة غريبة لا جدوى في التعرض لها و البحث عنها، من شاء الاطلاع عليها فليراجع مظانها.
قوله تعالى: «و لو أننا نزلنا إليهم الملائكة و كلمهم الموتى» إلى آخر الآية بيان آخر لقوله: «إنما الآيات عند الله» و أن قولهم: «لئن جاءتهم آية ليؤمنن بها» دعوى كاذبة أجرأهم عليها جهلهم بمقام ربهم فليس في وسع الآيات التي يظنون أنها أسباب مستقلة في إيجاد الإيمان في قلوبهم و إقدارهم على التلبس به أن تودع في نفوسهم الإيمان إلا بمشية الله.
فهذا السياق يدل على أن في الكلام حذفا و إيجازا، و المعنى: و لو أننا أجبناهم في مسألتهم و آتيناهم أعاجيب الآيات فنزلنا إليهم الملائكة فعاينوهم، و أحيينا لهم الموتى فواجهوهم و كلموهم و أخبروهم بصدق ما يدعون إليه، و حشرنا و جمعنا عليهم كل شيء قبيلا قبيلا و صنفا صنفا، أو حشرنا عليهم كل شيء قبلا و مواجهة فشهدوا لهم بلسان الحال أو القال، ما كانوا ليؤمنوا و لم يؤثر شيء من ذلك في استجابتهم للإيمان إلا أن يشاء الله إيمانهم.
فلا يتم لهم الإيمان بشيء من الأسباب و العلل إلا بمشية الله فإن النظام الكوني على عرضه العريض و إن كان يجري على طبق حكم السببية و قانون العلية العام غير أن العلل و الأسباب مفتقرة في أنفسها متدلية إلى ربها غير مستقلة في شيء من شئونها و مقتضياتها فلا يظهر لها حكم إلا بمشية الله و لا يحيى لها رسم إلا بإذنه.
غير أن المشركين أكثرهم - و لعلهم غير العلماء الباغين منهم - يجهلون مقام ربهم و يتعلقون بالأسباب على أنها مستقلة في نفسها مستغنية عن ربها فيظنون أن لو أتاهم سبب الإيمان - و هو الآية المقترحة - آمنوا و اتبعوا الحق و قد اختلط عليهم الأمر بجهلهم فأخذوا هذه الأسباب الناقصة المفتقرة إلى مشية الله أسبابا مستقلة تامة مستغنية عنه.
قوله تعالى: «و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن» إلى آخر الآية الشياطين جمع شيطان و هو في اللغة الشرير غلب استعماله في إبليس الذي يصفه القرآن و ذريته، و الجن من الجن بالفتح و هو الاستتار، و هو في عرف القرآن نوع من الموجودات ذوات الشعور و الإرادة مستور عن حواسنا بحسب طبعها و هم غير الملائكة.
يذكر القرآن أن إبليس الشيطان من سنخهم.
و الوحي هو القول الخفي بإشارة و نحوها، و الزخرف الزينة المزوقة أو الشيء المزوق فزخرف القول الكلام المزوق المموه الذي يشبه الحق و ليس به، و غرورا مفعول مطلق لفعل مقدر من جنسه أو مفعول له.
و المعنى: و مثل ما جعلنا لك جعلنا لكل نبي عدوا هم شياطين الإنس و الجن يشير بعضهم إلى بعض - و كأن المراد وحي شياطين الجن بالوسوسة و النزغة إلى شياطين الإنس و وحي بعض شياطين الإنس إلى بعض آخر منهم بإسرار المكر و التسويل - بأقوال مزوقة و كلمات مموهة يغرونهم بذلك غرورا أو لغرورهم و إضلالهم بذلك.
و قوله: «و لو شاء ربك ما فعلوه» يشير بذلك إلى أن حكم المشية عام جار نافذ فكما أن الآيات لا تؤثر في إيمانهم شيئا إلا بمشية الله كذلك معاداة الشياطين الأنبياء و وحيهم زخرف القول غرورا كل ذلك بإذن الله و لو شاء الله ما فعلوه و لم يوحوا ذلك فلم يكونوا عدوا للأنبياء، و بهذا المعنى يتصل هذه الآية بما قبلها لاشتراكهما في بيان توقف الأمور على المشية.
