بيان
تبين الآيات المحرمات العامة التي لا تختص بشريعة من الشرائع الإلهية، و هي الشرك بالله، و ترك الإحسان بالوالدين، و اقتراف الفواحش، و قتل النفس المحترمة بغير حق و يدخل فيه قتل الأولاد خشية إملاق و اقتراب مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن و عدم إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و الظلم في القول، و عدم الوفاء بعهد الله، و اتباع غير سبيل الله المؤدي إلى الاختلاف في الدين.
و من شواهد أنها شرائع عامة أنا نجدها فيما نقله الله سبحانه من خطابات الأنبياء أممهم في تبليغاتهم الدينية كالذي نقل من نوح و هود و صالح و إبراهيم و لوط و شعيب و موسى و عيسى و غيرهم (عليهم السلام)، و قد قال تعالى: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: الشورى: 13 و من ألطف الإشارة التعبير عما أوتي نوح و إبراهيم و موسى و عيسى (عليهما السلام) بالتوصية ثم التعبير في هذه الآيات الثلاث التي تقص أصول المحرمات الإلهية أيضا بالتوصية حيث قال: «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون» «ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون» «ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».
على أن التأمل فيها يعطي أن الدين الإلهي لا يتم أمره و لا يستقيم حاله بدون شيء منها و إن بلغ من الإجمال و البساطة ما بلغ و بلغ الإنسان المنتحل به من السذاجة ما بلغ.
قوله تعالى: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم ألا تشركوا به شيئا» قيل: تعال مشتق من العلو و هو أمر بتقدير أن الأمر في مكان عال و إن لم يكن الأمر على ذلك بحسب الحقيقة، و التلاوة قريب المعنى من القراءة، و قوله: «عليكم» متعلق بقوله: «أتل» أو قوله: «حرم» على طريق التنازع في المتعلق، و ربما قيل: إن «عليكم» اسم فعل بمعنى خذوا و قوله: «ألا تشركوا» معموله و النظم: عليكم أن لا تشركوا به شيئا و بالوالدين إحسانا «إلخ»، و هو خلاف ما يسبق إلى الذهن من السياق.
و لما كان قوله: «تعالوا أتل ما حرم» إلخ، دعوة إلى التلاوة وضع في الكلام عين ما جاء به الوحي في مورد المحرمات من النهي في بعضها و الأمر بالخلاف في بعضها الآخر فقال: «ألا تشركوا به شيئا» كما قال: «و لا تقتلوا أولادكم من إملاق» «و لا تقربوا الفواحش» إلخ، و قال: «و بالوالدين إحسانا» كما قال: «و أوفوا الكيل و الميزان» «و إذا قلتم فاعدلوا» إلخ.
و قد قدم الشرك على سائر المحرمات لأنه الظلم العظيم الذي لا مطمع في المغفرة الإلهية معه قال: «إن الله لا يغفر أن يشرك به و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء»: النساء: 48 و إليه ينتهي كل معصية كما ينتهي إلى التوحيد بوجه كل حسنة.
قوله تعالى: «و بالوالدين إحسانا» أي أحسنوا بالوالدين إحسانا، و في المجمع:، أي و أوصى بالوالدين إحسانا، و يدل على ذلك أن في «حرم كذا» معنى أوصى بتحريمه و أمر بتجنبه.
انتهى.
و قد عد في مواضع من القرآن الكريم إحسان الوالدين تاليا للتوحيد و نفي الشرك فأمر به بعد الأمر بالتوحيد أو النهي عن الشرك به كقوله: «و قضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه و بالوالدين إحسانا»: الإسراء: 23 و قوله: «و إذ قال لقمان لابنه و هو يعظه يا بني لا تشرك بالله إن الشرك لظلم عظيم و وصينا الإنسان بوالديه»: لقمان: 14 و غير ذلك من الآيات.
و يدل ذلك على أن عقوق الوالدين من أعظم الذنوب أو هو أعظمها بعد الشرك بالله العظيم، و الاعتبار يهدي إلى ذلك فإن المجتمع الإنساني الذي لا يتم للإنسان دونه حياة و لا دين هو أمر وضعي اعتباري لا يحفظه في حدوثه و بقائه إلا حب النسل الذي يتكىء على رابطة الرحمة المتكونة في البيت القائمة بالوالدين من جانب و بالأولاد من جانب آخر، و الأولاد إنما يحتاجون إلى رحمتهما و إحسانهما في زمان تتوق أنفسهما إلى نحو الأولاد بحسب الطبع، و كفى به داعيا و محرضا لهما إلى الإحسان إليهم بخلاف حاجتهم إلى رأفة الأولاد و رحمتهم فإنها بالطبع يصادف كبرهما و يوم عجزهما عن الاستقلال بالقيام بواجب حياتهما و شباب الأولاد و قوتهم على ما يعنيهم.
