بيان
الآيات على ما لها من الاتصال بما قبلها كما يدل عليه التفريع بالفاء في قوله: «أ فغير الله أبتغي حكما» إلخ.
لها فيما بينها أنفسها - و هي ثمان آيات - اتصال يرتبط به بعضها ببعض و يرجع بعضها إلى بعض فإن فيها إنكار أن يتخذ حكم إلا الله و قد فصل أحكامه في كتابه، و نهيا من اتباع الناس و إطاعتهم و أن إطاعة أكثر الناس من المضلات لاتباعهم الظن و بنائهم على الخرص و التخمين، و في آخرها أن المشركين و هم أولياء الشياطين يجادلون المؤمنين في أمر أكل الميتة، و فيها الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه و النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه، و أن ذلك هو الذي فصله في كتابه و ارتضاه لعباده.
و هذا كله يؤيد ما نقل عن ابن عباس: أن المشركين خاصموا النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) و المؤمنين في أمر الميتة قائلين: أ تأكلون مما قتلتم أنتم و لا تأكلون مما قتله الله؟ فنزلت، فالغرض من هذه الآيات بيان الفرق و تثبيت الحكم.
قوله تعالى: «أ فغير الله أبتغي حكما و هو الذي أنزل إليكم الكتاب مفصلا» قال في المجمع:، الحكم و الحاكم بمعنى واحد إلا أن الحكم أمدح لأن معناه من يستحق أن يتحاكم إليه فهو لا يقضي إلا بالحق و قد يحكم الحاكم بغير حق.
قال: و معنى التفصيل تبيين المعاني بما ينفي التخليط المعمي للمعنى، و ينفي أيضا التداخل الذي يوجب نقصان البيان عن المراد، انتهى.
و في قوله: «أ فغير الله أبتغي حكما» تفريع على ما تقدم من البصائر التي جاءت من قبله تعالى، و قد ذكر قبل ذلك في القرآن أنه كتاب أنزله مبارك مصدق الذي بين يديه من التوراة و الإنجيل، و المعنى: أ فغير الله من سائر من تدعون من الآلهة أو من ينتمي إليهم أطلب حكما يتبع حكمه و هو الذي أنزل عليكم هذا الكتاب و هو القرآن مفصلا متميزا بعض معارفه من بعض غير مختلط بعض أحكامه ببعض، و لا يستحق الحكم إلا من هو على هذه الصفة فالآية كقوله تعالى: «و الله يقضي بالحق و الذين يدعون من دونه لا يقضون بشيء إن الله هو السميع البصير»: المؤمن: 20.
و قوله: «أ فمن يهدي إلى الحق أحق أن يتبع أم من لا يهدي إلا أن يهدى»: يونس: 35.
قوله تعالى: «و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون» إلى آخر الآية، رجوع إلى خطاب النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بما يتأكد به يقينه و يزيد في ثبوت قدمه فيما ألقاه إلى المشركين من الخطاب المشعر بأن الكتاب النازل إليه منزل من ربه بالحق ففي الكلام التفات، و هو بمنزلة المعترضة ليزيد بذلك رسوخ قدمه و اطمئنان قلبه و ليعلم المشركون أنه على بصيرة من أمره.