و قوله: «فذرهم و ما يفترون» تفريع على نفوذ المشية أي إذا كانت هذه المعاداة و الإفساد بالوساوس كل ذلك بإذن الله و لم يكونوا بمعجزين لله في مشيته النافذة الغالبة فلا يحزنك ما تشاهد من إخلالهم بالأمر و إفسادهم له بل اتركهم و ما يفترونه على الله من دعوى الشريك و نحوها.
فقوله: «و لو شاء ربك ما فعلوه» إلى آخر الآية في معنى قوله في صدر الآيات: «و أعرض عن المشركين و لو شاء الله ما أشركوا».
و الكلام في قوله تعالى: «و كذلك جعلنا لكل نبي عدوا شياطين الإنس و الجن» إلخ، حيث أسند ظاهرا جعلهم عدوا للأنبياء - و فيه التسبب إلى الشر و البعث إلى الشرك و المعصية - إلى الله سبحانه و هو منزه من كل شر و سوء نظير الكلام في إسناده تزيين الأعمال إلى الله سبحانه في قوله: «كذلك زينا لكل أمة عملهم» و قد تقدم الكلام فيه، و كذا الكلام في ظاهر ما يفيده قوله في الآية التالية: «و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة» إلخ، حيث جعل هذه المظالم و الآثام غايات إلهية للدعوة الحقة.
و للمفسرين في هاتين الآيتين على حسب اختلاف مذاهبهم في انتساب الأعمال إلى الله سبحانه نظائر ما تقدم من أقوالهم في انتساب زينة الأعمال إليه تعالى.
و قد عرفت أن الذي يفيده ظاهر الآية الكريمة أن كل ما يصدق عليه اسم شيء فهو مملوك له تعالى منسوب إليه من غير استثناء لكن الآيات المنزهة لساحة قدسه تعالى من كل سوء و قبح تعطي أن الخيرات و الحسنات جميعا مستندة إلى مشيته منسوبة إليه بلا واسطة أو معها، و الشرور و السيئات مستندة إلى غيره تعالى كالشيطان و النفس بلا واسطة، و إنما تنتسب إليه تعالى بالإذن فهي مملوكة له تعالى واقعة بإذنه ليستقيم أمر الامتحان الإلهي و يتم بذلك أمر الدعوة الإلهية بالأمر و النهي و الثواب و العقاب و لو لا ذلك لبطلت و لغت السنة الإلهية في تسيير الإنسان كسائر الأنواع نحو سعادته في هذا العالم الكوني الذي لا سبيل فيه إلى الكمال و السعادة إلا بالسلوك التدريجي.
قوله تعالى: «و لتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة» إلى آخر الآية.
الاقتراف هو الاكتساب، و ضمير المفرد للوحي المذكور في الآية السابقة و اللازم في قوله: «لتصغى» للغاية و الجملة معطوفة على مقدر، و التقدير: فعلنا ما فعلنا و شئنا ما شئنا و لم نمنع عن وحي بعضهم لبعض زخرف القول غرورا لغايات مستورة و لتصغى و تجيب إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة و ليرضوه و ليكتسبوا ما هم مكتسبون لينالوا بذلك جميعا ما يسألونه بلسان استعدادهم من شقاء الآخرة، فإن الله سبحانه يمد كلا من أهل السعادة و أهل الشقاء بما يتم به سيرهم إلى منازلهم و يرزقهم ما يقترحونه بلسان استعدادهم قال تعالى: «كلا نمد هؤلاء و هؤلاء من عطاء ربك و ما كان عطاء ربك محظورا»: الإسراء: 20.