و جفاء الأولاد للوالدين و عقوقهم لهما يوم حاجتهما إليهم و رجائهما منهم و انتشار ذلك بين النوع يؤدي بالمقابلة إلى بطلان عاطفة التوليد و التربية، و يدعو ذلك من جهة إلى ترك التناسل و انقطاع النسل، و من جهة إلى كراهية تأسيس البيت و التكاهل في تشكيل المجتمع الصغير، و الاستنكاف عن حفظ سمة الأبوة و الأمومة، و ينجر إلى تكون طبقة من الذرية الإنسانية لا قرابة بينهم و لا أثر من رابطة الرحم فيهم، و يتلاشى عندئذ أجزاء المجتمع، و يتشتت شملهم، و يتفرق جمعهم، و يفسد أمرهم فسادا لا يصلحه قانون جار و لا سنة دائرة، و يرتحل عنهم سعادة الدنيا و الآخرة، و سنقدم إليك بحثا ضافيا في هذه الحقيقة الدينية إن شاء الله.
قوله تعالى: «و لا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم و إياهم» الإملاق الإفلاس من المال و الزاد و منه التملق، و قد كان هذا كالسنة الجارية بين العرب في الجاهلية لتسرع الجدب و القحط إلى بلادهم فكان الرجل إذا هدده الإفلاس بادر إلى قتل أولاده تأنفا من أن يراهم على ذلة العدم و الجوع.
و قد علل النهي بقوله: «نحن نرزقكم و إياهم» أي إنما تقتلونهم مخافة أن لا تقدروا على القيام بأمر رزقهم و لستم برازقين لهم بل الله يرزقكم و إياهم جميعا فلا تقتلوهم.
قوله تعالى: «و لا تقربوا الفواحش ما ظهر منها و ما بطن» الفواحش جمع فاحشة و هي الأمر الشنيع المستقبح، و قد عد الله منها في كلامه الزنا و اللواط و قذف المحصنات، و الظاهر أن المراد مما ظهر و مما بطن العلانية و السر كالزنا العلني و اتخاذ الأخدان و الأخلاء سرا.
و في استباحة الفاحشة إبطال فحشها و شناعتها، و في ذلك شيوعها لأنها من أعظم ما تتوق إليه النفس الكارهة لأن يضرب عليها بالحرمان من ألذ لذائذها و تحجب عن أعجب ما تتعلق به و تعزم به شهوتها، و في شيوعها انقطاع النسل و بطلان المجتمع البيتي و في بطلانه بطلان المجتمع الكبير الإنساني، و سوف نستوفي هذا البحث إن شاء الله فيما يناسبه من المحل.
و كذلك استباحة القتل و ما في تلوه من الفحشاء إبطال للأمن العام و في بطلانه انهدام بنية المجتمع الإنساني و تبدد أركانه.
قوله تعالى: «و لا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق» أي حرم الله قتلها أو حرمها بالحرمة المشرعة لها التي تقيها و تحميها من الضيعة في دم أو حق، قيل: إنه تعالى أعاد ذكر القتل و إن كان داخلا في الفواحش تفخيما لشأنه و تعظيما لأمره، و نظيره الكلام في قتل الأولاد خشية الإملاق اختص بالذكر عناية به، و قد كانت العرب تفعل ذلك بزعمهم أن خشية الإملاق تبيح للوالد أن يقتل أولاده، و يصان به ماء وجهه من الابتذال، و الأبوة عندهم من أسباب الملك.
و قد استثنى الله تعالى من جهة قتل النفس المحترمة التي هي نفس المسلم و المعاهد قتلها بالحق و هو القتل بالقود و الحد الشرعي.
ثم أكد تحريم المذكورات في الآية بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون» سيجيء الوجه في تعليل هذه المناهي الخمس بقوله: «لعلكم تعقلون».