و قوله: «بالحق» متعلق بقوله: «منزل من ربك» و كون التنزيل بالحق هو أن لا يكون بتنزيل الشياطين بالتسويل أو بطريق الكهانة كما في قوله تعالى: «هل أنبئكم على من تنزل الشياطين، تنزل على كل أفاك أثيم»: الشعراء: 222 أو بتخليط الشياطين بعض الباطل بالوحي الإلهي، و قد أمن الله رسول من ذلك بمثل قوله: «عالم الغيب فلا يظهر على غيبه أحدا إلا من ارتضى من رسول فإنه يسلك من بين يديه و من خلفه رصدا، ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم»: الجن: 28. قوله تعالى: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم» الكلمة - و هي ما دل على معنى تام أو غيره - ربما استعملت في القرآن في القول الحق الذي قاله الله عز من قائل من القضاء أو الوعد كما في قوله: «و لو لا كلمة سبقت من ربك لقضي بينهم»: يونس: 19 يشير إلى قوله لآدم عند الهبوط: «و لكم في الأرض مستقر و متاع إلى حين»: البقرة: 36 و قوله تعالى: «حقت عليهم كلمة ربك»: يونس: 96 يشير إلى قوله تعالى لإبليس: «لأملأن جهنم منك و ممن تبعك منهم أجمعين»: ص: 85 و قد فسرها في موضع آخر بقوله: «و تمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة و الناس أجمعين»: هود: 119 و كقوله تعالى: «و تمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا»: الأعراف: 137 يشير إلى ما وعدهم أنه سينجيهم من فرعون و يورثهم الأرض كما يشير إليه قوله: «و نريد أن نمن على الذين استضعفوا في الأرض و نجعلهم أئمة و نجعلهم الوارثين»: القصص: 5.
و ربما استعملت الكلمة في العين الخارجي كالإنسان مثلا كقوله تعالى: «إن الله يبشرك بكلمة منه اسمه المسيح عيسى بن مريم»: آل عمران: 45 و العناية فيه أنه (عليه السلام) خرق عادة التدريج و خلق بكلمة إلهية موجدة قال تعالى: «إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال له كن فيكون»: آل عمران: 59.
فظاهر سياق الآيات فيما نحن فيه يعطي أن يكون المراد بقوله: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا» كلمة الدعوة الإسلامية و ما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن المهيمن على ما تقدم عليه من الكتب السماوية المشتمل على جوامع المعارف الإلهية و كليات الشرائع الدينية كما أشار إليه فيما حكى من دعاء إبراهيم (عليه السلام) عند بناء الكعبة: «ربنا و ابعث فيهم رسولا منهم يتلوا عليهم آياتك و يعلمهم الكتاب و الحكمة و يزكيهم»: البقرة: 129.
و أشار إلى تقدم ذكره في الكتب السماوية في قوله: «الذين يتبعون الرسول النبي الأمي الذي يجدونه مكتوبا عندهم في التوراة و الإنجيل»: الأعراف: 157 و بذلك يشعر قوله في الآية السابقة: «و الذين آتيناهم الكتاب يعلمون أنه منزل من ربك بالحق» و قوله: «الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه كما يعرفون أبناءهم»: البقرة: 146 إلى غير ذلك من الآيات الكثيرة.
فالمراد بتمام الكلمة - و الله أعلم - بلوغ هذه الكلمة أعني ظهور الدعوة الإسلامية بنبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول الكتاب المهيمن على جميع الكتب، مرتبة الثبوت و استقرارها في مستقر التحقق بعد ما كانت تسير دهرا طويلا في مدارج التدريج بنبوة بعد نبوة و شريعة بعد شريعة فإن الآيات الكريمة دالة على أن الشريعة الإسلامية تتضمن جمل ما تقدمت عليه من الشرائع و تزيد عليها بما ليس فيها كقوله تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى»: الشورى: 13.
و بذلك يظهر معنى تمام الكلمة و أن المراد به انتهاء تدرج الشرائع من مراحل النقص إلى مرحلة الكمال، و مصداقه الدين المحمدي قال تعالى: «و الله متم نوره و لو كره الكافرون، هو الذي أرسل رسوله بالهدى و دين الحق ليظهره على الدين كله و لو كره المشركون»: الصف: 9.
و تمام هذه الكلمة الإلهية صدقا هو أن يصدق القول بتحققها في الخارج بالصفة التي بين بها، و عدلا أن تتصف بالتقسيط على سواء فلا يتخلف بعض أجزائه عن بعض و تزن الأشياء على النحو الذي من شأنها أن توزن به من غير إخسار أو حيف و ظلم، و لذلك بين هذين القيدين أعني «صدقا و عدلا» بقوله «لا مبدل لكلماته» فإن الكلمة الإلهية إذا لم تقبل تبديلا من مبدل سواء كان المبدل هو نفسه تعالى كأن ينقض ما قضى بتبدل إرادة أو يخلف ميعاده، أو كان المبدل غيره تعالى كأن يعجزه غيره و يقهره على خلاف ما يريد كانت كلمته صدقا تقع كما قال، و عدلا لا تنحرف عن حالها التي كانت عليها وصفها الذي وصفت به فالجملة أعني قوله: «لا مبدل لكلماته» بمنزلة التعليل يعلل بها قوله: «صدقا و عدلا».