بحث روائي
في الدر المنثور، أخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: لما حضر أبا طالب الموت قالت قريش: انطلقوا فلندخل على هذا الرجل فنأمره أن ينهى عنا ابن أخيه فإنا نستحيي أن نقتله بعد موته فتقول العرب: كان يمنعه فلما مات قتلوه. فانطلق أبو سفيان و أبو جهل و النضر بن الحارث و أمية و أبي ابنا خلف و عقبة بن أبي معيط و عمرو بن العاصي و الأسود بن البختري، و بعثوا رجلا منهم يقال له المطلب فقالوا: استأذن لنا على أبي طالب فأتى أبا طالب فقال: هؤلاء مشيخة قومك يريدون الدخول عليك فأذن لهم عليه فدخلوا فقالوا: يا أبا طالب أنت كبيرنا و سيدنا، و إن محمدا قد آذانا و آذى آلهتنا فنحب أن تدعوه فتنهاه عن ذكر آلهتنا و لندعه و إلهه، فدعاه فجاءه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال له أبو طالب: هؤلاء قومك و بنو عمك، قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): ما يريدون؟ قالوا: نريد أن تدعنا و آلهتنا و لندعك و إلهك. قال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)؟ أ رأيتم إن أعطيتكم هذا هل أنتم معطي كلمة أن تكلمتم بها ملكتم بها العرب و دانت لكم بها العجم الخراج؟ قال أبو جهل: و أبيك لنعطينكها و عشرة أمثالها فما هي؟ قال: قولوا لا إله إلا الله، فأبوا و اشمأزوا. قال أبو طالب: قل غيرها فإن قومك قد فزعوا منها، قال: يا عم ما أنا بالذي أقول غيرها حتى يأتوا بالشمس فيضعوها في يدي و لو آتوني بالشمس فيضعوها في يدي ما قلت غيرها إرادة أن يؤيسهم فغضبوا و قالوا: لتكفن عن شتم آلهتنا أو لنشتمنك و نشتم من يأمرك، فأنزل الله: «و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله - فيسبوا الله عدوا بغير علم».
أقول: و الرواية - كما ترى - لا يلائم ذيلها صدرها فإن مقتضى صدرها أنهم كانوا يسألونه الكف عن آلهتهم أي لا يدعو الناس إلى رفضها و ترك التقرب إليها حتى إذا يئسوا من إجابته هددوه بشتم ربه إن شتم آلهتهم و كان مقتضى جر الكلام أن يهددوه على دعوة إلى رفضها لا أن يهملوا ذلك و يذكروا شتمه و يهددوه على ذلك و ليس في الآية إشارة إلى صدر القصة و هو أصلها.
على أن وقار النبوة و عظيم الخلق الذي كان في عشرته (صلى الله عليه وآله وسلم) كان يمنعه من التفوه بالشتم الذي هو من لغو القول، و الذي ورد من لعنه بعض صناديد قريش بقوله: اللهم العن فلانا و فلانا، و كذا ما ورد في كلامه تعالى من قبيل قوله: «لعنهم الله بكفرهم»: النساء: 46 و قوله: «فقتل كيف قدر»: المدثر: 19 و قوله: «قتل الإنسان»: عبس: 17 و قوله: «أف لكم و لما تعبدون من دون الله»: الأنبياء: 67 و نظائر ذلك فإنما هي من الدعاء دون الشتم الذي هو الذكر بالقبيح الشنيع للإهانة تخييلا، و الذي ورد من قبيل قوله تعالى: «مناع للخير معتد أثيم، عتل بعد ذلك زنيم»: القلم: 13 فإنما هو من قبيل بيان الحقيقة.
فالظاهر أن العامة من المؤمنين بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ربما أداهم المشاجرة و الجدال مع المشركين إلى ذكر آلهتهم بالسوء كما يقع كثيرا بين عامة الناس في مجادلاتهم فنهاهم الله عن ذلك كما يشير إليه الحديث الآتي.
و في تفسير القمي، قال: حدثني أبي عن مسعدة بن صدقة عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سئل عن قول النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): «إن الشرك أخفى من دبيب النمل على صفاة سوداء في ليلة ظلماء» فقال: كان المؤمنون يسبون ما يعبد المشركون من دون الله فكان المشركون يسبون ما يعبد المؤمنون فنهى الله المؤمنين عن سب آلهتهم لكيلا يسب الكفار إله المؤمنين فيكون المؤمنون قد أشركوا بالله من حيث لا يعلمون فقال: و لا تسبوا الذين يدعون من دون الله - فيسبوا الله عدوا بغير علم.