قوله تعالى: «و لا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده» النهي عن القرب للدلالة على التعميم فلا يحل أكل ماله و لا استعماله و لا أي تصرف فيه إلا بالطريقة التي هي أحسن الطرق المتصورة لحفظه، و يمتد هذا النهي و تدوم الحرمة إلى أن يبلغ أشده فإذا بلغ أشده لم يكن يتيما قاصرا عن إدارة ماله و كان هو المتصرف في مال نفسه من غير حاجة بالطبع إلى تدبير الولي لماله.
و من هنا يظهر أن المراد ببلوغه أشده هو البلوغ و الرشد كما يدل عليه أيضا قوله: «و ابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن آنستم منهم رشدا فادفعوا إليهم أموالهم و لا تأكلوها إسرافا و بدارا أن يكبروا»: النساء: 6.
و يظهر أيضا أنه ليس المراد بتحديد حرمة التصرف في مال اليتيم بقوله: «حتى يبلغ أشده» رفع الحرمة بعد بلوغ الأشد و إباحة التصرف حينئذ بل المراد بيان الوقت الذي يصلح للاقتراب من ماله، و ارتفاع الموضوع بعده فإن الكلام في معنى: و أصلحوا مال اليتيم الذي لا يقدر على إصلاح ماله و إنمائه حتى يكبر و يقدر.
قوله تعالى: «و أوفوا الكيل و الميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها» الإيفاء بالقسط هو العمل بالعدل فيهما من غير بخس، و قوله: «لا نكلف نفسا إلا وسعها» بمنزلة دفع الدخل كأنه قيل: إن الإيفاء بالقسط و الوقوع في العدل الحقيقي الواقعي لا يمكن للنفس الإنسانية التي لا مناص لها عن أن تلتجىء في أمثال هذه الأمور إلى التقريب فأجيب بأنا لا نكلف نفسا إلا وسعها، و من الجائز أن يتعلق قوله: «لا نكلف نفسا إلا وسعها» بالحكمين جميعا أعني قوله: «و لا تقربوا مال اليتيم» إلخ، و قوله: «و أوفوا الكيل و الميزان».
قوله تعالى: «و إذا قلتم فاعدلوا و لو كان ذا قربى» ذكر ذي القربى و هو الذي تدعو عاطفة القرابة و الرحم إلى حفظ جانبه و صيانته من وقوع الشر و الضرر في نفسه و ماله يدل على أن المراد بالقول هو القول الذي يمكن أن يترتب عليه انتفاع الغير أو تضرره كما أن ذكر العدل في القول يؤيد ذلك، و يدل على أن هناك ظلما، و أن القول متعلق ببعض الحقوق كالشهادة و القضاء و الفتوى و نحو ذلك.
فالمعنى: و راقبوا أقوالكم التي فيها نفع أو ضرر للناس و اعدلوا فيها، و لا يحملنكم رحمة أو رأفة أو أي عاطفة على أن تراعوا جانب أحد فتحرفوا الكلام و تجاوزوا الحق فتشهدوا أو تقضوا بما فيه رعاية لجانب من تحبونه و إبطال حق من تكرهونه.
قال في المجمع:، و هذا من الأوامر البليغة التي يدخل فيها مع قلة حروفها الأقارير و الشهادات، و الوصايا و الفتاوى، و القضايا، و الأحكام، و المذاهب، و الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر.
قوله تعالى: «و بعهد الله أوفوا» قال الراغب في المفردات،: العهد حفظ الشيء و مراعاته حالا بعد حال.
انتهى.
و لذا يطلق على الفرامين و التكاليف المشرعة و الوظائف المحولة و على العهد الذي هو الموثق و على النذر و اليمين.
و كثرة استعماله في القرآن الكريم في الفرامين الإلهية، و إضافته في الآية إلى الله سبحانه، و مناسبة المورد و فيه بيان الأحكام و الوصايا الإلهية العامة كل ذلك يؤيد أن يكون المراد بقوله: «و بعهد الله أوفوا» التكاليف الدينية الإلهية، و إن كان من الممكن أن يكون المراد بالعهد هو الميثاق المعقود بمثل قولنا: عاهدت الله على كذا و كذا، قال تعالى: «و أوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا»: الإسراء: 34 فيكون إضافته إلى الله نظير إضافة الشهادة إليه في قوله: «و لا نكتم شهادة الله»: المائدة: 106 للإشارة إلى أن المعاملة فيه معه سبحانه.