و من أقوال المفسرين في الآية أن المراد بالكلمة و الكلمات القرآن، و قيل: إن المراد بالكلمة القرآن، و بالكلمات ما فيه غير الشرائع فإنها تقبل التبديل بالنسخ و الله سبحانه يقول: «لا مبدل لكلماته» و قيل: المراد بالكلمة الدين، و قيل: المراد الحجة، و قيل: الصدق ما كان في القرآن من الأخبار و العدل ما فيه من الأحكام، هذا.
و قوله تعالى: «و هو السميع العليم» أي السميع المستجيب لما تدعونه بلسان حاجتكم، العليم بحقيقة ما عندكم من الحاجة، أو السميع بما يحدث في ملكه بواسطة الملائكة الرسل، و العليم بذلك من غير واسطة، أو السميع لأقوالكم، العليم بأفعالكم.
قوله تعالى: «و إن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله» إلى آخر الآية.
الخرص الكذب و التخمين، و المعنى الثاني هو الأنسب بسياق الآية فإن الجملة أعني قوله: «و إن هم إلا يخرصون» و التي قبلها أعني قوله: «إن يتبعون إلا الظن» واقعتان موقع التعليل لقوله: «و إن تطع أكثر من في الأرض» إلخ، و اتباع الظن و القول بالخرص و التخمين سببان بالطبع للضلال في الأمور التي لا يسوغ الاعتماد فيها إلا على العلم و اليقين كالمعارف الراجعة إليه تعالى و الشرائع المأخوذة من قبله.
و سير الإنسان و سلوكه الحيوي في الدنيا و إن كان لا يتم دون الركون إلى الظن و الاستمداد من التخمين حتى أن الباحث عن علوم الإنسان الاعتبارية و العلل و الأسباب التي تدعوه إلى صوغه لها و تقليبها في قالب الاعتبار، و ارتباطها بشئونه الحيوية و أعماله و أحواله لا يكاد يجد مصداقا يركن الإنسان فيه إلى العلم الخالص و اليقين المحض اللهم إلا بعض الكليات النظرية التي ينتهي إليها مما يضطر إلى الإذعان بها و الاعتماد عليها.
إلا أن ذلك كله فيما يقبل التقريب و التخمين من جزئيات الأمور في الحياة، و أما السعادة الإنسانية التي فيه فوز هذا النوع و فلاحه، و الشقاء الذي يرتبط به الهلاك الأبدي و الخسران الدائم، و ما يتوقف عليه التبصر فيهما من النظر في العالم و صانعه و الغرض من إيجاده و ما ينتهي إليه الأمر من البعث و النشور و ما يتعلق به من النبوة و الكتاب و الحكم فإن ذلك كله مما لا يقبل الركون إلى الظن و التخمين و الله سبحانه لا يرتضي من عباده في ذلك إلا العلم و اليقين، و الآيات في ذلك كثيرة جدا كقوله تعالى: «و لا تقف ما ليس لك به علم»: الإسراء: 36.
و من أوضحها دلالة هذه الآية التي نحن فيها يبين فيها أن أكثر أهل الأرض لركونهم العام إلى الظن و التخمين لا يجوز طاعتهم فيما يدعون إليه و يأمرون به في سبيل الله و طريق عبوديته لأن الظن ليس مما يكشف به الحق الذي يستراح إليه في أمر الربوبية و العبودية لملازمته الجهل بالواقع و عدم الاطمئنان إليه، و لا عبودية مع الجهل بالرب و ما يريده من عبده.