و في تفسير العياشي، عن عمرو الطيالسي عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن قول الله: «و لا تسبوا» الآية. قال: فقال يا عمرو هل رأيت أحدا يسب الله؟ قال: فقلت: جعلني الله فداك فكيف؟ قال: من سب ولي الله فقد سب الله.
و في الدر المنثور، أخرج ابن جرير عن محمد بن كعب القرظي قال: كلم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قريشا فقالوا: يا محمد تخبرنا أن موسى كان معه عصا يضرب بها الحجر، و أن عيسى كان يحيي الموتى و أن ثمود كان لهم ناقة، فأتنا من الآيات حتى نصدقك فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أي شيء تحبون أن آتيكم به؟ قالوا: تجعل لنا الصفا ذهبا قال: فإن فعلت تصدقوني؟ قالوا: نعم و الله لئن فعلت لنتبعنك أجمعون فقام رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يدعو فجاء جبرئيل فقال له: إن شئت أصبح ذهبا فإن لم يصدقوا عند ذلك لنعذبنهم، و إن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم فقال: بل يتوب تائبهم فأنزل الله: «و أقسموا بالله جهد أيمانهم إلى قوله يجهلون».
أقول: القصة المذكورة سببا للنزول في الرواية لا تنطبق على ظاهر الآيات فقد تقدم أن ظاهرها الإخبار عن أنهم لا يؤمنون بما يأتيهم من الآيات، و أنهم ليسوا بمفارقي الشرك و إن أتتهم كل آية ممكنة حتى يشاء الله منهم الإيمان و لم يشأ ذلك، و إذا كان هذا هو الظاهر من الآيات فكيف ينطبق على ما في الرواية من قول جبرئيل: إن شئت صار ذهبا فإن لم يؤمنوا عذبوا، و إن شئت فاتركهم حتى يتوب تائبهم، إلخ.
فالظاهر أن الآيات في معنى قوله: «إن الذين كفروا سواء عليهم ء أنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون»: البقرة: 6 فكأن طائفة من صناديد المشركين اقترحوا آيات سوى القرآن و أقسموا بالله جهد أيمانهم لئن جاءتهم ليؤمنن بها فكذبهم الله بهذه الآيات و أخبر أنهم لن يؤمنوا لأنه تعالى لم يشأ ذلك نكالا عليهم.
و في تفسير القمي،: في قوله تعالى: «و نقلب أفئدتهم و أبصارهم» الآية في رواية أبي الجارود عن أبي جعفر (عليه السلام) في الآية، يقول: و ننكس قلوبهم فيكون أسفل قلوبهم أعلاها، و نعمي أبصارهم فلا يبصرون الهدى: و قال علي بن أبي طالب (عليه السلام): إن ما تغلبون عليه من الجهاد الجهاد بأيديكم ثم الجهاد بقلوبكم فمن لم يعرف قلبه معروفا و لم ينكر منكرا نكس قلبه فجعل أسفله أعلاه فلا يقبل خيرا أبدا.
أقول: المراد بذلك تقلب النفس في إدراكها و انعكاس أحكامها من جهة اتباع الهوى و الإعراض عن سليم العقل المعدل لمقترحات القوى الحيوانية الطاغية.
و في تفسير العياشي، عن زرارة و حمران و محمد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد الله (عليه السلام): عن قول الله: «و نقلب أفئدتهم و أبصارهم» إلى آخر الآية أما قوله: «كما لم يؤمنوا به أول مرة» فإنه حين أخذ عليهم الميثاق.
أقول: سيأتي الكلام الفصل في الميثاق في تفسير قوله تعالى: «و إذ أخذ ربك من بني آدم من ظهورهم ذريتهم»: الآية الأعراف: 172 لكن تقدم أن ظاهر السياق أن المراد بعدم إيمانهم به أول مرة عدم إيمانهم بالقرآن في أول الدعوة.
|