ثم أكد التكاليف المذكورة في الآية بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون».
قوله تعالى: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» إلى آخر الآية، قرىء: «و أن» بفتح الهمزة و تشديد النون و تخفيفها و كأنه بالعطف على موضع قوله: «ألا تشركوا به شيئا» و قرىء بكسر الهمزة على الاستئناف.
و الذي يعطيه سياق الآيات أن يكون مضمون هذه الآية أحد الوصايا التي أمر النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أن يتلوها عليهم و يخبرهم بها حيث قيل: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم»، و لازم ذلك أن يكون قوله: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه» مسوقا لا لتعلق الغرض به بنفسه لأن كليات الدين قد تمت في الآيتين السابقتين عليه بل ليكون توطئة و تمهيدا لقوله بعده: «و لا تتبعوا السبل» كما أن هذه الجملة بعينها كالتوطئة لقوله: «فتفرق بكم عن سبيله» فالمراد بالآية أن لا تتفرقوا عن سبيله و لا تختلفوا فيه، فتكون الآية مسوقة سوق قوله: «شرع لكم من الدين ما وصى به نوحا و الذي أوحينا إليك و ما وصينا به إبراهيم و موسى و عيسى أن أقيموا الدين و لا تتفرقوا فيه»: الشورى: 13 فالأمر في الآية بإقامة الدين هو ما وصى من الدين المشروع كأنه أعيد ليكون تمهيدا للنهي عن التفرق بالدين.
فالمعنى: و مما حرم ربكم عليكم و وصاكم به أن لا تتبعوا السبل التي دون هذا الصراط المستقيم الذي لا يقبل التخلف و الاختلاف و هي غير سبيل الله فإن اتباع السبل دونه يفرقكم عن سبيله فتختلفون فيه فتخرجون من الصراط المستقيم إذ الصراط المستقيم لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه.
و مقتضى ظاهر السياق أن يكون المراد بقوله: «صراطي» صراط النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فإنه هو الذي يخاطب الناس بهذه التكاليف عن أمر من ربه إذ يقول: «قل تعالوا أتل» إلخ، فهو المتكلم معهم المخاطب لهم، و لله سبحانه في الآيات مقام الغيبة حتى في ذيل هذه الآية إذ يقول: «فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به» و لا ضير في نسبة الصراط المستقيم إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد نسب الصراط المستقيم إلى جمع من عباده الذين أنعم الله عليهم من النبيين و الصديقين و الشهداء و الصالحين في قوله: «اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم»: الحمد: 7.
لكن المفسرين كأنهم تسلموا أن ضمير التكلم في قوله: «صراطي» لله سبحانه ففي الآية نوع من الالتفات لكن لا في قوله: «صراطي» بل في قوله: «عن سبيله» فإن معنى الآية: تعالوا أتل عليكم ما وصاكم به ربكم و هو أنه يقول لكم: «إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه» أو وصيته «إن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيلي» فالالتفات - كما مر - إنما هو في قوله: «عن سبيله».
و كيف كان فهو تعالى في الآية يسمي ما ذكره من كليات الدين بأنه صراطه المستقيم الذي لا تخلف في هداية سالكيه و إيصالهم إلى المقصد و لا اختلاف بين أجزائه و لا بين سالكيه ما داموا عليه فلا يتفرقون البتة ثم ينهاهم عن اتباع سائر السبل فإن من شأنها إلقاء الخلاف و التفرقة لأنها طرق الأهواء الشيطانية التي لا ضابط يضبطها بخلاف سبيل الله المبني على الفطرة و الخلقة و لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم.
ثم أكد سبحانه حكمه في الآية بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».
و قد اختلفت الخواتيم في الآيات الثلاث فختمت الآية الأولى بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون» و الثانية بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون» و الثالثة بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».
و لعل الوجه في ذلك أن الأمور المذكورة في الآية الأولى و هي الشرك بالله العظيم و عقوق الوالدين و قتل الأولاد من إملاق و قربان الفواحش الشنيعة و قتل النفس المحترمة من غير حق مما تدرك الفطرة الإنسانية حرمتها في بادىء نظرها و لا يجترىء عليها الإنسان الذي يتميز من سائر الحيوان بالعقل إلا إذا اتبع الأهواء و أحاطت به العواطف المظلمة التي تضرب بحجاب ثخين دون العقل.