فهذا هو الذي يقضي به العقل الصريح، و قد أمضاه الله سبحانه كما في قوله في الآية التالية في معنى تعليل النهي عن الطاعة: «إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» حيث علل الحكم بعلم الله دون حكم العقل، و قد جمع سبحانه بين الطريقين جميعا في قوله: «و ما لهم به من علم إن يتبعون إلا الظن و إن الظن لا يغني من الحق شيئا و هذا أخذ بحكم العقل - فأعرض عمن تولى عن ذكرنا و لم يرد إلا الحياة الدنيا ذلك مبلغهم من العلم إن ربك هو أعلم بمن ضل عن سبيله و هو أعلم بمن اهتدى»: النجم: 30 و في ذيل الآية استناد إلى علم الله سبحانه و حكمه.
قوله تعالى: «إن ربك هو أعلم من يضل عن سبيله و هو أعلم بالمهتدين» ذكروا أن «أعلم» إذا لم يتم بمن ربما أفاد معنى التفضيل و ربما استعمل بمعنى الصفة خالية عن التفضيل، و الآية تحتمل المعنيين جميعا فإن أريد حقيقة العلم بالضالين و المهتدين فهو لله سبحانه لا يشاركه فيها أحد حتى يفضل عليه، و إن أريد مطلق العلم أعم مما كان المتصف به متصفا بذاته أو كان اتصافه به بعطية منه تعالى كان المتعين هو معنى التفضيل فإن لغيره تعالى علما بالضال و المهتدي قدر ما أفاضه الله عليه من العلم.
و تعدي أعلم بالباء في قوله: «أعلم بالمهتدين» يدل على أن قوله: «من يضل» منصوب بنزع الخافض و التقدير: «أعلم بمن يضل» و يؤيده ما نقلناه آنفا من آية سورة النجم.
قوله تعالى: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه إن كنتم بآياته مؤمنين» لما تمهد ما قدمه من البيان الذي هو حجة على أن الله سبحانه هو أحق بأن يطاع من غيره استنتج منه وجوب الأخذ بالحكم الذي شرعه و هو الذي يدل عليه هذه الآية، و وجوب رفض ما يبيحه غيره بهواه من غير علم و يجادل المؤمنين فيه بوحي الشياطين إليه، و هو الذي يدل عليه قوله: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه إلى آخر الآية.
و من هنا يظهر أن العناية الأصلية متعلقة بجملتين من بين الجمل المتسقة في الآية إلى تمام أربع آيات، و سائر الجمل مقصودة بتبعها يبين بها ما يتوقف عليه المطلوب بجهاته فأصل الكلام: فكلوا مما ذكر اسم الله عليه و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه أي فرقوا بين المذكى و الميتة فكلوا من هذه و لا تأكلوا من ذاك، و إن كان المشركون يجادلونكم في أمر التفريق.
فقوله: «فكلوا مما ذكر اسم الله» تفريع للحكم على البيان السابق، و لذا أردفه بقوله: «إن كنتم بآياته مؤمنين» و المراد بما ذكر اسم الله عليه الذبيحة المذكاة.
قوله تعالى: «و ما لكم ألا تأكلوا مما ذكر اسم الله عليه» إلى آخر الآية، بيان تفصيلي لإجمال التفريع الذي في الآية السابقة، و المعنى: أن الله فصل لكم ما حرم عليكم و استثنى صورة الاضطرار و ليس فيما فصل لكم ما ذكر اسم الله عليه فلا بأس بأكله و إن كثيرا ليضلون بأهوائهم بغير علم إن ربك هو أعلم بالمعتدين المتجاوزين عن حدوده و هؤلاء هم المشركون القائلون: لا فرق بين ما قتلتموه أنتم و ما قتله الله فكلوا الجميع أو دعوا الجميع.
و يظهر بما مر أن معنى قوله: «و ما لكم ألا تأكلوا» ما لكم من نفع في أن لا تأكلوا، و ما للاستفهام التعجيبي، و قيل: المعنى ليس لكم أن لا تأكلوا، و ما للنفي.
و يظهر من الآية أن محرمات الأكل نزلت قبل سورة الأنعام و قد وقعت في سورة النحل من السور المكية فهي نازلة قبل الأنعام.