فمجرد الاعتصام بعصمة العقل في الجملة و الخروج عن خالصة الأهواء يكشف للإنسان عن حرمتها و شآمتها على الإنسان بما هو إنسان، و لذلك ختمت بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون».
و ما ذكر منها في الآية الثانية و هي الاجتناب عن مال اليتيم، و إيفاء الكيل و الميزان بالقسط، و العدل في القول، و الوفاء بعهد الله أمور ليست بمثابة ما تليت في الآية الأولى من الظهور بل يحتاج الإنسان مع تعبيه بالعقل في إدراك حالها إلى التذكر و هو الرجوع إلى المصالح و المفاسد العامة المعلومة عند العقل الفطري حتى يدرك ما فيها من المفاسد الهادمة لبنيان مجتمعه المشرفة به و بسائر بني نوعه إلى التهلكة فما ذا يبقى من الخير في مجتمع إنساني لا يرحم فيه الصغير و الضعيف، و يطفف فيه الكيل و الوزن، و لا يعدل فيه في الحكم و القضاء، و لا يصغى فيه إلى كلمة الحق، و لهذه النكتة ختمت الآية بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون».
و الغرض المسوق له الآية الثالثة هو النهي عن التفرق و الاختلاف في الدين باتباع سبل غير سبيل الله، و اتباع هاتيك السبل من شأنه أن التقوى الديني لا يتم إلا بالاجتناب عنه.
و ذلك أن التقوى الديني إنما يحصل بالتبصر في المناهي الإلهية و الورع عن محارمه بالتعقل و التذكر، و بعبارة أخرى بالتزام الفطرة الإنسانية التي بني عليها الدين، و قد قال تعالى: «و نفس و ما سواها فألهمها فجورها و تقواها»: الشمس: 8 و قد وعد الله المتقين إن اتقوا يمددهم بما يتضح به سبيلهم و يفرق به بين الحق و الباطل عندهم فقال: «و من يتق الله يجعل له مخرجا»: الطلاق: 2 و قال: «إن تتقوا الله يجعل لكم فرقانا»: الأنفال: 29.
فهو على صراط التقوى ما دام ملازما لطريق التعقل و التذكر جاريا على مجرى الفطرة، و إذا انحرف إلى الخارج من هذا الصراط و ليس إلا اتباع الأهواء و الإخلاد إلى الأرض و الاغترار بزينة الحياة الدنيا جذبته الأهواء و العواطف إلى الاسترسال و العكوف على مخالفة العقل السليم و ترك التقوى الديني من غير مبالاة بما يهدده من شؤم العاقبة كالسكران لا يدري ما يفعل و لا ما يفعل به.
و الأهواء النفسانية مختلفة لا ضابط يضبطها و لا نظام يحكم عليها يجتمع فيه أهلها و لذلك لا تكاد ترى اثنين من أهل الأهواء يتلازمان في طريق أو يتصاحبان إلى غاية، و قد عد الله سبحانه لهم في كلامه سبلا شتى كقوله: «و لتستبين سبيل المجرمين»: الأنعام: 55 و قوله: «و لا تتبع سبيل المفسدين»: الأعراف: 142 و قوله: «و لا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون»: يونس: 89 و قوله في المشركين: «إن يتبعون إلا الظن و ما تهوى الأنفس و لقد جاءهم من ربهم الهدى»: النجم: 23 و أنت إن تتبعت آيات الهدى و الضلال و الاتباع و الإطاعة وجدت في هذا المعنى شيئا كثيرا.
و بالجملة التقوى الديني لا يحصل بالتفرق و الاختلاف، و الورود في أي مشرعة شرعت، و السلوك من أي واد لاح لسالكه بل بالتزام الصراط المستقيم الذي لا تخلف فيه و لا اختلاف فذلك هو الذي يرجى معه التلبس بلباس التقوى، و لذلك عقب الله سبحانه قوله: «و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» بقوله: «ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون».