قوله تعالى: «و ذروا ظاهر الإثم و باطنه» إلى آخر الآية، و إن كانت مطلقة بحسب المضمون تنهى عن عامة الإثم ظاهره و باطنه غير أن ارتباطها بالسياق المتصل الذي لسابقتها و لاحقتها يقضي بكونها تمهيدا للنهي الآتي في قوله: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق» و لازم ذلك أن يكون الأكل مما لم يذكر اسم الله عليه من مصاديق الإثم حتى يرتبط بالتمهيد السابق عليه فهو من الإثم الظاهر أو الباطن لكن التأكيد البليغ الذي في قوله: «و إنه لفسق» يفيد أنه من الإثم الباطن و إلا لم تكن حاجة إلى تأكيده ذاك التأكيد الأكيد.
و بهذا البيان يظهر أن المراد بظاهر الإثم المعصية التي لا ستر على شؤم عاقبته و لا خفاء في شناعة نتيجته كالشرك و الفساد في الأرض و الظلم، و بباطن الإثم ما لا يعرف منه ذلك في بادىء النظر كأكل الميتة و الدم و لحم الخنزير و إنما يتميز هذا النوع بتعريف إلهي و ربما أدركه العقل، هذا هو الذي يعطيه السياق من معنى ظاهر الإثم و باطنه.
و للمفسرين في تفسيرهما أقوال أخر، من ذلك: أن ظاهر الإثم و باطنه هما المعصية في السر و العلانية، و قيل: أريد بالظاهر أفعال الجوارح، و بالباطن أفعال القلوب، و قيل: الظاهر من الإثم هو الزنا، و الباطن اتخاذ الأخدان، و قيل: ظاهر الإثم نكاح امرأة الأب، و باطنه الزنا، و قيل: ظاهر الإثم الزنا الذي أظهر به، و باطنه الزنا إذا استسر به صاحبه على ما كان يراه أهل الجاهلية من العرب أن الزنا لا بأس به إذا لم يتجاهر به، و إنما الفحشاء هو الذي أظهره صاحبه، و هذه الأقوال - كما ترى - على أن جميعها أو أكثرها لا دليل عليها يخرج الآية عن حكم السياق.
و قوله تعالى: «إن الذين يكسبون الإثم سيجزون بما كانوا يقترفون» تعليل للنهي و إنذار بالجزاء السيىء.
قوله تعالى: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه» نهي هو زميل قوله: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه» كما تقدم.
و قوله: «و إنه لفسق» إلى آخر الآية، بيان لوجه النهي و تثبيت له أما قوله: «و إنه لفسق» فهو تعليل و التقدير: إنه لفسق و كل فسق يجب اجتنابه فالأكل مما لم يذكر اسم الله عليه واجب الاجتناب.
و أما قوله: «و إن الشياطين ليوحون إلى أوليائهم ليجادلوكم» ففيه رد ما كان المشركون يلقونه إلى المؤمنين من الشبهة، و المراد بأولياء الشياطين هم المشركون، و معناه أن ما يجادلكم به المشركون و هو قولهم: إنكم تأكلون مما قتلتم و لا تأكلون مما قتله الله يعنون الميتة، هو مما أوحاه إليهم الشياطين من باطل القول، و الفارق أن أكل الميتة فسق دون أكل المذكى، و أن الله حرم أكل الميتة و لم يحرم أكل المذكى فليس فيما حرمه الله ذكر ما ذكر اسم الله عليه.
و أما قوله: «و إن أطعتموهم إنكم لمشركون» فهو تهديد و تخويف بالخروج من الإيمان، و المعنى: إن أطعتم المشركين في أكل الميتة الذي يدعونكم إليه صرتم مشركين مثلهم إما لأنكم استننتم بسنة المشركين، أو لأنكم بطاعتهم تكونوا أولياء لهم فتكونون منهم قال تعالى: «و من يتولهم منكم فإنه منهم»: المائدة: 51.
و وقوع هذه الجملة أعني قوله: «و إن أطعتموهم» إلخ، في ذيل النهي عن أكل ما لم يذكر اسم الله عليه دون الأمر بأكل ما ذكر اسم الله عليه يدل على أن المشركين كانوا يريدون من المؤمنين بجدالهم أن لا يتركوا أكل الميتة لا أن يتركوا أكل المذكى.
بحث روائي
في الدر المنثور،: أخرج ابن مردويه عن أبي اليمان جابر بن عبد الله قال: دخل النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) المسجد الحرام يوم فتح مكة و معه مخصرة، و لكل قوم صنم يعبدونه فجعل يأتيها صنما صنما و يطعن في صدر الصنم بعصا ثم يعقره كلما صرع صنما أتبعه الناس ضربا بالفئوس حتى يكسرونه و يطرحونه خارجا من المسجد و النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: و تمت كلمات ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته و هو السميع العليم.
و فيه،: أخرج ابن مردويه و ابن النجار عن أنس بن مالك عن النبي (صلى الله عليه وآله وسلم): في قوله: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا» قال: لا إله إلا الله.
و في الكافي، بإسناده عن محمد بن مروان قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: إن الإمام ليسمع في بطن أمه فإذا ولد خط بين كتفيه: «و تمت كلمة ربك صدقا و عدلا لا مبدل لكلماته - و هو السميع العليم» فإذا صار الأمر إليه جعل الله له عمودا من نور يبصر به ما يعمل أهل كل بلدة.
أقول: و روي هذا المعنى بطرق أخرى عن عدة من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) و رواه أيضا القمي و العياشي في تفسيريهما عنه (عليه السلام)، و في بعضها: أن الآية تكتب بين عينيه، و في بعضها: على عضده الأيمن.
و اختلاف مورد الكتابة في الروايات تكشف عن أن المراد بها القضاء بظهور الحكم الإلهي به (عليه السلام) و اختلاف ما كتب عليه لاختلاف الاعتبار فكأن المراد بكتابتها فيما بين عينيه جعلها وجهة له يتوجه إليها، و بكتابتها بين كتفيه حملها عليه و إظهاره و تأييده بها و بكتابتها على عضده الأيمن جعلها طابعا على عمله و تقويته و تأييده بها.
و هذه الرواية و الروايتان السابقتان عليها تؤيد ما قدمناه أن ظاهر الآية كون المراد بتمام الكلمة ظهور الدعوة الإسلامية بما يلازمها من نبوة محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) و نزول القرآن و الإمامة من ذلك.
و في تفسير العياشي، في قوله تعالى: «فكلوا مما ذكر اسم الله عليه» الآية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن الرجل يذبح الذبيحة فيهلل أو يسبح أو يحمد و يكبر قال: هذا كله من أسماء الله.
و فيه، عن ابن سنان عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: سألته عن ذبيحة المرأة و الغلام هل تؤكل؟ قال: نعم إذا كانت المرأة مسلمة و ذكرت اسم الله حلت ذبيحتها، و إذا كان الغلام قويا على الذبح و ذكر اسم الله حلت ذبيحته، و إن كان الرجل مسلما فنسي أن يسمي فلا بأس بأكله إذا لم تتهمه.
أقول: و في هذه المعاني أخبار من طرق أهل السنة.
و فيه، عن حمران قال: سمعت أبا عبد الله (عليه السلام) يقول: في ذبيحة الناصب و اليهودي قال: لا تأكل ذبيحته حتى تسمعه يذكر اسم الله، أ ما سمعت قول الله: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه» و في الدر المنثور، أخرج أبو داود و البيهقي في سننه و ابن مردويه عن ابن عباس: «و لا تأكلوا مما لم يذكر اسم الله عليه و إنه لفسق» فنسخ و استثنى من ذلك فقال: «و طعام الذين أوتوا الكتاب حل لكم».
أقول: و روي النسخ عن أبي حاتم عن مكحول و قد تقدم في أول المائدة: أن الآية إن نسخت فإنما تنسخ اشتراط الإسلام في المذكي - اسم فاعل - دون وجوب التسمية إذ لا نظر لها إليه و لا تنافي بين الآيتين في ذلك و للمسألة ارتباط بالفقه
|