و قال في روح المعاني: و ختمت الآية الأولى بقوله سبحانه: «لعلكم تعقلون» و هذه - يعني الثانية - بقوله: «لعلكم تذكرون» لأن القوم كانوا مستمرين على الشرك و قتل الأولاد و قربان الزنا و قتل النفس المحرمة بغير حق غير مستنكفين و لا عاقلين قبحها فنهاهم لعلهم يعقلون قبحها فيستنكفوا عنها و يتركوها، و أما حفظ أموال اليتامى عليهم و إيفاء الكيل و العدل في القول و الوفاء بالعهد فكانوا يفعلونه و يفتخرون بالاتصاف به فأمرهم الله تعالى بذلك لعلهم يذكرون إن عرض لهم نسيان، قاله القطب الرازي.
انتهى.
و أنت خبير بأن الذي ذكره من اتصافهم بحفظ أموال اليتامى و إيفاء الكيل و العدل في القول لا يوافق ما ضبط التاريخ من خصال عرب الجاهلية، على أن الذي فسر به التذكر إنما هو معنى الذكر دون التذكر في عرف القرآن.
ثم قال: و قال الإمام - يعني الرازي - في التفسير الكبير:، السبب في ختم كل آية بما ختمت أن التكاليف الخمسة المذكورة في الآية الأولى ظاهرة جلية فوجب تعقلها و تفهمها و التكاليف الأربعة المذكورة في هذه الآية - يعني الثانية - أمور خفية غامضة لا بد فيها من الاجتهاد و الفكر الكثير حتى يقف على موضوع الاعتدال و هو التذكر.
انتهى.
و ما ذكره من الوجه قريب المأخذ مما قدمناه غير أن الأمور الأربعة المذكورة في الآية الثانية مما يناله الإنسان بأدنى تأمل، و ليست بذلك الخفاء و الغموض الذي وصفه، و لذا التجأ إلى إرجاع التذكر إلى الوقوف على حد الاعتدال فيها دون أصلها فأفسد بذلك معنى الآية فإن مقتضى السياق رجوع رجاء التذكر إلى أصل ما وصى به فيها، و الذي يحتاج منها بحسب الطبع إلى الوقوف حد اعتداله هما الأمران الأولان أعني قربان مال اليتيم و إيفاء الكيل و الوزن، و قد تدورك أمرهما بقوله: «لا نكلف نفسا إلا وسعها» فافهم ذلك.
ثم قال في الآية الثالثة: قال أبو حيان: و لما كان الصراط المستقيم هو الجامع للتكاليف و أمر سبحانه باتباعه و نهى عن اتباع غيره من الطرق ختم ذلك بالتقوى التي هي اتقاء النار إذ من اتبع صراطه نجا النجاة الأبدية، و حصل على السعادة السرمدية انتهى.
و هو مبني على جعل الأمر باتباع الصراط المستقيم في الآية مما تعلق به القصد بالأصالة و قد تقدم أن مقتضى السياق كونه مقدمة للنهي عن التفرق باتباع السبل الأخرى.
و توطئة لقوله: «و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله».
قوله تعالى: «ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن» إلى آخر الآية، لما كان ما ذكره و وصى به من كليات الشرائع تكاليف مشرعة عامة لجميع ما أوتي الأنبياء من الدين، و هي أمور كلية مجملة صحح ذلك الالتفات إلى بيان أنه تعالى بعد ما شرعها للجميع إجمالا فصلها حيث اقتضت تفصيلها لموسى (عليه السلام) أولا فيما أنزل عليه من الكتاب، و للنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) ثانيا فيما أنزله عليه من كتاب مبارك فقال تعالى: «ثم آتينا موسى الكتاب تماما على الذي أحسن و تفصيلا لكل شيء» إلخ.
فمعنى الآية: أنا بعد ما شرعنا من إجمال الشرائع الدينية آتينا موسى الكتاب تماما تتم به نقيصة من أحسن منهم من حيث الشرع الإجمالي و تفصيلا يفصل به كل شيء من فروع هذه الشرائع الإجمالية مما يحتاج إليه بنو إسرائيل و هدى و رحمة لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون.
هذا هو الذي يعطيه سياق الآية المتصل بسياق الآيات الثلاث السابقة.
فقوله: «ثم آتينا موسى الكتاب» رجوع إلى السياق السابق الذي قبل قوله: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» الآيات، و هو خطاب الله لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) بصيغة المتكلم مع الغير، و قد أفيد بالتأخير المستفاد من لفظة «ثم» أن هذا الكتاب إنما أنزل ليكون تماما و تفصيلا للإجمال الذي في تلك الشرائع العامة الكلية.
و قد وجه المفسرون قوله: «ثم آتينا موسى الكتاب» بوجوه غريبة: منها: أن في الكلام حذفا و التقدير: ثم قل يا محمد آتينا موسى الكتاب.
و منها: أن التقدير: ثم أخبركم أن موسى أعطي الكتاب.
و منها: أن التقدير: ثم أتل عليكم: آتينا موسى الكتاب.
و منها: أنه متصل بقوله في قصة إبراهيم: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب» و النظم: «و وهبنا له إسحاق و يعقوب ثم آتينا موسى الكتاب».
و الذي دعاهم إلى هذه التكلفات أن التوراة قبل القرآن و لفظة «ثم» تقتضي التراخي و لازمه نزول التوراة بعد القرآن و قد قيل قبل ذلك: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم».
و ما تقدم من البيان يكفيك مئونة هذه الوجوه.
و قوله: «تماما على الذي أحسن» يبين أن إنزال الكتاب لتتم به نقيصة الذين أحسنوا من بني إسرائيل في العمل بهذه الشرائع الكلية العامة، و قد قال تعالى في قصة موسى بعد نزول الكتاب: «و كتبنا له في الألواح من كل شيء موعظة و تفصيلا لكل شيء فخذها بقوة و أمر قومك يأخذوا بأحسنها»: الأعراف: 145 و قال: «و ادخلوا الباب سجدا و قولوا حطة نغفر لكم خطاياكم و سنزيد المحسنين»: البقرة: 58 و على هذا فالموصول في قوله: «على الذي أحسن» يفيد الجنس.
و قد ذكروا في معنى الجملة وجوها أخرى فقيل: المعنى: تماما على إحسان موسى بالنبوة و الكرامة، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الذين أحسنوا من المؤمنين، و قيل: المعنى: إتماما للنعمة على الأنبياء الذين أحسنوا، و قيل: المعنى: تماما لكرامته في الجنة على إحسانه في الدنيا، و قيل: المعنى تماما على الذي أحسن الله إلى موسى من الكرامة بالنبوة و غيرها، و قيل: إنه متصل بقصة إبراهيم و المعنى: تماما للنعمة على إبراهيم.
و ضعف الجميع ظاهر.
و قوله: «و تفصيلا لكل شيء» أي مما يحتاج إليه بنو إسرائيل أو ينتفع به غيرهم ممن بعدهم، و هدى يهتدي به و رحمة ينعمون بها.
و قوله: «لعلهم بلقاء ربهم يؤمنون» فيه إشارة إلى أن بني إسرائيل كانوا يتثاقلون أو يستنكفون عن الإيمان بلقاء الله و اليوم الآخر، و مما يؤيده أن التوراة الحاضرة التي يذكر القرآن أنها محرفة لا يوجد فيها ذكر من البعث يوم القيامة، و قد ذكر بعض المورخين منهم أن شعب إسرائيل ما كانت تعتقد المعاد.
قوله تعالى: «و هذا كتاب أنزلناه مبارك» إلى آخر الآية، أي و هذا كتاب مبارك يشارك كتاب موسى فيما ذكرناه من الخصيصة فاتبعوه «إلخ».
قوله تعالى: «أن تقولوا إنما أنزل الكتاب على طائفتين من قبلنا» إلخ، «أن تقولوا» معناه كراهة أن تقولوا، أو لئلا تقولوا، و هو شائع في الكلام، و هو متعلق بقوله في الآية السابقة: «أنزلناه».
و قوله: «طائفتين من قبلنا» يراد به اليهود و النصارى أنزل عليهما التوراة و الإنجيل، و أما كتب الأنبياء النازلة قبلهما مما يذكره القرآن مثل كتاب نوح و كتاب إبراهيم (عليه السلام) فلم يكن فيها تفصيل الشرائع و إن اشتملت على أصلها، و أما سائر ما ينسب إلى الأنبياء (عليهم السلام) من الكتب كزبور داود (عليه السلام) و غيره فلم تكن فيها شرائع و لا لهم بها عهد.
و المعنى أنا أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا: إن الكتاب الإلهي المفصل لشرائعه إنما أنزل على طائفتين من قبلنا هم اليهود و النصارى و إنا كنا غافلين عن دراستهم و تلاوتهم، و لا بأس علينا مع الغفلة.
قوله تعالى: «أو تقولوا لو أنا أنزل علينا الكتاب لكنا أهدى منهم» إلى آخر الآية أي من الذين أنزل إليهم الكتاب قبلنا، و قوله: «فقد جاءكم بينة من ربكم» تفريع لقوليه: «أن تقولوا» «أو تقولوا» جميعا، و قد بدل الكتاب من البينة ليدل به على ظهور حجته و وضوح دلالته بحيث لا يبقى عذر لمعتذر و لا علة لمتعلل، و الصدف الإعراض و معنى الآية ظاهر.
بحث روائي
في تفسير العياشي، عن أبي بصير قال: كنت جالسا عند أبي جعفر (عليه السلام) و هو متك على فراشه إذ قرأ الآيات المحكمات التي لم ينسخهن شيء من الأنعام قال: شيعها سبعون ألف ملك: «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم - ألا تشركوا به شيئا».
و في الدر المنثور، أخرج عبد بن حميد و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن عبادة بن الصامت قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أيكم يبايعني على هؤلاء الآيات الثلاث؟ ثم تلاه؟ «قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم» إلى ثلاث آيات. ثم قال: فمن وفى بهن فأجره على الله، و من انتقص منهن شيئا فأدركه الله في الدنيا كانت عقوبته، و من أخره إلى الآخرة كان أمره إلى الله إن شاء آخذه و إن شاء عفا عنه.
أقول: و الرواية لا تخلو عن شيء فإن فيما ذكر في الآيات الشرك بالله و لا تكفي فيه عقوبة الدنيا و لا تناله مغفرة في الآخرة بنص القرآن، قال تعالى: «إن الله لا يغفر أن يشرك به: «النساء: 48 و قال: «إن الذين كفروا و ماتوا و هم كفار أولئك عليهم لعنة الله و الملائكة و الناس أجمعين، خالدين فيها لا يخفف عنهم العذاب و لا هم ينظرون: البقرة: 162.
على أن ظاهر الرواية كون هذه الأحكام مما يختص بهذه الشريعة كما يشعر به ما نقل عن بعض الصحابة و التابعين كالذي رواه في الدر المنثور، عن جمع عن ابن مسعود قال: من سره أن ينظر إلى وصية محمد التي عليها خاتمه فليقرأ هؤلاء الآيات: قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم إلى قوله - لعلكم تتقون، و نظيره ما روي عن منذر الثوري عن الربيع بن خيثم.
و في تفسير العياشي، عن عمرو بن أبي المقدام عن أبيه عن علي بن الحسين (عليهما السلام): الفواحش ما ظهر منها و ما بطن قال: ما ظهر من نكاح امرأة الأب و ما بطن منها الزنا.
أقول: و هو من قبيل ذكر بعض المصاديق.
و في الدر المنثور، أخرج أحمد و عبد بن حميد و النسائي و البزاز و ابن المنذر و ابن أبي حاتم و أبو الشيخ و ابن مردويه و الحاكم و صححه عن ابن مسعود قال: خط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) خطا بيده ثم قال: هذا سبيل الله مستقيما، ثم خط خطوطا عن يمين ذلك الخط و عن شماله ثم قال: و هذه السبل ليس منها سبيل إلا عليه شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله.
و فيه، أخرج أحمد و ابن ماجة و ابن أبي حاتم و ابن مردويه عن جابر بن عبد الله قال: كنا جلوسا عند النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فخط خطا هكذا أمامه فقال: هذا سبيل الله، و خطين عن يمينه و خطين عن شماله فقال: هذا سبيل الشيطان ثم وضع يده في الخط الأوسط و قرأ: «و أن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه» الآية.
و في تفسير القمي:، أخبرنا الحسن بن علي عن أبيه عن الحسين بن سعيد عن محمد بن سنان عن أبي خالد القماط عن أبي بصير عن أبي جعفر (عليه السلام): في قوله: «هذا صراطي مستقيما فاتبعوه - و لا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله» قال نحن السبيل فمن أبى فهذه السبل فقد كفر.
أقول: و هو من الجري، و الذي ذكره (عليه السلام) مستفاد من قوله تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى»: الشورى: 23.
إذا انضم إلى قوله: «قل ما أسألكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا»: الفرقان: 57.
و قد وردت عدة روايات من طرق الشيعة و أهل السنة أن عليا هو الصراط المستقيم، و قد تقدمت الإشارة إليها في تفسير سورة الفاتحة في الجزء الأول من الكتاب.
|